Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 15-21)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان ، بيّن حال الكافرين بأنعمه بقصة سبأ ، موعظة لقريش وتحذيراً وتنبيهاً على ما جرى لمن كفر أنعم الله ، وتقدم الكلام في سبأ في النمل . ولما ملكت بلقيس ، اقتتل قومها على ماء واديهم ، فتركت ملكها وسكنت قصرها ، وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا : لترجعنّ أو لنقتلنك ، فقالت لهم : لا عقول لكم ولا تطيعوني ، فقالوا : نطيعك ، فرجعت إلى واديهم ، وكانوا إذا مطروا ، أتاهم السيل من مسيرة ثلاثة أيام ، فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمساءة بالصخر والقار ، وحبست الماء من وراء السد ، وجعلت له أبواباً بعضها فوق بعض ، وبنت من دونه بركة فيها اثنا عشر مخرجاً على عدد أنهارهم ، وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان ، عليه السلام ، ما سبق ذكره في سورة النمل . وقيل : الذي بنى لهم السد هو حمير أبو القبائل اليمنية . وعن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم . قيل : وكان لهم رئيس يلقب بالحمار ، وكان في الفترة ، فمات ولده فرفع رأسه إلى السماء فبزق وكفر ، فلذا يقال في المثل : أكفر من حمار ، ويقال : بركة جوف حمار ، أي كوادي حمار ، لما حال بهم السيل . وقرأ الجمهور : { في مساكنهم } ، جمعاً ؛ والنخعي ، وحمزة ، وحفص : مفرداً بفتح الكاف ؛ والكسائي : مفرداً بكسرها ، وهي قراءة الأعمش وعلقمة . وقال أبو الحسن : كسر الكاف لغة فاشية ، وهي لغة الناس اليوم ؛ والفتح لغة الحجاز ، وهي اليوم قليلة . وقال الفراء : هي لغة يمانية فصيحة ، فمن قرأ الجمع فظاهر ، لأن كل أحد له مسكن ، ومن أفرد ينبغي أن يحمل على المصدر ، أي في سكناهم ، حتى لا يكون مفرداً يراد به الجمع ، لأن سيبويه يرى ذلك ضرورة نحو : كلوا في بعض بطنكم تعفوا ، يريد بطونكم . وقوله : @ قد عض أعناقهم جلد الجواميس @@ أي جلود . { آية } : أي علامة دالة على الله وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره ، أو جعل قصتهم لأنفسهم آية ، إذ : أعرض أهلها عن شكر الله عليهم ، فخربهم وأبدلهم عنها الخمط والإثل ثمرة لهم ؛ و { جنتان } : خبر مبتدأ محذوف ، أي هي جنتان ، قاله الزجاج ، أو بدل ، قال معناه الفراء ، قال : رفع لأنه تفسير لآية . وقال مكي وغيره ، وضعفه ابن عطية ، ولم يذكر جهة تضعيفه . وقال : { جنتان } ابتداء ، وخبره في قوله : { عن يمين وشمال } . انتهى . ولا يظهر لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها ، إلا إن اعتقد إن ثمة صفة محذوفة ، أي جنتان لهم ، أو عظيمتان لهم { عن يمين وشمال } ، وعلى تقدير ذلك يبقى الكلام مفلتاً مما قبله . وقرأ ابن أبي عبلة : جنتين بالنصب ، على أن آية اسم كان ، وجنتين الخبر . قيل : ووجه كون الجنتين آية نبات الخمط والإثل والسدر مكان الأشجار المثمرة . قال قتادة : كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار تسر الناس بظلالها ، ولم يرد جنتين ثنتين ، بل أراد من الجهتين يمنة ويسرة . انتهى . قال الزمخشري : وإنما أراد جماعة من البساتين عن يمين بلدتهم ، وأخرى عن شمالها ، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة ، كما يكون بلاد الريف العامرة وبساتينها ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ، كما قال : { جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب } [ الكهف : 32 ] . انتهى . قال ابن زيد : لا يوجد فيها برغوث ، ولا بعوض ، ولا عقرب ، ولا تقمل ثيابهم ، ولا تعيا دوابهم ؛ وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار ، وعلى رأسها المكتل ، فيمتلىء ثماراً من غير أن تتناول بيدها شيئاً . وروي نحو هذا عن عبد الرحمن بن عوف وابن عباس . { كلوا من رزق ربكم } : قول الله لهم على ألسنة الأنبياء المبعوثين إليهم ، وروي ذلك مع الأيمان بالله ، أو قول لسان الحال لهم ، كما رأوا نعماً كثيرة وأرزاقاً مبسوطة ، وفيه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم ، حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض . { واشكروا الله } على ما أنعم به عليكم ، { بلدة طيبة } : أي كريمة التربة ، حسنة الهواء ، رغدة النعم ، سليمة من الهوامّ والمضار ، { ورب غفور } ، لا عقاب على التمتع بنعمه في الدنيا ، ولا عذاب في الآخرة ، فهذه لذة كاملة خالية عن المفاسد العاجلة والمآلية . وقرأ رويس : بنصب الأربعة . قال أحمد بن يحيـى : اسكنوا بلدة طيبة واعبدوا رباً غفوراً . وقال الزمخشري : منصوب على المدح . ولما ذكر تعالى ما كان من جانبه من الإحسان إليهم ، ذكر ما كان من جانبهم في مقابلته فقال : { فأعرضوا } : أي عما جاء به إليهم أنبياؤهم ، وكانوا ثلاثة عشر نبياً ، دعوهم إلى الله تعالى ، وذكروهم نعمه ، فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله نعمة ، فبين كيفية الانتقام منهم . كما قال : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون } [ السجدة : 22 ] ، فسلط الله عليهم الجرذ فأراً أعمى توالد فيه ، ويسمى الخلد ، وخرقه شيئاً بعد شيء ، وأرسل سيلاً في ذلك الوادي ، فحمل ذلك السد ، فروي أنه كان من العظم ، وكثر به الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين ، وحمل الجنات وكثيراً من الناس ممن لم يمكنه الفرار . وروي أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات ، فهلكت بهذا الوجه . وقال المغيرة بن حكيم ، وأبو ميسرة : العرم في لغة اليمن جمع عرمة وهي : كل ما بني أو سنم ليمسك الماء . وقال ابن جبير : العرم : المسناة ، بلسان الحبشة . وقال الأخفش : هو عربي ، ويقال لذلك البناء بلغة الحجاز المسناة ، كأنها الجسور والسداد ، ومن هذا المعنى قول الأعشى : @ وفي ذاك للمؤتسي أسوة مآرب عفى عليها العرم رجام بنته لهم حمير إذا جاش دفاعه لم يرم فأروى الزروع وأشجارها على سعة ماؤه إذ قسم فصاروا أيادي لا يقدرو ن منه على شرب طفل فطم @@ وقال آخر : @ ومن سبأ للحاضرين مآرب إذا بنوا من دونه سيل العرم @@ وقال ابن عباس ، وقتادة ، والضحاك : العرم اسم ، وإن ذلك الماء بعينه الذي كان السد بني به . انتهى . ويمكن أن يسمى الوادي بذلك البناء لمجاروته له ، فصار علماً عليه . وقال ابن عباس أيضاً : العرم : الشديد ، فاحتمل أن يكون صفة للسيل أضيف فيه الموصوف إلى صفته ، والتقدير : السيل العرم ، أو صفة لموصوف محذوف ، أي سيل المطر الشديد الذي كان عنه السيل ، أو سيل الجرذ العرم ، فالعرم صفة للجرذ . وقيل : العرم اسم للجرذ ، وأضيف السيل إليه لكونه كان السبب في خراب السد الذي حمله السيل ، والإضافة تكون بأدنى ملابسة . وقرأ عروة بن الورد فيما حكى ابن خالويه : العرم ، بإسكان الراء تخفيف العرم ، كقولهم : في الكبد الكبد . ولما غرق من غرق ، ونجا من نجا ، تفرقوا وتحرفوا حتى ضربت العرب بهم المثل فقالوا : تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ ، قيل : الأوس والخزرج منهم . وعن ابن عباس : كان سيل ذلك الوادي يصل إلى مكة وينتفع به ، وكان سيل العرم في ملك ذي الأذعار بن حسان ، في الفترة بين عيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم . انتهى . ودخلت الباء في { بجنتيهم } على الزائل ، وانتصب ما كان بدلاً ، وهو قوله : { جنتين } على المعهود في لسان العرب ، وإن كان كثيراً لمن ينتمي للعلم يفهم العكس حتى قال بعضهم : ولو أبدل ضاداً بظاء لم تصح صلاته ، وهو خطأ في لسان العرب ، ولو أبدل ظاء بضاد ، وقد تكلمنا على ذلك في البقرة في قوله : { ومن يتبدل الكفر بالإيمان } [ البقرة : 108 ] . وسمى هذا المعوض جنتين على سبيل المقابلة ، لأن ما كان فيه خمط وأثل وسدر لا يسمى جنة ، لأنها أشحار لا يكاد ينتفع بها . وجاءت تثنية ذات على الأصح في رد عينها في التثنية فقال : { ذواتي أُكُل } ، كما جاء { ذواتا أفنان } [ الرحمن : 48 ] . ويجوز أن لا ترد فتقول : ذاتاً كذا على لفظ ذات ، وتقدم ذكر الخلاف في ضم كاف أُكُل وسكونها . وقرأ الجمهور : أكل منوناً ، والأُكُل : الثمر المأكول ، فخرجه الزمخشري على أنه على حذف مضاف ، أي أُكُل خمط قال أو وصف الأُكُل بالخمط كأنه قيل ذواتي أُكُل شبع . انتهى . والوصف بالأسماء لا يطرد ، وإن كان قد جاء منه شيء ، نحو قولهم : مررت بقاع عرفج كله . وقال أبو علي : البدل في هذا لا يحسن ، لأن الخمط ليس بالأكل نفسه . انتهى . وهو جائز على ما قاله الزمخشري ، لأن البدل حقيقة هو ذلك المحذوف ، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه . قال أبو علي : والصفة أيضاً كذلك ، يريد لا بجنتين ، لأن الخمط اسم لا صفة ، وأحسن ما فيه عطف البيان ، كأنه بين أن الأُكُل هذه الشجرة ومنها . انتهى . وهذا لا يجوز على مذهب البصريين ، إذ شرط عطف البيان أن يكون معرفة ، وما قبله معرفة ، ولا يجيز ذلك في النكرة من النكرة إلا الكوفيون ، فأبو علي أخذ بقولهم في هذه المسألة . وقرأ أبو عمرو : أُكُل خمط بالإضافة : أي ثمر خمط . وقرىء : وأثلاً وشيئاً بالنصب ، حكاه الفضل بن إبراهيم ، عطفاً على جنتين . وقليل صفة لسدر ، وقلله لأنه كان أحسن أشجاره وأكرم ، قاله الحسن ، وذلك إشارة إلى ما أجراه عليهم من تخريب بلادهم ، وإغراق أكثرهم ، وتمزيقهم في البلاد ، وإبدالهم بالأشجار الكثيرة الفواكه الطيبة المستلذة ، الخمط والأثل والسدر . ثم ذكر سبب ذلك ، وهو كفرهم بالله وإنكار نعمه . { وهل نجازي } بذلك العقاب { إلا الكفور } : أي المبالغ في الكفر ، يجازي بمثل فعله قدراً بقدر ، وأما المؤمن فجزاؤه بتفضل وتضعيف . وقرأ الجمهور : بضم الياء وفتح الزاي ، الكفور رفعاً ؛ وحمزة والكسائي : بالنون وكسر الزاي ، الكفور نصباً . وقرأ مسلم بن جندب : يجزي مبنياً للمفعول ، الكفور رفعاً ، وأكثر ما يستعمل الجزاء في الخير ، والمجازاة في الشر ، لكن في تقييدهما قد يقع كل واحد منهما موقع الآخر . { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة } : جاءت هذه الجملة بعد قوله : { وبدلناهم } ، وذلك أنه لما ذكر ما أنعم به عليهم من جنتيهم ، وذكر تبديلها بالخمط والأثل والسدر ، ذكر ما كان أنعم به عليهم من اتصال قراهم ، وذكر تبديلها بالمفاوز والبراري . وقوله : { وجعلنا } ، وصف تعالى حالهم قبل مجيء السيل ، وهو أنه مع ما كان منهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم ، كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها وجعلهم أربابها ، وقدّر السير بأن قرب القرى بعضها من بعض . قال ابن عطية : حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في أخرى ، ولا يحتاج إلى حمل زاد . والقرى : المدن ، ويقال للجمع الصغير أيضاً قرية . والقرى التي بورك فيها بلاد الشام ، بإجماع من المفسرين . والقرى الظاهرة هي التي بين الشأم ومأرب ، وهي الصغار التي هي البوادي . انتهى . وما ذكره من أن القرى التي بورك فيها هي قرى الشام بإجماع ليس كما ذكر ، قال مجاهد : هي السراوي . وقال وهب : قرى صنعاء . وقال ابن جبير : قرى مأرب . وقال ابن عباس : قرى بيت المقدس . وبركتها : كثرة أشجارها أو ثمارها . ووصف قرى بظاهرة ، قال قتادة : متصلة على الطريق ، يغدون فيقيلون في قرية ، ويروحون فيبيتون في قرية . قيل : كان كل ميل قرية بسوق ، وهو سبب أمن الطريق . وقال المبرد : ظاهرة : مرتفعة ، أي في الآكام والظراب ، وهو أشرف القرى . وقيل : ظاهرة ، إذا خرجت من هذه ظهرت لك الأخرى . وقيل : ظاهرة : معروفة ، يقال هذا أمر ظاهر : أي معروف ، وقيل : ظاهرة : عامرة . وقال ابن عطية : والذي يظهر لي أن معنى ظاهرة : خارجة عن المدة ، فهي عبارة عن القرى الصغار التي هي في ظواهر المدن ، كأنه فصل بهذه الصفة بين القرى الصغار وبين القرى المطلقة التي هي المدن . وظواهر المدن : ما خرج عنها في الفيافي والفحوص ، ومنه قولهم : نزلنا بظاهر فلاة أى خارجاً عنها ، وقوله : { ظاهرة } : تظهر ، تسميه الناس إياها بالبادية والضاحية ، ومن هذا قول الشاعر : @ فلو شهدتني من قريش عصابة قريش البطاح لا قريش الظواهر @@ يعني : الخارجين من بطحاء مكة . وفي الحديث : " وجاء أهل الضواحي يسكنون الغرف " { وقدّرنا فيها السير } : قد ذكر أن الغادي يقيل في قرية ، والرائح في أخرى ، إلى أن يصل إلى مقصوده آمناً من عدو وجوع وعطش وآفات المسافر . قال الضحاك : مقادير المراحل كانت القرى على مقاديرها . وقال الكلبي : مقادير المقيل والمبيت ، وقال القتبي : بين كل قرية وقرية مقدار واحد معلوم ، وقيل : بين كل قريتين نصف يوم ، وهذه أقوال متقاربة . والظاهر أن قوله : { سيروا } ، أمر حقيقة على لسان أنبيائهم . وقال الزمخشري : ولا قول ثم ، ولكنهم لما مكنوا من السير ، وسويت لهم أسبابه ، فكأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه . انتهى . ودخول الفاء في قوله فكأنهم لا يجوز ، والصواب كأنهم لأنه خبر لكنهم . وقال قتادة : كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان ، ولو وجد الرجل قاتل ابنه لم يهجه ، وكان المسافر لا يأخذ زاداً ولا سقاء مما بسط الله لهم من النعم . وقال الزمخشري : { سيروا فيها } ، إن شئتم بالليل ، وإن شئتم بالنهار ، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات ؛ أو سيروا فيا آمنين ولا تخافون ، وإن تطاولت مدة أسفاركم فيها وامتدت أياماً وليالي ؛ أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم ، فإنكم في كل حين وزمان لا تلقون فيها إلا آمنين . انتهى . وقدم الليالي ، لأنها مظنة الخوف لمن قال : ومنّ عليهم بالأمن ، حتى يساوي الليل النهار في ذلك . ولما طالت بهم مدة النعمة بطروا وملوا العافية ، وطلبوا استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير ، كما فعلت بنو إسرائيل ، وقالوا : لو كان جني ثمارنا أبعد لكان أشهى وأغلى قيمة ، فتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد فقالوا : { ربنا باعد بين أسفارنا } . وقرأ جمهور السبعة : ربنا بالنصب على النداء ، باعد : طلب ؛ وابن كثير ، وأبو عمرو ، وهشام : كذلك ، إلا أنهم شددوا العين ؛ وابن عباس ، وابن الحنفية ، وعمرو بن قائد : ربنا رفعاً ، بعد فعلاً ماضياً مشدد العين ؛ وابن عباس أيضاً ، وابن الحنفية أيضاً ؛ وأبو رجاء ، والحسن ، ويعقوب ، وأبو حاتم ، وزيد بن علي ، وابن يعمر أيضاً ؛ وأبو صالح ، وابن أبي ليلى ، والكلبي ، ومحمد بن علي ، وسلام ، وأبو حيوة : كذلك ، إلا أنه بألف بين الباء والعين ؛ وسعيد بن أبي الحسن أخي الحسين ، وابن الحنفية أيضاً ، وسفيان بن حسين ، وابن السميفع : ربنا بالنصب ، بعد بضم العين فعلاً ماضياً بين بالنصب ، إلا سعيداً منهم ، فضم نون بين جعله فاعلاً ، ومن نصب ، فالفاعل ضمير يعود على السير ، أي أبعد السير بين أسفارنا ، فمن نصب ربنا جعله نداء ، فإن جاء بعده طلب كان ذلك أشراً منهم وبطراً وإن جاء بعد فعلاً ماضياً كان ذلك شكوى مما أحل بهم من بعد الأسفار التي طلبوها أولاً ، ومن رفع ربنا فلا يكون الفعل إلا ماضياً ، وهي جملة خبرية فيها شكوى بعضهم إلى بعض مما حل بهم من بعد الأسفار . ومن قرأ باعد ، أو بعد بالألف والتشديد ، فبين مفعول ، به لأنهما فعلان متعديان ، وليس بين ظرفاً . ألا ترى إلى قراءة من رفعه كيف جعله اسماً ؟ { فكذلك } إذا نصب وقرىء بعد مبنياً للمفعول . وقرأ ابن يعمر : بين سفرنا مفرداً ؛ والجمهور : بالجمع . { وظلموا أنفسهم } : عطف على { فقالوا } . وقال الكلبي : هو حال ، أي وقد ظلموا أنفسهم بتكذيب الرسل . { فجعلناهم أحاديث } : أي عظاة وعبراً يتحدث بهم ويتمثل . وقيل : لم يبق منهم إلا الحديث ، ولو بقي منهم طائفة لم يكونوا أحاديث . { ومزقناهم كل ممزق } : أي تفريفاً ، اتخذه الناس مثلاً مضروباً ، فقال كثير : @ أيادي سبايا عز ما كنت بعدكم فلم يحل للعينين بعدك منظر @@ وقال قتادة : فرقناهم بالتباعد . وقال ابن سلام : جعلناهم تراباً تذروه الرياح . وقال الزمخشري : غسان بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان ؛ وفي التحرير وقع منهم قضاعة بمكة ، وأسد بالبحرين ، وخزاعة بتهامة . وفي الحديث أن سبأ أبو عشرة قبائل ، فلما جاء السيل على مأرب ، وهو اسم بلدهم ، تيامن منهم ستة قبائل ، أي تبدّدت في بلاد اليمن : كندة والأزد والسفر ومذحج وأنمار ، التي منها بجيلة وخثعم ، وطائفة قيل لها حجير بقي عليها اسم الأب الأول ؛ وتشاءمت أربعة : لخم وجذام وغسان وخزاعة ، ومن هذه المتشائمة أولاد قتيلة ، وهم الأوس والخزرج ، ومنها عاملة وغير ذلك . { إن في ذلك لآيات } : أي في قصص هؤلاء لآية : أي علامة . { لكل صبار } ، عن المعاصي وعلى الطاعات . { شكور } ، للنعم . والظاهر أن الضمير في { عليهم } عائد على من قبله من أهل سبأ ، وقيل : هو لبني آدم . وقرأ ابن عباس ، وقتادة ، وطلحة ، والأعمش ، وزيد بن علي ، والكوفيون : { صدّق } بتشديد الدال ، وانتصب { ظنه } على أنه مفعول بصدق ، والمعنى : وجد ظنه صادقاً ، أي ظن شيئاً فوقع ما ظن . وقرأ باقي السبعة : بالتخفيف ، فانتصب ظنه على المصدر ، أي يظن ظناً ، أو على إسقاط الحرف ، أي في ظنه ، أو على المفعول به نحو قولهم : أخطأت ظني ، وأصبت ظني ، وظنه هذا كان حين قال : { لأضلنهم } [ النساء : 119 ] ، { ولأغوينهم } [ الحجر : 39 ] ، وهذا مما قاله ظناً منه ، فصدق هذا الظن . وقرأ زيد بن علي ، والزهري ، وجعفر بن محمد ، وأبو الجهجاه الأعرابي من فصحاء العرب ، وبلال بن أبي برزة : بنصب إبليس ورفع ظنه . أسند الفعل إلى ظنه ، لأنه ظناً فصار ظنه في الناس صادقاً ، كأنه صدقه ظنه ولم يكذبه . وقرأ عبد الوارث عن أبي عمر : وإبليس ظنه ، برفعهما ، فظنه بدل من إبليس بدل اشتمال . { فاتبعوه } : أي في الكفر . { إلاّ فريقاً } : هم المؤمنون ، ومن لبيان الجنس ، ولا يمكن أن تكون للتبعيض لاقتضاء ذلك ، إن فريقاً من المؤمنين اتبعوا إبليس . وفي قوله : { إلا فريقاً } ، تقليل ، لأن المؤمنين بالإضافة إلى الكفار قليل ، كما قال : { لاحتنكن ذريته إلا قليلاً } [ الإسراء : 62 ] . { وما كان له } : أي لإبليس ، { عليهم من سلطان } : أي من تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستواء ، ولا حجة إلا الحكمة بينه وبين تميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها . وعلل التسلط بالعلم ، والمراد ما تعلق به العلم ، قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : { إلا لنعلم } موجوداً ، لأن العلم متقدم أولاً . انتهى . وقال معناه ابن قتيبة ، قال : لنعلم حادثاً كما علمناه قبل حدوثه . وقال قتادة : ليعلم الله به المؤمن من الكافر عاماً ظاهراً يستحق به العقاب والثواب ؛ وقيل : ليعلم أولياؤنا وحزبنا . وقال الحسن : والله ما كان له سوط ولا سيف ، ولكنه استمالهم فمالوا بتزيينه . انتهى . كما قال تعالى عنه : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } [ إبراهيم : 22 ] . وقرأ الزهري : إلا ليعلم ، بضم الياء وفتح اللام ، مبنياً للمفعول . وقال ابن خالويه : إلا ليعلم من يؤمن بالياء . { وربك على كل شيء حفيظ } ، إما للمبالغة عدل إليها عن حافظ ، وإما بمعنى محافظ ، كجليس وخليل . والحفظ يتضمن العلم والقدرة ، لأن من جهل الشيء وعجز لا يمكنه حفظه .