Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 21-27)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الظاهر أن الخطاب في قوله : { لقد كان لكم } ، للمؤمنين ، لقوله قبل : { ولو كانوا فيكم } ، وقوله بعد : { لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر } . والمعنى : أنه ، صلى الله عليه وسلم ، لكم فيه الاقتداء . فكما نصركم ووازركم حتى قاتل بنفسه عدوكم ، فكسرت رباعيته الكريمة ، وشج وجهه الكريم ، وقتل عمر ، وأوذي ضروباً من الإيذاء ؛ يجب عليكم أن تنصروه وتوازروه ، ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه ، ولا عن مكان هو فيه ، وتبذلوا أنفسكم دونه ؛ فما حصل لكم من الهداية للإسلام أعظم من كل ما تفعلونه معه ، صلى الله عليه وسلم ، من النصرة والجهاد في سبيل الله ، ويبعد قول من قال : إن خطاب للمنافقين . { واليوم الآخر } : يوم القيامة . وقيل : يوم السياق . و { أسوة } : اسم كان ، و { لكم } : الخبر ، ويتعلق { في رسول الله } بما يتعلق به { لكم } ، أو يكون في موضع الحال ، لأنه لو تأخر جاز أن يكون نعتاً بعد لأسوة ، أو يتعلق بكان على مذهب من أجاز في كان وأخواتها الناقصة أن تعمل في الظرف والمجرور ، ويجوز أن يكون { في رسول الله } الخبر ، ولكم تبيين ، أي لكم ، أعني : { لمن كان يرجوا الله } . قال الزمخشري : بدل من لكم ، كقوله : { للذين استضعفوا لمن آمن منهم } [ الأعراف : 75 ] . انتهى . ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم ، ولا من ضمير المخاطب ، اسم ظاهر في بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة ، وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش ، ويدل عليه قول الشاعر : @ بكم قريش كفينا كل معضلة وأمّ نهج الهدى من كان ضليلاً @@ وقرأ الجمهور : إسوة بكسر الهمزة ؛ وعاصم بضمها . والرجاء : بمعنى الأمل أو الخوف . وقرن الرجاء بذكر الله ، والمؤتسي برسول الله ، هو الذي يكون راجياً ذاكراً . ولما بين تعالى المنافقين وقولهم : { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } ، بين حال المؤمنين ، وقولهم صدَّ ما قال المنافقون . وكان الله وعدهم أن يزلزلهم حتى يستنصروه في قوله : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } [ البقرة : 214 ] الآية . فلما جاء الأحزاب ، ونهض بهم للقتال ، واضطربوا ، { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } ، وأيقنوا بالجنة والنصر . وعن ابن عباس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم ، لأصحابه : " إن الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً " ، أي في آخر تسع ليال أو عشر . فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك . وقيل : الوعد هو ما جاء في الآية مما وعده عليه السلام حين أمر بحفر الخندق ، فإنه أعلمهم بأنهم يحضرون ، وأمرهم بالاستعداد لذلك ، وأعلمهم أنهم سينصرون بعد ذلك . فلما رأوا الأحزاب قالوا ذلك ، فسلموا لأول الأمر ، وانتظروا آخره . وهذا إشارة إلى الخطب ، إيماناً بالله وبما أخبر به الرسول مما لم يقع ، كقولك : فتح مكة وفارس والروم ، فالزيادة فيما يؤمن ، لا في نفس الإيمان . وقرأ ابن أبي عبلة : وما زادوهم ، بالواو ، وضمير الجمع يعود على الأحزاب ، وتقول : صدقت زيداً الحديث ، وصدقت زيداً في الحديث . وقد عدت صدق هذه في ما يتعدى بحرف الجر ، وأصله ذلك ، ثم يتسع فيه فيحذف الحرف ويصل الفعل إليه بنفسه ، ومنه قولهم في المثل : صدقني سن بكره ، أي في سن بكره . فما عاهدوا ، إما أن يكون على إسقاط الحرف ، أي فيما عاهدوا ، والمفعول الأول محذوف ، والتقدير : صدقوا الله ، وإما أن يكون صدق يتعدى إلى واحد ، كما تقول : صدقني أخوك إذا قال لك الصدق ، وكذبك أخوك إذا قال لك الكذب . وكان المعاهد عليه مصدوقاً مجازاً ، كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي لك ، وهم وافون به ، فقد صدقوه ، ولو كانوا ناكثين لكذبوه ، وكان مكذوباً . وهؤلاء الرجال ، قال مقاتل والكلبي : هم أهل العقبة السبعون ، أهل البيعة . وقال أنس : نزلت في قوم لم يشهدوا بدراً ، فعاهدوا أن لا يتأخروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوفوا . وقال زيد بن رومان : بنو حارثة . { فمنهم من قضى نحبه } ، وهذا تجوز ، لأن الموت أمر لا بد منه أن يقع بالإنسان ، فسمي نحباً لذلك . وقال مجاهد : قضى نحبه : أي عهده . قال أبو عبيدة : نذره . وقال الزمخشري : { فمنهم من قضى نحبه } ، يحتمل موته شهيداً ، ويحتمل وفاءه بنذره من الثبات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقالت فرقة : الموصوفون بقضاء النحب جماعة من الصحابة وفوا بعهود الإسلام على التمام . فالشهداء منهم ، والعشرة الذين شهد لهم الرسول بالجنة ، منهم من حصل في هذه المرتبة بما لم ينص عليه ، ويصحح هذا القول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقد سئل من الذي قضى نحبه وهو على المنبر ؟ فدخل طلحة بن عبيد الله فقال : هذا ممن قضى نحبه . { ومنهم من ينتظر } : إذا فسر قضاء النحب بالشهادة ، كان التقدير : ومنهم من ينتظر الشهادة ؛ وإذا فسر بالوفاء لعهود الإسلام ، كان التقدير : ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح . وقال مجاهد : ينتظر يوماً فيه جهاد ، فيقضي نحبه . { وما بدلوا } : لا المستشهدون ، ولا من ينتظر . " وقد ثبت طلحة يوم أحد حتى أصيبت يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أوجب طلحة " ، وفيه تعريض لمن بدل من المنافقين حين ولوا الأدبار ، وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار . { ليجزي الله الصادقين } : أي الذين { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } ، { بصدقهم } : أي بسبب صدقهم . { ويعذب المنافقين إن شاء } ، وعذابهم متحتم . فكيف يصح تعليقه على المشيئة ، وهو قد شاء تعذيبهم إذا وفوا على النفاق ؟ فقال ابن عطية : تعذيب المنافقين ثمرته إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم ، والتوبة موازية لتلك الإقامة ، وثمرة التوبة تركهم دون عذاب . فهما درجتان : إقامة على نفاق ، أو توبة منه . وعنهما ثمرتان : تعذيب ، أو رحمة . فذكر تعالى ، على جهة الإيجاز ، واحدة من هاتين ، وواحدة من هاتين . ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ، ويدلك على أن معنى قوله : { ليعذب } ، أي : ليديم على النفاق ، قوله : { إن شاء } ، ومعادلته بالتوبة ، وحذف أو . أنتهى . وكان ما ذكر يؤول إلى أن التقدير : ليقيموا على النفاق ، فيموتوا عليه ، إن شاء فيعذبهم ، أو يتوب عليهم فيرحمهم . فحذف سبب التعذيب ، وأثبت المسبب ، وهو التعذيب . وأثبت سبب الرحمة والغفران ، وحذف المسبب ، وهو الرحمة والغفران ، وهذا من الإيجاز الحسن . وقال الزمخشري : ويعذبهم إن شاء إذا لم يتوبوا ، ويتوب عليهم إذا تابوا . انتهى . ولا يجوز تعليق عذابهم إذا لم يتوبوا بمشيئته تعالى ، لأنه تعالى قد شاء ذلك وأخبر أنه يعذب المنافقين حتماً لا محالة . واللام في { ليجزي } ، قيل : لام الصيرورة ؛ وقيل : لام التعليل ، ويتعلق بقوله : { وما بدلوا تبديلاً } . قال الزمخشري : جعل المنافقون كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم ، كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم ، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبة من الثواب والعقاب ، فكأنهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما . وقال السدي : المعنى : إن شاء يميتهم على نفاقهم ، أو يتوب عليهم بفعلهم من النفاق بتقبلهم الإيمان . وقيل : يعذبهم في الدنيا إن شاء ، ويتوب عليهم إن شاء . { إن الله كان غفوراً رحيماً } : غفوراً للحوية ، رحيماً بقبول التوبة . { ورد الله الذين كفروا } الأحزاب عن المدينة ، والمؤمنين إلى بلادهم . { بغيظهم } : فهو حال ، والباء للمصاحبة ؛ و { لم ينالوا } : حال ثانية ، أو من الضمير في بغيظهم ، فيكون حالاً متداخلة . وقال الزمخشري : ويجوز أن تكون الثانية بياناً للأولى ، أو استئنافاً . انتهى . ولا يظهر كونها بياناً للأولى ، ولا للاستئناف ، لأنها تبقى كالمفلتة مما قبلها . { وكفى الله المؤمنين القتال } ، بإرسال الريح والجنود ، وهم الملائكة ، فلم يكن قتال بين المؤمنين والكفار . وقيل : المراد علي بن أبي طالب ومن معه ، برزوا للقتال ودعوا إليه . وقتل علي من الكفار عمرو بن عبيد مبارزة ، حين طلب عمرو المبارزة ، فخرج إليه علي ، فقال : إني لا أوثر قتلك لصحبتي لأبيك ، فقال له علي : فأنا أوثر قتلك ، فقتله علي مبارزة . واقتحم نوفل بن الحارث ، من قريش ، الخندق بفرسه ، فقتل فيه . وقتل من الكفار أيضاً : منبه بن عثمان ، وعبيد بن السباق . واستشهد من المسلمين ، في غزوة الخندق : معاذ ، وأنس بن أوس بن عتيك ، وعبد الله بن سهل ، وأبو عمرو ، وهم من بني عبد الأشهل ؛ والطفيل بن النعمان ، وثعلبة بن غنمه ، وهما من بني سلمة ؛ وكعب بن زيد ، من بني ذبيان بن النجار ، أصابه سهم غرب فقتله . ولم تغز قريش المسلمين بعد الخندق ، وكفى الله مداومة القتال وعودته بأن هزمهم بعد ذلك ، وذلك بقوته وعزته . وعن أبي سعيد الخدري : حبسنا يوم الخندق ، فلم نصل الظهر ، ولا العصر ، ولا المغرب ، ولا العشاء ، حتى كان بعد هوي من الليل ، كفينا وأنزل الله تعالى : { وكفى الله المؤمنين القتال } ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بلالاً ، فأقام وصلى الظهر فأحسنها ، ثم كذلك كل صلاة بإقامة . { وأنزل الذين ظاهروهم } : أي أعانوا قريشاً ومن معهم من الأحزاب من أهل الكتاب ، هم يهود بني قريظة ، كما هو قول الجمهور . وعن الحسن : بنو النضير . وقذف الرعب سبب لإنزالهم ، ولكنه قدم المسبب ، لما كان السرور بإنزالهم أكثر والإخبار به أهم قدم . " وقال رجل : يا رسول الله ، مر بنا دحية الكلبي على بغلة بيضاء عليهم قطيفة ديباج ، فقال : ذلك جبريل ، عليه السلام ، بعث إلى بني قريظة ، يزلزل بهم حصونهم ، ويقذف الرعب في قلوبهم " ولما رجعت الأحزاب ، جاء جبريل وقت الظهر فقال : إن الله يأمرك بالخروج إلى بني قريظة . فنادى في الناس : " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة " ، فخرجوا إليها ، فمصل في الطريق ، ورأى أن ذلك خرج مخرج التأكيد والاستعجال ؛ ومصل بعد العشاء ، وكل مصيب . فحاصرهم خمساً وعشرين ليلة ، وقيل : إحدى وعشرين ، وقيل : خمسة عشر . فنزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي ، لحلف كان بينهم ، رجوا حنوه عليهم ، فحكم أن يقتل المقاتلة ويسبي الذرية والعيال والأموال ، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار . فقالت له الأنصار في ذلك ، فقال : أردت أن يكون لهم أموال كما لكم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة " ، ثم استنزلهم ، وخندق لهم في سوق المدينة ، وقدمهم فضرب أعناقهم ، وهم من بين ثمانمائة إلى تسعمائة . وقيل : كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير . وجيء بحيـي بن أخطب النضيري ، وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل عندهم وفاء لهم ، فترك فيمن ترك على حكم سعد . فلما قرب ، وعليه حلتان تفاحيتان ، مجموعة يداه إلى عنقه ، أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ! والله ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكن من يخذل الله يخذل . ثم قال : أيها الناس ، إنه لا بأس أمر الله وقدره ، ومحنة كتبت على بني إسرائيل ، ثم تقدم فضربت عنقه . وقال فيه بعض بني ثعلبة : @ لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه ولكنه من يخذل الله يخذل لا جهد حتى أبلغ النفس عذرها وقلقل يبغي الغد كل مقلقل @@ وقتل من نسائهم امرأة ، وهي لبابة امرأة الحكم القرظي ، كانت قد طرحت الرحى على خلاد بن سويد فقتل ؛ ولم يستشهد في حصار بني قريظة غيره . ومات في الحصار أبو سفيان بن محصن ، أخو عكاشة بن محصن ، وكان فتح قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة . وقرأ الجمهور : وتأسرون ، بتاء الخطاب وكسر السين ؛ وأبو حيوة : بضمها ؛ واليماني : بياء الغيبة ؛ وابن أنس ، عن ابن ذكوان : بياء الغيبة في : { تقتلون وتأسرون } . { وأورثكم } : فيه إشعار أنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين ومن نقلهم من أرضهم ، وقدمت لكثرة المنفعة بها من النخل والزرع ، ولأنهم باستيلائهم عليها ثانياً وأموالهم ليستعان بها في قوة المسلمين للجهاد ، ولأنها كانت في بيوتهم ، فوقع الاستيلاء عليها ثالثاً . { وأرضاً لم تطؤها } : وعد صادق في فتح البلاد ، كالعراق والشام واليمن ومكة ، وسائر فتوح المسلمين . وقال عكرمة : أخبر تعالى أن قد قضى بذلك . وقال الحسن : أراد الروم وفارس . وقال قتادة : كنا نتحدث أنها مكة . وقال مقاتل ، ويزيد بن رومان ، وابن زيد : هي خيبر ؛ وقيل : اليمن ؛ ولا وجه لهذه التخصيصات ، ومن بدع التفاسير أنه أراد نساءهم . وقرأ الجمهور : تطؤوها ، بهمزة مضمومة بعدها واو . وقرأ زيد بن علي : لم تطوها ، بحذف الهمزة ، أبدل همزة تطأ ألفاً على حد قوله : @ إن السباع لتهدا في مرابضها والناس لا يهتدى من شرهم أبدا @@ فالتقت ساكنة مع الواو فحذفت ، كقولك : لم تروها . وختم تعالى : هذه الآية بقدرته على كل شيء ، فلا يعجزه شيء ، وكان في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة ، وأنه لا يستبعد ذلك ، فكما ملكهم هذه ، فكذلك هو قادر على أن يملكهم غيرها من البلاد .