Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 37, Ayat: 40-61)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ إلا عباد الله } : استثناء منقطع . لما ذكر شيئاً من أحوال الكفار وعذابهم ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم . و { المخلصين } : صفة مدح ، لأن كونهم عباد الله ، يلزم منه أن يكونوا مخلصين . ووصف { رزق } بمعلوم ، أي عندهم . فقد قرت عيونهم بما يستدر عليهم من الرزق ، وبأن شهواتهم تأتيهم بحسبها . وقال الزمخشري : معلوم بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر . وقيل : معلوم الوقت كقوله : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [ مريم : 62 ] . وعن قتادة : الرزق المعلوم : الجنة . وقوله : { في جنات النعيم } يأباه . انتهى . { فواكه } بدل من { رزق } ، وهي ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة ، يعني أن رزقهم كله فواكه لاستغنائهم عن حفظ الصحة بالأقوات لأنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد ، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ . وقرأ ابن مقسم : مكرمون ، بفتح الكاف مشدد الراء . ذكر أولاً الرزق ، وهو ما يتلذذ به الأجسام . وثانياً الإكرام ، وهو ما يتلذذ به النفوس ، ورزق بإهانة تنكيد . ثم ذكر المحل الذي هم فيه ، وهو جنات النعيم . ثم أشرف المحل ، وهو السرر . ثم لذة التآنس بأن بعضهم يقابل بعضاً ، وهو أتم السرور وآنسة . ثم المشروب ، وأنهم لا يتناولون ذلك بأنفسهم ، بل يطاف عليهم بالكؤوس . ثم وصف ما يطاف عليهم به من الطيب وانتفاء المفاسد . ثم ذكر تمام اللذة الجسمانية ، وختم بها كما بدأ باللذة الجسمانية من الرزق ، وهي أبلغ الملاذ ، وهي التآنس بالنساء . وقرأ الجمهور : { على سرر } ، بضم الراء ؛ وأبو السمال : بفتحها ، وهي لغة بعض تميم ؛ وكلب يفتحون ما كان جمعاً على فعل من المضعف إذا كان اسماً . واختلف النحويون في الصفة ، فمنهم من قاسها على الاسم ففتح ، فيقول ذلك بفتح اللام على تلك اللغة الثانية في الاسم . ومنهم من خص ذلك بالاسم ، وهو مورد السماع في تلك اللغة . وقيل : التقابل لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض . وفي الحديث : " أنه في أحيان ترفع عنهم ستور فينظر بعضهم إلى بعض ولا محالة أن أكثر أحيانهم فيها قصورهم " . و { يطاف } : مبني للمفعول وحذف الفاعل ، وهو المثبت في آية أخرى في قوله : { ويطوف عليهم ولدان مخلدون } [ الإنسان : 19 ] ، { ويطوف عليهم غلمان لهم } [ الطور : 24 ] ، ولعلهم من مات من أولاد المشركين قبل التكليف . ففي صحيح البخاري أنهم خدم أهل الجنة . والكأس : ما كان من الزجاجة فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ، ولا يسمى كأساً إلا وفيه ذلك . وقد سمى الخمر نفسها كأساً ، تسمية للشيء باسم محله ، قال الشاعر : @ وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها @@ وقال ابن عباس ، والضحاك ، والأخفش : كل كأس في القرآن فهو خمر . وقيل : الكأس هيئة مخصوصة في الأواني ، وهو كل ما اتسع فمه ولم يكن له مقبض ، ولا يراعى كونه لخمر أولاً . { من معين } : أي من شراب معين ، أو من ثمد معين ، وهو الجاري على وجه الأرض كما يجري الماء . و { بيضاء } : صفة للكأس أو للخمر . وقال الحسن : خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن . وفي قراءة عبد الله : صفراء ، كما قال بعض المولدين : @ صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها لو مسها حجر مسته سراء @@ و { لذة } : صفة بالمصدر على سبيل المبالغة ، أو على حذف ، أي ذات لذة ، أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ . { لا فيها غول } ، قال ابن عباس ، وقتادة : هو صداع في الرأس . وقال ابن عباس أيضاً ، ومجاهد ، وابن زيد : وجع في البطن . انتهى . والاسم يشمل أنواع الفساد الناشئة عن شرب الخمر ، فينتفي جميعها من مغص ، وصداع ، وخمار ، وعربدة ، ولغو ، وتأثيم ، ونحو ذلك . ولما كان السكر أعظم مفاسدها ، أفرده بالذكر فقال ؛ { ولا هم عنها ينزفون } . وقرأ الحرميان ، والعربيان : بضم الياء وفتح الزاي هنا ، وفي الواقعة : وبذهاب العقل ، فسره ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وحمزة ، والكسائي : بكسرها فيهما ؛ وعاصم : بفتحها هنا وكسرها في الواقعة ؛ وابن أبي إسحاق : بفتح الياء وكسر الزاي . وطلحة : بفتح الياء وضم الزاي . قال ابن عباس ، ومجاهد ، وابن زيد : { قاصرات الطرف } : قصرن الطرف على أزواجهن ، لا يمتد طرفهن إلى أجنبي بقوله تعالى : { عُرُباً } [ الواقعة : 37 ] ، وقال الشاعر : @ من القاصرات الطرف لو دب محول من الذر فوق الخد منها لأثرا @@ والعين : جمع عيناء ، وهي الواسعة العين في جمال . { كأنهن بيض مكنون } : شبههن ، قال الجمهور : ببيض النعام المكنون في عشه ، وهو الأدحية ولونها بياض به صفرة حسنة ، وبها تشبه النساء فقال : @ مضيئات الخدود @@ ومنه قول امرىء القيس : @ وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل كبكر مغاناة البياض بصفرةغذاها نمير الماء غير المحلل @@ وقال السدي ، وابن جبير : شبه ألوانهن بلون قشر البيضة الداخل ، وهو غرقىء البيضة ، وهو المكنون في كن ، ورجحه الطبري وقال : وأما خارج قشر البيضة فليس بمكنون . وعن ابن عباس ، البيض المكنون : الجوهر المصون ، واللفظ ينبو عن هذا القول . وقالت فرقة : هو تشبيه عام جملة المرأة بجملة البيضة ، أراد بذلك تناسب أجزاء المرأة ، وأن كل جزء منها نسبته في الجودة إلى نوعه نسبة الآخر من أجزائها إلى نوعه ؛ فنسبة شعرها إلى عينها مستوية ، إذ هما غاية في نوعها ، والبيضة أشد الأشياء تناسب أجزاء ، لأنها من حيث حسنها في النظر واحد ، كما قال بعض الأدباء يتغزل : @ تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى بهن اختلافاً بل أتين على قدر @@ وتساؤلهم في الجنة سؤال راحة وتنعم ، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا والإيمان وثمرته . و { فأقبل } : معطوف على { يطاف عليهم } ، والمعنى : يشربون فيتحدثون على الشراب ، كعادة الشراب في الدنيا . قال الشاعر : @ وما بقيت من اللذات إلا أحاديث الكرام على المدام @@ وجيء به ماضياً لصدق الإخبار به ، فكأنه قد وقع . ثم حكى تعالى عن بعضهم ما حكى ، يتذكر بذلك نعمه تعالى عليه ، حيث هداه إلى الإيمان واعتقاد وقوع البعث والثواب والعقاب ، وهو مثال للتحفظ من قرناء السوء والبعد منهم . قال ابن عباس وغيره : كان هذا القائل وقرينه من البشر . وقالت فرقة : هما اللذان في قوله : { ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً } [ الفرقان : 28 ] . وقال مجاهد : كان إنسياً وجنياً من الشياطين الكفرة . وقرأ الجمهور : { من المصدقين } ، بتخفيف الصاد ، من التصديق ؛ وفرقة : بشدها ، من التصدق . قال قرة بن ثعلبة النهراني : كانا شريكين بثمانية آلاف درهم ، يعبد الله أحدهما ، ويقصر في التجارة والنظر ؛ والآخر كان مقبلاً على ماله ، فانفصل من شريكه لتقصيره ، فكلما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً ونحوه ، عرضه على المؤمن وفخر عليه ، فيتصدق المؤمن بنحو من ذلك ليشتري به في الجنة ، فكان من أمرهما في الآخرة ما قصه الله . وقال الزمخشري : نزلت في رجل تصدق بماله لوجه الله ، فاحتاج ، فاستجدى بعض إخوانه ، فقال : وأين مالك ؟ فقال : تصدقت به ليعوضني الله في الآخرة خيراً منه ، فقال : { أئنك لمن المصدقين } بيوم الدين ، أو من المتصدقين لطلب الثواب ؟ والله لا أعطيك شيئاً . { أئنا لمدينون } ، قال ابن عباس ، وقتادة والسدي : لمجازون محاسبون ؛ وقيل : لمسوسون مديونون . يقال : دانه : ساسه ، ومنه الحديث : " العاقل من دان نفسه " والظاهر أن الضمير في { قال هل أنتم } عائد على قائل في قوله : { قال قائل } . قيل : وفي الكلام حذف تقديره : فقال لهذا القائل حاضروه من الملائكة : إن قرينك هذا في جهنم يعذب ، فقال عند ذلك : { هل أنتم مطلعون } . والخطاب في { هل أنتم مطلعون } يجوز أن يكون للملائكة ، وأن يكون لرفقائه في الجنة الذين كان هو وإياهم يتساؤلون ، أو لخدمته ، وهذا هو الظاهر . لما كان قرينه ينكر البعث ، علم أنه في النار فقال : { هل أنتم مطلعون } إلى النار لأريكم ذلك القرين ؟ وعلى هذا القول لا يحتاج الكلام إلى حذف ، ولا لقول الملائكة : إن قرينك في جهنم يعذب . قيل : إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار . وقيل : القائل { هل أنتم مطلعون } الله تعالى . وقيل : بعض الملائكة يقول لأهل الجنة : بل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم من منزلة أهل النار . وقرأ الجمهور : { مطلعون } ، بتشديد الطاء المفتوحة وفتح النون ، واطلع بشد الطاء فعلاً ماضياً . وقرأ أبو عمرو في رواية حسين الجعفي : مطلعون ، بإسكان الطاء وفتح النون ، فأطلع بضم الهمزة وسكون الطاء وكسر اللام فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول ، وهي قراءة ابن عباس وابن محيصن وعمار بن أبي عمار وأبي سراج . وقرىء : فأطلع ، مشدداً مضارعاً منصوباً على جواب الاستفهام . وقرىء : مطلعون ، بالتخفيف ، فاطلع مخففاً فعلاً ماضياً ، وفاطلع مخففاً مضارعاً منصوباً . وقرأ أبو البرهيثم ، وعمار بن أبي عمار فيما ذكره خلف عن عمار : مطلعون ، بتخفيف الطاء وكسر النون ، فاطلع ماضياً مبنياً للمفعول ؛ ورد هذه القراءة أبو حاتم وغيره . لجمعها بين نون الجمع وياء المتكلم . والوجه مطلعي ، كما قال ، أو مخرجي هم ، ووجهها أبو الفتح على تنزيل اسم الفاعل منزلة المضارع ، وأنشد الطبري على هذا قول الشاعر : @ وما أدري وظني كل ظن @ أمسلمني إلى قومي شراحي @@ @@ قال الفراء : يريد شراحيل . وقال الزمخشري : يريد مطلعون إياي ، فوضع المتصل موضع المنفصل كقوله : @ هم الفاعلون الخير والآمرونه @@ أو شبه اسم الفاعل في ذلك بالمضارع لتآخ بينهما ، كأنه قال : تطلعون ، وهو ضعيف لا يقع إلا في الشعر . انتهى . والتخريج الثاني تخريخ أبي الفتح ، وتخريجه الأول لا يجوز ، لأنه ليس من مواضع الضمير المنفصل ، فيكون المتصل وضع موضعه ، لا يجوز هند زيد ضارب إياها ، ولا زيد ضارب إياي ، وكلام الزمخشري يدل على جوازه ، فالأولى تخريج أبي الفتح ، وقد جاء منه : أمسلمني إلى قومي شراحي وقول الآخر : @ فهل فتى من سراة القوم يحملني وليس حاملني إلا ابن خَمال @@ وقال الآخر : @ وليس بمعييني @@ فهذه أبيات ثبت التنوين فيها مع ياء المتكلم ، فكذلك ثبتت نون الجمع معها إجراء للنون مجرى التنوين ، لاجتماعهما في السقوط للإضافة . ويقال : طلع علينا فلان واطلع بمعنى واحد . ومن قرأ : فاطلع مبنياً للمفعول ، فضميره القائل الذي هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو متعد بالهمزة ، إذ يقول : طلع زيد وأطلعه غيره . وقال صاحب اللوامح : طلع واطلع ، إذا بدا وظهر ؛ واطلع اطلاعاً ، إذا أقبل وجاء مبنياً ، ومعنى ذلك : هل أنتم مقبلون ؟ فأقبل . وإن أقيم المصدر فيه مقام الفاعل بتقديره فاطلع الاطلاع ، أو حرف الجر المحذوف ، أي فاطلع به ، لأنه اطلع لازم ، كما أن أقبل كذلك . انتهى . وقد ذكرنا أن أطلع عدى بالهمزة من طلع اللازم ، وأما قوله : أو حرف الجر المحذوف ، أي فاطلع ، به فهذا لا يجوز ، لأن مفعول ما لم يسم فاعله لا يجوز حذفه ، لأنه نائب عن الفاعل . فكما أن الفاعل لا يجوز حذفه دون عامله ، فكذلك هذا . لو قلت : زيد ممدود أو مغضوب ، تريد به أو عليه ، لم يجز . و { سواء الجحيم } : وسطها ، تقول : تعبت حتى انقطع سوائي . قال ابن عباس : سمي سواء لاستواء المسافة منه إلى الجوانب ، يعني سواء الجحيم . وقال خليل العصري : رآه : تبدلت حاله ، فلولا ما عرفه الله به لم يعرفه ، قال له عند ذلك : { تالله إن كدت لتردين } : أي لتهلكني بإغوائك . وإن مخففة من الثقيلة ، يلقي بها القسم ؛ وتالله قسم فيه التعجب من سلامته منه إذا كان قرينه قارب أن يرديه . { ولولا نعمة ربي } : وهي توفيقه للإيمان والبعد من قرين السوء ، { لكنت من المحضرين } للعذاب ، كما أحضرته أنت . { أفما نحن بميتين } ، قرأ زيد بن عليّ : بمائتين ، والظاهر أنه من كلام القائل : يسمع قرينه على جهة التوبيخ له ، أي لسنا أهل الجنة بميتين ، لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا ، بخلاف أهل النار ، فإنهم في كل ساعة يتمنون فيها الموت . { وما نحن بمعذبين } ، كحال أهل النار ، بل نحن منعمون دائماً . ويكون في خطابه ذلك منكلاً له ، مقرعاً محزناً له بما أنعم الله به عليه من دخول الجنة ، معلماً له بتباين حاله في الآخرة بحاله . كما كانتا تتباينان في الدنيا من أنه ليس بعد الموت جزاء ظهر له خلافه ، يعذب بكفره بالله وإنكار البعث . ويجوز أن يكون خطاباً من القائل لرفقائه ، لما رأى ما نزل بقرينه ، وقفهم على نعمه تعالى في ديمومة خلودهم في الجنة ونعيمهم فيها . ويتصل قوله : { إن هذا } إلى قوله : { العاملون } بهذا التأويل أيضاً ، لا واضحاً خطاباً لرفقائه . ويجوز أن يكون تم كلامه عند قوله : { لتردين } ، ويكون { أفما نحن } إلى { بمعذبين } من كلامه وكلام رفقائه ، وكذلك { إن هذا } إلى { العاملون } : أي إن هذا الأمر الذي نحن فيه من النعيم والنجاة من النار . وقيل : هو من قول الله تعالى ، تقريراً لقولهم وتصديقاً له وخطاباً لرسول الله وأمّته ، ويقوي هذا قوله : { لمثل هذا فليعمل العاملون } ، والآخرة ليست بدار عمل ، ولا يناسب ذلك قول المؤمن في الآخرة إلا على تجوز ، كأنه يقول : لمثل هذا ينبغي أن يعمل العاملون . وقال الزمخشري : الذي عطف عليه الفاء محذوف معناه : أنحن مخلدون ؟ أي منعمون ، فما نحن بميتين ولا معذبين . انتهى . وتقدم من مذهبه أنه إذا تقدمت همزة الاستفهام ، وجاء بعدها حرف العطف بضمير ما ، يصح به إقرار الهمزة والحرف في محليهما اللذين وقعا فيهما ، ومذهب الجماعة أن حرف العطف هو المقدم في التقدير ، والهمزة بعده ، ولكنه لما كانت الهمزة لها صدر الكلام قدمت ، فالتقدير عند الجماعة . فأما وقد رجع الزمخشري إلى مذهب الجماعة ، وتقدم الكلام معه في ذلك .