Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 46-53)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ، ذكر ظهور الصلاح . والكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ، ويذكر لعقابه سبباً لئلا يتوهم به الظلم ؛ فذكر من أعلام قدرته إرسال الرياح مبشرات بالمطر ، لأنها متقدمة . والمبشرات : رياح الرحمة ، الجنوب والشمال والصبا ، وأما الدبور ، فريح العذاب ، وليس تبشيرها مقتصراً به على المطر ، بل لها تبشيرات بسبب السفن والسير بها إلى مقاصد أهلها ، وكأنه بدأ أولاً بشيء عام ، وهو التبشير . وقرأ الأعمش : الريح ، مفرداً ، وأراد معنى الجمع ، ولذلك قرأ : { مبشرات } . ثم ذكر من أعظم تباشيرها إذاقة الرحمة ، وهي نزول المطر ، ويتبعه حصول الخصب ، والريح الذي معه الهبوب ، وإزالة العفونة من الهواء ، وتذرية الحبوب ، وغير ذلك . { وليذيقكم } : عطف على معنى مبشرات ، فالعامل أن يرسل ، ويكون عطفاً على التوهم ، كأنه قيل : ليبشروكم ، والحال والصفة قد يجيئان ، وفيهما معنى التعليل . تقول : أهن زيد أسيأ وأكرم زيداً العالم ، تريد لإساءته ولعلمه . وقيل : ما يتعلق به اللام محذوف ، أي ولكنا أرسلناها . وقيل : الواو في وليذيقكم زائدة . و { بأمره } : أي بأمر الله ، يعني أن جريانها ، لما كان مسنداً إليها ، أخبر أنه بأمره تعالى . { من فضله } : مما يهيء لكم من الريح في التجارات في البحر ، ومن غنائم أهل الشرك . ثم بين لرسوله بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء ، ولما كان تعالى بين الأصلين : المبدأ والمعاد ، بين ذكر الأصل الثالث ، وهو النبوّة ؛ وفي الكلام حذف تقديره : وآمن به بعض وكذب بعض ، { فانتقمنا من الذين أجرموا } . وفي قوله : { وكان حقاً علينا نصر المؤمنين } : تبشير للرسول وأمته بالنصر والظفر ، إذ أخبر أن المؤمنين بأولئك المؤمنين نصروا ، وفي لفظ حقاً مبالغة في التحتم ، وتكريم للمؤمنين ، وإظهار لفضيلة سابقة الإيمان ، حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر . والظاهر أن { حقاً } خبر كان ، و { نصر المؤمنين } الاسم ، وأخر لكون ما تعلق به فاصلة للاهتمام بالجزاء ، إذ هو محط الفائدة . وقال ابن عطية : وقف بعض القراء على حقاً وجعله من الكلام المتقدم ، ثم استأنف جملة من قوله : { علينا نصر المؤمنين } ، وهذا قول ضعيف ، لأنه لم يدر قدر ما عرضه في نظم الآية . وقال الزمخشري : وقد يوقف على { حقاً } ، ومعناه : وكان الانتقام منهم حقاً ، ثم يبتدأ علينا { نصر المؤمنين } . انتهى . وفي الوقف على { وكان حقاً } بيان أنه لم يكن الانتقام ظلماً ، بل عدلاً ، لأنه لم يكن إلا بعد كون بقائهم غير مفيد إلاّ زيادة الإثم وولادة الفاجر الكافر ، فكان عدمهم خيراً من وجودهم الخبيث . { الله الذي يرسل الرياح } ، هذا متعلق بقوله : { ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } ، والجملة التي بينهما اعتراض ، جاءت تأنيساً للرسول وتسلية ووعداً بالنصر ووعيداً لأهل الكفر ، وفي إرسالها قدرة وحكمة . أما القدرة ، فإن الهواء اللطيف الذي يسبقه البرق بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء ، وهو ليس بذاته يفعل ذلك ، بل بفاعل مختار . وأما الحكمة ، ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب ، وإخراج الماء منه ، وإنبات الزرع ، ودر الضرع ، واختصاصه بناس دون ناس ؛ وهذه حكمة بالغة معروفة بالمشيئة والإثارة ، تحريكها وتسييرها . والبسط : نشرها في الآفاق ، والكسف : القطع . وتقدم الكلام على قوله : { فترى الودق يخرج من خلاله } ، وذكر الخلاف في { كسفاً } وحاله من جهة القراء . والضمير في : { من خلاله } ، الظاهر أنه عائد على السحاب ، إذ هو المحدث عنه ، وذكر الضمير لأن السحاب اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه . قيل : ويحتمل أن يعود على { كسفاً } في قراءة من سكن العين ، والمراد بالسماء : سمت السماء ، كقوله : { وفرعها في السماء } [ إبراهيم : 24 ] . { فإذا أصاب به من يشاء } : أي أرض من يشاء إصابتها ، فاجأهم الاستبشار ، ولم يتأخر سرورهم . وقال الأخفش : { من قبله } تأكيد لقوله : { من قبل أن ينزل عليهم } . وقال ابن عطية : أفاد الإعلام بسرعة تقلب قلوب البشر من الإبلاس إلى الاستبشار ، وذلك أن قوله : { من قبل أن ينزل عليهم } يحتمل الفسحة في الزمان ، أي من قبل أن ينزل بكثير ، كالأيام ونحوه ، فجاء قوله : { من قبل } بمعنى : أن ذلك متصل بالمطر ، فهو تأكيد مقيد . وقال الزمخشري : وبمعنى التوكيد ، فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم ، فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك . انتهى . وما ذكره ابن عطية والزمخشري من فائدة التأكيد في قوله : { من قبله } غير ظاهر ، وإنما هو عند ذكره لمجرد التوكيد ، ويفيد رفع المجاز فقط . وقال قطرب : التقدير : وإن كانوا من قبل التنزيل ، من قبل المطر . انتهى . وصار من قبل إنزال المطر من قبل المطر ، وهذا تركيب لا يسوغ في كلام فصيح ، فضلاً عن القرآن . وقيل : التقدير : من قبل تنزيل الغيث : من قبل أن يزرعوا ، ودل المطر على الزرع ، لأنه يخرج بسبب المطر ؛ ودل على ذلك قوله : { فرأوه مصفراً } ، يعني الزرع . انتهى . وهذا لا يستقيم ، لأن { من قبل أن ينزل عليهم } متعلق بقوله : { لمبلسين } . ولا يمكن من قبل الرزع أن يتعلق بمبلسين ، لأن حرفي جر لا يتعلقان بعامل واحد إلا إن كان بواسطة حرف العطف ، أو على جهة البدل . وليس التركيب هنا ومن قبله بحرف العطف ، ولا يصح فيه البدل ، إذا إنزال الغيث ليس هو الزرع ، ولا الزرع بعضه . وقد يتخيل فيه بدل الاشتمال بتكلف . أما لاشتمال الإنزال على الزرع ، بمعنى أن الزرع يكون ناشئاً عن الإنزال ، فكأن الإنزال مشتمل عليه ، وهذا على مذهب من يقول : الأول يشتمل على الثاني . وقال المبرد : الثاني السحاب ، ويحتاج أيضاً إلى حرف عطف حتى يمكن تعلق الحرفين بمبلسين . وقال علي بن عيسى : من قبل الإرسال . وقال الكرماني : ومن قبل الاستبشار ، لأنه قرنه بالإبلاس ، ولأنه منّ عليهم بالاستبشار . انتهى . ويحتاج قوله وقول ابن عيسى إلى حرف العطف ، فإن ادعى في قوله من جعل الضمير في من قبله عائد إلى غير إنزال الغيث أن حرف العطف محذوف ، أمكن ، لكن في حذف حرف العطف خلاف ، أينقاس أم لا ينقاس ؟ أما حذفه مع الجمل فجائز ، وأما وحده فهو الذي فيه الخلاف . وقرأ الحرميان ، وأبو عمرو ، وأبو بكر : إلى أثر ، بالإفراد ؛ وباقي السبعة : بالجمع ؛ وسلام : بكسر الهمزة وإسكان الثاء . وقرأ الجحدري ، وابن السميفع ، وأبو حيوة : تحيـي ، بالتاء للتأنيث ، والضمير عائد على الرحمة . وقال صاحب اللوامح : وإنما أنث الأثر لاتصاله بالرحمة إضافة إليها ، فاكتسب التأنيث منها ، ومثل ذلك لا يجوز إلا إذا كان المضاف بمعنى المضاف إليه ، أو من سببه . وأما إذا كان أجنبياً ، فلا يجوز بحال . انتهى . وقرأ زيد بن علي : نحيـي ، بنون العظمة ؛ والجمهور : { يحيي } ، بياء الغيبة ، والضمير لله ، ويدل عليه قراءة { آثار } بالجمع ، وقيل : يعود على أثر في قراءة من أفرد . وقال ابن جني : { كيف يحيي } جملة منصوبة الموضع على الحال حملاً على المعنى ، كأنه قال : محيياً ، وهذا فيه نظر . { إن ذلك } : أي القادر على إحياء الأرض بعد موتها ، هو الذي يحيـي الناس بعد موتهم . وهذا الإخبار على جهة القياس في البعث ، والبعث من الأشياء التي هو قادر عليها تعالى . { ولئن أرسلنا ريحاً } : أخبر تعالى عن حال تقلب ابن آدم ، أنه بعد الاستبشار بالمطر ، بعث الله ريحاً ، فاصفر بها النبات . لظلوا يكفرون قلقاً منهم ، والريح التي تصفر النبات صر حرور ، وهما مما يصبح به النبات هشيماً ، والحرور جنب الشمال إذا عصفت . والضمير في { فرأوه } عائد على ما يفهم من سياق الكلام ، وهو النبات . وقيل : إلى الأثر ، لأن الرحمة هي الغيث ، وأثرها هو النبات . ومن قرأ : آثار ، بالجمع ، رجع الضمير إلى آثار الرحمة ، وهو النبات ، واسم النبات يقع على القليل والكثير ، لأنه مصدر سمى به ما ينبت . وقال ابن عيسى : الضمير في { فرأوه } عائد على السحاب ، لأن السحاب إذا اصفر لم يمطر ؛ وقيل : على الريح ، وهذان قولان ضعيفان . وقرأ صباح بن حبيش : مصفاراً ، بألف بعد الفاء . واللام في { ولئن } مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا ، وهو مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل اتساعاً تقديره : ليظلن ، ونظيره قوله تعالى : { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك } [ البقرة : 145 ] : أي ما يتبعون ذمهم تعالى في جميع أحوالهم ، كان عليهم أن يتوكلوا على فضل الله فقنطوا ، وإن شكروا نعمته فلم يزيدوا على الفرح والاستبشار ، وإن تصبروا على بلائه كفروا . والضمير في { من بعده } عائد على الاصفرار ، أي من بعد اصفرار النبات تجحدون نعمته . وتقدم الكلام على قوله : { فإنك لا تسمع الموتى } إلى قوله : { فهم مسلمون } في أواخر النمل ، إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله : { فإنك } .