Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 32, Ayat: 1-12)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه السورة مكية ، قيل : إلا خمس آيات : { تتجافى } إلى { تكذبون } . وقال ابن عباس ، ومقاتل ، والكلبي : إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة : { أفمن كان مؤمناً } . قال كفار قريش : لم يبعث الله محمداً إلينا ، وإنما الذي جاء به اختلاق منه ، فنزلت . ولما ذكر تعالى ، فيما قبلها ، دلائل التوحيد من بدء الخلق ، وهو الأصل الأول ؛ ثم ذكر المعاد والحشر ، وهو الأصل الثاني ، وختم به السورة ، ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث ، وهو تبيين الرسالة . و { الكتاب } : القرآن . قال الحوفي : { تنزيل } مبتدأ ، { ولا ريب } خبره . ويجوز أن يكون { تنزيل } خبر مبتدأ ، أي هذا المتلو تنزيل ، أو هذه الحروف تنزيل ، و { الم } بدل على الحروف . وقال أبو البقاء : { الم } مبتدأ ، و { تنزيل } خبره بمعنى المنزل ، و { لا ريب فيه } حال من الكتاب ، والعامل فيه تنزيل ، و { من رب العالمين } متعلق بتنزيل أيضاً . ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في فيه ، والعامل فيه الظرف . ويجوز أن يكون { تنزيل } مبتدأ ، و { لا ريب فيه } الخبر ، و { من رب العالمين } حال كما تقدم . ولا يجوز على هذا أن يتعلق بتنزيل ، لأن المصدر قد أخبر عنه . ويجوز أن يكون الخبر { من رب العالمين } ، و { لا ريب } حال من الكتاب ، وأن يكون خبراً بعد خبر . انتهى . والذي أختاره أن يكون { تنزيل } مبتدأ ، و { لا ريب } اعتراض ، و { من رب العالمين } الخبر . وقال ابن عطية : { من رب العالمين } متعلق بتنزيل ، ففي الكلام تقديم وتأخير ؛ ويجوز أن يتعلق بقوله : { لا ريب } ، أي لا شك ، من جهة الله تعالى ، وإن وقع شك الكفرة ، فذلك لا يراعى . والريب : الشك ، وكذا هو في كل القرآن ، إلا قوله : { ريب المنون } [ الطور : 30 ] . انتهى . وإذا كان { تنزيل } خبر مبتدأ محذوف ، وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى غيره وبينه ، لم نقل فيه : إن فيه تقديماً وتأخيراً ، بل لو تأخر لم يكن اعتراضاً . وأما كونه متعلقاً بلا ريب ، فليس بالجيد ، لأن نفي الريب عنه مطلقاً هو المقصود ، لأن المعنى : لا مدخل للريب فيه ، إنه تنزيل الله ، لأن موجب نفي الريب عنه موجود فيه ، وهو الإعجاز ، فهو أبعد شيء من الريب . وقولهم : { افتراه } ، كلام جاهل لم يمعن النظر ، أو جاحد مستيقن أنه من عند الله ، فقال ذلك حسداً ، أو حكماً من الله عليه بالضلال . وقال الزمخشري : والضمير في فيه راجع إلى مضمون الجملة ، كأنه قيل : لا ريب في ذلك ، أي في كونه منزلاً من رب العالمين . ويشهد لوجاهته قوله : { أم يقولون افتراه } ، لأن قولهم هذا مفترى إنكار لأن يكون من رب العالمين . وكذلك قوله : { بل هو الحق من ربك } ، وما فيه من تقدير أنه من الله ، وهذا أسلوب صحيح محكم ، أثبت أولاً أن تنزيله من رب العالمين ، وأن ذلك ما لا ريب فيه . ثم أضرب عن ذلك إلى قوله : { أم يقولون افتراه } ، لأن أم هي المنقطعة الكائنة بمعنى بل ، والهمزة إنكاراً لقولهم وتعجباً منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات ، ثم أضرب عن الإنكار إلى الإثبات أنه الحق من ربك . انتهى ، وهو كلام فيه تكثير . وقال أبو عبيدة : أم يكون معناه : بل يقولون ، فهو خروج من حديث إلى حديث ؛ ومن ربك في موضع الحال ، أي كائناً من عند ربك ، وبه متعلق بـ لتنذر ، أو بمحذوف تقديره : أنزله لتنذر . والقوم هنا قريش والعرب ، وما نافية ، ومن نذير : من زائدة ، ونذير فاعل أتاهم . أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولاً بخصوصيتهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، لا لهم ولا لآبائهم ، لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل ، وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم ، وعبدوا الأصنام وعم ذلك ، فهم مندرجون تحت قوله : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [ فاطر : 24 ] ، أي شريعته ودينه ؛ والنذير ليس مخصوصاً بمن باشر ، بل يكون نذيراً لمن باشره ، ولغير من باشره بالقرب ممن سبق لها نذير ، ولم يباشرهم نذير غير محمد صلى الله عليه وسلم . وقال ابن عباس ، ومقاتل : المعنى لم يأتهم في الفترة بين عيس ومحمد ، عليهما السلام . وقال الزمخشري : { ما أتاهم من نذير من قبلك } ، كقوله : { ما أنذر آباؤهم } [ يس : 6 ] ، وذلك أن قريشاً لم يبعث الله إليهم رسولاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم . فإن قلت : فإذا لم يأتهم نذير ، لم تقم عليهم حجة . قلت : أما قيام الحجة بالشرائع التي لا يدرك علمها إلا بالرسل فلا ، وأما قيامها بمعرفة الله وتوحيده وحكمته فنعم ، لأن أدلة العقل الموصلة إلى ذلك معهم في كل زمان . انتهى . والذي ذهب إليه غير ما ذهب إليه المفسرون ، وذلك أنهم فهموا من قوله : { ما أتاهم } ، و { ما أنذر آباؤهم } [ يس : 6 ] ، أن ما نافية ، وعندي أن ما موصولة ، والمعنى : لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم . { من نذير } : متعلق بأتاهم ، أي أتاهم على لسان نذير من قبلك . وكذلك { لتنذر قوماً ما أنذر أباؤهم } [ يس : 6 ] : أي العقاب الذي أنذره آباؤهم ، فما مفعولة في الموضعين ، وأنذر يتعدى إلى اثنين . قال تعالى : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة } [ فصلت : 13 ] ، وهذا القول جار على ظواهر القرآن . قال تعالى : { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير } [ فاطر : 24 ] ، و { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير } [ المائدة : 19 ] ، { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ، { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولاً } [ القصص : 59 ] . ولما حكى تعالى عنهم أنهم يقولون : إن محمداً صلى الله عليه وسلم افتراه ورد عليهم ، اقتصر في ذكر ما جاء به القرآن على الإنذار ، وإن كان قد جاء له وللتبشير ليكون ذلك ردعاً لهم ، ولأنه إذا ذكر الإنذار ، صار عند العاقل فكر فيما أنذر به ، فلعل ذلك الفكر يكون سبباً لهدايته . و { لعلهم يهتدون } : ترجية من رسول الله ، كما كان في قوله : { لعله يتذكر أو يخشى } [ طه : 44 ] ، من موسى وهارون . قال الزمخشري : وأن يستعار لفظ الترجي للإرادة . انتهى . يعني أنه عبر عن الإرادة بلفظ الترجي ، ومعناه : إرادة اهتدائهم ، وهذه نزعة اعتزالية ، لأنه عندهم أن يريد هداية العبد ، فلا يقع ما يريد ، ويقع ما يريد العبد ، تعالى الله عن ذلك . ولما بين تعالى أمر الرسالة ، ذكر ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد وإقامة الدليل بذكر مبدأ العالم . وتقدم الكلام على { في ستة أيام } في الأعراف . { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع } : أي إذا جاوزتموه إلى سواه فاتخذتموه ناصراً وشفيعاً . { أفلا تذكرون } موجد هذا العالم ، فتعبدوه وترفضوا ما سواه ؟ { يدبر الأمر } ، الأمر : واحد الأمور . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وعكرمة ، والضحاك : ينفذ الله قضاءه بجميع ما يشاؤه . { ثم يعرج إليه } : أي يصعد ، خبر ذلك { في يوم } من أيام الدنيا ، { مقداره } : أن لو سير فيه السير المعروف من البشر { ألف سنة } ، لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام . وقال مجاهد أيضاً : الضمير في مقداره عائد على التدبير ، أي كان مقدار التدبير المنقضي في يوم ألف سنة لو دبره البشر . وقال مجاهد أيضاً : يدبر ويلقي إلى الملائكة أمور ألف سنة من عندنا ، وهو اليوم عنده ، فإذا فرغت ألقى إليهم مثلها . فالمعنى : أن الأمور تنفذ عنه لهذه المدة وتصير إليه آخراً ، لأن عاقبة الأمور إليه . وقيل : المعنى يدبره في الدنيا إلى أن تقوم الساعة ، فينزل القضاء والقدر ، ثم تعرج إليه يوم القيامة ، ومقداره ما ذكر ليحكم فيه من ذلك اليوم ، حيث ينقطع أمر الأمراء ، أو أحكام الحكام ، وينفرد بالأمر كل يوم من أيام الآخرة بألف سنة ، وهو على الكفار قدر خسمين ألف سنة حسبما في سورة سأل سائل ، وتأتي الأقوال فيه إن شاء الله تعالى . وقيل : ينزل الوحي مع جبريل من السماء إلى الأرض ، ثم يرجع إلى ما كان من قبول الوحي أو ربه مع جبريل ، وذلك في وقت هو في الحقيقة ألف سنة ، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود ، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة ، وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل ، لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد . قال الزمخشري : وبداية الأمر المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ، ينزله مدبراً من السماء إلى الأرض ، ثم لا يعمل به ، ولا يصعد إليه ذلك المأمور به خالصاً كما يريده ويرتضيه ، إلا في مدة متطاولة ، لقلة الأعمال لله والخلوص من عباده ، وقلة الأعمال الصاعدة ، لأنه لا يوصف بالصعود إلا الخالص ، ودل عليه قوله على أثره : { قليلاً ما تشكرون } [ الأعراف : 10 ] . انتهى . وقيل : يدبر أمر الشمس في طلوعها من المشرق وغروبها في المغرب ، ومدارها في العالم من السماء إلى الأرض ، لأنها على أهل الأرض تطلع إلى أن تغرب ، وترجع إلى موضعها من الطلوع في يوم مقداره في المسافة ألف سنة . والضمير في { إليه } عائد إلى السماء ، لأنها تذكر ؛ وقيل : إلى الله . وقال عبد الله بن سابط : يدبر أمر الدنيا أربعة : جبريل للرياح والجنود ، وميكائيل للقطر والماء ، وملك الموت لقبض الأرواح ، وإسرافيل لنزول الأمر عليهم . وقيل : العرش موضع التدبير ، وما دونه موضع التفصيل ، وما دون السموات موضع التعريف . وقال السدي : الأمر : الوحي . وقال مقاتل : القضاء . وقال غيرهما : أمر الدنيا . قال الزجاج : تقول عرجت في السلم أعرج ، وعرج الرجل يعرج إذا صار أعرج . وقرأ ابن أبي عبلة : { يعرج } مبنياً للمفعول ؛ والجمهور : مبنياً للفاعل . قال أبو عبد الله الرازي : وفي هذا لطيفة ، وهو أن الله ذكر في الآية المتقدمة عالم الأجسام والخلق ، وأشار إلى عظمة الملك ؛ وذكر هنا عالم الأرواح والأمر بقوله : { يدبر الأمر } ، والروح من عالم الأمر ، كما قال : { قل الروح من أمر ربي } [ الإسراء : 85 ] ، وأشار إلى دوامه بلفظ يوهم الزمان . والمراد دوام النفاد ، كما يقال في العرف : طال زمان فلان ، والزمان يمتد فيوجد في أزمنة كثيرة . فأشار إلى عظمة الملك بالمكان ، وأشار إلى دوامه هنا بالزمان والمكان من خلقه وملكه ، والزمان بحكمه وأمره . انتهى . وهو كلام ليس جارياً على فهم العرب . وقرأ الجمهور : { مما تعدون } ، بتاء الخطاب . وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، والأعمش ، والحسن : بياء الغيبة ، بخلاف عن الحسن . وقرأ جناح بن حبيش : ثم تعرج الملائكة ، بزيادة الملائكة ، ولعله تفسير منه لسقوطه في سواد المصحف . { ذلك } : أي ذلك الموصوف بالخلق والاستواء والتدبير ، { عالم الغيب } : والغيب الآخرة ، { والشهادة } : الدنيا ، أو الغيب : ما غاب عن المخلوقين ، والشهادة : ما شوهد من الأشياء ، قولان . وقرأ زيد بن علي : { عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم } : بخفض الأوصاف الثلاثة ؛ وأبو زيد النحوي : بخفض { العزيز الرحيم } . وقرأ الجمهور : برفع الثلاثة على أنها أخبار لذلك ، أو الأول خبر والاثنان وصفان ، ووجه الخفض أن يكون ذلك إشارة إلى الأمر ، وهو فاعل بيعرج ، أي ثم يعرج إليه ذلك ، أي الأمر المدبر ، ويكون عالم وما بعده بدلاً من الضمير في إليه . وفي قراءة ابن زيد يكون ذلك عالم مبتدأ وخبر ، والعزيز الرحيم بالخفض بدل من الضمير في إليه . وقرأ الجمهور : خلقه ، بفتح اللام ، فعلاً ماضياً صفة لكل أو لشيء . وقرأ العربيان ، وابن كثير : بسكون اللام ، والظاهر أنه بدل اشتمال ، والمبدل منه كل ، أي أحسن خلق كل شيء ، فالضمير في خلقه عائد على كل . وقيل : الضمير في خلقه عائد على الله ، فيكون انتصابه نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة ، كقوله : { صبغة الله } [ البقرة : 138 ] ، وهو قول سيبويه ، أي خلقه خلقاً . ورجح على بدل الاشتمال بأن فيه إضافة المصدر إلى الفاعل ، وهو أكثر من إضافته إلى المفعول ، وبأنه أبلغ في الامتنان ، لأنه إذا قال : { أحسن كل شيء } ، كأن أبلغ من : أحسن خلق كل شيء ، لأنه قد يحسن الخلق ، وهو المجاز له ، ولا يكون الشيء في نفسه حسناً . فإذا قال : { أحسن كل شيء } ، اقتضى أن كل شيء خلقه حسن ، بمعنى : أنه وضع كل شيء في موضعه . انتهى . وقيل : في هذا الوجه ، وهو عود الضمير في خلقه على الله ، يكون بدلاً من كل شيء ، بدل شيء من شيء ، وهما لعين واحدة . ومعنى { أحسن } : حسن ، لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما تقضيه الحكمة . فالمخلوقات كلها حسنة ، وإن تفاوتت في الحسن ، وحسنها من جهة المقصد الذي أريد بها . ولهذا قال ابن عباس : ليست القردة بحسنة ، ولكنها متقنة محكمة . وعلى قراءة من سكن لام خلقه ، قال مجاهد : أعطى كل جنس شكله ، والمعنى : خلق كل شيء على شكله الذي خصه به . وقال الفراء : ألهم كل شيء خلقه فيما يحتاجون إليه ، كأنه أعلمهم ذلك ، فيكون كقوله : { أعطى كل شيء خلقه } [ طه : 50 ] . وقرأ الجمهور : بدأ بالهمز ؛ والزهري : بالألف بدلاً من الهمزة ، وليس بقياس أن يقول في هدأ : هدا ، بإبدال الهمزة ألفاً ، بل قياس هذه الهمزة التسهيل بين بين ؛ على أن الأخفش حكى في قرأت : قريت ونظائره . وقيل : وهي لغية ؛ والأنصار تقول في بدأ : بدى ، بكسر عين الكلمة وياء بعدها ، وهي لغة لطي . يقولون في فعل هذا نحو بقى : بقأ ، فاحتمل أن تكون قراءة الزهري على هذه اللغة أصله بدى ، ثم صار بدأ ، أو على لغة الأنصار . وقال ابن رواحة : @ باسم الإله وبه بدينا ولو عبدنا غيره شقينا @@ { وبدأ خلق الإنسان } : هو آدم ، عليه الصلاة والسلام . { ثم جعل نسله } : أي ذريته . نسل من الشيء : انفصل منه . { ثم سواه } : قومه وأضاف الروح إلى ذاته دلالة على أنه خلق عجيب ، لا يعلم حقيقته إلا هو ، وهي إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق تعالى . { وجعل لكم } : التفات ، إذ هو خروج من مفرد غائب إلى جمع مخاطب ، وتعديد للنعم ، وهي شاملة لآدم ؛ كما أن التسوية ونفخ الروح شامل له ولذريته . والظاهر أن { وقالوا } ، الضمير لجمع ، وقيل : القائل أبيّ بن خلف ، وأسند إلى الجمع لرضاهم به ، والناصب للظرف محذوف يدل عليه { أئنا } وما بعدها تقديره انبعث . { أئذا ضللنا } ، ومن قرأ إذا بغير استفهام ، فجواب إذا محذوف ، أي : إذا ضللنا في الأرض نبعث ، ويكون إخباراً منهم على طريق الاستهزاء . وكذلك من قرأ : إنا على الخبر ، أكدوا ذلك الاستهزاء باستهزاء آخر . وقرأ الجمهور : بفتح اللام ، والمضارع يضل بكسر عين الكلمة ، وهي اللغة الشهيرة الفصحية ، وهي لغة نجد . قال مجاهد : هلكنا ، وكل شيء غلب عليه غيره حتى تلف وخفي فقد هلك ، وأصله من : ضل الماء في اللبن ، إذا ذهب . وقال قطرب : ضللنا : غبنا في الأرض ، وأنشد قول النابغة الذبياني : @ فآب مضلوه بعين جلية وغودر بالجولان حزم ونائل @@ وقرأ يحيـى بن يعمر ، وابن محيصن ، وأبو رجاء ، وطلحة ، وابن وثاب : بكسر اللام ، والمضارع بفتحها ، وهي لغة أبي العالية . وقرأ أبو حيوة : ضللنا ، بالضاد المنقوطة وضمها وكسر اللام مشددة ، ورويت عن علي . وقرأ علي ، وابن عباس ، والحسن ، والأعمش ، وأبان ين سعيد بن العاص : صللنا ، بالصاد المهملة وفتح اللام ، ومعناه : أنتنا . وعن الحسن : صللنا ، بكسر اللام ، يقال : صل يصل ، بفتح العين في الماضي وكسرها في المضارع ؛ وصل يصل : بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ؛ وأصل يصل ، بالهمزة على وزن أفعل . قال الشاعر : @ تلجلج مضغة فيها أبيض أصلت فهي تحت الكشح داء @@ وقال الفراء : معناه صرنا بين الصلة ، وهي الأرض اليابسة الصلبة . وقال النحاس : لا نعرف في اللغة صللنا ، ولكن يقال : أصل اللحم وصل ، وأخم وخم إذ أنتن ، وحكاه غيره . { بل هم بلقاء ربهم كافرون } : جاحدون بلقاء الله والصيرورة إلى جزائه . ثم أمره تعالى أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة ، من قبض أرواحهم ، ثم عودهم إلى جزاء ربهم بالبعث . و { ملك الموت } : اسمه عزرائيل ، ومعناه عبد الله . وقرأ الجمهور : { ترجعون } ، مبنياً للمفعول ؛ وزيد بن علي : مبنياً للفاعل . { ولو ترى } : الظاهر أنه خطاب للرسول ، وقيل : له ولأمته ، أي : ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب . وقال أبو العباس : المعنى يا محمد قل للمجرم . { ولو ترى } : رأى أن الجملة معطوفة على { يتوفاكم } ، داخلة تحت { قل } ، فلذلك لم يجعله خطاباً للرسول . والظاهر أن لو هنا لم تشرب معنى التمني ، بل هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره ، والجواب محذوف ، أي لرأيت أسوأ حال يرى . ولو تعليق في الماضي ، وإذ ظرف للماضي ، فلتحقق الأخبار ووقوعه قطعاً أتى بهما تنزيلاً منزلة الماضي . وقال الزمخشري : يجوز أن يكون خطاباً لرسول الله ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يراد به التمني ، كأن قيل : وليتك ترى ، والتمني له ، كما كان الترجي له في : { لعلهم يهتدون } ، لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم ، فجعل الله له ، تمنى أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الحياء والخزي والغم ليشمت بهم ، وأن تكون لو امتناعية ، وقد حذف جوابها ، وهو : لرأيت أمراً فظيعاً . ويجوز أن يخاطب به كل أحد ، كما تقول : فلان لئيم إن أكرمته أهانك ، وإن أحسنت إليه أساء إليك ، فلا يريد به مخاطباً بعينه ، وكأنك قلت : إن أكرم وإن أحسن إليه . انتهى . والتمني بلو في هذا الموضع بعيد ، وتسمية لو امتناعية ليس بجيد ، بل العبارة الصحيحة لو لما كان سيقع لوقوع غيره ، وهي عبارة سيبويه ، وقوله قد حذف جوابها وتقديره : وليتك ترى ما يدل على أنها كانت إذا للتمني لا جواب لها ، والصحيح أنها إذا أشربت معنى التمني ، يكون لها جواب كحالها إذا لم تشربه . قال الشاعر : @ فلو نبش المقابر عن كليب فيخبر بالذنائب أي زير بيوم الشعشمين لقر عينا وكيف لقاء من تحت القبور @@ وقال الزمخشري : وقد تجيء لو في معنى التمني ، كقولك : لو تأتيني فتحدثني ، كما تقول : ليتك تأتيني فتحدثني . فقال ابن مالك : إن أراد به الحذف ، أي وددت لو تأتيني فصحيح ، وإن أراد أنها موضوعة للتمني فغير صحيح ، لأنها لو كانت موضوعة له ، ما جاز أن يجمع بينها وبين فعل التمني . لا يقال : تمنيت ليتك تفعل ، ويجوز : تمنيت لو تقوم . وكذلك امتنع الجمع بين لعل والترجي ، وبين إلا واستثنى . انتهى . { ناكسوا رؤوسهم } : مطرقوها ، من الذل والحزن والهم والغم والذم . وقرأ زيد بن علي : نكسوا رؤوسهم ، فعلاً ماضياً ومفعولاً ؛ والجمهور : اسم فاعل مضاف . { عند ربهم } : أي عند مجازاته ، وهو مكان شدة الخجل ، لأن المربوب إذا أساء ووقف بين يدي ربه كان في غاية الخجل . { ربنا } : على إضمار يقولون ، وقدره الزمخشري : يستغيثون بقولهم : { ربنا أبصرنا } ما كنا نكذب ؛ { وسمعنا } : ما كنا ننكر ؛ وأبصرنا صدق وعدك ووعيدك ، وسمعنا تصديق رسلك ، وكنا عمياً وصماً فأبصرنا وسمعنا ، فارجعنا إلى الدنيا . { إنا موقنون } : أي بالبعث . قاله النقاش ؛ وقيل : مصدقون بالذي قال الرسول ، قاله يحيـى بن سلام . وموقنون : مشعر بالالتباس في الحال ، أي حين أبصروا وسمعوا . وقيل : موقنون : زالت الآن عنا الشكوك ، ولم نكن في الدنيا نتدبر ، وكنا كمن لا يبصر ولا يسمع . وقيل : لك الحجة ، ربنا قد أبصرنا رسلك وعجائب في الدنيا ، وسمعنا كلامهم فلا حجة لنا ، وهذا اعتراف منهم .