Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 34-43)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وما أرسلنا } الآية : هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مما مني به من قومه قريش ، من الكفر والافتخار بالأموال والأولاد . وإن ما ذكروا من ذلك هو عادة المترفين مع أنبيائهم ، فلا يهمنك أمرهم . و { من نذير } : عام ، أي تنذرهم بعذاب الله إن لم يوحدوه . و { قال مترفوها } : جملة حالية ، ونص على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل ، لما شغلوا به من زخرفة الدنيا وما غلب على عقولهم منها ، فقلوبهم أبداً مشغولة منهمكة بخلاف الفقراء . فإنهم خالون من مستلذات الدنيا ، فقلوبهم أقبل للخير ، ولذلك هم أتباع الأنبياء ، كما جاء في حديث هرقل . وبما متعلق بكافرون ، وبه متعلق بأرسلتم ، وما عامة في ما جاءت به النذر من طلب الإيمان بالله وإفراده بالعبادة والأخبار بأنهم رسله إليهم ، والبعث والجزاء على الأعمال . والظاهر أن الضمير في { وقالوا } عائد على المترفين ؛ وقيل : عائد على قريش ، ويدل عليه ما بعده من الخطاب في قوله : { قل } ، لأن من تقدم من المترفين الهالكين لا يخاطبون ، فلا يقول إلا الموجودون ، وقوله : { وما أموالكم ولا أولادكم } ؛ واحتجوا على رضا الله عنهم بإحسانه تعالى إليهم ، فلو لم يتكرم عليهم ما بوسع علينا ، وأما أنتم فلهوانكم عليه حرمكم أيها التابعون للرسل . ثم نقول : إن يعذبوا نفياً عاماً ، لأن الأنبياء قد ينذرون بعذاب عاجل في الدنيا ، أو آجل في الآخرة ، فنفوا هم جميع ذلك . فإما أن يكونوا منكرين للآخرة ، فقد نفوا تعذيبهم فيها ، لأنها إذ لم تكن ، فلا يكون فيها عذاب . وإما أن يكونوا مقرين بها حقيقة ، أو على سبيل الفرض ، فيقولون : كما أنعم علينا في الدنيا ، ينعم علينا في الآخرة على حالة الدنيا قياساً فاسداً ، فأبطل الله ذلك بأن الرزق فضل منه يقسم علينا في الآخرة على حالة الدنيا ، كما شاء . { لمن يشاء } ، فقد يوسع على العاصي ويضيق على الطائع ، وقد يوسع عليهما ، والوجود شاهد بذلك ، فلا تقاس التوسعة في الدنيا ، لأن ذلك في الآخرة إنما هو على الأعمال الصالحة . وقرأ الأعمش : ويقدر في الموضعين مشدداً ؛ والجمهور : مخففاً ، ومعناه : ويضيق مقابل يبسط . { ولكن أكثر الناس } : مثل هؤلاء الكفرة ، { لا يعلمون } أن الرزق مصروف بالمشيئة ، وليس دليلاً على الرضا ثم أخبر تعالى أن أموالهم وأولادهم التي افتخروا بها ليست بمقربة من الله ، وإنما يقرب الإيمان والعمل الصالح . وقرأ الجمهور : { بالتي } ، وجمع التكسير من العقلاء وغيرهم يجوز أن يعامل معاملة الواحدة المؤنثة . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون التي هي التقوى ، وهي المقربة عند الله زلفى وحدها ، أي ليست أموالكم تلك الموضوعة للتقريب . انتهى . فجعل التي نعتاً لموصوف محذوف وهي التقوى . انتهى ، ولا حاجة إلى تقدير هذا الموصوف . والظاهر أن التي راجع إلى الأموال والأولاد ، وقاله الفراء . وقال أيضاً ، هو والزجاج : حذف من الأول لدلالة الثاني عليه ، والتقدير : { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } . انتهى . ولا حاجة لتقدير هذا المحذوف ، إذ يصح أن يكون التي لمجموع الأموال والأولاد . وقرأ الحسن : باللاتي جمعاً ، وهو أيضاً راجع للأموال والأولاد . وقرىء بالذي ، وزلفى مصدر ، كالقربى ، وانتصابه على المصدرية من المعنى ، أي يقربكم . وقرأ الضحاك : زلفاً بفتح اللام وتنوين الفاء ، جمع زلفة ، وهي القربة . { إلا من آمن } : الظاهر أنه استثناء منقطع ، وهو منصوب على الاستثناء ، أي لكن من آمن ؛ { وعمل صالحاً } ، فإيمانه وعمله يقربانه . وقال الزجاج : هو بدل من الكاف والميم في تقربكم ، وقال النحاس : وهذا غلط لأن الكاف والميم للمخاطب ، فلا يجوز البدل ، ولو جاز هذا لجاز : رأيتك زيداً ؛ وقول أبي إسحاق هذا قول الفراء . انتهى . ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل من ضمير المخاطب والمتكلم ، لكن البدل في الآية لا يصح . ألا ترى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا ؟ لو قلت : مازيد بالذي يضرب إلا خالداً ، لم يصح . وتخيل الزجاج أن الصلة ، وإن كانت من حيث المعنى منفية ، أنه يصح البدل ، وليس بجائز إلا فيما يصح التفريغ له . وقد اتبعه الزمخشري فقال : إلا من آمن استثناء من كم في تقربكم ، والمعنى : أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله ؛ والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة . انتهى ، وهو لا يجوز . كما ذكرنا ، لا يجوز : ما زيد بالذي يخرج إلا أخوه ، ولا مازيد بالذي يضرب إلا عمراً ، ولا ما زيد بالذي يمر إلا ببكر . والتركيب الذي ركبه الزمخشري من قوله : لا يقرب أحداً إلا المؤمن ، غير موافق للقرآن ؛ ففي الذي ركبه يجوز ما قال ، وفي لفظ القرآن لا يجوز . وأجاز الفراء أن تكون من في موضع رفع ، وتقدير الكلام عنده ما هو المقرب { إلا من آمن } . انتهى . وقوله كلام لا يتحصل منه معنى ، كأنه كان نائماً حين قال ذلك . وقرأ الجمهور : { جزاء الضعف } على الإضافة ، أضيف فيه المصدر إلى المفعول ، وقدره الزمخشري مبنياً للمفعول الذي لم يسم فاعله ، فقال : أن يجازو الضعف ، والمصدر في كونه يبنى للمفعول الذي لم يسم فاعله فيه خلاف ، والصحيح المنع ، ويقدر هنا أن يجاوز الله بهم الضعف ، أي يضاعف لهم حسناتهم ، الحسنة بعشر أمثالها ، وبأكثر إلى سبعمائة لمن يشاء . وقرأ قتادة : جزاء الضعف برفعهما ؛ فالضعف بدل ، ويعقوب في رواية بنصب جزاء ورفع الضعف ، وحكى هذه القراءة الداني عن قتادة ، وانتصب جزاء على الحال ، كقولك : في الدار قائماً زيد . وقرأ الجمهور : { في الغرفات } جمعاً مضموم الراء ؛ والحسن ، وعاصم : بخلاف عنه ؛ والأعمش ، ومحمد بن كعب : بإسكانها ؛ وبعض القراء : بفتحها ؛ وابن وثاب ، والأعمش ، وطلحة ، وحمزة : وأطلق في اختياره في الغرفة على التوحيد ساكنة الراء ؛ وابن وثاب أيضاً : بفتحها على التوحيد . ولما ذكر جزاء من آمن ، ذكر عقاب من كفر ، ليظهر تباين الجزأين ، وتقدم تفسير نظير هذه الكلمة . ولما كان افتخارهم بكثرة الأموال والأولاد ، أخبروا أن ذلك على ما شاء الله كبر ، وذلك المعنى تأكيد أن ذلك جار على ما شاء الله ، إلا أن ذلك على حسب الاستحقاق ، لا التكرمة ، ولا الهوان . ومعنى { فهو يخلفه } : أي يأتي بالخلف والعوض منه ، وكان لفظ من عباده مشعرة بالمؤمنين ، وكذلك الخطاب في { وما أنفقتم } : يقصد هنا رزق المؤمنين ، فليس مساق . { قل إن ربي يبسط } : مساق ما قيل للكفار ، بل مساق الوعظ والتزهيد في الدنيا ، والحض على النفقة في طاعة الله ، وإخلاف ما أنفق ، إما منجزاً في الدنيا ، وإما مؤجلاً في الآخرة ، وهو مشروط بقصد وجه الله . وقال مجاهد : من كان عنده من هذا المال ما يقيمه فليقتصد ، وأن الرزق مقسوم ، ولعل ما قسم له قليل ، وهو ينفق نفقة الموسع عليه ، فينفق جميع ما في يده ، ثم يبقى طول عمره في فقر ولا يتأتى . { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه } : في الآخرة ، ومعنى الآية : ما كان من خلف فهو منه . وجاء { الرازقين } جمعاً ، وإن كان الرازق حقيقة هو الله وحده ، لأنه يقال : الرجل يرزق عياله ، والأمير جنده ، والسيد عبده ، والرازقون جمع بهذا الاعتبار ، لكن أولئك يرزقون مما رزقهم الله ، وملكهم فيه التصرف ، ولله تعالى يرزق من خزائن لا تفنى ، ومن إخراج من عدم إلى وجود . { ويوم يحشرهم جميعاً } : أي المكذبين ، من تقدم ومن تأخر . وقرأ الجمهور : نحشرهم ، نقول بالنون فيهما ، وحفص بالياء ، وتقدمت في الأنعام وخطاب الملائكة تقريع للكفار ، وقد علم تعالى أن الملائكة منزهون برآء مما وجه عليهم من السؤال ، وإنما ذلك على طريق توقيف الكفار ، وقد علم سوء ما ارتبكوه من عبادة غير الله ، وأن من عبدوه متبرىء منهم . و { هؤلاء } مبتدأ و ، خبره { كانوا يعبدون } ، و { إياكم } مفعول { يعبدون } . ولما تقدم انفصل ، وإنما قدم لأنه أبلغ في الخطاب ، ولكون { يعبدون } فاصلة . فلو أتى بالضمير منفصلاً ، كان التركيب يعبدونكم ، ولم تكن فاصلة . واستدل بتقديم هذا المعمول على جواز تقديم خبر كان عليها إذا كان جملة ، وهي مسألة خلاف ، أجاز ذلك ابن السراج ، ومنع ذلك قوم من النحويين ، وكذلك منعوا توسطه إذا كان جملة . وقال ابن السراج : القياس جواز ذلك ، ولم يسمع . ووجه الدلالة من الآية أن تقديم المعمول مؤذن بتقديم العامل ، فكما جاز تقديم { إياكم } ، جاز تقديم { يعبدون } ، وهذه القاعدة ليست مطردة ، والأولى منع ذلك إلى أن يدل على جوازه سماع من العرب . ولما أجابوا الله بدأوا بتنزيهه وبراءته من كل سوء ، كما قال عيس عليه السلام : { سبحانك } ، ثم انتسبوا إلى موالاته دون أولئك الكفرة ، أي { أنت ولينا } ، إذ لا موالاة بيننا وبينهم . وفي قولهم : { بل كانوا يعبدون الجن } ، إشعار لهم بما عبدوه ، وإن لم يصرح به . لكن الإضراب ببل يدل عليه وذلك لأن المعبود إذ لم يكن راضياً بعبادة عابده مريداً لها ، لم يكن ذلك العابد عابداً له حقيقة ، فلذلك قالوا : { بل كانوا يعبدون الجن } ، لأن أفعالهم القبيحة من وسوسة الشياطين وإغوائهم ومراداتهم عابدون لهم حقيقة ، فلذلك قالوا : { بل كانوا يعبدون الجن } ، إذ الشياطين راضون تلك الأفعال . وقيل : صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن ، وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها . وقيل : كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت ، فيعبدون بعبادتها . وقال ابن عطية : لم تنف الملائكة عبادة البشر اياها ، وإنما أقرت أنها لم يكن لها في ذلك مشاركة . وعبادة البشر الجن هي فيما يقرون بطاعتهم إياهم ، وسماعهم من وسوستهم وإغوائهم ، فهذا نوع من العبادة . وقد يجوز أن يكون في الأمم الكافرة من عبد الجن ، وفي القرآن آيات يظهر منها أن الجن عبدت ، في سورة الأنعام وغيرها . انتهى . وإذا هم قد عبدوا الجن ، فما وجه قولهم : أكثرهم مؤمنون ، ولم يقولوا جميعهم ، وقد أخبروا أنهم كانوا يعبدون الجن ؟ والجواب أنهم لم يدعوا الإحاطة ، إذ قد يكون في الكفار من لم يطلع الملائكة عليهم ، أو أنهم حلموا على الأكثر بإيمانهم بالجن لأن الإيمان من عمل القلب ، فلم يذكروا الاطلاع على جميع أعمال قلوبهم ، لأن ذلك لله تعالى . ومعنى { مؤمنون } : مصدقون أنهم معبودوهم ، وقيل : مصدقون أنهم بنات الله ، وأنهم ملائكة ، { وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً } [ الصافات : 158 ] . وأما من قال بأن الأكثر بمعنى الجميع ، فلا يرد عليه شيء ، لكنه ليس موضوع اللغة . { فاليوم } : هو يوم القيامة ، والخطاب في { بعضكم } ، قيل : للملائكة ، لأنهم المخاطبون في قوله : { أهؤلاء إياكم } ، ويكون ذلك تبكيتاً للكفار حين بين لهم أن من عبدوه لا ينفع ولا يضر ، ويؤيده : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] ، ولأن بعده : { ونقول للذين ظلموا } ، ولو كان الخطاب للكفار ، لكان التركيب فذوقوا . وقيل : الخطاب للكفار ، لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم ، ويكون قوله : ونقول ، تأكيداً لبيان حالهم في الظلم . وقيل : هو خطاب من الله لمن عبد ومن عبد . وقوله : { نفعاً } ، قيل : بالشفاعة ، { ولا ضراً } بالتعذيب . وقيل هنا : { التي كنتم بها تكذبون } ، وفي السجدة : { الذي كنتم به تكذبون } [ السجدة : 20 ] كل منهما ، أي من العذاب ومن النار ، لأنهم هنا لم يكونوا ملتبسين بالعذاب ، بل ذلك أول مارأوا النار ، إذ جاء عقيب الحشر ، فوصفت لهم النار بأنها هي التي كنتم تكذبون بها . وأما الذي في السجدة ، فهم ملابسو العذاب ، متردّدون فيه لقوله : { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } [ السجدة : 20 ] ، فوصف لهم العذاب الذي هم مباشروه ، وهو العذاب المؤبد الذي أنكروه . والإشارة بقوله : ما { ما هذا إلا رجل } ، إلى تالي الآيات ، المفهوم من قوله : { وإذا تتلى عليه } ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم . وحكي تعالى مطاعنهم عند تلاوة القرآن عليهم ، فبدأوا أولاً : بالطعن في التالي ، فإنه يقدح في معبودات آلهتكم . ثانياً فيما جاء به الرسول من القرآن ، بأنه كذب مختلق من عنده ، وليس من عند الله . وثالثاً : بأن ما جاء به سحر واضح لما اشتمل على ما يوجب الاستمالة وتأثير النفوس له وإجابته . وطعنوا في الرسول ، وفيما جاء به ، وفي وصفه ، واحتمل أن يكون ذلك صدر من مجموعهم ، واحتمل أن تكون كل جملة منها قالها قوم غير من قال الجملة الأخرى . وفي قوله : { لما جاءهم } دليل على أنه حين جاءهم لم يفكروا فيه ، بل بادروه بالإنكار ونسبته إلى السحر ، ولم يكتفوا بقولهم ، إنه سحر حتى وصفوه بأنه واضح لمن يتأمله . وقيل : إنكار القرآن والمعجزة كان متفقاً عليه من المشركين وأهل الكتاب ، فقال تعالى : { وقال الذين كفروا للحق } ، على وجه العموم .