Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 59-73)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار ، وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء ، وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة ، يقولون : حسبناها أمة ، فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء ، بلبس الأردية والملاحف ، وستر الرؤوس والوجوه ، ليحتشمن ويهبن ، فلا يطمع فيهن . وروي أنه كان في المدينة قوم يجلسون على الصعدات لرؤية النساء ومعارضتهن ومراودتهن ، فنزلت . قيل : والجلابيب : الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل ، وقال ابن جبير : المقانع ؛ وقيل : الملاحف ، وقيل : الجلباب : كل ثوب تلبسه المرأة فوق ثيابها ، وقيل : كل ما تستتر به من كساء أو غيره . قال أبو زيد : @ تجلببت من سواد الليل جلباباً @@ وقيل : الجلباب أكبر من الخمار . وقال عكرمة : تلقي جانب الجلباب على غيرها ولا يرى . وقال أبو عبيدة السلماني ، حين سئل عن ذلك فقال : أن تضع رداءها فوق الحاجب ، ثم تديره حتى تضعه على أنفها . وقال السدي : تغطي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين . انتهى . وكذا عادة بلاد الأندلس ، لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة . وقال الكسائي : يتقنعن بملاحفهن منضمة عليهن ، أراد بالإنضمام معنى : الإدناء . وقال ابن عباس ، وقتادة : وذلك أن تلويه فوق الجبين وتشده ، ثم تعطفه على الأنف ، وإن ظهرت عيناها ، لكنه يستر الصدر ومعظم الوجه . والظاهر أن قوله : { ونساء المؤمنين } يشمل الحرائر والإماء ، والفتنة بالإماء أكثر ، لكثرة تصرفهن بخلاف الحرائر ، فيحتاج إخراجهن من عموم النساء إلى دليل واضح . ومن في : { من جلابيبهن } للتبعيض ، و { عليهن } : شامل لجميع أجسادهن ، أو { عليهن } : على وجوههن ، لأن الذي كان يبدو منهن في الجاهلية هو الوجه . { ذلك أدنى أن يعرفن } : لتسترهن بالعفة ، فلا يتعرض لهن ، ولا يلقين بما يكرهن ؛ لأن المرأة إذا كانت في غاية التستر والانضمام ، لم يقدم عليها ، بخلاف المتبرجة ، فإنها مطموع فيها . { وكان الله غفوراً رحيماً } : تأنيس للنساء في ترك الاستتار قبل أن يؤمر بذلك . ولما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله ، والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ، ذكر حال المسر الذي يؤذي الله ورسوله ، ويظهر الحق ويضمر النفاق . ولما كان المؤذون ثلاثة ، باعتبار إذايتهم لله ولرسوله وللمؤمنين ، كان المشركون ثلاثة : منافق ، ومن في قلبه مرض ، ومرجف . فالمنافق يؤذي سراً ، والثاني يؤذي المؤمن باتباع نسائه ، والثالث يرجف بالرسول ، يقول : غلب ، سيخرج من المدينة ، سيؤخذ ، هزمت سراياه . وظاهر العطف التغاير بالشخص ، فيكون المعنى : لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم ، والفسقة عن فجورهم ، والمرجفون عما يقولون من أخبار السوء ويشيعونه . ويجوز أن يكون التغاير بالوصف ، فيكون واحداً بالشخص ثلاثة بالوصف . كما جاء : أن المسلمين والمسلمات ، فذكر أوصافاً عشرة ، والموصوف بها واحد ، ونص على هذين الوصفين من المنافقين لشدة ضررهما على المؤمنين . قال عكرمة : { الذين في قلوبهم مرض } ، هو العزل وحب الزنا ، ومنه فيطمع الذي في قلبه مرض . وقال السدي : المرض : النفاق ، ومن في قلوبهم مرض . وقال ابن عباس : هم الذين آذوا عمر . وقال الكلبي : من آذى المسلمين . وقال ابن عباس : { المرجفون } : ملتمسو الفتن . وقال قتادة : الذين يؤذون قلوب المؤمنين بإيهام القتل والهزيمة . { لنغرينك بهم } : أي لنسلطنك عليهم ، قاله ابن عباس . وقال قتادة : لنحرسنك بهم . { ثم لا يجاورونك فيها } : أي في المدينة ، و { ثم لا يجاورونك } معطوف على { لنغرينك } ، ولم يكن العطف بالفاء ، لأنه لم يقصد أنه متسبب عن الإغراء ، بل كونه جواباً للقسم أبلغ . وكان العطف بثم ، لأن الجلاء عن الوطن كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا به ، فتراخت حالة الجلاء عن حالة الإغراء . { إلا قليلاً } : أي جواراً قليلاً ، أو زماناً قليلاً ، أو عدداً قليلاً ، وهذا الأخير استثناء من المنطوق ، وهو ضمير الرفع في { يجاورونك } ، أو ينتصب قليلاً على الحال ، أي إلا قليلين ، والأول استثناء من المصدر الدال عليه { يجاورونك } ، والثاني من الزمان الدال عليه { يجاورونك } ، والمعنى : أنهم يضطرون إلى طلب الجلاء عن المدينة خوف القتل . وانتصب { ملعونين } على الذم ، قاله الطبري ؛ وأجاز ابن عطية أن يكون بدلاً من { قليلاً } ، قال : هو من إقلاء الذي قدرناه ؛ وأجاز هو أيضاً أن يكون حالاً من الضمير في { يجاورونك } ، قال : كأنه قال : ينتفون من المدينة معلونين ، فلا يقدر { لا يجاورونك } ، فقدر ينتفون حسن هذا . انتهى . وقال الزمخشري ، والحوفي ، وتبعهما أبو البقاء : يجوز أن يكون حالاً من الضمير في { لا يجاورونك } ، كما قال ابن عطية . قال الزمخشري : وهذا نصه ملعونين ، نصب على الشتم أو الحال ، أي لا يجاورونك ، إلا ملعونين . دخل حرف الاستثناء على الظرف والحال معاً ، كما مر في قول : { إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } ، ولا يصح أن ينتصب من أخذوا ، لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها . انتهى . وتقدم الكلام معه في مجيء الحال مما قبل إلا مذكورة بعد ما استثنى بإلا ، فيكون الاستثناء منصباً عليهما ، وأن جمهور البصريين منعوا من ذلك . وأما تجويز ابن عطية أن يكون بدلاً ، فالبدل بالمشتق قليل . وأما قول الزمخشري : لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها ، فليس هذا مجمعاً عليه ، لأن ما بعد كلمة الشرط شيئان : فعل الشرط والجواب . فأما فعل الشرط ، فأجاز الكسائي تقديم معموله على الكلمة ، أجاز زيد أن يضرب اضربه ، وأما الجواب فقد أجاز أيضاً تقديم معموله عليه نحو : إن يقم زيد عمراً يضرب . وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال : المعنى : { أينما ثقفوا } : أخذوا ملعونين ، والصحيح أن ملعونين صفة لقليل ، أي إلا قليلين ملعونين ، ويكون قليلاً مستثنى من الواو في لا يجاورونك ، والجملة الشرطية صفة أيضاً ، أي مقهورين مغلوباً عليهم . ومعنى { ثقفوا } : حصروا وظفر بهم ، ومعنى { أخذوا } : أسروا ، والأخيذ : الأسير . وقرأ الجمهور : { قتلوا } ، بتشديد التاء ؛ وفرقة : بتخفيفها ، فيكون { تقتيلاً } مصدراً على غير قياس المصدر . والظاهر أن المنافقين انتهوا عما كانوا يؤذون به الرسول والمؤمنين ، وتستر جميعهم ، وكفوا خوفاً من أن يقع بهم ما وقع القسم عليه ، وهو الإغراء والجلاء والأخذ والقتل . وقيل : لم يمتثلوا للانتهاء جملة ، ولا نفذ عليهم الوعيد كاملاً . ألا ترى إلى إخراجهم من المسجد ، ونهيه عن الصلاة عليهم ، وما نزل فيهم في سورة براءة ؟ وأبعد من ذهب إلى أنه لم ينته هؤلاء الأصناف ، ولم ينفذ الله الوعيد عليهم ، ففيه دليل على بطلان القول بإنفاذ الوعيد في الآخرة ، ويكون هذا الوعيد مفروضاً ومشروطاً بالمشيئة . { سنة الله } : مصدر مؤكد ، أي سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيثما ظفر بهم . وعن مقاتل : كما قتل أهل بدر وأسروا ، فالذين خلوا يشمل أتباع الأنبياء الذين نافقوا ، ومن قتل يوم بدر . { يسألك الناس } : أي المشركون ، عن وقت قيام الساعة ، استعجالاً على سبيل الهزء ، واليهود على سبيل الامتحان ، إذ كانت معمى وقتها في التوراة ، فنزلت الآية بأن يرد العلم إلى الله ، إذ لم يطلع عليها ملكاً ولا نبياً . ولما ذكر حالهم في الدنيا أنهم ملعونون مهانون مقتولون ، بيّن حالهم في الآخرة . { وما يدريك } : ما استفهام في موضع رفع بالابتداء ، أي : وأي شيء يدريك بها ؟ ومعناه النفي ، أي ما يدريك بها أحد . { لعل الساعة تكون قريباً } : بين قرب الساعة ، وفي ذلك تسلية للممتحن ، وتهديد للمستعجل . وانتصب قريباً على الظرف ، أي في زمان قريب ، إذ استعماله ظرفاً كثير ، ويستعمل أيضاً غير ظرف ، تقول : إن قريباً منك زيد ، فجاز أن يكون التقدير شيئاً قريباً ، أو تكون الساعة بمعنى الوقت ، فذكر قريباً على المعنى . أو يكون التقدير : لعل قيام الساعة ، فلوحظ الساعة في تكون فأنث ، ولوحظ المضاف المحذوف وهو قيام في قريباً فذكر . { يوم تقلب وجوههم في النار } : يجوز أن ينتصب يوم بقوله : { لا يجدون } ، ويكون يقولون استئناف إخبار عنهم ، أو تم الكلام عند قولهم : { ولا نصيراً } . وينتصب يوم بقوله : { يقولون } ، أو بمحذوف ، أي اذكر ويقولون حال . وقرأ الجمهور : تقلب مبنياً للمفعول ؛ والحسن ، وعيسى ، وأبو جعفر الرواسي : بفتح التاء ، أي تتقلب ؛ وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة . وقال ابن خالويه عن أبي حيوة : نقلب بالنون ، وجوههم بالنصب . وحكاها ابن عطية عن أبي حيوة أيضاً وخارجة . زاد صاحب اللوامح أنها قراءة عيسى البصري . وقرأ عيسى الكوفي كذلك ، إلا أن بدل النون تاء ، وفاعل تقلب ضمير يعود على { سعيراً } ، وعلى جهنم أسند إليهما اتساعاً . وقراءة ابن أبي عبلة : تتقلب بتاءين ، وتقليب الوجوه في النار : تحركها في الجهات ، أو تغيرها عن هيئاتها ، أو إلقاؤها في النار منكوسة . والظاهر هو الأول ، والوجه أشرف ما في الإنسان ، فإذا قلب في النار كان تقليب ما سواه أولى . وعبر بالوجه عن الجملة ، وتمنيهم حيث لا ينفع ، وتشكيهم من كبرائهم لا يجدي . وقرأ الجمهور : { سادتنا } ، جمعاً على وزن فعلات ، أصله سودة ، وهو شاذ في جمع فيعل ، فإن جعلت جمع سائد قرب من القياس . وقرأ الحسن ، وأبو رجاء ، وقتادة ، والسلمي ، وابن عامر ، والعامة في الجامع بالبصرة : ساداتنا على الجمع بالألف والتاء ، وهو لا ينقاس ، كسوقات ومواليات بني هاشم وسادتهم ، رؤساء الكفر الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم . قال قتادة : سادتنا : رؤساؤنا . وقال طاوس : أشرافنا ؛ وقال أبو أسامة : أمراؤنا ، وقال الشاعر : @ تسلسل قوم سادة ثم زادة يبدون أهل الجمع يوم المحصب @@ ويقال : ضل السبيل ، وضل عن السبيل . فإذا دخلت همزة النقل تعدى لاثنين ؛ وتقدم الكلام على إثبات الألف في الرسولاً والسبيلا في قوله : { وتظنون بالله الظنونا } . ولما لم يجد تمنيهم الإيمان بطاعة الله ورسوله ، ولا قام لهم عذر في تشكيهم ممن أضلهم ، دعوا على ساداتهم . { ربنا آتهم ضعفين من العذاب } : ضعفاً على ضلالهم في أنفسهم ، وضعفاً على إضلال من أضلوا . وقرأ الجمهور : كثيراً بالثاء المثلثة . وقرأ حذيفة بن اليمان ، وابن عامر ، وعاصم ، والأعرج : بخلاف عنه بالباء . { كالذين آذوا موسى } ، قيل : نزلت في شأن زيد وزينب ، وما سمع فيه من قاله بعض الناس . وقيل : المراد حديث الإفك على أنه ما أوذي نبي مثل ما أوذيت . " وفي حديث الرجل الذي قال لقسم قسمه رسول الله : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ، فغضب وقال : رحم الله أخي موسى ، لقد أوذي أكثر من هذا فصبر " وإذاية موسى قولهم : إنه أبرص وآدر ، وأنه حسد أخاه هارون وقتله . أو حديث المومسة المستأجرة لأن تقول : إن موسى زنى بها ، أو ما نسبوه إليه من السحر والجنون ، أقوال . { مما قالوا } : أي من وصم ما قالوا ، وما موصولة أو مصدرية . وقرأ الجمهور : { وكان عند الله } : الظرف معمول لوجيهاً ، أي ذا وجه ومنزلة عند الله تعالى ، تميط عنه الأذى وتدفع التهم . وقرأ عبد الله ، والأعمش ، وأبو حيوة : عبد من العبودية ، لله جر بلام الجر ، وعبداً خبر كان ، ووجيهاً صفة له . قال ابن خالويه : صليت خلف ابن شنبوذ في شهر رمضان فسمعته يقرأ : وكان عبد الله ، على قراءة ابن مسعود . قال ابن زيد : { وجيهاً } : مقبولاً . وقال الحسن : مستجاب الدعوة ، ما سأل شيئاً إلا أعطي ، إلا الرؤية في الدنيا . وقال قطرب : رفيع القدر ؛ وقيل : وجاهته أنه كلمه ولقبه كليم الله . والسديد : تقدم شرحه في أوائل النساء . وقال ابن عباس : هنا صواباً . وقال مقاتل ، وقتادة : سديداً في شأن زيد وزينب والرسول . وقال ابن عباس ، وعكرمة أيضاً : لا إله إلا الله ، وقيل : ما يوافق ظاهره باطنه ؛ وقيل : ما هو إصلاح من تسديد السهم ليصيب الغرض ؛ وقيل : السديد يعم الخيرات . ورتب على القول السديد : صلاح الأعمال وغفران الذنوب . قال الزمخشري : وهذه الآية مقررة للتي قبلها . بنيت تلك على النهي عما يؤذي به رسول الله ، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان ، ليترادف عليهم النهي والأمر ، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى ، واتباع الأمر الوعد البليغ ، فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه . انتهى ، وهو كلام حسن . { إنّا عرضنا الأمانة } : لما أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله وسداد القول ، ورتب على الطاعة ما رتب ، بيّن أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم ، فقال : { إنّا عرضنا الأمانة } ، تعظيماً الأمر التكليف . والأمانة : الظاهر أنها كل ما يؤتمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا . والشرع كله أمانة ، وهذا قول الجمهور ، ولذلك قال أبيّ بن كعب : من الأمانة أن اؤتمنت المرأة على فرجها . وقال أبو الدرداء : غسل الجنابة أمانة ، والظاهر عرض الإمانة على هذه المخلوقات العظام ، وهي الأوامر والنواهي ، فتثاب إن أحسنت ، وتعاقب إن أساءت ، فأبت وأشفقت ، ويكون ذلك بإدراك خلقه الله فيها ، وهذا غير مستحيل ، إذ قد سبح الحصى في كفه عليه الصلاة والسلام ، وحن الجذع إليه ، وكلمته الذراع ، فيكون هذا العرض والإباء حقيقة . قال ابن عباس : أعطيت الجمادات فهماً وتمييزاً ، فخيرت في الحمل ، وذكر الجبال ، مع أنها مع الأرض ، لزيادة قوتها وصلابتها ، تعظيماً للأمر . وقال ابن الأنباري : عرضت بمسمع من آدم ، عليه الصلاة والسلام ، وأسمع من الجمادات الإباء ليتحقق العرض عليه ، فيتجاسر على الحمل غيره ، ويظهر فضله على الخلائق ، حرصاً على العبودية ، وتشريفاً على البرية بعلو الهمة . وقيل : هو مجاز ، فقيل : من مجاز الحذف ، أي على من فيها من الملائكة ، وقيل : من باب التمثيل . قال الزمخشري : إن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشده أن يتحمله ويستقل به ، فأبى محمله والاستقلال به ، وحملها الإنسان على ضعفه ورخاوة قوته . { إنه كان ظلوماً جهولاً } ، حيث حمل الأمانة ، ثم لم يف بها . ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب ، وما جاء به القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم . من ذلك قول العرب : لو قيل للشحم أين تذهب لقيل : أسوي العوج . وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات ! وتصور مقالة الشحم محال ، ولكن الغرض أن السمن في الحيوان مما يحسن قبحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه ؛ فصوّر أثر السمن فيه تصويراً هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس ، وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ؛ وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها . فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأي واحد : أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى ، لأنه مثلت حال تميله وترجحه بين الرأيين ، وتركه المضي على إحداهما بحال من يتردى في ذهابه ، فلا يجمع رجليه للمضي في وجهه ، وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة ، فليس كذلك ما في الآية . فإن عرض الأمانة على الجماد ، وإباءه وإشفاقه محال في نفسه غير مستقيم ، فكيف صح بها التمثيل على المحال ؟ وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئاً ، والمشبه به غير معقول . قلت : الممثل به في الآية ، وفي قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب ؟ وفي نظائره مفروض ، والمفروض أن يتخيل في الذهن . كما أن المحققات مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحال المفروض ، لو عرضت على السموات والأرض والجبال { فأبين أن يحملنها وأشفقن منها } . انتهى . وقال أيضاً : إن هذه الأجرام العظام قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها ، وهو ما تأتى من الجمادات ، حيث لم يمتنع على مشيئته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة . كما قال : { قالتا أتينا طائعين } [ فصلت : 11 ] . وأما الإنسان ، فلم يكن حاله فيما يصح منه من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ، وهو حيوان صالح للتكليف ، مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد . والمراد بالأمانة : الطاعة ، لأنها لازمة للوجود . كما أن الأمانة لازمة للأداء ، وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها مجاز . وحمل الأمانة من قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، يريد أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته ويخرج عن عهدتها ، لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها ، وهو حامل لها . ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ؟ ولي عليه حق ؟ فأبين أن لا يؤدونها ، وأبى الإنسان أن لا يكون محتملاً لها لا يؤديها . ثم وصفه بالظلم لكونه تاركاً لأداء الأمانة ، وبالجهل لخطئه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها . انتهى ، وفيه بعض حذف . وقال قوم : الآية من المجاز ، أي إذا قايسنا ثقل الأمانة بقوة السموات والأرض والجبال ، رأيتهما أنهما لا تطيقها ، وأنها لو تكلمت ، لأبتها وأشفقت عنها ؛ فعبر عن هذا المعنى بقوله : { إنا عرضنا } الآية ، وهذا كما تقول : عرضت الحمل على البعير فأباه ، وأنت تريد بذلك مقارنة قوته بثقل الحمل ، فرأيتها تقصر عنه ؛ ونحوه قول ابن بحر معنى عرضنا : عارضناها وقابلناها بها . { فأبين أن يحملنها } : أي قصرن ونقصن عنها ، كما تقول : أبت الصنجة أن تحمل ما قابلها . { وحملها الإنسان } ، قال ابن عباس ، وابن جبير : التزم القيام بحقها ، والإنسان آدم ، وهو في ذلك ظلوم نفسه ، جهول بقدر ما دخل فيه . وقال ابن عباس : ما تم له يوم حتى أخرج من الجنة . وقال الضحاك ، والحسن : وحملها معناه : خان فيها ، والإنسان الكافر والمنافق والعاصي على قدره . وقال ابن مسعود ، وابن عباس أيضاً : ابن آدم قابيل الذي قتل أخاه هابيل ، وكان قد تحمل لأبيه أمانة أن يحفظ الأهل بعده ، وكان آدم مسافراً عنهم إلى مكة ، في حديث طويل ذكره الطبري . وقال ابن إسحاق : عرض الأمانة : وضع شواهد الوحدانية في المصنوعات . والحمل : الخيانة ، كما تقول : حمل خفي واحتمله ، أي ذهب به . قال الشاعر : @ إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة وتحمل أخرى أخرجتك الودائع @@ انتهى . وليس وتحمل أخرى نصاً في الذهاب بها ، بل يحتمل لأنك تتحمل أخرى ، فتؤدي واحدة وتتحمل أخرى ، فلا تزال دائماً ذا أمانات ، فتخرج إذ ذاك . واللام في { ليعذب } لام الصيرورة ، لأنه لم يحملها لأن يعذب ، لكنه حملها فآل الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك ، ويتوب على من آمن . وقال الزمخشري : لام التعليل على طريق المجاز ، لأن نتيجة حمل الأمانة العذاب ، كما أن التأديب في : ضربته للتأديب ، نتيجة الضرب . وقرأ الأعمش : فيتوب ، يعني بالرفع ، بجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ، ويبتدىء ويتوب . ومعنى قراءة العامة : ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها ، لأنه إذا ثبت على أن الواو في وكان ذلك نوعان من عذاب القتال . انتهى . وذهب صاحب اللوامح أن الحسن قرأ ويتوب بالرفع .