Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 8-16)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

الظاهر أن الإنسان هنا جنس الكافر ، وقيل : معين ، كعتبة بن ربيعة . ويدخل في الضر جميع المكاره في جسم أو أهل أو مال . { دعا ربه } : استجار ربه وناداه ، ولم يؤمل في كشف الضر سواه ، { منيباً إليه } : أي راجعاً إليه وحده في إزالة ذلك . { ثم إذا خوله } : أناله وأعطاه بعد كشف ذلك الضر عنه . وحقيقة خوله أن يكون من قولهم : هو خائله ، قال : إذا كان متعهداً حسن القيام عليه ، أو من خال يخول ، إذا إختال وافتخر ، وتقول العرب : @ إن الغنـي طويـل الذيـل ميـاس @@ { نسي ما كان يدعو } : أي ترك ، والظاهر أن ما بمعنى الذي ، أي نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه . وقيل : ما بمعنى من ، أي نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل في كشف ضره . وقيل : ما مصدرية ، أي نسي كونه يدعو . وقيل : تم الكلام عند قوله : { نسي } ، أي نسي ما كان فيه من الضر . وما نافية ، نفى أن يكون دعاء هذا الكافر خالصاً لله مقصوراً من قبل الضرر ، وعلى الأقوال السابقة . { من قبل } : أي من قبل تخويل النعمة ، وهو زمان الضرر . { وجعل لله أنداداً } : أي أمثالاً يضاد بعضها بعضاً ويعارض . قال قتادة : أي من الرجال يطيعونهم في المعصية . وقال غيره : أوثاناً ، وهذا من سخف عقولهم . حين مس الضر دعوا الله ولم يلتجئوا في كشفه إلا إليه ؛ وحين كشف ذلك وخول النعمة أشركوا به ، فاللام لام العلة ، وقيل : لام العاقبة . وقرأ الجمهور : { ليضل } ، بضم الياء : أي ما اكتفى بضلال نفسه حتى جعل غيره يضل . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمر ، وعيسى : بفتحها ، ثم أتى بصيغة الأمر فقال : { تمتع بكفرك قليلاً } : أي تلذذ واصنع ما شئت قليلاً ، أي عمراً قليلاً ، والخطاب للكافر جاعل الأنداد لله . { إنك من أصحاب النار } : أي من سكانها المخلدين فيها . وقال الزمخشري : وقوله { تمتع بكفرك } ، أي من باب الخذلان والتخلية ، كأنه قيل له : إذ قد أبيت قبل ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك أن لا تؤمر به بعد ذلك . ويؤمر بتركه مبالغة في خذلانه وتخليته وشأنه ، لأنه لا مبالغة في الخذلان أشد من أن يبعث على عكس ما أمروا به ، ونظيره في المعنى : { متاع قليل ثم مأواهم جهنم } [ آل عمران : 197 ] . انتهى . ولما شرح تعالى شيئاً من أحوال الظالمين الضالين المشركين ، أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال : { أمّن هو قانت } . وقرأ ابن كثير ، ونافع ، وحمزة ، والأعمش ، وعيسى ، وشيبة ، والحسن في رواية : أمن ، بتخفيف الميم . والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير ، ومقابله محذوف لفهم المعنى ، والتقدير : أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله { قل تمتع بكفرك } ؟ ويدل عليه قوله : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } . ومن حذف المقابل قول الشاعر : @ دعاني إليها القلب إني لأمرها سميع فما أدري أرشد طلابها @@ تقديره : أم غيّ . وقال الفراء : الهمزة للنداء ، كأنه قيل : يا من هو قانت ، ويكون قوله قل خطابا له ، وهذا القول أجنبي مما قبله وما بعده . وضعف هذا القول أبو علي الفارسي ، ولا التفات لتضعيف الأخفش وأبي حاتم هذه القراءة . وقرأ باقي السبعة ، والحسن ، وقتادة ، والأعرج ، وأبو جعفر : أمّن ، بتشديد الميم ، وهي أم أدغمت ميمها في ميم من ، فاحتملت أم أن تكون متصلة ومعادلها محذوف قبلها تقديره : أهذا الكافر خير أم من هو قانت ؟ قال معناه الأخفش ، ويحتاج مثل هذا التقدير إلى سماع من العرب ، وهو أن يحذف المعادل الأول . واحتملت أم أن تكون منقطعة تتقدر ببل ، والهمزة والتقدير : بل أم من هو قانت صفته كذا ، كمن ليس كذلك . وقال النحاس : أم بمعنى بل ، ومن بمعنى الذي ، والتقدير : بل الذي هو قانت أفضل ممن ذكر قبله . انتهى . ولا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل ، بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة ، يدل عليه مقابله : { إنك من أصحاب النار } . والقانت : المطيع ، قاله ابن عباس ، وتقدم الكلام في القنوت في البقرة . وقرأ الجمهور : { ساجداً وقائماً } ، بالنصب على الحال ؛ والضحاك : برفعهما إما على النعت لقانت ، وإما على أنه خبر بعد خبر ، والواو للجمع بين الصفتين . { يحذر الآخرة } : أي عذاب الآخرة ، { ويرجو رحمة ربه } : أي حصولها ، وقيل : نعيم الجنة ، وهذا المتصف بالقنوت إلى سائر الأوصاف ، قال مقاتل : عمار ، وصهيب ، وابن مسعود ، وأبو ذر . وقال ابن عمر : عثمان . وقال ابن عباس في رواية الضحاك : أبو بكر وعمر . وقال يحيـى بن سلام : رسول الله صلى الله عليه وسلم . والظاهر أنه من اتصف بهذه الأوصاف من غير تعيين . وفي الآية دليل على فضل قيام الليل ، وأنه أرجح من قيام النهار . ولما ذكر العمل ذكر العلم فقال : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } ، فدل أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين ، فكما لا يستوي هذان ، كذلك لا يستوي المطيع والعاصي . والمراد بالعلم هنا : ما أدى إلى معرفة الله ونجاة العبد من سخطه . وقرأ : يذكر ، بإدغام تاء يتذكر في الذال . { قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم } ، وروي أنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة ، وعدهم تعالى فقال : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } . والظاهر تعلق في هذه بأحسنوا ، وأن المحسنين في الدنيا لهم في الآخرة حسنة ، أي حسنة عظيمة ، وهي الجنة ، قاله مقاتل ، والصفة محذوفة يدل عليها المعنى ، لأن من أحسن في الدنيا لا يوعد أن يكون له في الآخرة مطلق حسنة . وقال السدي : في هذه من تمام حسنة ، أي ولو تأخر لكان صفة ، أي الذين يحسنون لهم حسنة كائنة في الدنيا . فلما تقدم انتصب على الحال ، والحسنة التي لهم في الدنيا هي العافية والظهور وولاية الله تعالى . ثم حض على الهجرة فقال : { وأرض الله واسعة } ، كقوله : { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } [ النساء : 97 ] ، أي لا عذر للمفرطين البتة ، حتى لو اعتلوا بأوطانهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من أعمال الطاعات ، قيل لهم : إن بلاد الله كثيرة واسعة ، فتحولوا إلى الأماكن التي تمكنكم فيها الطاعات . وقال عطاء : وأرض الله : المدينة للهجرة ، قيل : فعلى هذا يكون أحسنوا : هاجروا ، وحسنة : راحة من الأعداء . وقال قوم : أرض الله هنا : الجنة . قال ابن عطية : وهذا القول تحكم ، لا دليل عليه . انتهى . وقال أبو مسلم : لا يمتنع ذلك ، لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى ؛ ثم بين أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة ، وهي الخلود في الجنة ؛ ثم بين أن أرض الله واسعة لقوله : { وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء } [ الزمر : 74 ] ، وقوله : { وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } [ آل عمران : 133 ] . ولما كانت رتبة الإحسان منتهى الرتب ، كما جاء : ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه . وكان الصبر على ذلك من أشق الأشياء ، وخصوصاً من فارق وطنه وعشيرته وصبر على بلاء الغربة . ذكر أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب ، أي لا يحاسبون في الآخرة ، كما يحاسب غيرهم ؛ أو يوفون ما لا يحصره حساب من الكثرة . { قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين } : أمره تعالى أن يصدع الكفار بما أمر به من عبادة الله ، يخلصها من الشوائب ، { وأمرت } : أي أمرت بما أمرت ، لأكون أول من أسلم ، أي انقاد لله تعالى ، ويعني من أهل عصره أو من قومه ، لأنه أول من حالف عباد الأصنام ، أو أول من دعوتهم إلى الإسلام إسلاماً ، أو أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ، لأكون مقتدى بي قولاً وفعلاً ، لا كالملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون ، أو أن أفعل ما أستحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف عطف أمرت على أمرت وهما واحد ؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما ، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء ، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء . وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين ، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت ، لأن أفعل لا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح ، كأنها زيدت عوضاً من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه ، كما عوض السين في اسطاع عوضاً من ترك الأصل الذي هو أطوع . والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله : { أمرت أن أكون أول من أسلم } [ الأنعام : 14 ] . انتهى . ويحتمل في أن أكون في ثلاثة المواضع أصله لأن أكون ، فيكون قد حذفت اللام ، والمأمور به محذوف ، وهو المصرح به هنا { إني أمرت أن أعبد الله } . { قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } : تقدّم الكلام على هذه الجملة مقول القول في سورة يونس . لما أمره أولاً أن يخبر بأنه أمر بعبادة الله ، أمر ثانياً أن يخبر بأنه يعبد الله وحده . وتقديم الجلالة دال على الاهتمام بمن يعبد ، وعند الزمخشري يدل على الاختصاص ، قال : ولدلالته على ذلك ، قدم المعبود على فعل العبادة ، وأخره في الأول . فالكلام أولاً واقع في الفعل في نفسه وإيجاده ، وثانياً فيمن يفعل الفعل لأجله ، ولذلك رتب عليه قوله : { فاعبدوا ما شئتم من دونه } . والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية . انتهى . وقال غيره : { فاعبدوا ما شئتم } : صيغة أمر على جهة التهديد لقوله : { قل تمتع بكفرك } . { قل إن الخاسرين } : أي حقيقة الخسران ، { الذين خسروا } : أي هم الذين خسروا أنفسهم ، حيث صاروا من أهل النار ، { وأهليهم } الذين كانوا معهم في الدنيا ، حيث كانوا معهم في النار ، فلم ينتفعوا منهم بشيء ، وإن كان أهلوهم قد آمنوا ، فخسرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم . وقال قتادة : كأن الله قد أعد لهم أهلاً في الجنة فخسروهم ، وقال معناه ميمون بن مهران . وقال الحسن : هي الحور العين ، ثم ذكر ذلك الخسران وبالغ فيه في التنبيه عليه أولاً ، والإشارة إليه ، وتأكيده بالفعل ، وتعريفه بأل ، ووصفه بأنه المبين : أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل . ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم ، ذكر حالهم في جهنم ، وأنه من فوقهم ظلل ومن تحتهم ظلل ، فيظهر أن النار تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم ، وسمى ما تحتهم ظللاً لمقابلة ما فوقهم ، كما قال : { يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت ارجلهم } ، وقال لهم : { لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش } [ الأعراف : 41 ] وقيل : هي ظلل للذين هم تحتهم ، إذ النار طباق . وقيل : إنما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة ، فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيراً . { ذلك } : أي ذلك العذاب ، { يخوف الله به عباده } : ليعلموا ما يخلصكم منه ، ثم ناداهم وأمرهم فقال : { يا عباد فاتقون } : أي اتقوا عذابي .