Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 32-40)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ فمن أظلم ممن كذب على الله } : هذا تفسير وبيان للذين يكون بينهم الخصومة ، وهذا يدل على أن الاختصام السابق يكون بين المؤمنين والكافرين ، والمعنى : لا أجد في المكذبين أظلم ممن افترى على الله ، فنسب إليه الولد والصاحبة والشريك ، وحرّم وحلل من غير أمر الله ؛ { وكذب بالصدق } : وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ { إذ جاءه } : أي وقت مجيئه ، فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ارتياء ولا نظر ، بل وقت مجيئه كذب به . ثم توعدهم توعداً فيه احتقارهم على جهة التوقيف ، وللكافرين مما قام فيه الظاهر مقام المضمر ، أي مثوى لهم ، وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذبيهم ، وهو الكفر . { والذي جاء بالصدق } معادل لقوله : { فمن أظلم } . { وصدّق به } مقابل لقوله : { وكذب بالصدق } . والذي جنس ، كأنه قال : والفريق الذي جاء بالصدق ، ويدل عليه : { أولئك هم المتقون } ، فجمع . كما أن المراد بقوله : { فمن أظلم } ، يراد به جمع ، ولذلك قال { مثوى للكافرين } . وفي قراءة عبد الله : والذي جاؤا بالصدق وصدقوا به . وقيل : أراد والذين ، فحذفت منه النون ، وهذا ليس بصحيح ، إذ لو أريد الذين بلفظ الذي وحذفت منه النون ، لكان الضمير مجموعاً كقوله : @ وإن الذي حانت بفلح دماؤهم @@ ألا ترى أنه إذا حذفت النون في المثنى كان الضمير مثنى ؟ كقوله : @ أبني كليب أن عميّ اللذا قتلا الملوك وفككا الأغلالا @@ وقيل : الذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : الذي جاء بالصدق جبريل ، والذي صدق به هو محمد صلى الله عليه وسلم . وقال عليّ ، وأبو العالية ، والكلبي ، وجماعة : الذي جاء بالصدق هو الرسول ، والذي صدق به هو أبو بكر . وقال أبو الأسود ، ومجاهد ، وجماعة : الذي صدق به هو عليّ بن أبي طالب . وقال الزمخشري : والذي جاء بالصدق وصدق به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم . جاء بالصدق وآمن به ، وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله : { ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون } [ المؤمنون : 49 ] ، ولذلك قال : { أولئك هم المتقون } ، إلا أن هذا في الصفة ، وذلك في الاسم . ويجوز أن يريد : والفوج والفريق الذي جاء بالصدق وصدق به ، وهو الرسول الذي جاء بالصدق ، وصحابته الذين صدقوا به . انتهى . وقوله : وأراد به إياه ومن تبعه ، كما أراد بموسى إياه وقومه . استعمل الضمير المنفصل في غير موضعه ، وإنما هو متصل ، فإصلاحه وأراده به ومن تبعه ، كما أراده بموسى وقومه : أي لعل قومه يهتدون ، إذ موسى عليه السلام مهتدٍ . فالمترجى هداية قومه ، لا هدايته ، إذ لا يترجى إلا ما كان مفقوداً لا موجوداً . وقوله : ويجوز إلخ ، فيه توزيع الصلة ، والفوج هو الموصول ، فهو كقوله : جاء الفريق الذي شرف وشرّف . والأظهر عدم التوزيع ، بل المعطوف على الصلة ، صلة لمن له الصلة الأولى . وقرأ الجمهور : { وصدق } مشدداً ؛ وأبو صالح ، وعكرمة بن سليمان ، ومحمد بن جحازة : مخففاً . قال أبو صالح : وعمل به . وقيل : استحق به اسم الصدق . قال ابن عطية : فعلى هذا إسناد الأفعال كلها إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأن أمته في ضمن القول ، وهو الذي يحسن { أولئك هم المتقون } . انتهى . وقال الزمخشري : أي صدق به الناس ، ولم يكذبهم به ، يعني : أداه إليهم ، كما نزل عليه من غير تحريف . وقيل : معناه : وصار صادقاً به ، أي بسببه ، لأن القرآن معجزة ، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح لمن يجريها على يديه ، ولا يجوز أن يصدق إلا الصادق ، فيصير لذلك صادقاً بالمعجزة . وقرىء : وصدق به . انتهى ، يعني : مبنياً للمفعول مشدداً . وقال صاحب اللوامح : جاء بالصدق من عند الله وصدق بقوله ، أي في قوله ، أو في مجيئه ، فاجتمع له الصفتان من الصدق : من صدقه من عند الله ، وصدقه بنفسه ، وذلك مبالغة في المدح . انتهى . { لهم ما يشاءون } : عام في كل ما تشتهيه أنفسهم وتتعلق به إرادتهم . و { ليكفر } : متعلق بالمحسنين ، أي الذين أحسنوا ليكفر ، أو بمحذوف ، أي يسر ذلك لهم ليكفر ، لأن التكفير لا يكون إلا بعد التيسير للخير . و { أسوأ الذي عملوا } : هو كفر أهل الجاهلية ومعاصي أهل الإسلام . والتكفير يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ، والجزاء بالأحسن يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه ، فقيل : ذلك يكون إذا صدقوا الأنبياء فيما أتوا به . وقال مقاتل : يجزيهم بالمحاسن من أعمالهم ، ولا يجزيهم بالمساوي ، وهذا قول المرجئة ، يقولون : لا يضر شيء من المعاصي مع الإيمان . واحتج بهذه الآية ، وقام الظاهر مقام المضمر في المحسنين ، أي ذلك جزاؤهم ، فنبه بالظاهر على العلة المقتضية لحصول الثواب . والظاهر أن أسوأ أفعل تفضيل ، وبه قرأ الجمهور : وإذا كفر أسوأ أعمالهم ، فتكفير ما هو دونه أحرى . وقيل : أفعل ليس للتفضيل ، وهو كقولك : الأشج أعدل بني مروان ، أي عادل ، فكذلك هذا ، أي سيء الذين عملوا . ويدل على هذا التأويل قراءة ابن مقسم ، وحامد بن يحيـى ، عن ابن كثير : أسوأ هنا ؛ وفي حم السجدة بألف بين الواو والهمزة جمع سوء ، ولا تفضيل فيه . والظاهر أن بأحسن أفعل تفضيل فقيل : لينظر إلى أحسن طاعاته فيجزي الباقي في الجزاء على قياسه ، وإن تخلف عنه بالتقصير . وقيل : بأحسن ثواب أعمالهم . وقيل : بأحسن من عملهم ، وهو الجنة ، وهذا ينبو عنه { بأحسن الذي } . وقال الزمخشري : أما التفضيل فيؤذن بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرات هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية ، والحسن الذي يعملون هو عند الله الأحسن لحسن إخلاصهم فيه ، فلذلك ذكر سيئهم بالأسوأ ، وحسنهم بالأحسن . انتهى ، وهو على رأى المعتزلة ، ويكون قد استعمل أسوأ في التفضيل على معتقدهم ، وأحسن في التفضيل على ما هو عند الله ، وذلك توزيع في أفعل التفضيل ، وهو خلاف الظاهر . قالت قريش : لئن لم ينته محمد عن تعييب آلهتنا وتعيبنا ، لنسلطها عليه فتصيبه بخبل وتعتريه بسوء ، فأنزل الله : { أليس الله بكاف عبده } : أي شر من يريده بشر ، والهمزة الداخلة على النفي للتقرير ، أي هو كاف عبده ، وفي إضافته إليه تشريف عظيم لنبيه . وقرأ الجمهور : عبده ، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقرأ أبو جعفر ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي : عباده بالجمع ، أي الأنبياء والمطيعين من المؤمنين ؛ { ويخوفونك بالذين من دونه } : وهي الأصنام . ولما بعث خالداً إلى كسر العزى ، قال له سادنها : إني أخاف عليك منها ، فلها قوة لا يقوم لها شيء . فأخذ خالد الفأس ، فهشم به وجهها ثم انصرف . وفي قوله : { ويخوفونك } ، تهكم بهم لأنهم خوفوه بما لا يقدر على نفع ولا ضرر . ونظير هذا التخويف قول قوم هود له : { إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } [ هود : 54 ] . وقرىء : { بكافي عبده } على الإضافة ، ويكافي عباده مضارع كفى ، ونصب عباده فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية ، كقولك : يجازي في يجزي ، وهو أبلغ من كفى ، لبنائه على لفظ المبالغة ، وهو الظاهر لكثرة تردّد هذا المعنى في القرآن ، كقوله : { فسيكفيكهم الله } [ البقرة : 137 ] . ويحتمل أن يكون مهموزاً من المكافأة ، وهي المجازاة ، أي يجزيهم أجرهم . ولما كان تعالى كافي عبده ، كان التخويف بغيره عبثاً باطلاً . ولما اشتملت الآية على مهتدين وضالين ، أخبر أن ذلك كله هو فاعله ، ثم قال : { أليس الله بعزيز } : أي غالب منيع ، { ذي انتقام } : وفيه وعيد لقريش ، ووعد للمؤمنين . ولما أقروا بالصانع ، وهو الله ، أخبرهم أنه تعالى هو المتصرف في نبيه بما أراد . فإن تلك الأصنام التي يدعونها آلهة من دونه لا تكشف ضراً ولا تمسك رحمة ، أي صحة وسعة في الرزق ونحو ذلك . وأرأيتم هنا جارية على وضعها ، تعدت إلى مفعولها الأول ، وهو ما يدعون . وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية ، وفيها العائد على ما ، وهو لفظ هن وأنث تحقيراً لها وتعجيزاً وتضعيفاً . وكان فيها من سمى تسمية الإناث ، كالعزى ومناة واللات ، وأضاف إرادة الله الضر إلى نفسه والرحمة إليها ، لأنهم خوفوه مضرتها ، فاستسلف منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله . ثم استخبرهم عن أصنامهم ، هل تدفع شرّاً وتجلب خيراً ؟ وقرأ الجمهور : كاشفات وممسكات على الإضافة ؛ وشيبة ، والأعرج ، وعمرو بن عبيد ، وعيسى : بخلاف عنه ؛ وأبو عمرو ، وأبو بكر ؛ بتنوينهما ونصب ما بعدهما . ولما تقرر أنه تعالى كافية ، وأن أصنامهم لا تضر ولا تنفع ، أمره تعالى أنه يعلم أنه تعالى هو حسبه ، أي كافية . والجواب في هذا الاستخبار محذوف ، والتقدير : فإنهم سيقولون : لا تقدر على شيء من ذلك . وقال مقاتل : استخبرهم فسكتوا . { قل يا قوم اعملوا } : تقدم الكلام على نظيرها .