Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 32, Ayat: 13-22)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ لآتينا كل نفس هداها } : أي اخترعنا الإيمان فيها ، كقوله : { أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً } [ الرعد : 31 ] ، و { لجمعهم على الهدى } [ الأنعام : 35 ] ، و { لجعل الناس أمة واحدة } [ هود : 118 ] . وقال الزمخشري : على طريق الإلجاء والقسر ، ولكنا بنينا الأمر على الاختيار دون الاضطرار ، فاستحبوا العمى على الهدى ، فحقت كلمة العذاب على أهل العمى دون أهل البصر . ألا ترى إلي ما عقبه به من قوله : { فذوقوا بما نسيتم } ؟ فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم من نسيان العاقبة وقلة الفكر فيها ، وترك الاستعداد لها . والمراد بالنسيان : خلاف التذكر ، يعني : أن الانهماك في الشهوات أنهككم وألهاكم عن تذكر العاقبة ، وسلط عليكم نسيانها . ثم قال : { إنا نسيناكم } على المقابلة : أي جازيناكم جزاء نسيانكم . وقيل : هو بمعنى الترك ، قاله ابن عباس وغيره ، أي تركتم الفكر في العاقبة ، فتركناكم من الرحمة . انتهى . وقوله : على طريق الإلجاء والقسر ، هو قول المعتزلة . وقالت الإمامية : يجوز أن يريد هداها إلى طريق الجنة في الآخرة ، ولم يعاقب أحداً ، لكن حق القول منه أن يملأ جهنم ، فلا يجب على الله هداية الكل إليها . قالوا : بل الواجب هداية المعصومين ؛ فأما من له ذنب ، فجائز هدايته إلى النار جزاء على أفعاله ، وفي جواز ذلك منع لقطعهم على أن المراد هداها إلى الإيمان . انتهى . و { هذا } : صفة ليومكم ، ومفعول { فذوقوا } محذوف ، أو مفعول فذوقوا هذا العذاب بسبب نسيانكم { لقاء يومكم هذا } ، وهو ما أنتم فيه من نكس الرؤوس والخزي والغم ؛ أو ذوقوا العذاب المخلد في جهنم . وفي استئناف قوله : { إنا نسيناكم } ، وبناء الفعل على إن واسمها تشديد في الانتقام منهم . { وإنما يؤمن بآياتنا } : أثنى تعالى على المؤمنين في وصفهم بالصفة الحسنى ، من سجودهم عند التذكير ، وتسبيحهم وعدم استكبارهم ؛ بخلاف ما يصنع الكفرة من الإعراض عن التذكير ، وقول الهجر ، وإظهار التكبر ؛ وهذه السجدة من عزائم سجود القرآن . وقال ابن عباس : السجود هنا بمعنى الركوع . وروي عن ابن جريج : المسجد مكان الركوع ، يقصد من هذا ويلزم على هذا أن تكون الآية مدنية ومن مذهب ابن عباس أن القارىء للسجدة يركع ، واستدل بقوله : { وخرّ راكعاً وأناب } [ ص : 24 ] . { تتجافى جنوبهم } : أي ترتفع وتتنحى ، يقال : جفا الرجل الموضع : تركه . قال عبد الله بن رواحة : @ نبي تجافى جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع @@ وقال الزجاج والرماني : التجافي : التنحي إلى جهة فوق . والمضاجع : أماكن الاتكاء للنوم ، الواحد مضجع ، أي هم منتبهون لا يعرفون نوماً . وقال الجمهور : المراد بهذا التجافي صلاة النوافل بالليل ، وهو قول الأوزاعي ومالك والحسن البصري وأبي العالية وغيرهم . وفي الحديث ، ذكر قيام الليل ، ثم استشهد بالآية ، يعني الرسول . وقال أبو الدرداء ، وقتادة ، والضحاك : تجافي الجنب : هو أن يصلي العشاء والصبح في جماعة . وقال الحسن : هو التهجد ؛ وقال أيضاً : هو وعطاء : هو العتمة . وفي الترمذي ، عن أنس : نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة . وقال قتادة ، وعكرمة : التنفل ما بين المغرب والعشاء ، { يدعون } : حال ، أو مستأنف خوفاً وطمعاً ، مفعول من أجله ، أو مصدران في موضع الحال . والظاهر أن الدعاء هو : الابتهال إلى الله ، وقيل : الصلاة . وقرأ الجمهور : { ما أخفي لهم } ، فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ؛ وحمزة ، والأعمش ، ويعقوب : بسكون الياء ، فعلاً مضارعاً للمتكلم ؛ وابن مسعود : وما نخفي ، بنون العظمة ؛ والأعمش أيضاً : أخفيت . وقرأ محمد بن كعب : ما أخفي ، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل . وقرأ الجمهور : { من قرة } ، على الإفراد . وقرأ عبد الله ، وأبو الدرداء ، وأبو هريرة ، وعوف العقيلي : من قرات ، على الجمع بالألف والتاء ، وهي رواية عن أبي جعفر والأعمش ؛ و { ما أخفي } يحتمل أن تكون موصولة ، وأن تكون استفهامية ، فيكون { تعلم } متعلقة . والجملة في موضع المفعول ، إن كان { تعلم } مما عدى لواحد ؛ وفي موضع المفعولين إن كانت تتعدى لاثنين ، وتقدم تفسيره في { قرة أعين } [ القصص : 74 ] في الفرقان . وفي الحديث ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، اقرأوا إن شئتم : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } " وقال ابن مسعود : في التوراة مكتوب على الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت إلى آخره . { ولا تعلم نفس } : نكرة في سياق النفي ، فيعم جميع الأنفس مما ادّخر الله تعالى لأولئك ، وأخفاه من جميع خلائقه مما تقر به أعينهم ، لا يعلمه إلا هو ، وهذه عدة عظيمة لا تبلغ الأفهام كنهها ، بل ولا تفاصيلها . وقال الحسن : أخفوا اليوم أعمالاً في الدنيا ، فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت . { جزاء بما كانوا يعملون } ، وهو تعالى الموفق للعمل الصالح . وقال الزمخشري : فحسم أطماع المتمنين . انتهى ، وهذه نزعة اعتزالية . { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً } ، قال ابن عباس وعطاء : نزلت في علي والوليد بن عقبة . تلاحياً ، فقال له الوليد : أنا أذلق منك لساناً ، وأحدّ سناناً ، وأرد للكتيبة . فقال له علي : اسكت ، فإنك فاسق . قال الزمخشري : فنزلت عامة للمؤمنين والفاسقين ، فتناولتهما وكل من في مثل حالهما . وقال الزجاج ، والنحاس : نزلت في علي وعقبة بن أبي معيط . فعلى هذا تكون الآية مكية ، لأن عقبة لم يكن بالمدنية ، وإنما قتل بطريق مكة ، منصرف بدر . والجمع في { لا يستوون } ، والتقسيم بعده ، حمل على معنى من . وقيل : { لا يستوون } لاثنين ، وهو المؤمن والفاسق ، والتثنية جمع . وقال الزجاج : ونزول الآية في علي والوليد ، ثم بين انتفاء الاستواء بمقر كل واحد منهما بالإفراد . والجمهور : { جنات } بالجمع . وقيل : سميت بذلك لما روي عن ابن عباس ، قال : يأوي إليها أرواح الشهداء . وقيل : هي عن يمين العرش . وقرأ الجمهور : { نُزُلاً } بضم الزاي ؛ وأبو حيوة : بإسكانها . والنزل : عطاء النازل ، ثم صار عاماً فيما يعد للضيف . { وأما الذين فسقوا } : أي بالكفر ، { فمأواهم النار } . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد : فجنة مأواهم النار ، أي النار لهم مكان جنة المأوى للمؤمنين ، كقوله : { فبشرهم بعذاب أليم } [ التوبة : 34 ] . انتهى وهذا فيه بعد . وإنما يذهب إلى مثل { فبشرهم } إذا كان مصرحاً به فيقول : قام مقام التبشير العذاب ، وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع . أما أن تضمر شيئاً لكلام مستغنى عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار ، فليس بجيد . و { العذاب الأدنى } ، قال أبيّ ، وابن عباس ، والضحاك ، وابن زيد : مصائب الدنيا في الأنفس والأموال . وقال ابن مسعود ، والحسن بن علي : هو القتل بالسيف ، نحو يوم بدر . وقال مجاهد : القتل والجوع لقريش ، وعنه : إنه عذاب القبر . وقال النخعي ، ومقاتل : هو السنون التي أجاعهم الله فيها . وقال ابن عباس أيضاً : هو الحدود . وقال أبيّ أيضاً : هو البطشة واللزام والدخان . و { العذاب الأكبر } ، قال ابن عطية : لا خلاف أنه عذاب الآخرة . وفي التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار . وقيل : هو القتل والسبي والأسر . وعن جعفر بن محمد : أنه خروج المهدي بالسيف . { لعلهم يرجعون } ، قال ابن مسعود : لعل من بقي منهم يتوب . وقال أبو العالية : لعلهم يتوبون . وقال مقاتل : يرجعون عن الكفر إلى الإيمان . وقيل لعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه لقوله : { فارجعنا نعمل صالحاً } [ السجدة : 12 ] . وسميت إرادة الرجوع رجوعاً ، كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة : 6 ] . انتهى . ويقابل الأدنى : الأبعد ، والأكبر : الأصغر . لكن الأدنى يتضمن الأصغر ، لأنه منقض بموت المعذب والتخويف ، إنما يصلح بما هو قريب ، وهو العذاب العاجل . والأكبر يتضمن الأبعد ، لأنه واقع في الآخرة ، والتخويف بالبعيد إنما يصلح بذكر عظمه وشدته ، فحصلت المقابلة من حيث التضمن ، وخرج في كل منهما بما هو آكد في التخويف . وقال الزمخشري : فإن قلت : من أين صح تفسير الرجوع بالتوبة ؟ ولعل من الله إرادة ، وإذا أراد الله شيئاً كان ولم يمتنع ، وتوبتهم مما لا يكون ، ألا ترى أنها لو كانت مما يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر ؟ قلت : إرادة الله تتعلق بأفعاله وأفعال عباده ، فإذا أراد شيئاً من أفعاله كان ، ولم يمنع للاقتدار وخلوص الداعي ؛ وأما أفعال عباده ، فإما أن يريدها وهم مختارون لها ومضطرون إليها بقسره وإلجائه ، فإن أرادها وقدرها فحكمها حكم أفعاله ، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنهم لا يختارونها لم يقدح ذلك في اقتداره ، كما لا يقدح في اقتدراك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك ، وهو لا يختارها ، لأن اختياره لا يتعلق بقدرتك ، فلم يكن بعده دالاً على عجزك . انتهى ، وهو على مذهب المعتزلة ، وقد ردّ عليهم أهل السنة ، وذلك مقرر في علم الكلام . { ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها } ، بخلاف المؤمنين ، إذا ذكروا بها خروا سجداً . { ثم أعرض عنها } ، قال الزمخشري : ثم للاستبعاد ، والمعنى : أن الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل ، والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل ؛ والعادة ، كما تقول لصاحبك : وجدت مثل تلك الفرصة ، ثم لم تنتهزها استبعاداً لتركه الانتهاز ، ومنه ثم في بيت الشاعر : @ ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها @@ استبعد أن يزور غمرات الموت بعد أن رآها واستيقنها واطلع على شدتها . انتهى . { من المجرمين } : عام في كل من أجرم ، فيندرج فيه بجهة الأولوية من كان أظلم ظالم ؛ والإجرام هنا : هو : الكفر . وقال يزيد بن رفيع : هي في أهل القدر ، وقرأ : { إن المجرمين } [ القمر : 47 ] إلى قوله : { بقدر } [ القمر : 49 ] . وفي الحديث : " ثلاث من كن فيه فقد أجرم : من عقد لواء في غير حق ، ومن عق والديه ، ومن نصر ظالماً " .