Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 1-16)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه السورة مكية ، قال ابن عطية وغيره ، بلا خلاف . وقال الزمخشري : إلا قوله : { فسبحان الله } . وسبب نزولها أن كسرى بعث جيشاً إلى الروم ، وأمر عليهم رجلاً ، واختلف النقلة في اسمه ؛ فسار إليهم بأهل فارس ، وظفر وقتل وخرب وقطع زيتونهم ، وكان التقاؤهم بأذرعات وبصرى ، وكان قد بعث قيصر رجلاً أميراً على الروم . وقال مجاهد : التقت بالجزيرة . وقال السدي : بأرض الأردن وفلسطين ، فشق ذلك على المسلمين لكونهم مع الروم أهل الكتاب ، وفرح بذلك المشركون لكونهم مع المجوس ليسوا بأهل كتاب . وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الروم { سيغلبون في بضع سنين } . ونزلت أوائل الروم ، فصاح أبو بكر بها في نواحي مكة : { الم ، غلبت الروم ، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } . فقال ناس من مشركي قريش : زعم صاحبك أن الروم ستغلب فارساً في بضع سنين ، أفلا نراهنك على ذلك ؟ فقال : بلى ، وذلك قبل تحريم الرهان . فاتفقوا أن جعلوا بضع سنين وثلاث قلائص ، وأخبر أبو بكر رسول الله بذلك فقال : " هلا اختطبت ؟ فارجع فزدهم في الأجل والرهان فجعلوا القلائص مائة ، والأجل تسعة أعوام " فظهرت الروم على فارس في السنة السابعة ، وكان ممن راهن أبيّ بن خلف . فلما أراد أبو بكر الهجرة ، طلب منه أبيّ كفيلاً بالخطر إن غلبت ، فكفل به ابنه عبد الرحمن . فلما أراد أبيّ الخروج إلى أحد ، طلبه عبد الرحمن بالكفيل ، فأعطاه كفيلاً ومات أبيّ من جرح جرحه النبي صلى الله عليه وسلم . وظهر الروم على فارس يوم الحديبية . وقيل : كان النصر يوم بدر للفريقين ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي ، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : " تصدق به " وسبب ظهور الروم ، أن كسرى بعث إلى شهريزان ، وهو الذي ولاه على محاربة الروم ، أن اقتل أخاك فرّخان لمقالة قالها ، وهي قوله : لقد رأيتني جالساً على سرير كسرى ، فلم يقتله . فبعث إلى فارس أني عزلت شهريزان ووليت أخاه فرّخان ، وكتب إليه : إذا ولي ، أن يقتل أخاه شهريزان ، فأراد قتله ، فأخرج له شهريزان ثلاث صحائف من كسرى يأمره بقتل أخيه فرّخان . قال : وراجعته في أمرك مراراً ، ثم تقتلني بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه . وكتب شهريزان إلى قيصر ملك الروم ، فتعاونا على كسرى ، فغلبت الروم فارس ، وجاء الخبر ، ففرح المسلمون . وكان ذلك من الآيات البينات الشاهدة بصحة النبوة ، وأن القرآن من عند الله ، لأنها إيتاء من علم الغيب الذي لا يعلمه إلاّ الله . وقرأ علي ، وأبو سعيد الخدري ، وابن عباس ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة ، والحسن : { غلبت الروم } : مبنياً للفاعل ، { سيغلبون } : مبنياً للمفعول ؛ والجمهور : مبنياً للمفعول ، سيغلبون : مبنياً للفاعل . وتأويل ذلك على ما فسره ابن عمر أن : الروم غلبت على أدنى ريف الشأم ، يعنى : بالريف السواد . وجاء كذلك عن عثمان ، وتأوله أبو حاتم على أن الروم غلبت يوم بدر ، فعز ذلك على كفار قريش ، وسر المؤمنون ، وبشر الله عباده بأنهم سيغلبون في بضع سنين . انتهى . فيكون قد أخبر عن الروم بأنهم قد غلبوا ، وبأنهم سيغلبون ، فيكون غلبهم مرتين . قال ابن عطية : والقراءة بضم الغين أصح . وأجمع الناس على سيغلبون بفتح الياء ، يراد به الروم . وروي عن ابن عمر أنه قرأ سيغلبون بضم الياء ، وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات . انتهى . وقوله : وأجمعوا ، ليس كذلك . ألا ترى أن الذين قرأوا غلبت بفتح الغين هم الذين قرأوا سيغلبون بضم الياء وفتح اللام ، وليست هذه مخصوصة بابن عمر ؟ وقرأ الجمهور : غلبهم ، بفتح الغين واللام : وعلي ، وابن عمر ، ومعاوية بن قرة : بإسكانها ؛ والقياس عن ابن عمر : وغلابهم ، على وزن كتاب . والروم : طائفة من النصارى ، وأدنى الأرض : أقربهما : فإن كانت الواقعة في أذرعات ، فهي أدنى الأرض بالنظر إلى مكة ، وهي التي ذكرها امرؤ القيس في قوله : @ تنوّرتها من أذرعات وأهلها بيثرب أدنى دارها نظر عال @@ وإن كانت بالجزيرة ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض كسرى . فإن كانت بالاردن ، فهي أدنى بالنظر إلى أرض الروم . وقرأ الكلبي : { في أدنى الأرض } ، وتقدم الكلام في مدلول البضع باعتبار القراءتين . ففي غلبت ، بضم الغين ، يكون مضافاً للمفعول ؛ وبالفتح ، يكون مضافاً للفاعل ، ويكون المعنى : سيغلبهم المسلمون في بضع سنين ، عند انقضاء هذه المدة التي هي أقصى مدلول البضع . أخذ المسلمون في جهاد الروم ، وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى : { الم ، غلبت الروم } إلى قوله : { في بضع سنين } ، افتتاح المسلمين بيت المقدس ، معيناً زمانه ويومه ، وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى ، وأن ابن برجان مات قبل الوقت الذي كان عينه للفتح ، وأنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم . وكان أبو جعفر يعتقد في أبي الحكم هذا ، أنه كان يطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله . { لله الأمر } : أي إنفاذ الأحكام وتصريفها على ما يريد . وقرأ الجمهور : { من قبل ومن بعد } ، بضمهما : أي من قبل غلبة الروم ومن بعدها . ولما كانا مضافين إلى معرفة ، وحذفت بنيا على الضم ، والكلام على ذلك مذكور في علم النحو . وقرأ أبو السمال ، والجحدري ، وعون العقيلي : من قبل ومن بعد ، بالكسر والتنوين فيهما . قال الزمخشري : على الجر من غير تقدير مضاف إليه واقتطاعه ، كأنه قيل : قبلاً وبعداً ، بمعنى أولاً وآخراً . انتهى . وقال ابن عطية : ومن العرب من يقول : من قبل ومن بعد ، بالخفض والتنوين . قال الفراء : ويجوز ترك التنوين ، فيبقى كما هو في الإضافة ، وإن حذف المضاف . انتهى . وأنكر النحاس ما قاله الفراء ورده ، وقال الفراء في كتابه : ( في القرآن ) أشياء كثيرة من الغلط ، منها : أنه زعم أنه يجوز من قبل ومن بعد ، وإنما يجوز من قبل ومن بعد على أنهما نكرتان ، والمعنى : من متقدم ومن متأخر . وحكى الكسائي عن بعض بني أسد : لله الأمر من قبل ومن بعد الأول مخفوض منوّن ، والثاني مضموم بلا تنوين . والظاهر أن يومئذ ظرف { يفرح المؤمنون } ، وعلى هذا المعنى فسره المفسرون . وقيل : { ويومئذ } عطف على : { من قبل ومن بعد } ، كأنه حصر الأزمنة الثلاثة : الماضي والمستقبل والحال ، ثم ابتدأ الإخبار بفرح المؤمنين بالنصر . و { بنصر الله } : أي الروم على فارس ، أو المسلمين على عدوهم ، أو في أن صدق ما قال الرسول من أن الروم ستغلب فارس ، أو في أن يسلط بعض الظالمين على بعض ، حتى تفانوا وتناكصوا ، احتمالات . وفي الحديث : " فارس نطحة أو نطحتان ، ثم لا فارس بعدها أبداً ، والروم ذات القرون ، كلما ذهب قرن خلف قرن إلى آخر الأبد " وقال ابن عباس : يوم بدر كانت هزيمة عبدة الأوثان وعبدة النيران ، وقال معناه أبو سعيد الخدري ، وقيل : ورد الخبر يوم الحديبية بوفاة كسرى ، فسر المسلمون بحرب المشركين ، ولموت عدو لهم في الأرض متمكن . وهو { العزيز } بانتقامه من أعدائه ، { الرحيم } لأوليائه . وانتصب { وعد الله } على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت ، وهو قوله : { سيغلبون } ، وقوله : { يفرح المؤمنون } . { ولكن أكثر الناس } الكفار من قريش وغيرهم ، { لا يعلمون } : نفى عنهم العلم النافع للآخرة ، وقد أثبت لهم العلم بأحوال الدنيا . قيل : والمعنى لا يعلمون أن الأمور من عند الله ، وأن وعده لا يخلفه ، وأن ما يورده بعينه ، صلى الله عليه وسلم ، حق . { يعلمون ظاهراً } : أي بيناً ، أي ما أدّته إليهم حواسهم ، فكأن علومهم إنما هي علوم البهائم . وقال ابن عباس ، والحسن ، والجمهور : معناه ما فيه الظهور والعلوّ في الدنيا من اتقان الصناعات والمباني ومظان كسب المال والفلاحات ، ونحو هذا . وقالت فرقة : معناه ذاهباً زائلاً ، أي يعلمون أمور الدنيا التي لا بقاء لها ولا عاقبة . وقال الهذلي : @ وعيرها الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها @@ أي : زائل . وقال ابن جبير : { ظاهراً } ، أي يعلمون من قبل الكهنة مما يسترقه الشياطين . وقال الرماني : كل ما يعلم بأوائل الرؤية فهو الظاهر ، وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن . وقال الزمخشري : { يعلمون } بدل من قول : { لا يعلمون } ، وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه ، وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده ، لنعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل ، وبين وجود العلم الذي لا يتجاوز الدنيا . وقوله : { ظاهراً من الحياة الدنيا } : يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً ، فظاهرها ما يعرفه الجهال من التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها ، وباطنها وحقيقتها أنها مجاز للآخرة ، يتزود إليها منها بالطاعة والأعمال الصالحة ؛ وهم الثانية توكيد لهم الأولى ، أو مبتدأ . وفي إظهارهم على أي الوجهين ، كانت تنبيه على غفلتهم التي صاروا ملتبسين بها ، لا ينفكون عنها . و { في أنفسهم } : معمول ليتفكروا ، إما على تقدير مضاف ، أي في خلق أنفسهم ليخرجوا من الغفلة ، فيعلموا أنهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا فقط ، ويستدلوا بذلك على الخالق المخترع . ثم أخبر عقب هذا بأن الحق هو السبب في خلق السموات والأرض ؛ وأما على أن يكون { في أنفسهم } ظرفاً للفكرة في خلق السموات والأرض ، فيكون { في أنفسهم } توكيداً لقوله : { يتفكرون } ، كما تقول : أبصر بعينك واسمع بأدنك . وقال الزمخشري : في هذا الوجه كأنه قال : أو لم يحدثوا التفكر في أنفسهم ؟ أي في قلوبهم الفارغة من الفكر . والفكر لا يكون إلا في القلوب ، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين ، كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك . وقال أيضاً : يكون صلة المتفكر ، كقولك : تفكر في الأمر وأجال فكره . و { ما خلق الله } متعلق بالقول المحذوف ، معناه : أو لم يتفكروا ، فيقولوا هذا القول ؟ وقيل معناه : فيعلموا ، لأن في الكلام دليلاً عليه . انتهى . والدليل هو قوله : { أو لم يتفكروا } . وقيل : { أو لم يتفكروا } متصل بما بعده ، ومثله : ثم { تتفكروا ما بصاحبكم من جنة } [ سبأ : 46 ] ، ومثله : { وظنوا ما لهم من محيص } [ فصلت : 48 ] ، فيكون في بمعنى الباء ، ثم { يتفكروا ما بصاحبهم من } ، كأنه قال : أو لم يتفكروا بقلوبهم فيعلموا . انتهى . ويجوز أن يكون تفكروا هنا معلقة ، ومتعلقها الجملة من قوله : { ما خلق } إلى آخرها . و { في أنفسهم } : ظرف على سبيل التأكيد ، لأن الفكر لا يكون إلا في النفس ، كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد . و { بالحق } : في موضع الحال ، أي وهي ملتبسة بالحق مقترنة به ، وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو : قيام الساعة ، ووقت الحساب والثواب والعقاب . ألا ترى إلى قوله : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] . كيف سمى تركهم غير راجعين إليه عبثاً ؟ والمراد بلقاء ربهم : الأجل المسمى . وقال ابن عطية : { إلا بالحق } ، أي بسبب المنافع التي هي حق واجب ، يريد من الدلالة عليه والعبادة له دون فتور ، والانتصار للعبرة ومنافع الإرفاق وغير ذلك . { وأجل } عطف على الحق ، أي وبأجل مسمى ، وهو يوم القيامة . ففي الآية إشارة إلى البعث والنشور وفساد بنية هذا العالم . ثم أخبر عن كثير من الناس أنهم كفروا بذلك المعنى ، فعبر عنها بلقاء الله ، لأن لقاء الله هو عظيم الأمر ، فيه النجاة والهلكة . انتهى . وقال أبو عبد الله الرازي : قدم هنا دلائل الأنفس على دلائل الآفاق ، وفي : { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] دلائل الآفاق على دلائل الأنفس ، وحكمة ذلك أن المفيد يذكر الفائدة على وجه يختارها ، فإن فهمت ، وإلا انتقل إلى الأبين . والمستفيد يفهم أولاً الأبين ، ثم يرتقي إلى الأخفى . وفي { أو لم يتفكروا } بفعل مسند إلى السامع ، فبدأ بما يفهم أولاً ، ثم ارتقى إليه ثانياً . وفي { سنريهم } [ فصلت : 52 ] أسند إلى المفيد ، فذكر أولاً ، الآفاق ، فإن لم يفهموا ، فالأنفس ، إذ لا ذهول للإنسان عن دلائلها ، بخلاف دلائل الآفاق ، لأنه قد يذهل عنها ، وهذا مراعي في { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً } [ آل عمران : 191 ] الآية . بدأ بأحوال الأنفس ، ثم بدلائل الآفاق . وقال أيضاً هنا : { وإن كثيراً } ، { وقبل } ، { ولكن أكثر الناس } ، وذلك أن هنا ذكر كثيراً بعد ذكر الدلائل الواضحة ، وهما : { أو لم يتفكروا في أنفسهم } ، و { ما خلق الله } . والإيمان بعد الدلائل أكثر من الإيمان قبلها ، فبعد ذكر الدليل ، لا بد أن يؤمن من ذلك الأكثر جمع ، فلا يبقى الأكثر . انتهى ، وفيه تلخيص . ولا يتم كلامه الأول إلا إذا جعل { في أنفسهم } محلاً للتفكر ، وجعل { ما خلق } أيضاً محلاً ثانياً . { أو لم يسيروا في الأرض } : هذا تقرير توبيخ ، أي قد ساروا ونظروا إلى ما حمل ممن كان قبلهم من مكذبي الرسل ، ووصف حالهم من الشدة وإثارة الأرض وعمارتها ، وأنهم أقوى منهم في ذلك . قال مجاهد : { وأثاروا الأرض } : حرثوها . وقال الفراء : قلبوها للزراعة . وقال غيرهما : قلبوا وجه الأرض لاستنباط المياه ، واستخراج المعادن ، وإلقاء البذر فيها للزراعة ؛ والإثارة : تحريك الشيء حتى يرتفع ترابه . وقرأ أبو جعفر : وآثاروا الأرض ، بمدة بعد الهمزة . وقال ابن مجاهد : ليس بشيء ، وخرجه أبو الفتح على الإشباع كقوله : @ ومن ذم الزمان بمنتزاح @@ وقال : من ضرورة الشعر ، ولا يجيء في القرآن . وقرأ أبو حيوة : وآثروا من الإثرة ، وهو الاستبداد بالشيء . وقرىء : وأثروا الأرض : أي أبقوا عنها آثاراً . { وعمروها } : من العمارة ، أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء ، أو من العمران : أي مكنوا فيها ، أو من العمارة . قال الزمخشري : { أكثر مما عمروها } : من عمارة أهل مكة ، وأهل مكة أهل واد غير ذي زرع ، ما لهم إثارة الأرض أصلاً ، ولا عمارة لهم رأساً ، فما هو إلاّ تهكم بهم وتضعيف حالهم في دنياهم ، لأن معظم ما يستظهر به أهل الدنيا ويتباهون به أمر الدهقنة ، وهم أيضاً ضعاف القوى . { فما كان الله ليظلمهم } : قبله محذوف ، أي فكذبوهم فأهلكوا . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو : { ثم كان عاقبة } بالرفع اسماً لكان ، وخبرها { السوأى } ، أو هو تأنيث الأسوإ ، أفعل من السوء . { أن كذبوا } : مفعول من أجله متعلق بالخبر ، لا بأساءوا ، وإلا كان فيه الفصل بين الصلة ومتعلقها بالخبر ، وهو لا يجوز ؛ والمعنى : ثم كان عاقبتهم ، فوضع المظهر موضع المضمر . { السوأى } : أي العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة ، وهي جهنم . ويجوز أن تكون { السوأى } مصدراً على وزن فعلى ، كالرجعى ، وتكون خبراً أيضاً . ويجوز أن تكون مفعولاً بأساء بمعنى اقترفوا ، وصفة مصدر محذوف ، أي الإساءة السوأى ، ويكون خبر كان { أن كذبوا } . وقرأ الأعمش والحسن : السوى ، بإبدال الهمزة واواً وإدغام الواو فيها ، كقراءة من قرأ : { السوء } بالإدغام في يوسف . وقرأ ابن مسعود : السوء ، بالتذكير . وقرأ الكوفيون وابن عامر : { عاقبة } ، بالنصب ، خبر كان ، والاسم السوأى ، أو السوء مفعول ، وكذبوا الاسم . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون أن بمعنى : أي تفسير الإساءة التكذيب والاستهزاء ، كانت في بمعنى القول ، نحو : نادى وكتب . ووجه آخر ، وهو أن يكون { أساؤا السوأى } بمعنى : اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايات ، { وأن كذبوا } عطف بيان لها ، وخبر كان محذوف ، كما يحذف جواب لما ولو إرادة الإبهام . انتهى . وكون أن هنا حرف تفسير متكلف جداً . وأما قول الخطايات فكذا هو في النسخة التي طالعناها ، جمع جمع تكسير بالألف والتاء ، وذلك لا ينقاس ، إنما يقتصر فيه على مورد السماع ، ولا يبعد أن يكون زيادة التاء في الخطايات من الناسخ . وأما قوله : { وأن كذبوا } عطف بيان لها ، أي للسوأى ، وخبر كان محذوف الخ . فهذا فهم أعجمي ، لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف ، فيتكلف له محذوفاً لا يدل عليه دليل . وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان وأخواتها ، لا اقتصاراً ولا اختصاراً ، إلا إن ورد منه شيء ، فلا ينقاس عليه . وقرأ عبد الله وطلحة : يبدىء ، بضم الياء وكسر الدال ؛ والجمهور : بفتحها ؛ والأبوان : يرجعون ، بياء الغيبة ؛ والجمهور : بتاء الخطاب ، أي إلى ثوابه وعقابه ؛ والجمهور : يبلس ، بكسر اللام ؛ وعلي والسلمي : بفتحها ، من أبلسه إذا أسكته ؛ والجمهور : ولم يكن ، بالياء ؛ وخارجة والأريس ، كلاهما عن نافع ، وابن سنان عن أبي جعفر ، والأنطاكي عن شيبة : بتاء التأنيث . { من شركائهم } : من الذين عبدوهم من دون الله ، وهي الأوثان ، وأضيفوا إليهم لأنهم أشركوهم في أموالهم ، وقيل : لأنهم اتخذوها بزعمهم شركاء لله . وقال مقاتل : المراد بهم الملائكة شفعاء لله ، كما زعموا : { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] . { وكانوا } معناه : ويكون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام عبر بالماضي ، لتيقن الأمر وصحة وقوعه . وكتب السوأى بالألف قبل الياء ، كما كتبوا علماء بني إسرائيل بواو قبل الألف والتنوين في { يومئذ } ، تنوين عوض من الجملة المحذوفة ، أي { ويوم تقوم الساعة } ، يوم إذ { يبلس المجرمون } . والضمير في { يتفرقون } للمسلمين والكافرين ، لدلالة ما بعده عليه . قال الزمخشري : ويظهر أنه عائد على ما قبله ، إذ قبله : { الله يبدأ الخلق ثم يعيده } . قال قتادة : هي فرقة ، لا اجتماع بعدها . { في روضة } ، الروضة ، الأرض ذات النبات والماء ، وفي المثل : أحسن من بيضة ، يريدون : بيض النعامة ، والروضة مما تعجب العرب ، وقد أكثروا من مدحها في أشعارهم . { يحبرون } : يسرون . حبره : سره سروراً ، وتهلل له وجهه وظهر له أثره . يحبر بالضم ، حبراً وحبرة وحبوراً ، وفي المثل : امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينتظرون العبرة . وحكى الكسائي : حبرته : أكرمته ونعمته . وقال علي بن سليمان : هو من قولهم : على أسنانه حبرة ، أي أثر ، أي يسير عليهم أثر النعمة . وقيل : من التحبير ، وهو التحسين ، أي يحسنون . ويقال : فلان حسن الحبر والسبر ، بالفتح ، إذا كان جميلاً حسن الهيئة . وقال ابن عباس ، والضحاك ، ومجاهد : يكرمون . وقال يحيـى بن أبي كثير ، والأوزاعي ، ووكيع : يسمعون الأغاني . وقال أبو بكر ، وابن عباس : يتوجون على رؤوسهم . وقال ابن كيسان : يحلون . ومعنى { محضرون } : مجموعون له ، لا يغيب أحد منهم عنه بقوله : { وما هم بخارجين منها } [ المائدة : 37 ] ، وجاء في روضة منكراً وفي العذاب معرفاً . قال الزمخشري : والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه ، وجاء يحبرون بالفعل المضارع لاستعماله للتجدد ، لأنهم كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة . وجاء { محضرون } باسم الفاعل لاستعماله للثبوت ، فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين ، فهو وصف لا ذم لهم .