Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 54-60)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما ذكر دلائل الآفاق ، ذكر شيئاً من دلائل الأنفس ، وجعل الخلق من ضعف ، لكثرة ضعف الإنسان أول نشأته وطفوليته ، كقوله : { خلق الإنسان من عجل } [ الأنبياء : 37 ] . والقوة التي تلت الضعف ، هي رعرعته ونماؤه وقوته إلى فصل الاكتهال . والضعف الذي بعد القوة هو حال الشيخوخة والهرم . وقيل : { من ضعف } : من النطفة ، كقوله : { من ماء مهين } [ المرسلات : 20 ] . والترداد في هذه الهيئات شاهد بقدرة الصانع وعلمه . وقرأ الجمهور : بضم الضاد في ضعف معاً ؛ وعاصم وحمزة : بفتحها فيهما ، وهي قراءة عبد الله وأبي رجاء . وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري والضحاك : الضم والفتح في الثاني . وقرأ عيسى : بضمتين فيهما . والظاهر أن الضعف والقوة هما بالنسبة إلى ما عدا البدن من ذلك ، وإن الضم والفتح بمعنى واحد في ضعف . وقال كثير من اللغويين : الضم في البدن ، والفتح في العقل . { ما لبثوا } : هو جواب ، وهو على المعنى ، إذ لو حكى قولهم ، كان يكون التركيب : ما لبثنا غير ساعة ، أي ما أقاموا تحت التراب غير ساعة ، وما لبثوا في الدنيا : استقلوها لما عاينوا من الآخرة ، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث ، وإخبارهم بذلك هو على جهة التسور والتقول بغير علم ، أو على جهة النسيان ، أو الكذب . { يؤفكون } : أي يصرفون عن قول الحق والنطق بالصدق . { الذين أوتوا العلم } : هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون . { في كتاب الله } : فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث والعلم يعم الإيمان وغيره ، ولكن نص على هذا الخاص تشريفاً وتنبيهاً على محله من العلم . وقيل : { في كتاب الله } : اللوح المحفوظ ، وقيل : في علمه ، وقيل : في حكمه . وقرأ الحسن : البعث ، بفتح العين فيهما ، وقرىء : بكسرها ، وهو اسم ، والمفتوح مصدر . وقال قتادة : هو على التقديم والتأخير ، تقديره : أوتوا العلم في كتاب الله والإيمان . { لقد لبثتم } : وعلى هذا تكون في بمعنى الباء ، أي العلم بكتاب الله ، ولعل هذا القول لا يصح عن قتادة ، فإن فيه تفكيكاً للنظم لا يسوغ في كلام غير فصيح ، فكيف يسوغ في كلام الله ؟ وكان قتادة موصوفاً بعلم العربية ، فلا يصدر عنه مثل هذا القول . والفاء في : { فهذا يوم البعث } عاطفة لهذه الجملة المقولة على الجملة التي قبلها ، وهي : { لقد لبثتم } ، اعتقبها في الذكر . قال الزمخشري : فإن قلت : ما هذه الفاء ، وما حقيقتها ؟ قلت : هي التي في قوله : @ فقد جئنا خراسانا @@ وحقيقتها أنها جواب شرط يدل عليه الكلام ، كأنه قال : إن صح ما قلتم من أن أقصى ما يراد بنا قلنا القفول : قد جئنا خراساناً ، وإذا أمكن جعل الفاء عاطفة ، لم يتكلف إضمار شرط ، وجعل الفاء جواباً لذلك الشرط المحذوف ، لا تعلمون لتفريطكم في طلب الحق واتباعه . وقيل : لا تعلمون البعث ولا تعرفون به ، فصار مصيركم إلى النار ، فتطلبون التأخير . { فيومئذ } : أي يوم إذ ، يقع ذلك من إقسام الكفار وقول أولي العلم لهم . وقرأ الكوفيون : { لا ينفع } ، بالياء هنا وفي الطول ، ووافقهم نافع في الطول ؛ وباقي السبعة بتاء التأنيث . { ولا هم يستعتبون } ، قال الزمخشري : من قولك : استعتبنى فلان فأعتبته : أي استرضاني فأرضيته ، وذلك إذا كان جانياً عليه ، وحقيقته : أعتبته : أزلت عتبه . ألا ترى إلى قوله : @ غضبت تميم أن يقتل عامر يوم النثار فأعتبوا بالصيلم @@ كيف جعلهم غضاباً . ثم قال : فأعتبوا : أي أزيل غضبهم ، والغضب في معنى العتب ، والمعنى : لا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة ، ومثله قوله تعالى : { فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون } [ الجاثية : 35 ] . فإن قلت : كيف جعلوا غير مستعتبين في بعض الآيات ، وغير معتبين في بعضها ؟ وقوله : { وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين } [ فصلت : 24 ] قلت : أما كونهم غير مستعتبين ، فهذا معناه ؛ وأما كونهم غير معتبين ، فمعناه أنهم غير راضين بما هم فيه ؛ فشبهت حالهم بحال قوم جني عليهم ، فهم عاتبون على الجاني ، غير راضين منه . فإن يستعتبوا الله : أي يسألوه إزالة ما هم فيه ، فما هم من المجابين إلى إزالته . وقال ابن عطية : هذا إخبار عن هول يوم القيامة ، وشدّة أحواله على الكفرة في أنهم لا ينفعهم الاعتذار ، ولا يعطون عتبى ، وهو الرضا . ويستعتبون بمعنى : يعتبون ، كما تقول : يملك ويستملك . والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه ، لأن المعنى لا يفسد إذا كان المفهوم منه ، ولا يطلب منهم عتبى . انتهى . فيكون استفعل في هذا بمعنى الفعل المجرد ، وهو عتب ، أي هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب . وقد قيل : لا يعاتبون على سيئاتهم ، بل يعاقبون . وقيل : لا يطلب لهم العتبى . وقيل : لا يلتمس منهم عمل وطاعة ، ولكن ضربنا إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار . وقال الزمخشري : وصفنا لهم كل صفة كأنها مثل في غرابتها ، وقصصنا عليهم كل قصة عجيبة الشأن ، كصفة المبعوثين يوم القيامة ، وما يقال لهم ، وما لا يقع من اعتذارهم ، ولا يسمع من استعتابهم ، ولكنهم لقسوة قلوبهم ومج أسماعهم حديث الآخرة ، إذا جئتهم بآية من آيات القرآن قالوا : أجئتنا بزور باطل ؟ انتهى . و { أنتم } : خطاب للرسول والمؤمنين ، أي : تبطلون في دعواكم الحشر والجزاء . وقال أبو عبد الله الرازي : وفي توحيد الخطاب بقوله : { ولئن جئتهم } ، والجمع في قوله : { إن أنتم } لطيفة ، وهي : أن الله عز وجل قال : { ولئن جئتهم } بكل آية جاءت بها الرسل ، فيمكن أن يجاوبوه بقوله : أنتم كلكم أيها المدعون الرسالة مبطلون . { كذلك يطبع الله } : أي مثل هذا الطبع يطبع الله ، أي يختم على قلوب الجهلة الذين قد ختم الله عليهم الكفر في الأزل ، وأسند الطبع إلى ذاته تعالى ، إذ هو فاعل ذلك ومقدره . وقال الزمخشري : ومعنى طبع الله : صنع الألطاف التي يشرح لها الصدور حتى تقبل الحق ، ثم قال : فكأنه كذلك تصدأ القلوب وتقسو قلوب الجهلة حتى يسموا المحقين مبطلين ، وهم أعرف خلق الله في تلك الصفة . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . ثم أمره تعالى بالصبر على عداوتهم ، وقوّاه بتحقق الوعد أنه لا بد من إنجازه والوفاء به ، ونهاه عن الاهتزاز بكلامهم والتحرك ، فإنهم لا يقين لهم ولا بصيرة . وقرأ ابن أبي إسحاق ، ويعقوب : ولا يستحقنك : بحاء مهملة وقاف ، من الاستحقاق ؛ والجمهور : بخاء معجمة وفاء ، من الاستخفاف ؛ وسكن النون ابن أبي عبلة ويعقوب ، والمعنى : لا يفتننك ويكونوا أحق بك من المؤمنين .