Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 103-113)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ فإذا قضيت الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة } الظاهر : أنّ معنى قضيتم الصلاة أي فرغتم منها ، والصلاة هنا صلاة الخوف ، وإلى ذلك ذهب الجمهور ، وكذا فسره ابن عباس . والذكر المأمور به هنا هو الذكر باللسان إثر صلاة الخوف على حدّ ما أمروا به عند قضاء المناسك بذكر الله ، فأمروا بذكر الله من : التهليل ، والتكبير ، والتسبيح ، والدعاء بالنصر ، والتأييد في جميع الأحوال فإن ما هم فيه من ارتقاب مقارعة العدو ، حقيق بالذكر ، والالتجاء إلى الله . أي : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي أتموها . وذهب قوم إلى أنّ معنى قضيتم الصلاة : تلبستم بالصلاة وشرعتم فيها . ومعنى الأمر بالذكر أي : صلوها قياماً في حال المسايفة والاختلاط ، وقعوداٍ جاثين على الركب من أنين ، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح ، فهي هيآت لأحوال على حسب تفصيلها . فإذا اطمأننتم حين تضع الحرب أوزارها وأمنتم ، فأقيموا الصلاة أي : فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق والانزعاج ، وبهذا الوجه بدأ الزمخشري وهو خلاف الظاهر . قال : وهذا ظاهر على مذهب الشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة ، والمشي والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها ، فإذا اطمأن فعليه القضاء ، وأما عند أبي حنيفة فهو معذور في تركها الى أن يطمئن . وقيل : قوله : فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا ، أنه أمر بالصلاة حاله إلا من بعد الخوف قياماً للأصحاء ، وقعوداً للعاجزين عن القيام ، وعلى جنوبكم العاجرين عن القعود لزمانة أو جراحة أو مرض لا يستطيع القعود معها ، فإذا اطمأننتم أي : أمنتم من الخوف قاله : قتادة ، والسدي . فأقيموا الصلاة أي : صلوها لا كصلاة الخوف ، بل كصلاة الأمن في السفر . وقيل فإذا اطمأننتم أي : فإذا رجعتم من سفركم إلى الحضر فأقيموها تامة أربعاً . { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً } أي واجبة في أوقات معلومة قاله : ابن مسعود ، وابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، وابن قتيبة . ولم يقل موقوتة ، لأن الكتاب مصدر ، فهو مذكر . وروي عن ابن عباس : أن المعنى فرضاً مفروضاً ، فهما لفظان بمعنى واحد ، والظاهر الأول أي : فرضاً منجماً في أوقات . وقال أبو عبد الله الرازي : أجمل هنا تلك الأوقات وفسرها في أوقات خمساً ، وتوقيتها بأوقات خمسة في نهاية الحسن نظراً إلى المعقول ، لأن الحوادث لها مراتب خمس : مرتبة الحدوث ، ومرتبة الوقوف ، ومرتبة الكهولة وفيها نقصان خفي ، ومرتبة الشيخوخة ، والخامسة : أن تبقى آثاره بعد موته مدّة ثم تمحى . وهذه المراتب حصلت للشمس بحسب طلوعها وغروبها ، فأوجب الله عند كل مرتبة من أحوالها الخمس صلاة انتهى . ما لخصناه من كلامه وطول هو كثيراً في شيء لا يدل عليه القرآن ، ولا تقتضيه لغة العرب ، ذكر ذلك في تفسيره فمن أراده فليطالعه فيه . { ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } قيل : تزلت في الجهاد مطلقاً . وقيل : في انصراف الصحابة من أحد ، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرهم باتباع أبي سفيان وأصحابه ، أمر أن لا يخرج إلا مَن كان معه في أحد ، فشكوا بأنّ فيهم جراحات . وهذه الآية تشير إلى أن القضاء في قوله : { فإذا قضيتم الصلاة } إنما هو قضاء صلاة الخوف . وقرأ الحسن : تهنوا بفتح الهاء وهي لغة . فتحت الهاء كما فتحت دال يدع ، لأجل حرف الحلق ، والمعنى : ولا تضعفوا أو تخوروا جبناً في طلب القوم . وقرأ عبيد بن عمير : ولا تهانوا من الإهانة . نهوا عن أن يقع منهم ما يترتب عليه إهانتهم من كونهم يجنون على أعدائهم فيهانون كقولهم : " لا أريناك هاهنا " ، ثم شجعهم على طلب القوم وألزمهم الحجة ، فإنّ ما فيهم من الألم مشترك ، وتزيدون عليهم أنكم ترجون من الله الثواب وإظهار دينه بوعده الصادق ، وهم لا يرجونه ، فينبغي أن تكونوا أشجع منهم وأبعد عن الجبن . وإذا كانوا يصبرون على الآلام والجراحات والقتل ، وهم لا يرجون ثواباً في الآخرة ، فأنتم أحرى أن تصبروا . ونظير ذكر هذا الأمر المشترك فيه قول الشاعر : @ قاتلوا القوم يا خداع ولا يأخذكم من قتالهم قتل القوم أمثالكم لهم شعر في الرأس لا ينشرون أن قتلوا @@ والرجاء هنا على بابه ، وقيل : معناه الخوف الذي تخافون من عذاب الله ما لا تخافون كقوله : إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ، أي : لم يخف . وزعم الفراء أنّ الرجاء لا يكون بمعنى الخوف إلا مع النفي ، ولا يقال رجوتك بمعنى خفتك . وقرأ الأعرج : أن تكونوا بفتح الهمزة على المفعول من أجله . وقرأ ابن المسيفع : تئلمون بكسر التاء . وقرأ ابن وثاب ومنصور بن المعتمر : تئلمون بكسر تاء المضارعة فيهما ويائهما ، وهي لغة . { وكان الله عليماً حكيماً } أي عليماً بنياتكم حكيماً فيما يأمركم به وينهاكم عنه . { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً } طوَّل المفسرون في سبب النزول ، ولخصنا منه انتهاء ما في قول قتادة وغيره . نزلت في طعمة بن أبيرق ، سرق درعاً في جرب فيه دقيق لقتادة بن النعمان وخبأها عند يهودي ، فحلف طعمة ما لي بها علم ، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار اليهودي ، فقال اليهودي : دفعها إليّ طعمة . وقيل : استودع يهودي درعاً فخانه ، فلما خاف اطلاعهم عليها ألقاها في دار أبي مليك الأنصاري . قال السدي : وقيل : السلاح والطعام كان لرفاعة بن زيد عم قتادة ، وأن بني أبريق نقبوا مشربيته وأخذوا ذلك ، وهم بشير بضم الباء ومبشر وبشر ، وأهموا أنَّ فاعل ذلك هو لبيد بن سهل ، فشكاهم قتادة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الرسول همَّ أن يجادل عن طعمه ، أو عن أبيرق ، ويقال فيه : طعيمة . وقال الكرماني : أجمع المفسرون على أنّ هذه الآيات نزلت في طعمة بن أبيرق أحمد بني ظفر بن الحرث ، إلا ابن بحر فإنه قال : نزلت في المنافقين ، وهو متصل بقوله : { فما لكم في المنافقين فئتين } [ النساء : 88 ] انتهى . وفي هذه الآية تشريف للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتفويض الأمور إليه بقوله : لتحكم بين الناس بما أراك الله . ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما صرح بأحوال المنافقين ، واتصل بذلك أمر المحاربة وما يتعلق بها من الأحكام الشرعية ، رجع إلى أحوال المنافقين ، فإنهم خانوا الرسول على ما لا ينبغي ، فأطلعه الله على ذلك وأمره أن لا يلتفت إليهم ، وكان بشير منافقاً ويهجو الصحابة وينحل الشعر لغيره ، وأما طعمة فارتد ، وأنه لما بين الأحكام الكثيرة عرف أنّ كلها من الله ، وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلباً لرضا قوم . أو أنه لما أنه يجاهد الكفار ، أنه لا يجوز إلحاق ما لم يفعلوا بهم ، وأنّ كفره لا يبيح المسامحة في النظر إليه ، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله ، ولا يلحق به حيف لأجل أن يرضي المنافق . والكتاب هنا القرآن . ومعنى بالحق : أي لا عوج فيه ولا ميل . والناس هنا عام ، وبما أراك الله بما أعلمك من الوحي . وقيل : بالنظر الصحيح فإنه محروس في اجتهاده ، معصوم في الأقوال والأفعال . وقيل : بما ألقاه في قلبك من أنوار المعرفة وصفاء الباطن . وعن عمر : « لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله ، فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه ، لأن الرأي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيباً ، لأن الله تعالى كان يريه إياه ، وهو منا الظن والتكليف دون الإهمال ، أو بماله عاقبة حميدة ، لأن ما ليس كذلك عبث وباطل » . وقال الماتريدي : بالحق أي : موافقاً لما هو الحق على العباد ، ولما لبعضهم على بعض ليعلموا بذلك ، أو بياناً لأمره . وحق كائن ثابت وهو البعث والقيامة ، ليتزودوا له . أو بما يحمل عليهم فاعله ، أو بالعدل والصدق على الأمن من التغيير والتبديل . بما أراك الله : فيه دليل جواز اجتهاده ، واجتهاده كالنص ، لأن الله تعالى أخبر أنه يريه ذلك أو لا يريه غير الصواب انتهى كلامه . { ولا تكن للخائنين خصيماً } أي : مخاصماً ، كجليس بمعنى مجالس ، قاله : الزجاج والفارسي وغيرهما . ويحتمل أن يكون للمبالغة من خصم ، والخائنون جمع . فإنّ بني أبريق الثلاثة هم الذين نقبوا المشربة ، فظاهر إطلاق الجمع عليهم وإن كان وحده هو الرّجل الذي خان في الدرع أو سرقها ، فجاء الجمع باعتباره واعتبار من شهد له بالبراءة من قومه كأسيد بن عروة ومن تابعه ممن زكاه ، فكانوا شركاء له في الإثم ، خصوصاً من يعلم أنه هو السارق . أو جاء الجمع ليتناول طعمة وكل من خان خيانته ، فلا يخاصم لخائن قط ، ولا يحاول عنه . وخصيماً يحتاج متعلقاً محذوفاً أي البراء . والبريء مختلف فيه حسب الاختلاف في السبب : أهو اليهودي الذي دفع إليه طعمة الدّرع وهو زيد بن السمين ، أو أبو مليك الأنصاري ؟ وهو الذي ألقى طعمة الدرع في داره لما خاف الافتضاح ، أو لبيد بن سهل ؟ وقال يحيى بن سلام : وكان يهودياً . وذكر المهدوي أنه كان مسلماً . وأدخله أبو عمرو بن عبد البر في كتاب الصحابة ، فدل على إسلامه كما ذكر المهدوي . ولما نزلت هذه الآيات هرب طعمة إلى مكة وارتد ، ونزل على سلافة فرماها حسان به في شعر قاله ومنه : @ وقد أنزلته بنت سعد وأصبحت ينازعها جلد استها وتنازعه ظننتم بأن يخفي الذي قد صنعتمو وفينا نبي عنده الوحي واضعه @@ فأخرجته ورمت رحله خارج المنزل وقالت : ما كنت تأتيني بخير أهديت لي شعر حسان ، فنزل على الحجاج بن علاط وسرقه فطرده ، ثم نقب بيتاً ليسرق منه فسقط الحائط عليه فمات . وقيل : اتبع قوماً من العرب فسرقهم فقتلوه . { واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً } أي : استغفر لأمتك المذنبين المتخاصمين بالباطل . قال الزمخشري : واستغفر الله مما هممت به من عقاب اليهودي . وقال الطبري والزجاج : واستغفر الله أي من ذنبك في خصامك لأجل الخائنين . قال ابن عطية : وهذا ليس بذنب ، لأنه عليه السلام إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد برائتهم انتهى . وقيل : هو أمر بالاستغفار على سبيل التسبيح من غير ذنب أو قصد توبة ، كما يقول الرجل : استغفر الله . وقيل : الخطاب صورة للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد بنو أبيرق . وقيل : المعنى واستغفر الله مما هممت به قبل النبوّة . { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } هذا عام يندرج فيه أصحاب النازلة ويتقرر به توبيخهم . واختيان الأنفس هو مما يعود عليها من العقوبة في الآخرة والدنيا ، كما جاء نسبة ظلمهم لأنفسهم . والنهي عن الشيء لا يقتضي أن يكون المنهى ملابساً للمنهى عنه . وروى العوفي عن ابن عباس : أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاصم عن طعمة ، وقام يعذر خطيباً . وروى قتادة وابن جبير : أنه همّ بذلك ولم يفعله . { إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً } أتى بصيغة المبالغة في الخيانة والإثم ليخرج منه من وقع منه المرة ، ومن صدرت منه الخيانة على سبيل الغفلة وعدم القصد . وفي صفتي المبالغة دليل على إفراط طعمة في الخيانة وارتكاب المآثم . وقيل : إذا عثرت من رجل سيئة فاعلم أنّ لها أخوات . وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق ، فجاءت أمه تبكي وقالت : هذه أوّل سرقة سرقها فاعف عنه فقال : كذبت إنّ الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة . وتقدمت صفة الخيانة على صفة المآثم ، لأنها سبب للإثم خان فأثم ، ولتواخي الفواصل . { يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول } الضمير في يستخفون الظاهر : أنه يعود على الذين يختانون ، وفي ذلك توبيخ عظيم وتقريع ، حيث يرتكبون المعاصي مستترين بها عن الناس إنْ اطلعوا عليها ، ودخل معهم في ذلك من فعل مثل فعلهم . وقيل : الضمير يعود على الصنف المرتكب للمعاصي ، ويندرج هؤلاء فيهم ، وهم أهل الخيانة المذكورة والمتناصرون لهم . وقيل : يعود على من باعتبار المعنى ، وتكون الجملة نعتاً . وهو معهم أي : عالم بهم مطلع عليهم ، لا يخفى عنه تعالى شيء من أسرارهم ، وهي جملة حالية . قال الزمخشري : وكفى بهذه الآية ناعية على الناس ما هم عليه من قلة الحياء والخشية من ربهم ، مع علمهم إن كانوا مؤمنين أنهم في حضرته لا سترة ولا غفلة ولا غيبة ، وليس إلا الكشف الصريح والافتضاح انتهى . وهذا كقول الشاعر : @ يا للعجاج لمن يعصي ويزعم إذ قد آمنوا بالذي جاءت به الرسل أتى بجامع إيمان لمعصية كلا أماني كذب ساقها الأمل @@ أي أن المعصية كلا أماني كذب ساقها الأمل الاستخفاء : الاستتار . وقال ابن عباس : الاستحياء استحى فاستخفى ، إذ يبيتون ما لا يرضى من القول الذي رموا به البريء ، ودافعوا به عن السارق . والعامل في إذ العامل في معهم ، وتقدّم الكلام في التبييت . { وكان الله بما يعملون محيطاً } كناية عن المبالغة في العلم . ولما كانت قصة طعمة جمعت بين عمل وقول : جاء وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطاً ، فنبه على أنه عالم بأقوالهم وأعمالهم . وتضمن ذلك الوعيد الشديد والتقريع البالغ ، إذ كان تعالى محيطاً بجميع الأقوال والأعمال ، فكان ينبغي أن تستر القبائح عنه بعدم ارتكابها . { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أمّن يكون عليهم وكيلاً } تقدم الكلام على ها أنتم هؤلاء ، وعلى الجملة بعدها قراءة وإعراباً في سورة آل عمران والخطاب للذين يتعصبون لأهل الريب والمعاصي ، ويندرج في هذا العموم أهل النازلة . والأظهر أن يكون ذلك خطاباً للمتعصبين في قصة طعيمة ، ويندرج فيه مَن عمل عملهم . ويقوي ذلك أنَّ هؤلاء إشارة إلى حاضرين . وقرأ عبد الله عنه في الموضعين أي : عن طعمة . وفي قوله : فمن يجادل الله عنهم ، وعيد محض أي : أنّ الله يعلم حقيقة الأمر ، فلا يمكن أن يلبس عليه بجدال ولا غيره . ومعنى هذا الاستفهام النفي أي : لا أحد يجادل الله عنهم يوم القيامة إذا حل بهم عذابه . والوكيل : الحافظ المحامي ، والذي يكل الإنسان إليه أموره . وهذا الاستفهام معناه النفي أيضاً ، كأنه قال : لا أحد يكون وكيلاً عليهم فيدافع عنهم ويحفظهم . وهاتان الجملتان انتفى في الأولى منهما المجادلة ، وهي المدافعة بالفعل والنصرة بالقوة . { ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً } الظاهر أنهما غير أنّ عمل السوء القبيح الذي يسوء غيره ، كما فعل طعمة بقتادة واليهودي . وظلم النفس ما يختص به كالحلف الكاذب . وقيل : ومن يعمل سوءاً من ذنب دون الشرك ، أو يظلم نفسه بالشرك انتهى . وقيل : السوء الذنب الصغير ، وظلم النفس الذنب الكبير . وقال أبو عبد الله الرازي : وخص ما يبدي إلى الغير باسم السوء ، لأن ذلك يكون في الأكثر لا يكون ضرراً حاضراً ، لأنّ الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه . وقيل : السوء هنا السرقة . وقيل : الشرك . وقيل : كل ما يأثم به . وقيل : ظلم النفس هنا رمي البريء بالتهمة . وقيل : ما دون الشرك من المعاصي . وقال ابن عطية : هما بمعنى واحد تكرر باختلاف لفظ مبالغة . والظاهر تعليق الغفران والرحمة للعاصي على مجرد الاستغفار وأنه كاف ، وهذا مقيد بمشيئة الله عند أهل السنة . وشرط بعضهم مع الاستغفار التوبة ، وخص بعضهم ذلك بأنْ تكون المعصية مما بين العبد وبين ربه ، دون ما بينه وبين العبيد . وقيل : الاستغفار التوبة . وفي لفظة : يجد الله غفوراً رحيماً ، مبالغة في الغفران . كأنّ المغفرة والرحمة معدَّان لطالبهما ، مهيآن له متى طلبهما وجدهما . وهذه الآية فيها لطف عظيم ووعد كريم للعصاة إذا استغفروا الله ، وفيها تطلب توبة بني أبيرق والذابين عنهم واستدعاؤهم لها . وعن ابن مسعود : أنها من أرجى الآيات . { ومن يكسب إثماً فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليماً حكيماً } الإثم : جامع للسوء وظلم النفس السابقين والمعنى : أنّ وبال ذلك لاحق له لا يتعدّاه إلى غيره ، وهو إشارة إلى الجزاء اللاحق له في الآخرة . وختمها بصفة العلم ، لأنه يعلم جميع ما يكسب ، لا يغيب عنه شيء من ذلك . ثم بصفة الحكمة لأنه واضع الأشياء مواضعها فيجازى على ذلك الإثم بما تقتضيه حكمته . فالصفتان أشارتا إلى علمه بذلك الإثم ، وإلى ما يستحق عليه فاعله . وفي لفظة : على ، دلالة استعلاء الإثم عليه ، واستيلائه وقهره له . { ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً } قيل : نزلت في طعمة بن أبيرق حين سرق الدرع ورماها في دار اليهودي . وروى الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول ، إذ رمى عائشة بالإفك . وظاهر العطف بأو المغايرة ، فقيل : الخطيئة ما كان عن غير عمد . والإثم : ما كان عن عمد ، والصغيرة والكبيرة ، أو القاصر على فعل والمتعدي إلى غيره . وقيل : الخطيئة سرقة الدرع ، والإثم يمينه الكاذبة . وقال ابن السائب : الخطيئة يمين السارق الكاذبة ، والإثم سرقة الدرع ، ورمى اليهودي به . وقال الطبري : الخطيئة تكون عن عمد وغير عمد ، والإثم لا يكون إلا عن عمد . وقيل : هما لفظان بمعنى واحد ، كرّرا مبالغة . والضمير في : به ، عائد على الإثم ، والمعطوف بأو يجوز أن يعود الضمير على المعطوف عليه كقوله : انفضوا إليها وعلى المعطوف كهذا . وتقدم الكلام في ذلك بأشبع من هذا . وقيل : يعود على الكسب المفهوم من يكسب . وقيل : على المكسوب . وقيل : يعود على أحد المذكورين الدال عليه العطف بأو ، كأنه قيل : ثم يرم بأحد المذكورين . وقيل : ثم محذوف تقديره : ومن يكسب خطيئة ثم يرم به بريئاً أو إثماً ثم يرم به بريئاً ، وهذه تخاريج من لم يتحقق بشيء من علم النحو . والبريء المتهم بالذنب ولم يذنب . ومعنى : فقد احتمل بهتاناً ، أي برميه البريء ، فإنه يبهته بذلك ، وإثماً مبيناً أي : ظاهراً لكسبه الخطيئة أو الإثم . والمعنى : أنه يستحق عقابين : عقاب الكسب ، وعقاب البهت . وقدم البهت لقربه من قوله : ثم يرم به بريئاً ، ولأنه ذنب أفظع من كسب الخطيئة أو الإثم . ولفظ احتمل أبلغ من حمل ، لأنّ افتعل فيه للتسبب كاعتمل . ويحتمل أن يكون افتعل فيه كالمجرد كما قال : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ } [ العنكبوت : 13 ] فيكون كقدر واقتدر . لما كان الوزر يوصف بالفعل ، جاء ذكر الحمل والاحتمال وهو استعارة . جعل المجني كالجرم المحمول . ولفظة : ومَن تدل على العموم ، فلا ينبغي أن تخصّ ببني أبيرق ، بل هم مندرجون فيها . وقرأ معاذ بن جبل : ومن يكِسّب بكسر الكاف وتشديد السين ، وأصله : يكتسب . وقرأ الزهري : خطية بالتشديد . { ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء } الظاهر : أنّ الضمير في منهم عائد على بني ظفر المجادلين والذابين عن بني أبيرق . أي : فلولا عصمته وإيحاؤه إليك بما كتموه ، لهموا بإضلالك عن القضاء بالحق وتوخي طريق العدل ، مع علمهم بأنّ الجاني هو صاحبهم . فقد روي أنّ ناساً منهم كانوا يعلمون حقيقة القصة ، هذا فيه بعض كلام الزمخشري ، وهو قول ابن عباس من رواية السائب : أنها متعلقة بقصة طعمة وأصحابه ، حيث لبسوا على الرسول أمر صاحبهم . وروى الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في وفد ثقيف قدموا على الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا : جئناك نبايعك على أنْ لا نحشر ولا نعشر ، وعلى أن تمتعنا بالعزى سنة ، فلم يجبهم فنزلت . وقال ابن عطية : وفق الله نبيه على مقدار عصمته له ، وأنها بفضل من الله ورحمته . وقوله تعالى : لهمت معناه لجعلته همها وشغلها حتى تنفذه ، وهذا يدل على أنّ الألفاظ عامة في غير أهل النازلة ، وإلا فأهل الغضب لبني أبيرق ، وقد وقع همهم وثبت . والمعنى : ولولا عصمة الله لك لكان في الناس من يشتغل بإضلالك ويجعله همّ نفسه ، كما فعل هؤلاء ، لكن العصمة تبطل كيد الجمع انتهى . والظاهر القول الأول كما ذكرنا ، إلا أن الهمّ يحتاج إلى قيد أي : لهمت طائفة منهم هما يؤثر عندك . ولا بد من هذا القيد ، لأنهم هموا حقيقة أعني : المجادلين عن بني أبيرق ، أو يخصّ الضلال عن الدين فإنّ الهم بذلك أي : لهموا بإضلالك عن شريعتك ودينك ، وعصمة الله إياك منعتهم أن يخطروا ذلك ببالهم . وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء أي : وبال ما أقدموا عليه من التعاون على الإثم والبهت ، وشهادة الزور ، إنما هو يخصهم . وما يضرونك من شيء مِن تدل على العموم نصاً أي : لا يضرونك قليلاً ولا كثيراً . قال القفال : وهذا وعد بالعصمة في المستقبل . { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } الكتاب : هو القرآن . والحكمة تقدّم تفسيرها والمعنى : إنّ من أنزل الله عليه الكتاب والحكمة وأهله لذلك ، وأمره بتبليغ ذلك ، هو معصوم من الوقوع في الضلال والشبه . { وعلمك ما لم تكن تعلم } قال ابن عباس ومقاتل : هو الشرع . وقال أبو سليمان الدمشقي : أخبار الأولين والآخرين . وذكر الماوردي : الكتاب والحكمة ، وذكر أيضاً مقدار نفسك النفيسة . وقيل : خفيات الأمور ، وضمائر الصدور التي لا يطلع عليها إلا بوحي . وقال القفال : يحتمل وجهين : أحدهما : أن يُراد ما يتعلق بالدين كما قال تعالى : { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } [ الشورى : 52 ] وعلى هذا التقدير : وأطلعك على أسرار الكتاب والحكمة ، وعلى حقائقهما ، مع أنك ما كنت عالماً بشيء ، فكذلك بفعل بك في مستأنف أيامك ، لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك ولا على استزلالك . الثاني : ما لم تكن تعلم من أخبار القرون السالفة ، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين وكيدهم ما لا يقدر على الاحتراز منه انتهى . وفيه بعض تلخيص . والظاهر العموم ، فيشمل جميع ما ذكروه . فالمعنى : الأشياء التي لم تكن تعلمها . لولا إعلامه إياك إياها . { وكان فضل الله عليك عظيماً } قيل : المنة بالإيمان . وقال أبو سليمان : هو ما خصه به تعالى . وقال أبو عبدالله الرازي : هذا من أعظم الدلائل على أنّ العلم أشرف الفضائل والمناقب . وذلك أنّ الله تعالى ما أعطى الخلق من العلم إلا قليلاً ، ونصيب الشخص من علوم الخلائق يكون قليلاً ، ثم إنه سمى ذلك القليل عظيماً . وتضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبيان والبديع . منها الاستعارة في : وإذا ضربتم في الأرض ، وفي : فيميلون استعار الميل للحرب . والتكرار في : جناح ولا جناح لاختلاف متعلقهما ، وفي : فلتقم طائفة : ولتأت طائفة ، وفي : الحذر والأسلحة ، وفي : الصلاة ، وفي : تألمون ، وفي : اسم الله . والتجنيس المغاير في : فيميلون ميلة ، وفي : كفروا إن الكافرين ، وفي : تختانون وخواناً ، وفي : يستغفروا غفوراً . والتجنيس المماثل في : فأقمت فلتقم ، وفي : لم يصلوا فليصلوا ، وفي : يستخفون ولا يستخفون ، وفي : جادلتم فمن يجادل ، وفي : يكسب ويكسب ، وفي : يضلوك وما يضلون ، وفي : وعلمك وتعلم . قيل : والعام يراد به الخاص في : فإذا قضيتم الصلاة ظاهره العموم ، وأجمعوا على أن المراد بها صلاة الخوف خاصة ، لأن السياق يدل على ذلك ، ولذلك كانت أل فيه للعهد انتهى . وإذا كانت أل للعهد فليس من باب العام المراد به الخاص ، لأن أل للعموم وأل للعهد فهما قسيمان ، فإذا استعمل لأحد القسيمين فليس موضوعاً للآخر . والإبهام في قوله : بما أراك الله وفي : ما لم تكن تعلم . وخطاب عين ويراد به غيره وفي : ولا تكن للخائنين خصيماً فإنه صلى الله عليه وسلم محروس بالعصمة أن يخاصم عن المبطلين . والتتميم في قوله : وهو معهم للإنكار عليهم والتغليظ لقبح فعلهم لأن حياء الإنسان ممن يصحبه أكثر من حيائه وحده ، وأصل المعية في الإجرام ، والله تعالى منزه عن ذلك ، فهو مع عبده بالعلم والإحاطة . وإطلاق وصف الإجرام على المعاني فقد احتمل بهتاناً . والحذف في مواضع .