Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 44-54)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وما آتيناهم } : أهل مكة ، { من كتب } ، قال السدي : من عندنا ، فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به . وقال ابن زيد : فنقضوا أن الشرك جائز ، وهو كقوله : { أم أنزلنا عليهم سلطاناً فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } [ الروم : 35 ] . وقال قتادة : ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن ، ولا بعث إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم . والمعنى : من أين كذبوا ، ولم يأتهم كتاب ، ولا نذير بذلك ؟ وقيل : وصفهم بأنهم قومٍ أمنون ، أهل جاهلية ، ولا ملة لهم ، وليس لهم عهد بإنزال الكتاب ولا بعثة رسول . كما قال : { أم آتيناهم كتاباً من قبله فهم به مستمسكون } [ الزخرف : 21 ] ، فليس لتكذيبهم وجه مثبت ، ولا شبهة تعلق . كما يقول أهل الكتاب ، وإن كانوا مبطلين : نحن أهل الكتاب والشرائع ، ومستندون إلى رسل من رسل الله . وقيل : المعنى أنهم يقولون بآرائهم في كتاب الله ، يقول بعضهم سحر ، وبعضهم افتراء ، ولا يستندون فيه إلى أثارة من علم ، ولا إلى خبر من يقبل خبره . فإنا آتيناهم كتباً يدرسونها ، ولا أرسلنا إليهم رسولاً ولا نذيراً فيمكنهم أن يدعوا ، إن أقوالهم تستند إلى أمره . وقرأ الجمهور : { يدرسونها } ، مضارع درس مخففاً ؛ أبو حيوة : بفتح الدال وشدها وكسر الراء ، مضارع ادّرس ، افتعل من الدرس ، ومعناه : تتدارسونها . وعن أبي حيوة أيضاً : يدرسونها ، من التدريس ، وهو تكرير الدرس ، أو من درس الكتاب مخففاً ، ودرّس الكتاب مشدداً التضعيف باعتبار الجمع . ومعنى { قبلك } ، قال ابن عطية : أي وما أرسلنا من نذير شافههم بشيء ، ولا يباشر أهل عصرهم ، ولا من قرب من آبائهم . وقد كانت النذارة في العالم ، وفي العرب مع شعيب وصالح وهود . ودعوة الله وتوحيده قائم لم تخل الأرض من داع إليه ، وإنما المعنى : من نذير يختص بهؤلاء الذين بقيت إليهم ، وقد كان عند العرب كثير من نذارة إسماعيل ، والله تعالى يقول : { إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً } [ مريم : 54 ] ، ولكن لم يتجرد للنذارة ، وقاتل عليها ، إلا محمد صلى الله عليه وسلم . انتهى . { وكذب الذين من قبلهم } : توعد لهم ممن تقدمهم من الأمم ، وما آل إليه أمرهم ، وتسلية لرسوله بأن عادتهم في التكذيب عادة الأمم السابقة ، وسيحل بهم ما حل بأولئك . وأن الضميرين في : { بلغوا } وفي : { ما آتيناهم } عائدان على { الذين من قبلهم } ، ليتناسقا مع قوله تعالى : { فكذبوا } ، أي ما بلغوا في شكر النعمة وجزاء المنة معشار ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم . وقال ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد : الضمير في { بلغوا } لقريش ، وفي { ما آتيناهم } للأمم { الذين من قبلهم } . والمعنى : وما بلغ هؤلاء بعض ما آتينا أولئك من طول الأعمار وقوة الأجسام وكثرة الأموال ، وحيث كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة ، فكيف حال هؤلاء إذا جاءهم العذاب والهلاك ؟ وقيل : الضمير في { بلغوا } عائد على { الذين من قبلهم } ، وفي { آتيناهم } على قريش ، وما بلغ الأمم المتقدمة معشار ما آتينا قريشاً من الآيات والبينات والنور الذي جئتهم به . وأورد ابن عطية هذه الأقوال احتمالات ، والزمخشري ذكر الثاني ، وأبو عبد الله الرازي اختار الثالث ، قال : أي { الذين من قبلهم } ما بلغوا معشار ما آتينا قوم محمد من البرهان ، وذلك لأن كتاب محمد ، عليه السلام ، أكمل من سائر الكتب وأوضح ، ومحمد ، عليه السلام ، أفضل من جميع الرسل وأفصح ، وبرهانه أوفي ، وبيانه أشفى ، ويؤيد ما ذكرنا ، { وما آتيناهم من كتب يدرسونها } تغني عن القرآن . فلما كان المؤتى في الآية الأولى هو الكتاب ، حمل الإيتاء في الآية الثانية على إيتاء الكتاب ، وكان أولى . انتهى . وعن ابن عباس : فليس أنه أعلم من أمّته ، ولا كتاب أبين من كتابه . والمعشار مفعال من العشر ، ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد غيره وغير المرباع ، ومعناهما : العشر والربع . وقال قوم : المعشار عشر العشر . قال ابن عطية : وهذا ليس بشيء . انتهى . وقيل : والعشر في هذا القول عشر المعشرات ، فيكون جزأ من ألف جزء . قال الماوردي : وهو الأظهر ، لأن المراد به المبالغة في التقليل . وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى { فكذبوا رسلي } ، وهو مستغنى عنه بقوله { وكذب الذين من قبلهم } ؟ قلت : لما كان معنى قوله : { وكذب الذين من قبلهم } ، وفعل الذين من قبلهم التكذيب ، وأقدموا عليه ، جعل تكذيب الرسل مسبباً عنه ، ونظيره أن يقول القائل : أقدم فلان على الكفر ، فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم . ويجوز أن ينعطف على قوله : { ما بلغوا } ، كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو ، فيفضل عليه . { فكيف كان نكير } : للمكذبين الأوّلين ، فليحذروا من مثله . انتهى . وفكيف : تعظيم للأمر ، وليست استفهاماً مجرداً ، وفيه تهديد لقريش ، أي أنهم معرضون لنكير مثله ، والنكير مصدر كالإنكار ، وهو من المصادر التي جاءت على وزن فعيل ، والفعل على وزن أفعل ، كالنذير والعذير من أنذر وأعذر ، وحذفت إلى من نكير تخفيفاً لأنها أجزأته . { قل إنما أعظكم بواحدة } ، قال : هي طاعة الله وتوحيده . وقال السدي : هي لا إله إلاّ الله . قال قتادة : هي أن تقوموا . قال أبو علي : { أن تقوموا } في موضع خفض على البدل من واحدة . وقال الزمخشري : { بواحدة } : بخصلة واحدة ، وهو فسرها بقوله : { أن تقوموا } على أنه عطف بيان لها . انتهى . وهذا لا يجوز ، لأن بواحدة نكرة ، وأن تقوموا معرفة لتقديره قيامكم لله . وعطف البيان فيه مذهبان : أحدهما : أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة ، وهو مذهب الكوفيين ، وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب ، وإنما هو وهم من قائله . وقد ردّ النحويون على الزمخشري في قوله : { فيه آيات بينات مقام إبراهيم } [ آل عمران : 97 ] عطف بيان من قوله : { آيات بينات } [ آل عمران : 97 ] ، وذلك لأجل التحالف ، فكذلك هذا . والظاهر أن القيام هنا هو الانتصاب في الأمر ، والنهوض فيه بالهمة ، لا القيام الذي يراد به المقول على القولين ، ويبعد أن يراد به ما جوزه الزمخشري من القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتفرقهم عن مجتمعهم عنده . والمعنى : إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحق وخلاصكم ، وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين ، وواحداً واحداً ، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به . وإنما قال : { مثنى وفرادى } ، لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر ، وتخليط الكلام ، والتعصب للمذاهب ، وقلة الإنصاف ، كما هو مشاهد في الدروس التي يجتمع فيها الجماعة ، فلا يوقف فيها على تحقيق . وأما الاثنان ، إذا نظرا نظر إنصاف ، وعرض كل واحد منهما على صاحبه ما ظهر له ، فلا يكاد الحق أن يعدوهما . وأما الواحد ، إذا كان جيد الفكر ، صحيح النظر ، عارياً عن التعصب ، طالباً للحق ، فبعيد أن يعدوه . وانتصب { مثنى وفرادى } على الحال ، وقدم مثنى ، لأن طلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من فكرة واحدة ، إذا انقدح الحق بين الاثنين ، فكر كل واحد منهما بعد ذلك ، فيزيد بصيرة . قال الشاعر : @ إذا اجتمعوا جاءوا بكل غريبة فيزداد بعض القوم من بعضهم علما @@ { ثم تتفكروا } : عطف على { أن تقوموا } ، فالفكرة هنا في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيما نسبوه إليه . فإن الفكرة تهدي غالباً إلى الصواب إذا عرى صاحبها عما يشوش النظر ، والوقف عند أبي حاتم عند قوله : { ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة } ، نفي مستأنف . قال ابن عطية : وهو عند سيبويه جواب ما ينزل منزلة القسم ، لأن تفكر من الأفعال التي تعطي التمييز كتبين ، ويكون التفكر على هذا في آيات الله والإيمان به . انتهى . واحتمل أن يكون تتفكروا معلقاً ، والجملة المنفية في موضع نصب ، وهو محط التفكر ، أي ثم تتفكروا في انتفاء الجنة عن محمد صلى الله عليه وسلم . فإن إثبات ذلك لا يصح أن يتصف به من كان أرجح قريش عقلاً ، وأثبتهم ذهناً ، وأصدقهم قولاً ، وأنزههم نفساً ، ومن ظهر على يديه هذا القرآن المعجز ، فيعلمون بالفكرة أن نسبته للجنون لا يمكن ، ولا يذهب إلى ذلك عاقل ، وأن من نسبه إلى ذلك فهو مفتر كاذب . والظاهر أن ما للنفي ، كما شرحنا . وقيل : ما استفهام ، وهو استفهام لا يراد به حقيقته ، بل يؤول معناه إلى النفي ، التقدير : أي شيء بصاحبكم من الجنون ، أي ليس به شيء من ذلك . ولما نفى تعالى عنه الجنة أثبت أنه { نذير } ، { بين يدي عذاب شديد } : أي هو متقدم في الزمان على العذاب الذي توعدوا به ، وبين يدي يشعر بقرب العذاب . { قل ما سألتكم من أجر } الآية : في التبري من طلب الدنيا ، وطلب الأجر على النور الذي أتى به ، والتوكل على الله فيه . واحتملت ما أن تكون موصولة مبتدأ ، والعائد من الصلة محذوف تقديره : سألتكموه ، و { فهو لكم } الخبر . ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط ، واحتملت أن تكون شرطية مفعولة بسألتكم ، وفهو لكم جملة هي جواب الشرط . وقوله : { ما سألتكم من أجر فهو لكم } على معنيين : أحدهما : نفي مسألة للأجر ، كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئاً فخذه ، وهو يعلم أنه لم يعطه شيئاً ، ولكنه أراد البت لتعليقه الأخذ بما لم يكن ، ويؤيده { إن أجري إلا على الله } . والثاني : أن يريد بالأجر ما في قوله : { قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } [ الفرقان : 57 ] ، وفي قوله : { لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى } [ الشورى : 23 ] ، لأن اتخاذ السبيل إلى الله نصيبهم ما فيه نفعهم ، وكذلك المودة في القرابة ، لأن القرابة قد انتظمت وإياهم ، قاله الزمخشري ، وفيه بعض زيادة . قال ابن عباس : الأجر : المودة في القربى . وقال قتادة : { فهو لكم } ، أي ثمرته وثوابه ، لأني سألتكم صلة الرحم . وقال مقاتل : تركته لكم . { وهو على كل شيء شهيد } : مطلع حافظ ، يعلم أني لا أطلب أجراً على نصحكم ودعائكم إليه إلا منه ، ولا أطمع منكم في شيء . والقذف : الرمي بدفع واعتماد ، ويستعار لمعنى الإلقاء لقوله : { فاقذفيه في اليم } [ طه : 39 ] ، { وقذف في قلوبهم الرعب } [ الحشر : 2 ] . قال قتادة : { يقذف بالحق } : يبين الحجة ويظهرها . وقال ابن القشيري : يبين الحجة بحيث لا اعتراض عليها ، لأنه { علام الغيوب } ، وأنا مستمسك بما يقذف إليّ من الحق . وأصل القذف : الرمي بالسهم ، أو الحصى والكلام . وقال ابن عباس : يقذف الباطل بالحق ، والظاهر أن بالحق هو المفعول ، فالحق هو المقذوف محذوفاً ، أي يقذف ، أي يلقي ما يلقي إلى أنبيائه من الوحي والشرع بالحق لا بالباطل ، فتكون الباء إمّا للمصاحبة ، وإمّا للسبب ، ويؤيد هذا الاحتمال كون قذف متعدّياً بنفسه ، فإذا جعلت بالحق هو المفعول ، كانت الباء زائدة في موضع لا تطرد زيادتها . وقرأ الجمهور : علام بالرفع ، فالظاهر أنه خبر ثان ، وهو ظاهر قول الزجاج ، قال : هو رفع ، لأن تأويل قل رب علام الغيوب . وقال الزمخشري : رفع محمول على محل إن واسمها ، أو على المستكن في يقذف ، أو هو خبر مبتدأ محذوف . انتهى . أمّا الحمل على محل إن واسمها فهو غير مذهب سيبويه ، وليس بصحيح عند أصحابنا على ما قررناه في كتب النحو . وأمّا قوله على المستكن في يقذف ، فلم يبين وجه حمله ، وكأنه يريد أنه بدل من ضمير يقذف . وقال الكسائي : هو نعت لذلك الضمير ، لأنه مذهبه جواز نعت المضمر الغائب . وقرأ عيسى ، وابن أبي إسحاق ، وزيد بن علي ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة ، وحرب عن طلحة : علام بالنصب ؛ فقال الزمخشري : صفة لربي . وقال أبو الفضل الرازي ، وابن عطية : بدل . وقال الحوفي : بدل أو صفة ؛ وقيل : نصب على المدح . وقرىء : الغيوب بالجر ، أمّا الضم فجمع غيب ، وأمّا الكسر فكذلك استثقلوا ضمتين والواو فكسر ، والتناسب الكسر مع الياء والضمة التي على الياء مع الواو ؛ وأمّا الفتح فمفعول للمبالغة ، كالصبور ، وهو الشيء الذي غاب وخفي جداً . ولما ذكر تعالى أنه يقذف بالحق بصيغة المضارع ، أخبر أن الحق قد جاء ، وهو القرآن والوحي ، وبطل ما سواه من الأديان ، فلم يبق لغير الإسلام ثبات ، لا في بدء ولا في عاقبة ، فلا يخاف على الإسلام ما يبطله ، كما قال : { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } [ فصلت : 42 ] . وقال قتادة : الباطل : الشيطان ، لا يخلق شيئاً ولا يبعثه . وقال الضحاك : الأصنام لا تفعل ذلك . وقال أبو سليمان : لا يبتدىء الصنم من عنده كلاماً فيجاب ، ولا يرد ما جاء من الحق بحجة . وقيل : الباطل : الذي يضاد الحق ، فالمعنى : ذهب الباطل بمجيء الحق ، فلم يبقى منه بقية ، وذلك أن الجائي إذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة ، فصار قولهم : لا يبدي ولا يعيد ، مثلاً في الهلاك ، ومنه قول الشاعر : @ أفقر من أهيله عبيد فاليوم لا يبدي ولا يعيد @@ والظاهر أن ما نفي ، وقيل : استفهام ومآله إلى النفي ، كأنه قال : أي شيء يبدىء الباطل ، أي إبليس ، ويعيده ، قاله الزجاج وفرقة معه . وعن الحسن : لا يبدىء ، أي إبليس ، لأهله خيراً ، ولا يعيده : أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة . وقيل : الشيطان : الباطل ، لأنه صاحب الباطل ، لأنه هالك ، كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك . وقيل : الحق : السيف . عن ابن مسعود : " دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ، فجعل يطعنها بعود نبقة ويقول : { جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً } ، { جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد } " وقرأ الجمهور : { قل إن ضللت } ، بفتح اللام ، { فإنما أضل } ، بكسر الضاد . وقرأ الحسن ، وابن وثاب ، وعبد الرحمن المقري : بكسر اللام وفتح الضاد ، وهي لغة تميم ، وكسر عبد الرحمن همزة أضل . وقال الزمخشري : لغتان نحو : ضللت أضل ، وظللت أظل . { وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي } ، وأن تكون مصدرية ، أي فبوحي ربي . والتقابل اللفظي : وإن اهتديت فإنما أهتدي لها ، كما قال : { ومن أساء فعليها } [ فصلت : 46 ] ، مقابل : { من عمل صالحاً فلنفسه } [ فصلت : 46 ] ، { ومن ضل فإنما يضل عليها } [ يونس : 108 ] ، مقابل : { فمن اهتدى فلنفسه } [ يونس : 108 ] ، أو يقال : فإنما أضل بنفسي . وأما في الآية فالتقابل معنوي ، لأن النفس كل ما عليها فهو لها ، أي كل وبال عليها فهو بسببها . { إن النفس لأمّارة بالسوء } [ يوسف : 53 ] وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه ، وهذا حكم عام لكل مكلف . وأمر رسوله أن يسنده إلى نفسه ، لأنه إذا دخل تحته مع جلالة محله وسر طريقته كما غيره أولى به . انتهى ، وهو من كلام الزمخشري . { إنه سميع قريب } ، يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله . والظاهر أن قوله : { ولو ترى إذ فزعوا } أنه وقت البعث وقيام الساعة ، وكثيراً جاء : { ولو ترى إذ وقفوا على النار } [ الأنعام : 27 ] ، { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم } [ السجدة : 12 ] ، وكل ذلك في يوم القيامة ؛ وعبر بفزعوا ، وأخذوا ، وقالوا ؛ وحيل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه بالخبر الصادق . وقال ابن عباس ، والضحاك : هذا في عذاب الدنيا . وقال الحسن : في الكفار عند خروجهم من القبور . وقال مجاهد : يوم القيامة . وقال ابن زيد ، والسدّي : في أهل بدر حين ضربت أعناقهم ، فلم يستطيعوا فراراً من العذاب ، ولا رجوعاً إلى التوبة . وقال ابن جبير ، وابن أبي أبزي : في جيش لغزو الكعبة ، فيخسف بهم في بيداء من الأرض ، ولا ينجو إلا رجل من جهينة ، فيخبر الناس بما ناله ، قالوا ، وله قيل : @ وعند جهينة الخبر اليقين @@ وروى في هذا المعنى حديث مطول عن حذيفة . وذكر الطبري أنه ضعيف السند ، مكذوب فيه على رواية ابن الجراح . وقال الزمخشري ، وعن ابن عباس : نزلت في خسف البيداء ، وذلك أن ثمانين ألفاً يغزون الكعبة ليخربوها ، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم . وذكر في حديث حذيفة أنه تكون فتنة بين أهل المشرق والمغرب ، فبينما هم كذلك ، إذ خرج السفياني من الوادي اليابس في فوره ، ذلك حين ينزل دمشق ، فيبعث جيشاً إلى المدينة فينتهبونها ثلاثة أيام ، ثم يخرجون إلى مكة فيأتيهم جبريل ، عليه السلام ، فيضربها ، أي الأرض ، برجله ضربة ، فيخسف الله بهم في بيداء من الأرض ، ولا ينجو إلا رجل من جهينة ، فيخبر الناس بما ناله ، فذلك قوله : { فلا فوت } ، ولا يتفلت منهم إلا رجلان من جهينة ، ولذلك جرى المثل : « وعند جهينة الخبر اليقين » ، اسم أحدهما بشير ، يبشر أهل مكة ، والآخر نذير ، ينقلب بخبر السفياني . وقيل : لا ينقلب إلا رجل واحد يسمى ناجية من جهينة ، ينقلب وجهه إلى قفاه . ومفعول ترى محذوف ، أي ولو ترى الكفار إذ فزعوا فلا فوت ، أي لا يفوتون الله ، ولا مهرب لهم عما يريد بهم . وقال الحسن : فلا فوت من صيحة النشور ، وأخذوا من بطن الأرض إلى ظهرها . انتهى . أو من الموقف إلى النار إذا بعثوا ، أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا ، أو من صحراء بدر إلى القليب ، أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم ، وهذه أقوال مبنية على تلك الأقوال السابقة في عود الضمير في فزعوا . ووصف المكان بالقرب من حيث قدرة الله عليهم ، فحيث ما كانوا هو قريب . وقرأ الجمهور : { فلا فوت } ، مبني على الفتح ، { وأخذوا } : فعلاً ماضياً ، والظاهر عطفه على { فزعوا } ، وقيل : على { فلا فوت } ، لأن معناه فلا يفوتوا وأخذوا . وقرأ عبد الرحمن مولى بني هاشم عن أبيه ، وطلحة ؛ فلا فوت ، وأخذ مصدرين منونين . وقرأ أبي : فلا فوت مبنياً ، وأخذ مصدراً منوناً ، ومن رفع وأخذ فخبر مبتدأ ، أي وحالهما أخذ أو مبتدأ ، أي وهناك أخذ . وقال الزمخشري : وقرىء : وأخذ ، وهو معطوف على محل فلا فوت ، ومعناه : فلا فوت هناك ، وهناك أخذ . انتهى . كأنه يقول : لا فوت مجموع لا ، والمبني معها في موضع مبتدأ ، وخبره هناك ، فكذلك وأخذ مبتدأ ، وخبره هناك ، فهو من عطف الجمل ، وإن كانت إحداهما تضمنت النفي والأخرى تضمنت الإيجاب . والضمير في به عائد على الله ، قاله مجاهد ، أي يقولون ذلك عندما يرون العذاب . وقال الحسن : على البعث . وقال مقاتل : على القرآن . وقيل : على العذاب . وقال الزمخشري وغيره : على الرسول ، لمرور ذكره في قوله : { ما بصاحبكم من جنة } . { وأنى لهم التناوش } ، قال ابن عباس : التناوش : الرجوع إلى الدنيا ، وأنشد ابن الأنباري : @ تمنى أن تؤوب إليّ ميّ وليس إلى تناوشها سبيل @@ أي : تتمنى ، وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا . مثل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعد ، كما يتناوله الآخر من قرب . وقرأ الجمهور : التناوش بالواو . وقرأ حمزة ، والكسائي . وأبو عمرو ، وأبو بكر : بالهمز ، ويجوز أن يكونا مادتين ، إحداهما النون والواو والشين ، والأخرى النون والهمزة والشين ، وتقدّم شرحهما في المفردات . ويجوز أن يكون أصل الهمزة الواو ، على ما قاله الزجاج ، وتبعه الزمخشري وابن عطية والحوفي وأبو البقاء ، وقال الزجاج : كل واو مضمومة ضمة لازمة ، فأنت فيها بالخيار ، إن شئت تثبت همزتها ، وإن شئت تركت همزتها . تقول : ثلاث أدور بلا همز ، وأدؤر بالهمز . قال : والمعنى : من أنى لهم تناول ما طلبوه من التوبة بعد فوات وقتها ، لأنها إنما تقبل في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا فصارت على بعد من الآخرة ، وذلك قوله تعالى : { من مكان بعيد } . وقال الزمخشري : همزت الواو المضمومة كما همزت في أجوه وأدور . وقال ابن عطية : وأمّا التناؤش بالهمز فيحتمل أن يكون من التناوش ، وهمزت الواو لما كانت مضمومة ضمة لازمة ، كما قالوا : أفتيت . وقال الحوفي : ومن همز احتمل وجهان : أحدهما : أن يكون من الناش ، وهو الحركة في إبطاء ، ويجوز أن يكون من ناش ينوش ، همزت الواو لانضمامها ، كما همزت افتيت وأدور . وقال أبو البقاء : ويقرأ بالهمز من أجل الواو ، وقيل : هي أصل من ناشه . انتهى . وما ذكروه من أن الواو إذا كانت مضمومة ضمة لازمة يجوز أن تبدل همزة ، ليس على إطلاقه ، بل لا يجوز ذلك في المتوسطة إذا كان مدغمة فيها ، ونحو يعود ويقوم مصدرين ؛ ولا إذا صحت في الفعل نحو : ترهوك ترهوكاً ، وتعاون تعاوناً ، ولم يسمع همزتين من ذلك ، فلا يجوز . والتناوش مثل التعاون ، فلا يجوز همزه ، لأن واوه قد صحت في الفعل ، إذ يقول : تناوش . { وقد كفروا به } : الضمير في به عائد على ما عاد عليه { آمنا به } على الأقوال ، والجملة حالية ، و { من قبل } نزول العذاب . وقرأ الجمهور : { ويقذفون } مبنياً للفاعل ، حكاية حال متقدّمة . قال الحسن : قولهم لا جنة ولا نار ، وزاد قتادة : ولا بعث ولا نار . وقال ابن زيد : طاعنين في القرآن بقولهم : { أساطير الأوّلين } [ الأنعام : 25 ] . وقال مجاهد في الرسول صلى الله عليه وسلم ، بقولهم : شاعر وساحر وكاهن . { من مكان بعيد } : أي في جهة بعيدة ، لأن نسبته إلى شيء من ذلك من أبعد الأشياء . قال الزمخشري : وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي ، لأنهم لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً ، وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله ، لأن أبعد شيء مما جاء به الشعر والسحر ، وأبعد شيء من عادته التي عرفت بينهم وجربت الكذب والزور . انتهى . وقيل : هو مستأنف ، أي يتلفظون بكلمة الإيمان حين لا ينفع نفسها إيمانها ، فمثلت حالهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم : آمنا في الآخرة ، وذلك مطلب مستبعد ممن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للنظر في لحوقه ، حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه بعيداً . والغيب : الشيء الغائب . وقرأ مجاهد ، وأبو حيوة ، ومحبوب عن أبي عمرو : ويقذفون ، مبنياً للمفعول . قال مجاهد : ويرجمهم بما يكرهون من السماء . وقال أبو الفضل الرازي : يرمون بالغيب من حيث لا يعلمون ، ومعناه : يجازون بسوء أعمالهم ، ولا علم لهم بما أتاه ، إما في حال تعذر التوبة عند معاينة الموت ، وإما في الآخرة . وقال الزمخشري : أي يأتيهم به ، يعني بالغيب ، شياطينهم ويلقنونهم إياهم . وقيل : يرمون في النار ؛ وقيل : هو مثل ، لأن من ينادي من مكان بعيد لا يسمع ، أي هم لا يعقلون ولا يسمعون . { وحيل بينهم } ، قال الحوفي : الظرف قائم مقام اسم ما لم يسم فاعله . انتهى . ولو كان على ما ذكر ، لكان مرفوعاً بينهم ، كقراءة من قرأ : { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] ، في أحد المعنيين ، لا يقال لما أضيف إلى مبني وهو الضمير بنى ، فهو في موضع رفع ، وإن كان مبنياً . كما قال بعضهم في قوله : وإذ ما مثلهم ، يشير إلى أنه في موضع رفع لإضافته إلى الضمير ، وإن كان مفتوحاً ، لأنه قول فاسد . يجوز أن تقول : مررت بغلامك ، وقام غلامك بالفتح ، وهذا لا يقوله أحد . والبناء لأجل الإضافة إلى المبني ليس مطلقاً ، بل له مواضع أحكمت في النحو ، وما يقول قائل ذلك في قول الشاعر : @ وقد حيل بين العير والنزوان @@ فإنه نصب بين ، وهي مضافة إلى معرب ، وإنما يخرج ما ورد من نحو هذا على أن القائم مقام الفاعل هو ضمير المصدر الدال عليه ، وحيل هو ، أي الحول ، ولكونه أضمر لم يكن مصدراً مؤكداً ، فجاز أن يقام مقام الفاعل ، وعلى ذلك يخرج قول الشاعر : @ وقالت متى يبخل عليك ويعتلل بسوء وإن يكشف غرامك تدرب @@ أي : ويعتلل هو ، أي الاعتلال . والذي يشتهون الرجوع إلى الدنيا ، قاله ابن عباس ؛ أو الأهل والمال والولد ، قاله السدي ؛ أو بين الجيش وتخريب الكعبة ، أو بين المؤمنين ، أو بين النجاة من العذاب ، أو بين نعيم الدنيا ولذتها ، قاله مجاهد أيضاً . { كم فعل بأشياعهم } ، من كفرة الأمم ، أي حيل بينهم وبين مشتهياتهم . و { من قبل } : يصح أن يكون متعلقاً { بأشياعهم } ، أي من اتصف بصفتهم من قبل ، أي في الزمان الأول . ويترجح بأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد ، ويصح أن يكون متعلقاً بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا . وقال الضحاك : أشياعهم أصحاب الفيل ، يعني أشياع قريش ، وكأنه أخرجه مخرج التمثيل . وأما التخصيص ، فلا دليل عليه . { إنهم كانوا في شك مريب } : يعني في الدنيا ، ومريب اسم فاعل من أراب الرجل : أتى بريبة ودخل فيها ، وأربت الرجل : أوقعته في ريبة ، ونسبة الارابة إلى الشك مجاز . قال الزمخشري : إلا أن بينهما فرقاً ، وهو أن المريب من المتعدي منقول ممن يصح أن يكون مريباً من الأعيان إلى المعنى ، ومن اللازم منقول من صاحب الشك إلى الشك ، كما تقول : شعر شاعر . انتهى ، وفيه بعض تبيين . قيل : ويجوز أن يكون أردفه على الشك ، وهما بمعنى لتناسق آخر الآية بالتي قبلها من مكان قريب ، كما تقول : عجب عجيب ، وشتاء شات ، وليلة ليلاء . وقال ابن عطية : الشك المريب أقوى ما يكون من الشك وأشده إظلاماً .