Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 22-33)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما بين حال الشاكرين وحال الكافرين ، وذكر قريشاً ومن لم يؤمن بمن مضى ، عاد إلى خطابهم فقال : { قل } ، يا محمد للمشركين الذين ضرب لهم المثل بقصة سبأ المعروفة عندهم بالنقل في أخبارهم وأشعارهم ، { ادعوا الذين زعمتم } ، وهم معبوداتهم من الملائكة والأصنام ، وهو أمر بدعاء هو تعجيز وإقامة للحجة . وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشاً ، أي ادعوهم ليكشفوا عنكم ما حل بكم ، والجئوا إليهم فيما يعنّ لكم . وزعم : من الأفعال التي تتعدى إلى اثنين إذا كانت اعتقادية ، والمفعول الأول هو الضمير المحذوف العائد على الذين ، والثاني محذوف أيضاً لدلالة المعنى ، ونابت صفته منابه ، التقدير : الذي زعمتموهم آلهة من دونه ؛ وحسن حذف الثاني قيام صفته مقامه ، ولولا ذلك ما حسن ، إذ في حذف إحدى مفعولي ظن وأخواتها اختصاراً خلاف ، منع ذلك ابن ملكوت ، وأجازه الجمهور ، وهو مع ذلك قليل ، ولا يجوز أن يكون الثاني من دونه ، لأنه لا يستقل كلاماً . لو قلت : هم من دونه ، لم يصح ، ولا الجملة من قوله : { لا يملكون مثقال ذرة } ، لأنه لو كانت هذه النسبة مزعومة لهم لكانوا معترفين بالحق قائلين له . ولو كان ذلك توحيداً منهم ، وأن آلهتهم ومعبوداتهم لا يملكون شيئاً باعترافهم . ثم أخبر عن آلهتهم أنهم لا يملكون مثقال ذرة ، وهو أحقر الأشياء ، وإذا انتفى ملك الأحقر عنهم ، فملك الأعظم أولى . ثم ذكر مقر ذلك المثقال ، وهو السموات والأرض . ثم أخبر أنهم ما لهم في السموات ولا في الأرض من شركة ، فنفى نوعي الملك من الاستبداد والشركة . ثم نفى الإعانة منهم له تعالى في شيء مما أنشأ بقوله : { وما له منهم من ظهير } ، فبين عجز معبوداتهم من جميع الجهات . ولما كان من العرب من يعبد الملائكة لتشفع له ، نفى أن شفاعتهم تنفع ، والنفي منسحب على الشفاعة ، أي لا شفاعة لهم فتنفع ، وليس المعنى أنهم يشفعون ، ولا تنفع شفاعتهم ، أي لا يقع من معبوداتهم شفاعة أصلاً . ولأن عابديهم كفار ، فإن كان المعبودون أصناماً أو كفاراً ، كفرعون ، فسلب الشفاعة عنهم ظاهر ، وإن كانوا ملائكة أو غيرهم ممن عبد ، كعيسى عليه السلام ، فشفاعتهم إذا وجدت تكون لمؤمن . و { إلا لمن أذن له } : استثناء مفرغ ، فالمستثنى منه محذوف تقديره : ولا تنفع الشفاعة لأحد { إلا لمن أذن له } . واحتمل قوله لأحد أن يكون مشفوعاً له ، وهو الظاهر ، فيكون قوله : { إلا لمن أذن له } ، أي المشفوع ، أذن لأجله أن يشفع فيه ؛ والشافع ليس بمذكور ، وإنما دل عليه المعنى . واحتمل أن يكون شافعاً ، فيكون قوله : { إلا لمن أذن له } بمعنى : إلا لشافع أذن له أن يشفع ، والمشفوع ليس بمذكور ، إنما دل عليه المعنى . وعلى هذا الاحتمال تكون اللام في { أذن له } لام التبليغ ، لا لام العلة . وقال الزمخشري : يقول : الشفاعة لزيد على معنى أنه الشافع ، كما يقول : الكرم لزيد ، وعلى معنى أنه المشفوع له ، كما تقول : القيام لزيد ، فاحتمل قوله : { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له } أن يكون على أحد هذين الوجهين ، أي لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له ، أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له ، أي لشفيعه ، أو هي اللام الثانية في قولك : أذن لزيد لعمرو ، أي لأجله ، وكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله ، وهذا وجه لطيف ، وهو الوجه ، وهذا تكذيب لقولهم : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] . انتهى . فجعل { إلا لمن أذن له } استثناء مفرغاً من الأحوال ، ولذلك قدره : إلا كائنة ، وعلى ما قررناه استثناء من الذوات . وقال أبو عبد الله الرازي : المذاهب المفضية إلى الشرك أربعة : قائل : إن الله خلق السموات وجعل الأرض والأرضيات في حكمها ، ونحن من جملة الأرضيات ، فنعبد الكواكب والملائكة السماوية ، وهم إلهنا ، والله إلههم ، فأبطل بقوله : { لا يملكون } ، { في السماوات } ، كما اعترفتم ، { ولا في الأرض } ، خلاف ما زعمتم . وقائل : السماوات من الله استبداداً ، والأرضيات منه بواسطة الكواكب ، فإنه تعالى خلق العناصر والتركيبات التي فيها بالاتصالات وحركات وطوالع ، فجعلوا مع الله شركاء في الأرض ، والأولون جعلوا الأرض لغيره ، فأبطل بقوله : { وما لهم فيهما من شرك } ، أي الأرض ، كالسماء لله لا لغيره ، ولا لغيره فيهما نصيب . وقائل : التركيبات والحوادث من الله ، لكن فوض إلى الكواكب ، وفعل المأذون ينسب إلى الآذن ، ويسلب عن المأذون له فيه ، جعلوا السموات معينة لله ، فأبطل بقوله : { وما له منهم من ظهير } وقائل : نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا ، فأبطل بقوله : { ولا تنفع الشفاعة } ، الجملة ، وأل في الشفاعة الظاهر أنها للعموم ، أي شفاعة جميع الخلق . وقيل : للعهد ، أي شفاعة الملائكة التي زعموها شركاء وشفعاء . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . وقال أبو البقاء : اللام في { لمن أذن له } يجوز أن تتعلق بالشفاعة ، لأنك تقول : أشفعت له ، وأنت تعلق بتنفع . انتهى ، وهذا فيه قلة ، لأن المفعول متأخر ، فدخول اللام عليه قليل . وقرأ أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي : أذن بضم الهمزة ؛ وباقي السبعة : بفتحها ، أي أذن الله له . والظاهر أن الضمير في قوله : { قلوبهم } عائد على ما عادت عليه الضمائر التي للغيبة في قوله : { لا يملكون } ، وفي { ما لهم } ، و { ما لهم منهم } ، وهم الملائكة الذين دعوهم آلهة وشفعاء ، ويكون التقدير : إلا لمن أذن له منهم . و { حتى } : تدل على الغاية ، وليس في الكلام عائد على أن حتى غاية له . فقال ابن عطية : في الكلام حذف يدل عليه الظاهر ، كأنه قال : ولا هم شفعاء كما تحبون أنتم ، بل هم عبدة أو مسلمون أبداً ، يعني منقادون ، { حتى إذا فزع عن قلوبهم } . قال : وتظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن قوله : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } ، إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي ، أي جبريل ، وبالأمر يأمر الله به سمعت ، كجر سلسلة الحديد على الصفوان ، فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة . وقيل : خوف أن تقوم الساعة ، فإذا فزع ذلك عن قلوبهم ، أي أطير الفزع عنها وكشف ، يقول بعضهم لبعض ولجبريل : { ماذا قال ربكم } ؟ فيقول المسؤلون : قال { الحق وهو العلي الكبير } ، وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى ، ومن لم يشعر أن الملائكة مشار إليهم من أول قوله : { الذين زعمتم } لم تتصل له هذه الآية بما قبلها ، فلذلك اضطرب المفسرون في تفسيرها حتى قال بعضهم في الكفار ، بعد حلول الموت : ففزع عن قلوبهم بفقد الحياة ، فرأوا الحقيقة ، وزال فزعهم مما يقال لهم في حياتهم ، فيقال لهم حينئذ : { ماذا قال ربكم } ؟ فيقولون : قال الحق ، يقرون حين لا ينفعهم الإقرار . وقالت فرقة : الآية في جميع العالم . وقوله : { حتى } ، يريد في الآخرة ، والتأويل الأول في الملائكة هو الصحيح ، وهو الذي تظاهرت به الأحاديث ، وهذا بعيد . انتهى . وإذا كان الضمير في { عن قلوبهم } لا يعود على { الذين زعمتم } ، كان عائداً على من عاد عليه الضمير في قوله : { ولقد صدّق عليهم إبليس } ، ويكون الضمير في { عليهم } عائداً على جميع الكفار ، ويكون حتى غاية لقوله : { فاتبعوه } ، ويكون التفزيع حالة مفارقة الحياة ، أو يجعل اتباعهم إياه مستصحباً لهم إلى يوم القيامة مجازاً . والجملة بعد من قوله : { قل ادعوا } اعتراضية بين المغيا والغاية . قال ابن زيد : أقروا بالله حين لا ينفعهم الإقرار ، فالمعنى : فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم ما كان يطلبهم به ، { قالوا ماذا قال ربكم } . وقال الحسن : وإنما يقال للمشركين { ماذا قال ربكم } على لسان الأنبياء ، فأقروا حين لا ينفع . وقيل : { حتى } غاية متعلقة بقوله : { زعمتم } ، أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ، ثم تركتم ما زعمتم وقلتم : قال الحق . انتهى . فيكون في الكلام التفاوت من خطاب في { زعمتم } إلى غيبة في { فزع عن قلوبهم } . وعن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فإذا أذن فزع ودام فزعه حتى إذا أزيل التفزيع عن قلوبهم . قال بعض الشافعين من الملائكة لبعض الملائكة : { ماذا قال ربكم } في قبول شفاعتنا ؟ فيجيب بعضهم لبعض : قال أي الله الحق ، أي القول الحق ، وهو قبول شفاعتهم ، إذا كان تعالى أذن لهم في ذلك ، ولا يأذن إلا وهو مريد لقبول الشفاعة . وقال الزمخشري : فإن قلت بم اتصل قوله : { حتى إذا فزع عن قلوبهم } ؟ ولا شيء وقعت حتى غاية له . قلت : بما فهم من هذا الكلام من أن ثم انتظار الإذن وتوقفاً وتمهلاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن ؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص . ومثل هذه الحال دل عليه قوله ، عز من قائل : { رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً * يوم يقوم الروح والملائكة صفاً لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً } [ النبأ : 37 - 38 ] ، كأنه قيل : يتربصون ويتوقفون ملياً فزعين وهلين . { حتى إذا فزع عن قلوبهم } : أي كشف الفزع من قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن . تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضاً : { ماذا قال ربكم } ؟ قال الحق ، أي القول الحق ، وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى . انتهى . وتلخص من هذا أن حتى غائية إما لمنطوق وهو زعمتم ، ويكون الضمير في { عن قلوبهم } التفاتاً ، وهو للكفار ، أو هو فاتبعوه ، وفيه تناسق الضمائر لغائب . والفصل بالاعتراض والضمير أيضاً للكفار ، والضمير في { قالوا } للملائكة ، وضمير الخطاب في { ربكم } ، والغائب في { قالوا } الثانية للكفار . وأما لمحذوف ، فما قدره ابن عطية لا يصح أن يغيا ، لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ، وهم عبدة منقادون دائماً لا ينفكون عن ذلك ، لا إذا فزع عن قلوبهم ، ولا إذا لم يفزع ، وحمل ذلك على الملائكة حال الوحي لا يناسب الآية ، وكون النبي صلى الله عليه وسلم ، في قصة الوحي قال : " فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم " لا يدل على أن هذه الآية في الملائكة حالة تكلم الله بالوحي . والحديث رواه ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا ، فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل عليه السلام ، فإذا جاءهم جبريل فزع عن قلوبهم ، فيقولون : يا جبريل ماذا قال ربك ؟ قال فيقول الحق ، فينادون الحق " وما قدره الزمخشري يحتمل ، إلا أن فيه تخصيص الذين زعمتم من دونه بالملائكة ، والذين عبدوهم ملائكة وغيرهم . وتخصيص من أذن له بالملائكة أيضاً ، والمأذون لهم في الشفاعة الملائكة وغيرهم . ألا ترى إلى ما حكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الشفاعة في قوله عز وجل ؟ . وقرىء : فزع مشدداً ، من الفزع ، مبنياً للمفعول ، أي أطير الفزع عن قلوبهم . وفعل تأتي لمعان منها : الإزالة ، وهذا منه نحوه : قردت البعير ، أي أزلت القراد عنه . وقرأ ابن مسعود ، وابن عباس ، وطلحة ، وأبو المتوكل الناجي ، وابن السميفع ، وابن عامر : مبنياً للفاعل من الفزع أيضاً ، والضمير الفاعل في فزع إن كان الضمير في عن قلوبهم للملائكة ، فهو الله ، وإن كان للكفار ، فالضمير لمغويهم . وقرأ الحسن : { فزع } من الفزع ، بتخفيف الزاي ، مبنياً للمفعول ، و { عن قلوبهم } في موضع رفع به ، كقولك : انطلق يزيد . وقرأ الحسن أيضاً ، وأبو المتوكل أيضاً ، وقتادة ، ومجاهد : فزع مشدداً ، مبنياً للفاعل من الفزع . وقرأ الحسن أيضاً : كذلك ، إلا أنه خفف الزاي . وقرأ عبد الله بن عمر ، والحسن أيضاً ، وأيوب السختياني ، وقتادة أيضاً ، وأبو مجلز : فرغ من الفراغ ، مشدد الراء ، مبنياً للمفعول . وقرأ ابن مسعود ، وعيسى افرنقع : عن قلوبهم ، بمعنى انكشف عنها ، وقيل : تفرق . وقال الزمخشري : والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما ركب قمطر من حروف القمط مع زيادة الراء . انتهى . فإن عني الزمخشري أن العين من حروف الزيادة ، وكذلك الراء ، وهو ظاهر كلامه ، فليس بصحيح ، لأن العين والراء ليستا من حروف الزيادة . وإن عنى أن الكلمة فيها حروف ، وما ذكروا زائداً إلى ذلك العين والراء كمادة فرقع وقمطر ، فهو صحيح لولا إيهام ما قاله الزمخشري في هذه الكلمة ، لم أذكر هذه القراءة لمخالفتها سواد المصحف . وقالوا أيضاً في قوله تعالى : { حتى إذا فزع } أقوالاً غير ما سبق . قال كعب : إذا تكلم الله عز وجل بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها وخرت فزعاً ، قالوا فيما بينم : { ماذا قال ربكم قالوا الحق } . وقيل : إذا دعاهم إسرافيل من قبورهم ، قالوا مجيبين ماذا ، وهو من الفزع الذي هو الدعاء والاستصراخ ، كما قاله زهير : @ إذا فزعوا طاروا إلى مستغيثهم طوال الرماح لا ضعاف ولا عزل @@ وقيل : هو فزع ملائكة أدنى السموات عند نزول المدبرات إلى الأرض . وقيل : لما كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وبعث الله محمداً ، أنزل الله جبريل بالوحي ، فظنت الملائكة أنه قد نزل بشيء من أمر الساعة ، وصعقوا لذلك ، فجعل جبريل يمر بكل سماء ويكشف عنهم الفزع ويخبرهم أنه الوحي ، قاله قتادة ومقاتل وابن السائب . وقيل : الملائكة المعقبات الذين يختلفون إلى أهل الأرض ، ويكتبون أعمالهم إذا أرسلهم الله فانحدروا ، سمع لهم صوت شديد ، فيحسب الذين هم أسفل منهم من الملائكة أنه من أمر الساعة ، فيخرون سجداً يصعقون ، رواه الضحاك عن ابن مسعود . وهذه الأقوال والتي قبلها لا تكاد تلائم ألفاظ القرآن ، فالله أسأل أن يرزقنا فهم كتابه ، وأقر بها عندي أن يكون الضمير في { قلوبهم } عائداً على من عاد عليه اتبعوه وعليهم ، وممن هو منها في شك ، وتكون الجملة بعد ذلك اعتراضاً . وقوله : { قالوا } ، أي الملائكة ، لأولئك المتبعين الشاكين يسألونهم سؤال توبيخ : { ماذا قال ربكم } ، على لسان من بعث إليكم بعد أن كشف الغطاء عن قلوبهم ، فيقرون إذ ذاك أن الذي قاله ، وجاءت به أنبياؤه ، وهو الحق ، لا الباطل الذي كنا فيه من اتباع إبليس . وشكنا في البعث ماذا يحتمل أن تكون ما منصوبة بقال ، أي أي شيء قال ربكم ، وأن يكون في موضع رفع على أن ذا موصولة ، أي ما الذي قال ربكم ، وذا خبره ، ومعمول قال ضمير محذوف عائد على الموصول . وقرأ ابن أبي عبلة : قالوا الحق ، برفع الحق ، خبر مبتدأ ، أي مقوله الحق ، { وهو العلي الكبير } ، تنزيه منهم له تعالى وتمجيد . ثم رجع إلى خطاب الكفار فسألهم عمن يرزقهم ، محتجاً عليهم بأن رازقهم هو الله ، إذ لا يمكن أن يقولوا إن آلهتهم ترزقهم وتسألهم أنهم { لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } ، وأمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله : { قل الله } ، لأنهم قد لا يجيبون حباً في العناد وإيثاراً للشرك . ومعلوم أنه لا جواب لهم ولا لأحد إلا بأن يقول هو الله . { وإنا } : أي الموحدين الرازق العابدين ، { أو إياكم } : المشركين العابدين الأصنام والجمادات . { لعلى هدى } : أي طريقة مستقيمة ، أو في حيرة واضحة بينة . والمعنى : أن أحد الفريقين منا ومنكم لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال ، أخرج الكلام مخرج الشك والاحتمال . ومعلوم أن من عبد الله ووحده هو على الهدى ، وأن من عبد غيره من جماد أو غيره في ضلال . وهذه الجملة تضمنت الإنصاف واللطف في الدعوى إلى الله ، وقد علم من سمعها أنه جملة اتصاف ، والرد بالتورية والتعريض أبلغ من الرد بالتصريح ، ونحوه قول العرب : أخزى الله الكاذب مني ومنك ، يقول ذاك من يتيقن أن صاحبه هو الكاذب ، ونظيره قوله الشاعر : @ فأني ماوأيك كان شراً فسيق إلى المقادة في هوان @@ وقال حسان : @ أتهجوه ولست له بكفؤ فشركما لخيركما الفداء @@ وهذا النوع يسمى في علم البيان : استدراج المخاطب . يذكر له أمراً يسلمه ، وإن كان بخلاف ما ذكر حتى يصغي إليه إلى ما يلقيه إليه ، إذ لو بدأ به بما يكره لم يصغ ، ولا يزال ينقله من حال إلى حال حتى يتبين له الحق ويقبله . وهنا لما سمعوا الترداد بينه وبينهم ، ظهر لهم أنه غير جازم أن الحق معه ، فقال لهم بطريق الاستدلال : إن آلهتكم لا تملك مثقال ذرة ، ولا تنفع ولا تضر ، لأنها جماد ، وهم يعلمون ذلك ، فتحقق أن الرازق لهم والنافع والضار هو الله سبحانه . وقيل : معنى الجملة استنقاص المشركين والاستهزاء بهم ، وقد بينوا أن آلهتهم لا ترزقهم شيئاً ولا تنفع ولا تضر ، فأراد الله من نبيه ، وأمره أن يوبخهم ويستنقصهم ويكذبهم بقول غير مكشوف ، إن كان ذلك أبلغ في استنقاصهم ، كقولك : إن أحدنا لكاذب ، وقد علمت أن من خاطبته هو الكاذب ، ولكنك وبخته بلفظ غير مكشوف . وأوهنا على موضوعها لكونها لأحد الشيئين ، أو الأشياء . وخبر { إنا أو إياكم } هو { لعلى هدى أو في ضلال مبين } ، ولا يحتاج إلى تقدير حذف ، إذ المعنى : أن أحدنا لفي أحد هذين ، كقولك : زيد أو عمرو في القصر ، أو في المسجد ، لا يحتاج هذا إلى تقدير حذف ، إذ معناه : أحد هذين في أحد هذين . وقيل : الخبر محذوف ، فقيل : خبر لا وله ، والتقدير : وإنا لعلى هدى أو في ضلال مبين ، فحذف لدلالة خبر ما بعده عليه ، فلعلى هدى أو في ضلال مبين المثبت خبر عنه ، أو إياكم ، إذ هو على تقدير إنا ، ولكنها لما حذفت اتصل الضمير ، وقيل : خبر الثاني ، والتقدير : أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ، وحذف لدلالة خبر الأول عليه ، وهو هذا المثبت { لعلى هدى أو في ضلال مبين } ، ولا حاجة لهذا التقدير من الحذف لو كان ما بعد أو غير معطوف بها ، نحو : زيد أو عمرو قائم ، كان يحتاج إلى هذا التقدير ، وإن مع ما يصلح أن يكون خبراً لأن اسمها عطف عليه بأو ، والخبر معطوف بأو ، فلا يحتاج إليه . وذهب أبو عبيدة إلى أن أو بمعنى الواو ، فيكون من باب اللف والنشر ، والتقدير : وإنا لعلى هدى ، وإياكم في ضلال مبين ، فأخبر عن كل بما ناسبه ، ولا حاجة إلى إخراج أو عن موضوعها . وجاء في الهدى بعلى ، لأن صاحبه ذو استعلاء ، وتمكن مما هو عليه ، يتصرف حيث شاء . وجاء في الضلال بعن لأنه منغمس في حيرة مرتبك فيها لا يدري أين يتوجه . { قل لا تسألون عما أجرمنا } هذا أدخل في الإنصاف وأبلغ من الأول ، وأكثر تلطفاً واستدراجاً ، حيث سمى فعله جرماً ، كما يزعمون ، مع أنه مثاب مشكور . وسمى فعلهم عملاً ، مع أنه مزجور عنه محظور . وقد يراد بأجرمنا نسبة ذلك إلى المؤمنين دون الرسول ، وذلك ما لا يكاد يخلو المؤمن منه من الصغائر ، والذي تعملون هو الكفر وما دونه من المعاصي الكبائر . قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف . { قل يجمع بيننا ربنا } : أي يوم القيامة ، { ثم يفتح } : أي يحكم ، { بالحق } : بالعدل ، فيدخل المؤمنين الجنة والكفار النار . { وهو الفتاح } : الحاكم الفاصل ، { العليم } بأعمال العباد . والفتاح والعليم صيغتا مبالغة ، وهذا فيه تهديد وتوبيخ . تقول لمن نصحته وخوفته فلم يقبل : سترى سوء عاقبة الأمر . وقرأ عيسى : الفاتح اسم فاعل ، والجمهور : الفتاح . { قل أروني الذين ألحقتم به شركاء } : الظاهر أن أرى هنا بمعنى أعلم ، فيتعدى إلى ثلاثة : الضمير للمتكلم هو الأول ، والذين الثاني ، وشركاء الثالث ، أي أروني بالحجة والدليل كيف وجه الشركة ، وهل يملكون مثقال ذرة أو يرزقونكم ؟ وقيل : هي رؤية بصر ، وشركاء نصب على الحال من الضمير المحذوف في ألحقتم ، إذ تقديره : ألحقتموهم به في حال توهمه شركاء له . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى قوله : أروني ، وكان يراهم ويعرفهم ؟ قلت : أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله ، وأن يقايس على أعينهم بينه وبين أصنامهم ، ليطلعهم على حالة القياس إليه والإشراك به . و { كلا } : ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسره بإبطال المقايسة ، كما قال إبراهيم : { أف لكم ولما تعبدون من دون الله } [ الأنبياء : 67 ] ، بعد ما حجهم ، وقد نبه على تفاحش غلطهم ، وأن يقدروا الله حق قدره بقوله : { هو الله العزيز الحكيم } ، كأنه قال : أي الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات ؟ وهو راجع إلى الله وحده ، أو هو ضمير الشأن كما في قوله : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] . انتهى . وقول ابن عطية ، لأن استدعاء رؤية العين في هذا لا غناء له ، أي لا نفع له ، ليس بجيد ، بل في ذلك تبكيت لهم وتوبيخ ، ولا يريد حقيقة الأمر ، بل المعنى : أن الذين هم شركاء الله على زعمكم ، هم ممن إن أريتموهم افتضحتم ، لأنهم خشب وحجر وغير ذلك من الحجارة والجماد ، كما تقول للرجل الخسيس الأصل : أذكر لي أباك الذي قايست به فلاناً الشريف ولا تريد حقيقة الذكر ، وإنما أردت تبكيته ، وأنه إن ذكر أباه افتضح . و { كافة } : اسم فاعل من كف ، وقيل : مصدر كالعاقبة والعافية ، فيكون على حذف مضاف ، أي إلا ذا كافة ، أي ذا كف للناس ، أي منع لهم من الكفر ، أو ذا منع من أن يشذوا عن تبليغك . وإذا كان اسم فاعل ، فقال الزجاج وغيره : هو حال من الكاف في { أرسلناك } ، والمعنى : إلا جامعاً للناس في الإبلاغ ، والكافة بمعنى الجامع ، والهاء فيه للمبالغة ، كهي في علامة وراوية . وقال الزمخشري : إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم ، لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم ، قال : ومن جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ ، لأن تقدم حال المجرور عليه في الإصالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار ، وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ثم لا يقنع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى ، لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني ، فلا بد من ارتكاب الخطأين . انتهى . أما كافة بمعنى عامة ، فالمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالاً ، ولم يتصرف فيها بغير ذلك ، فجعلها صفة لمصدر محذوف ، خروج عما نقلوا ، ولا يحفظ أيضاً استعماله صفة لموصوف محذوف . وأما قول الزجاج : إن كافة بمعنى جامعاً ، والهاء فيه للمبالغة ، فإن اللغة لا تساعد على ذلك ، لأن كف ليس بمحفوظ أن معناه جمع . وأما قول الزمخشري : ومن جعله حالاً إلى آخره ، فذلك مختلف فيه . ذهب الأكثرون إلى أن ذلك لا يجوز ، وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان ومن معاصرينا ابن مالك إلى أنه يجوز ، وهو الصحيح . ومن أمثلة أبي علي زيد : خير ما يكون خير منك ، التقدير : زيد خير منك خير ما يكون ، فجعل خير ما يكون حالاً من الكاف في منك ، وقدمها عليه ، قال الشاعر : @ إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً فمطلبها كهلاً عليه شديد @@ وقال آخر : @ تسليت طراً عنكم بعد بينكم بذكركم حتى كأنكم عندي @@ أي : تسليت عنكم طراً ، أي جميعاً . وقد جاء تقديم الحال على صاحبها المجرور وعلى ما يتعلق به ، ومن ذلك قول الشاعر : @ مشغوفة بك قد شغفت وإنما حتم الفراق فما إليك سبيل @@ وقال الآخر : @ غافلاً تعرض المنية للمر ء فيدعى ولات حين إباء @@ أي : شغفت بك مشغوفة ، وتعرض المنية للمرء غافلاً . وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل ، فتقديمها عليه دون العامل أجوز ، وعلى أن كافة حال من الناس ، حمله ابن عطية وقال : قدمت للاهتمام والمنقول عن ابن عباس قوله : أي إلى العرب والعجم وسائر الأمم ، وتقدير إلى الناس كافة . انتهى . وقول الزمخشري : وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ ، إلى آخر كلامه ، شنيع ؟ لأن قائل ذلك لا يحتاج إلى أن يتأول اللام بمعنى إلى ، لأن أرسل يتعدى بإلى ويتعدى باللام ، كقوله : { وأرسلناك للناس رسولاً } [ النساء : 79 ] . ولو تأول اللام بمعنى إلى ، لم يكن ذلك خطأ ، لأن اللام قد جاءت بمعنى إلى ، وإلى قد جاءت بمعنى اللام ، وأرسل مما جاء متعدياً بهما إلى المجرور . ثم حكى تعالى مقالتهم في الاستهزاء بالبعث ، واستعالجهم على سبيل التكذيب ، ولم يجابوا بتعيين الزمان ، إذ ذاك مما انفرد تعالى بعلمه ، بل أجيبوا بأن ما وعدوا به لا بد من وقوعه ، وهو ميعاد يوم القيامة ، وتقدم الكلام على مثل هذه الجملة ، ويجوز أن يكون سؤالهم عما وعدوا به من العذاب في الدنيا واستعجلوا به استهزاء منهم . وقال أبو عبيد : الوعد والوعيد والميعاد بمعنى . وقال الجمهور : الوعد في الخير ، والوعيد في الشر ، والميعاد يقع لهذا . والظاهر أن الميعاد اسم على وزن مفعال استعمل بمعنى المصدر ، أي قل لكم وقوع وعد يوم وتنجيزه . وقال الزمخشري : الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان ، وهو ههنا الزمان ، والدليل عليه قراءة من قرأ ميعاد يوم فأبدل منه اليوم . انتهى . ولا يتعين ما قال ، إذ يكون بدلاً على تقدير محذوف ، أي قل لكم ميعاد يوم ، فلما حذف أعرب ما قام مقامه بإعرابه . وقرأ الجمهور : { ميعاد يوم } بالإضافة . ولما جعل الزمخشري الميعاد ظرف زمان قال : أما الإضافة فإضافته تبيين ، كما تقول : سحق ثوب وبعير سانية . وقرأ ابن أبي عبلة ، واليزيدي : ميعاد يوماً بتنوينهما . قال الزمخشري : وأما نصب اليوم فعلى التعظيم بإضمار فعل تقديره لكم ميعاد ، أعني يوماً ، وأريد يوماً من صفته ، أعني كيت وكيت ، ويجوز أن يكون انتصابه على حذف مضاف ، ويجوز أن يكون الرفع على هذا للتعظيم . انتهى . لما جعل الميعاد ظرف زمان ، خرج الرفع والنصب على ذلك ، ويجوز أن يكون انتصابه على الظرف على حذف مضاف ، أي إنجاز وعد يوم من صفته كيت وكيت . وقرأ عيسى : ميعاد منوناً ، ويوم بالنصب من غير تنوين مضافاً إلى الجملة ، فاحتمل تخريج الزمخشري على التعظيم ، واحتمل تخريجاً على الظرف على حذف مضاف ، أي إنجاز وعد يوم كذا . وجاء هذا الجواب على طريق التهديد مطابقاً لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت ، وأنهم مرصدون بيوم القيامة ، يفاجئهم فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدماً عليه . واليوم : يوم القيامة ، وهو السابق إلى الذهن ، أو يوم مجيء أجلهم عند حضور منيتهم ، أو يوم بدر ، أقوال . و { لن نؤمن بهذا القرآن } : يعني الذي تضمن التوحيد والرسالة والبعث المتقدم ذكرها فيه . { ولا بالذي بين يديه } : هو ما نزل من كتب الله المبشرة برسول الله . يروي أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب ، فأخبروهم أنهم يجدون صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في كتبهم ، وأغضبهم ذلك ، وقرنوا إلى القرآن ما تقدم من كتب الله في الكفر ، ويكون { الذين كفروا } مشركي قريش ومن جرى مجراهم . والمشهور أن { الذي بين يديه } : التوراة والإنجيل وما تقدم من الكتب ، وهو مروي عن ابن جريج . وقالت فرقة : { الذي بين يديه } : هي القيامة ، قال ابن عطية : وهذا خطأ ، قائله لم يفهم أمر بين اليد في اللغة ، وأنه المتقدم في الزمان ، وقد بيناه فيما تقدم . انتهى . { ولو ترى إذ الظالمون } : أخبر عن حالهم في صفة التعجب منها ، وترى في معنى رأيت لإعمالها في الظرف الماضي ، ومفعول ترى محذوف ، أي حال الظالمين ، إذ هم { موقوفون } . وجواب لو محذوف ، أي لرأيت لهم حالاً منكرة من ذلهم وتخاذلهم وتحاورهم ، حيث لا ينفعهم شيء من ذلك . ثم فسر ذلك الرجوع والجدل بأن الأتباع ، وهم الذين استضعفوا ، قالوا لرؤسائهم على جهة التذنيب والتوبيخ ورد اللائمة عليهم : { لولا أنتم لكنا مؤمنين } : أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر . وأتى الضمير بعد لولا ضمير رفع على الأفصح . وحكى الأئمة سيبويه والخليل وغيرهما مجيئه بضمير الجر نحو : لولاكم ، وإنكار المبرد ذلك لا يلتفت إليه . ولما كان مقاماً ، استوى فيه المرؤوس والرئيس . بدأ الأتباع بتوبيخ مضليهم ، إذ زالت عنهم رئاستهم ، ولم يمكنهم أن ينكروا أنهم ما جاءهم رسول ، بل هم مقرون . ألا ترى إلى قول المتبوعين : { بعد إذ جاءكم } ؟ فالجمع المقرون بأن الذكر قد جاءهم ، فقال لهم رؤساؤهم : { أنحن صددناكم } ، فأتوا بالاسم بعد أداة الاستفهام إنكاراً ، لأن يكونوا هم الذين صدوهم . صددتم من قبل أنفسكم وباختياركم بعد أداة الاستفهام ، كأنهم قالوا : نحن أخبرناكم وحلنا بينكم وبين الذكر بعد أن هممتم على الدخول في الإيمان ، بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلالة على الهدى ، فكنتم مجرمين كافرين باختياركم ، لا لقولنا وتسويلنا . ولما أنكر رؤساؤهم أنهم السبب في كفرهم ، وأثبتوا بقولهم : { بل كنتم مجرمين } ، أن كفرهم هو من قبل أنفسهم ، قابلوا إضراباً بإضراب ، فقال الأتباع : { بل مكر الليل والنهار } : أي ما كان إجرامنا من جهتنا ، بل مكركم لنا دائماً ومخادعتكم لنا ليلاً ونهاراً ، إذ تأمروننا ونحن أتباع لا نقدر على مخالفتكم ، مطيعون لكم لاستيلائكم علينا بالكفر بالله واتخاذ الأنداد . وأضيف المكر إلى الليل والنهار اتسع في الظرفين ، فهما في موضع نصب على المفعول به على السعة ، أو في موضع رفع على الإسناد المجازي ، كما قالوا : ليل نائم ، والأولى عندي أن يرتفع مكر على الفاعلية ، أي بل صدنا مكركم بالليل والنهار ، ونظيره قول القائل : أنا ضربت زيداً بل ضربه عمرو ، فيقول : بل ضربه غلامك ، والأحسن في التقدير أن يكون المعنى : ضربه غلامك . وقيل : يجوز أن يكون مبتدأ وخبراً ، أي سبب كفرنا . وقرأ قتادة ، ويحيـى بن يعمر : بل مكر بالتنوين ، الليل والنهار نصب على الظرف . وقرأ سعيد بن جبير بن محمد ، وأبو رزين ، وابن يعمر أيضاً : بفتح الكاف وشد الراء مرفوعة مضافة ، ومعناه : كدور الليل والنهار واختلافهما ، ومعناها : الإحالة على طول الأمل ، والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء الكفر بالله . وقرأ ابن جبير أيضاً ، وطلحة ، وراشد هذا من التابعين ممن صحح المصاحف بأمر الحجاج : كذلك ، إلا أنهم نصبوا الراء على الظرف ، وناصبه فعل مضمر ، أي صددتمونا مكر الليل والنهار ، أي في مكرهما ، ومعناه دائماً . وقال صاحب اللوامح : يجوز أن ينتصب بإذ تأمروننا مكر الليل والنهار . انتهى . وهذا وهم ، لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها . وقال الزمخشري : بل يكون الإغراء مكراً دائماً لا يفترون عنه . انتهى . وجاء { قال الذين استكبروا } بغير واو ، لأنه جواب لكلام المستضعفين ، فاستؤنف ، وعطف { وقال الذين استضعفوا } على ما سبق من كلامهم ، والضمير في { وأسروا } للجميع المستكبرين والمستضعفين ، وهم { الظالمون الموقوفون } ، وتقدم الكلام في { وأسروا الندامة لما رأوا العذاب } [ الآية : 54 ] في سورة يونس ، والندامة من المعاني القلبية ، فلا تظهر ، إنما يظهر ما يدل عليها ، وما يدل عليها غيرها ، وقيل : هو من الأضداد . وقال ابن عطية : هذا لم يثبت قط في لغة أن أسر من الأضداد وندامة الذين استكبروا على ضلالهم في أنفسهم وإضلالهم وندامة الذين استضعفوا على ضلالهم وأتباعهم المضلين . { وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا } ، والظاهر عموم الذين كفروا ، فيدخل فيه المستكبرون والمتسضعفون ، لأن من الكفار من لا يكون له اتباع مراجعة القول في الآخرة ، ولا يكون أيضاً تابعاً لرئيس له كافر ، كالغلام الذي قتله الخضر . وقيل : { الذين كفروا } هم الذين سبقت منهم المحاورة ، وجعل الأغلال إشارة إلى كيفية العذاب قطعوا بأنهم واقعون فيه فتركوا التندم . { هل يجزون } : معناه النفي ، ولذلك دخلت إلا بعد النفي .