Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 17-25)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما بين تعالى عظيم قدرته في خلق السماوات والأرض بالحق ، وهو حالة ابتداء العالم ، وفي مصيرهم إلى الجنة والنار ، وهي حالة الانتهاء ، أمر تعالى بتنزيهه من كل سوء . والظاهر أنه أمر عباده بتنزيهه في هذه الأوقات ، لما يتجدد فيها من النعم . ويحتمل أن يكون كناية عن استغراق زمان العبد ، وهو أن يكون ذاكراً ربه ، واصفه بما يجب له على كل حال . وقال الزمخشري : لما ذكر الوعد والوعيد ، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد . وقيل : المراد هنا بالتسبيح : الصلاة . فعن ابن عباس وقتادة : المغرب والصبح والعصر والظهر ، وأما العشاء ففي قوله : { وزُلَفاً من الليل } [ هود : 114 ] . وعن ابن عباس : الخمس ، وجعل { حين تمسون } شاملاً للمغرب والعشاء . { وله الحمد في السماوات والأرض } : اعتراض بين الوقتين ، ومعناه : أن الحمد واجب على أهل السماوات وأهل الأرض ، وكان الحسن يذهب إلى أن هذه الآية مدنية ، لأنه كان يقول : فرضت الخمس بالمدينة . وقال الأكثرون : بل فرضت بمكة ؛ وفي التحرير ، اتفق المفسرون على أن الخمس داخلة في هذه الآية . وعن ابن عباس : ما ذكرت الخمس إلا فيها ، وقدم الإمساء على الإصباح ، كما قدم في قوله { يولج الليل في النهار } [ الحديد : 6 ] ، والظلمات على النور ، وقابل بالعشي الإمساء ، وبالإظهار الإصباح ، لأن كلاًّ منهما يعقب بما يقابله ؛ فالعشي يعقبه الإمساء ، والإصباح يعقبه الإظهار . ولما لم يتصرف من العشي فعل ، لا يقال أعشى ، كما يقال أمسى وأصبح وأظهر ، جاء التركيب { وعشياً } . وقرأ عكرمة : حيناً تمسون وحيناً تصبحون ، بتنوين حين ، والجملة صفة حذف منها العائد تقديره : تمسون فيه وتصبحون فيه . ولما ذكر الإبداء والإعادة ، ناسب ذكره : { يخرج الحي من الميت } ، وتقدم الكلام على هذه الآية في آل عمران . { وكذلك } : أي مثل ذلك الإخراج ، والمعنى : تساوي الإبداء والإعادة في حقه تعالى . وقرأ الجمهور : { تخرجون } ، بالتاء المضمومة ، مبنياً للمفعول ؛ وابن وثاب وطلحة والأعمش : بفتح تاء الخطاب وضم الراء . ثم ذكر تعالى آياته من بدء خلق الإنسان ، آية آية ، إلى حين بعثه من القبر فقال : { ومن آياته أن خلقكم من تراب } : جعل خلقهم من تراب ، حيث كان خلق أباهم آدم من تراب . و { تنتشرون } : تتصرفون في أغراضكم بثم المقتضية المهلة والتراخي . ونبه تعالى على عظيم قدرته بخلق الإنسان من تراب ، وهو أبعد الأشياء عن درجة الإحياء ، لأنه بارد يابس ، والحياة بالحرارة والرطوبة ، وكذا الروح نير وثقيل ، والروح خفيف وساكن ، والحيوان متحرك إلى الجهات الست ، فالتراب أبعد من قبول الحياة من سائر الأجسام . { من أنفسكم } : فيها قولان { وخلق منها زوجها } [ النساء : 1 ] ، إما كون حواء خلقت من ضلع آدم ، وأما من جنسكم ونوعكم . وعلل خلق الأزواج بالسكون إليها ، وهو الإلف . فمتى كان من الجنس ، كان بينهما تألف ، بخلاف الجنسين ، فإنه يكون بينهما التنافر ، وهذه الحكمة في بعث الرسل من جنس بني آدم . ويقال : سكن إليه : مال ، ومنه السكن : فعل بمعنى مفعول . { مودّة ورحمة } : أي بالأزواج ، بعد أن لم يكن سابقة تعارف يوجب التواد . وقال مجاهد والحسن وعكرمة : المودة : النكاح ، والرحمة : الولد ، كنى بذلك عنهما . وقيل : مودّة للشابة ، ورحمة للعجوز . وقيل : مودة للكبير ، ورحمة للصغير . وقيل : هما اشتباك الرحم . وقيل : المودة من الله ، والبغض من الشيطان . { واختلاف ألسنتكم } : أي لغاتكم ، فمن اطلع على لغات رأى من اختلاف تراكيبها أو قوانينها ، مع اتحاد المدلول ، عجائب وغرائب في المفردات والمركبات . وعن وهب : أن الألسنة اثنان وسبعون لساناً ، في ولد حام سبعة عشر ، وفي ولد سام تسعة عشر ، وفي ولد يافث ستة وثلاثون . وقيل : المراد باللغات : الأصوات والنغم . وقال الزمخشري : الألسنة : اللذات وأجناس النطف وأشكاله . خالف عز وجل بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس واحد ، ولا جهارة ، ولا حدة ، ولا رخاوة ، ولا فصاحة ، ولا لكنة ، ولا نظم ، ولا أسلوب ، ولا غير ذلك من صفات النطق وأحواله . انتهى . { وألوانكم } : السواد والبياض وغيرهما ، والأنواع والضروب بتخطيط الصور ، ولولا ذلك الاختلاف ، لوقع الالتباس وتعطلت مصالح كثيرة من المعاملات وغيرها . وفيه آية بينة ، حيث فرعوا من أصل واحد ، وتباينوا في الأشكال على كثرتهم . وقرأ الجمهور : { للعالمين } ، بفتح اللام ، لأنها في نفسها آية منصوبة للعالم . وقرأ حفص وحماد بن شعيب عن أبي بكر ، وعلقمة عن عاصم ، ويونس عن أبي عمرو : بكسر اللام ، إذ المنتفع بها إنما هم أهل العلم ، كقوله : { وما يعقلها إلا العالمون } [ العنكبوت : 43 ] . والظاهر أن { بالليل والنهار } متعلق { بمنامكم } ، فامتن تعالى بذلك ، لأن النهار قد يقام فيه ، وخصوص من كل مشتغلاً في حوائجه بالليل . { وابتغاؤكم من فضله } : أي فيهما ، أي في الليل والنهار معاً ، لأن بعض الناس قد يبتغي الفعل بالليل ، كالمسافرين والحراس بالليل وغيرهم . وقال الزمخشري : هذا من باب اللف ، وترتيبه : { ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم } ، ولأنه فصل بين الفريقين الأولين بالقرينين الآخرين لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على ذلك ، ويجوز أن يراد { منامكم } في الزمانين ، { وابتغاؤكم من فضله } فيهما . والظاهر هو الأول لتكرره في القرآن ، وأسد المعاني ما دل عليه القرآن . وقال ابن عطية : وقال بعض المفسرين : في الكلام تقديم وتأخير ، وهذا ضعيف ، وإنما أراد أن ترتب النوم في الليل والابتغاء للنهار ، ولفظ الآية لا يعطي ذلك . { ومن آياته يريكم البرق خوفاً } : إما أن يتعلق من آياته بيريكم ، فيكون في موضع نصب ، ومن لابتداء الغاية ، أو يكون يريكم على إضمار أن ، كما قال : @ ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى @@ برفع أحضر ، والتقدير أن أحضر ، فلما حذف أن ، ارتفع الفعل ، وليس هذا من المواضع التي يحذف منها أن قياساً ، أو على إنزال الفعل منزلة المصدر من غير ما يسبكه له ، كما قال الخليل في قول : @ أريد لأنسى حبها @@ أي أرادني لأنسى حبها ، فيكون التقدير في هذين الوجهين : ومن آياته إراءته إياكم البرق ، فمن آياته في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ . وقال الرماني : يحتمل أن يكون التقدير : ومن آياته يريكم البرق بها ، وحذف لدلالة من عليها ، كما قال الشاعر : @ وما الدهر إلا تارتان فمنهما أموات وأخرى أبتغي العيش أكدح @@ أي : فمنهما تارة أموات ، ومن على هذه الأوجه الثلاثة للتبعيض . وانتصب { خوفاً وطمعاً } على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي خائفين وطامعين . وقيل : مفعول من أجله . وقال الزجاج : وأجازه الزمخشري على تقدير إرادة خوف وطمع ، فيتحد الفاعل في العامل والمحذوف ، ولا يصح أن يكون العامل يريكم ، لاختلاف الفاعل في العامل والمصدر . وقال الزمخشري : المفعولون فاعلون في المعنى ، لأنهم راؤون مكانه ، فكأنه قيل : لجعلكم رائين البرق خوفاً وطمعاً . انتهى . وكونه فاعلاً ، قيل : همزة التعدية لا تثبت له حكمه بعدها ، على أن المسألة فيها خلاف . مذهب الجمهور : اشتراط اتحاد الفاعل ، ومن النحويين من لا يشترطه . ولو قيل : على مذهب من يشترطه . أن التقدير : يريكم البرق فترونه خوفاً وطمعاً ، فحذف العامل للدلالة ، لكان إعراباً سائغاً واتحد فيها الفاعل . وقال الضحاك : خوفاً من صواعقه ، وطمعاً في مطره . وقال قتادة : خوفاً للمسافر ، وطمعاً للمقيم . وقيل : خوفاً أن يكون خلباً ، وطمعاً أن يكون ماطراً . وقال الشاعر : @ لا يكن برقك برقاً خلباً إن خير البرق ما العيث معه @@ وقال ابن سلام : خوفاً من البرد أن يهلك الزرع ، وطمعاً في المطر أن يحييه . { ومن آياته أن تقوم } : أن تثبت وتمسك ، مثل : { وإذا أظلم عليهم قاموا } [ البقرة : 20 ] : أي ثبتوا بأمره ، أي بإرادته . وإذا الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة جواب الشرط ، والمعنى : أنه لا يتأخر طرفة عين خروجكم عن دعائه ، كما يجيب الداعي المطيع مدعوه ، كما قال الشاعر : @ دعوت كليباً دعوة فكأنما دعوت قرين الطود أو هو أسرع @@ قرين الطود : الصدا ، أو الحجران أيد هذا . والطود : الجبل . و { الدعوة } : البعث من القبور ، و { من الأرض } يتعلق بدعاكم ، و { دعوة } : أي مرة ، فلا يحتاج إلى تكرير دعاءكم لسرعة الإجابة . وقيل : { من الأرض } صفة لدعوة . وقال ابن عطية : ومن عندي هنا لأنتهاء الغاية ، كما يقول : دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل . انتهى . وكون من لأنتهاء الغاية قول مردود عند أصحابنا . وعن نافع ويعقوب : أنهما وقفا على دعوة ، وابتدآ من الأرض . { إذا أنتم تخرجون } علقاً من الأرض بتخرجون ، وهذا لا يجوز ، لأن فيه الفصل بين الشرط وجوابه ، بالوقف على دعوة فيه إعمال ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها ، وهو لا يجوز . وقال الزمخشري : وقوله : { إذا دعاكم } بمنزلة قوله : { يريكم } في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى ، كأنه قال : ومن آياته قيام السماوات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة : يا أهل القبور أخرجوا ، وإنما عطف هذا على قيام السماوات والأرض بثم ، بياناً لعظيم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور قوموا ، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر . انتهى . وقرأ حمزة والكسائي : تخرجون ، بفتح التاء وضم الراء ؛ وباقي السبعة : بضمها وفتح الراء . وبدأ أولاً من الآيات بالنشأة الأولى ، وهي خلق الإنسان من التراب ، ثم كونه بشراً منتشراً ، وهو خلق حي من جماد ، ثم أتبعه بأن خلق له من نفسه زوجاً ، وجعل بينهما تواد ، وذلك خلق حي من عضو حي . وقال : { لقوم يتفكرون } ، لأن ذلك لا يدرك إلا بالفكر في تأليف بين شيئين لم يكن بينهما تعارف ، ثم أتبعه بما هو مشاهد للعالم كلهم ، وهو خلق السماوات والأرض ، واختلاف اللغات والألوان ، والاختلاف من لوازم الإنسان لا يفارقه . وقال : { للعالمين } ، لأنها آية مكشوفة للعالم ، ثم أتبعه بالمنام والابتغاء ، وهما من الأمور المفارقة في بعض الأوقات ، بخلاف اختلاف الألسنة والألوان . وقال : { لقوم يسمعون } ، لأنه لما كان من أفعال العبادة قد يتوهم أنه لا يحتاج إلى مرشد ، فنبه على السماع ، وجعل البال من كلام المرشد . ولما ذكر عرضيات الأنفس اللازمة والمفارقة ، ذكر عرضيات الآفاق المفارقة من إراءة البرق وإنزال المطر ، وقدمها على ما هو من الأرض ، وهو الإتيان والإحياء ، كما قدم السماوات على الأرض ، وقدم البرق على الإنزال ، لأنه كالمبشر يجيء بين يدي القادم . والأعراب لا يعلمون البلاد المعشبة ، إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب إلى جانب . وقال : { لقوم يعقلون } ، لأن البرق والإنزال ليس أمراً عادياً فيتوهم أنه طبيعة ، إذ يقع ذلك ببلدة دون أخرى ، ووقتاً دون وقت ، وقوياً وضعيفاً ، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار ، فقال : هو آية لمن عقل بأن لم يتفكر تفكراً تاماً . ثم ختم هذه الآيات بقيام السماوات الأرض ، وذلك من العوارض اللازمة ، فإن كلاًّ من السماء والأرض لا يخرج عن مكانه ، فيتعجب من وقوف الأرض وعدم نزولها ، ومن علو السماء وثباتها من غير عمد . ثم أتبع ذلك بالنشأة الأخرى ، وهي الخروج من الأرض ، وذكر تعالى من كل باب أمرين : من الأنفس خلقكم وخلق لكم ، ومن الآفاق السماء والأرض ، ومن لوازم الإنسان اختلاف الألسنة واختلاف الألوان ، ومن خواصه المنام والابتغاء ، ومن عوارض الآفاق البرق والمطر ، ومن لوازمه قيام السماء وقيام الأرض .