Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 114-126)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
النجوى مصدر كالدعوى يقال : نجوت الرجل أنجوه نجوى إذا ناجيته . قال الواحدي : ولا تكون النجوى إلا بين اثنين . وقال الزجاج : النجوى ما انفرد به الجماعة ، أو الإثنان سرّاً كان وظاهراً انتهى . وقال ابن عطية : المسارة ، وتطلق النجوى على القوم المتناجين ، وهو من باب قوم عدل وصف بالمصدر . وقال الكرماني : نجوى جمع نجي ، وتقدم الكلام في هذه المادة ، وتكرر هنا لخصوصية البنية . مريد من مرد ، عتا وعلا في الحذاقة ، وتجرد للشر والغواية . وقال ابن عيسى : وأصله التملس ، ومن شجرة مرداء أي ملساء تناثر ورقها ، وغلام أمرد لا نبات بوجهه ، وصرح ممرد مملس لا يعلق به شيء لملاسته ، والمارد الذي لا يعلق بشيء من الفضائل . البتك : الشق والقطع ، بتك يبتك ، وبتك للتكثير ، والبتك القطع واحدها بتكة . قال الشاعر : @ حتى إذا ما هوت كف الوليد لها طارت وفي كفه من ريشها بتك @@ محيص : مفعل من حاص يحيص ، زاع بنفور ومنه : فحاصوا حيصة حمر الوحش . وقول الشاعر : @ ولم ندر أن حصنا من الموت حيصة كم العمر باق والمدا متطاول @@ ويقال جاض بالجيم والضاد المعجمة والمحاص مثل المحيص . قال الشاعر : @ تحيص من حكم المنية جاهداً ما للرجال عن المنون محاص @@ وفي المثل : وقعوا في حيص بيص . وحاص باص إذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه ، ويقال : حاص يحوص حوصاً وحياصاً إذا نفر وزايل المكان الذي فيه . والحوص في العين ضيق مؤخرها . الخليل : فعيل من الخلة ، وهي الفاقة والحاجة . أو من الخلة وهي صفاء المودّة ، أو من الخلل . قال ثعلب : سمى خليلاً لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللاً إلا ملأته . وأنشد قول بشار : @ قد تخللت مسلك الروح مني وبه سمي الخليل خليلا @@ { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس } الضمير في نجواهم عائد على قوم طعمة الذين تقدم ذكرهم قاله : ابن عباس وغيره . وقال مقاتل : هم قوم من اليهود ناجوا قوم طعمة ، واتفقا معهم على التلبيس على الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر طعمة . وقال ابن عطية : هو عائد على الناس أجمع . وجاءت هذه الآيات عامة فاندرج أصحاب النازلة وهم قوم طعمة في ذلك العموم ، وهذا من باب الإيجاز والفصاحة ، لكون الماضي والمغاير تشملهما عبارة واحدة انتهى . وهذا الاستثناء منقطع إن كان النجوى مصدراً ، ويمكن اتصاله على حذف مضاف أي : إلا نجوى من أمر ، وقاله : أبو عبيدة . وإن كان النجوى المتناجين قيل : ويجوز في : مِن الخفض من وجهين : أن يكون تابعاً لكثير ، أو تابعاً للنجوى ، كما تقول : لا خير في جماعة من القوم إلا زيد إن شئت اتبعت زيد الجماعة ، وإن شئت اتبعته القوم . ويجوز أن يكون مِن أمر مجروراً على البدل من كثير ، لأنه في حيز النفي ، أو على الصفة . وإذا كان منقطعاً فالتقدير : لكن مَن أمر بصدقة فالخير في نجواه . ومعنى أمر : حث وحض . والصدقة تشمل الفرض والتطوّع . والمعروف عام في كل بر . واختاره جماعة منهم : أبو سليمان الدمشقي ، وابن عطية . فيندرج تحته الصدقة والاصلاح . لكنهما جردا منه واختصا بالذكر اهتماماً ، إذ هما عظيما الغذاء في مصالح العباد . وعطف بأو فجعلا كالقسم المعادل مبالغة في تجريدهما ، حتى صار القسم قسيماً . وقيل : المعروف الفرض . روي ذلك عن ابن عباس ومقاتل . وقيل : إغاثة الملهوف . قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب ، وبالمعروف ما يتصدق به على سبيل التطوع انتهى . وفي الحديث الصحيح : " كلُّ كلام ابن آدم عليه لا له إلا مَن كان أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو ذكر الله تعالى " وحدّث سفيان الثوري بهذا الحديث أقواماً فقال أحدهم : ما أشد هذا الحديث ! فقال له : ألم تسمع كل معروف صدقة ، وإنّ من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلقٍ . وقال الحطيئة : @ من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس @@ وظاهر قوله : أو إصلاح بين الناس ، أنه في كل شيء يقع فيه اختلاف ونزاع . وقيل : هو خاص بالإصلاح بين طعمة واليهودي المذكورين . قال أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : ذكر ثلاثة أنواع ، لأن عمل الخير إما أن يكون بدفع المضرة وإليه الإشارة بقوله : أو إصلاح بين الناس . أو بإيصال المنفعة إما جسمانياً وهو إعطاء المال ، وإليه الإشارة بقوله : بصدقة . أو روحانياً وهو تكميل القوة النظرية بالعلوم ، أو القوة العملية بالأفعال الحسنة ، ومجموعها عبارة عن الأمر بالمعروف ، وإليه الإشارة بقوله : أو معروف . وقال الراغب : يقال لكل ما يستحسنه العقل ويعرفه معروف ، ولكل ما يستقبحه وينكره منكر . ووجه ذلك أنه تعالى ركّز في العقول معرفة الخبر والشر ، وإليه أشار بقوله : { صبغة الله } [ البقرة : 138 ] { وفطرة الله } [ الروم : 30 ] وعلى ذلك ما اطمأنت إليه النفس لمعرفتها به انتهى . وهذه نزغة اعتزالية في أنّ العقل يحسن ويقبح . وقيل : هذه الثلاثة تضمنت الأفعال الحسنة ، وبدأ بأكثرها نفعاً وهو إيصال النفع إلى الغير ، ونبه بالمعروف على النوافل التي هي من الإحسان والتفضل ، والإصلاح بين الناس على سياستهم ، وما يؤدي إلى نظم شملهم انتهى . وقال عليه السلام : " ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة قيل : بلى يا رسول الله ، قال : صلاح ذات البين " وخصّ مَن أمر بهذه الأشياء ، وفي ضمن ذلك أنّ الفاعل أكثر استحقاقاً من الأمر ، وإذا كان الخير في نجوى الأمر به فلا يكون في من يفعله بطريق الأولى … { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً } لما ذكر أن الخير في مَن أمر ذكر ثواب من فعل ، ويجوز أن يريد : ومن يأمر بذلك ، فيعبر بالفعل عن الأمر ، كما يعبر به عن سائر الأفعال . وقرأ أبو عمرو وحمزة : يؤتيه بالياء ، والباقون بالنون على سبيل الالتفات ، ليناسب ما بعده من قوله : { نوله ما تولى ونصله } فيكون إسناد الثواب والعقاب إلى ضمير المتكلم العظيم ، وهو أبلغ من إسناده إلى ضمير الغائب . ومن قرأ بالياء لحظ الإسم الغائب في قوله : ابتغاء مرضاة الله ، وفي قوله : ابتغاء مرضاة الله دليل على أنه لا يجزي من الأعمال إلا ما كان فيه رضا الله تعالى ، وخلوصه لله دون رياء ولا سمعة . { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً } نزلت في طعمة بن أبيرق لما فضحه الله بسرقته ، وبرّأ اليهودي ، ارتد وذهب إلى مكة وتقدّم ذلك موته وسببه . ومما قيل فيه : إنه ركب في سفينة فسرق منها مالاً فعلم به ، فألقي في البحر . وقيل : لما سرق الحجاج السلمي استحى الحجاج منه لأنه كان ضيفه فأطلقه ، فلحق بحيرة بني سليم فعبد صنماً لهم ومات على الشرك . وقيل : نزلت في قوم طعمة قدموا فأسلموا ، ثم ارتدّوا . وتقدم معنى المشاقة في قوله : { فإنما هم في شقاق } [ البقرة : 137 ] ومن يشاقق : عام فيندرج فيه طعمة وغيره من المشاقين من بعد ما تبين له الهدى : أي اتضح له الحق الذي هو سبب الهداية . ولو لم يكن إلا إخبار الله نبيه عليه السلام بقصة طعمة وإطلاعه إياه على ما بيتوه وزوّروه ، لكان له في ذلك أعظم وازع وأوضح بيان ، وكان ذنب من يعرف الحق ويزيغ عنه أعظم من ذنب الجاهل ، لأنّ من لا يعرف الحق يستحق العقوبة لترك المعرفة ، لأن العمل لا يلزمه حتى يعرفه ، أو يعرفه من يصدقه . والعالم يستحق العقوبة بترك استعمال ما يقتضيه معرفته ، فهو أعظم جرماً إذا اطلع على الحق وعمل بخلاف ما يقتضيه على سبيل العناد لله تعالى ، إذ جعل له نور يهتدي به . وسبيل المؤمنين : هو الدين الحنيفي الذي هم عليه . وهذه الجملة المعطوفة هي على سبيل التوكيد والتشنيع ، وإلا فمن يشاقق الرسول هو متبع غير سبيل المؤمنين ضرورة ، ولكنه بدأ بالأعظم في الإثم ، وأتبع بلازمه توكيداً . واستدل الشافعي وغيره بهذه الآية على أن الإجماع حجة . وقد طول أهل أصول الفقه في تقرير الدلالة منها ، وما يرد على ذلك وذلك مذكور في كتب أصول الفقه . وقال الزمخشري : هو دليل على أنّ الإجماع حجة لا يجوز مخالفتها ، كما لا يجوز مخالفة الكتاب والسنة ، لأن الله تعالى جمع بين اتباع سبيل غير المؤمنين وبين مشاقة الرسول في الشرط ، وجعل جزاءه الوعيد الشديد ، فكان اتباعهم واجباً كموالاة الرسول انتهى كلامه . وما ذكره ليس بظاهر الآية المرتب على وصفين اثنين ، لا يلزم منه أن يترتب على كل واحد منهما ، فالوعيد إنما ترتب في الآية على من اتصف بمشاقة الرسول واتباع سبيل غير المؤمنين ، ولذلك كان الفعل معطوفاً على الفعل ، ولم يعد معه اسم شرط . فلو أعيد اسم الشرط وكان ، يكون ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، ومن يتبع غير سبيل المؤمنين لكان فيه ظهور مّا على ما ادّعوا ، وهذا كله على تسليم أن يكون قوله : ويتبع غير سبيل المؤمنين مغايراً لقوله : ومن يشاقق الرسول . وقد قلنا : إنه ليس بمغاير ، بل هو أمر لازم لمشاقة الرسول ، وذلك على سبيل المبالغة والتوكيد وتفظيع الأمر وتشنيعه . والآية بعد هذا كله هي وعيد الكفار ، فلا دلالة على جزئيات فروع مسائل الفقه . واستدل بهذه الآية على وجوب عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعلى أن كل مجتهد يسقط عنه الإثم . ومعنى قوله : ما تولى قال ابن عطية : وعيد بأن يترك مع فاسد اختياره . وقال الزمخشري : يجعله بالياء ، وما تولى من الضلالة بأن تخذله وتخلى بينه وبين ما اختار انتهى . وهذا على منزعه الاعتزالي . وقرىء : وتصله بفتح النون من صلاه . وقرأ ابن أبي عيلة : يوله ويصله بالياء فيهما جرياً على قوله : فسوف يؤتيه بالياء ، وفي هاء نوله ونصله : الإشباع والاختلاس والإسكان وقرىء بها . { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضلّ ضلالاً بعيداً } تقدّم مثل تفسير هذه الآية ، ونزلت قيل : في طعمة . وقيل : في نفر من قريش أسلموا ثم انقلبوا إلى مكة مرتدين . وقيل : في شيخ قال : لم أشرك بالله منذ عرفته ، إلا أنه كان يأتي ذنوباً ، وأنه ندم واستغفر ، إلا أنّ آخر ما تقدّم فقد افترى إثماً عظيماً ، وآخر هذه فقد ضل ضلالاً بعيداً ختمت كل آية بما يناسبها . فتلك كانت في أهل الكتاب ، وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، ووجوب اتباع شريعته ، ونسخها لجميع الشرائع ، ومع ذلك قد أشركوا بالله مع أن عندهم ما يدل على توحيد الله تعالى والإيمان بما نزل ، فصار ذلك افتراء واختلافاً مبالغاً في العظم والجرأة على الله . وهذه الآية هي في ناس مشركين ليسوا بأهل كتب ولا علوم ، ومع ذلك فقد جاءهم بالهدى من الله ، وبان لهم طريق الرشد فأشركوا بالله ، فضلوا بذلك ضلالاً يستبعد وقوعه ، أو يبعد عن الصواب . ولذلك جاء بعده : { إن يدعون من دونه إلا إناثاً } وجاء بعد تلك : { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } [ النساء : 49 ] وقوله : { انظر كيف يفترون على الله الكذب } [ النساء : 50 ] ولم يختلف أحد من المتأولين في أنّ المراد بهم اليهود ، وأن كان اللفظ عاماً . ولما كان الشرك من أعظم الكبائر ، كان الضلال الناشىء عنه بعيداً عن الصواب ، لأن غيره من المعاصي وإن كان ضلالاً لكنه قريب من أن يراجع صاحبه الحق ، لأن له رأس مال يرجع إليه وهو الإيمان ، بخلاف المشرك . ولذلك قال تعالى : { يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد } [ الحج : 12 ] . وناسب هنا ذكر الضلال لتقدم الهدى قبله { إن يدعون من دونه إلا إناثاً } المعنى : ما يعبدون من دون الله ويتخذونه إلهاً إلا مسميات تسمية الإناث . وكنى بالدعاء عن العبادة ، لأنّ من عبد شيئاً دعاه عند حوائجه ومصالحه . وكانوا يحلون الأصنام بأنواع الحلى ، ويسمونها أنثى وإناث ، جمع أنثى كرباب جمع ربى . قال ابن عباس ، والحسن ، وقتادة : المراد الخشب والحجارة ، فهي مؤنثات لا تعقل ، فيخبر عنها كما يخبر عن المؤنث من الأشياء . فيجيء قوله : إلا إناثاً ، عبارة عن الجمادات . وقال أبو مالك والسدي وابن زيد وغيرهم : كانت العرب تسمي أصنامها بأسماء مؤنثة كاللات والعزى ومناة ونايلة . ويردّ على هذا بأنها كانت تسمى أيضاً بأسماء مذكرة : كهبل ، وذي الخلصة . وقال الضحاك وغيره : المراد ما كانت العرب تعتقده من تأنيث الملائكة وعبادتهم إياها ، فقيل لهم : هذا على إقامة الحجة من فاسد قولهم . وقال الحسن : لم يكن حي من أحياء العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان ، وفي هذا تعبيرهم بالتأنيث لنقصه وخساسته بالنسبة للتذكير . وقال الراغب : أكثر ما عبدته العرب من الأصنام كانت أشياء منفعلة غير فاعلة ، فبكتهم الله تعالى أنهم مع كونهم فاعلين من وجه يعبدون ما ليس هو إلا منفعلاً من كل وجه ، وعلى هذا نبه إبراهيم عليه السلام بقوله : { لِمَ تعبد ما لا يسمع ولا يبصر } [ مريم : 42 ] . وقرأ أبو رجاء : إنْ تدعون بالتاء على الخطاب ، ورويت عن عاصم . وفي مصحف عائشة رضي الله عنها : إلا أوثاناً جمع وثن ، وهو الصنم . وقرأ بذلك أبو السوار والهناي . وقرأ الحسن : إلا أنثى على التوحيد . وقرأ ابن عباس ، وأبو حيوة ، والحسن ، وعطاء ، وأبو العالية ، وأبو نهيك ، ومعاذ القاري : أنثاً . قال الطبري : فيما حكى إناث كثمار وثمر . وقال غيره : أنث جمع أنيث ، كغرير وغرر . وقال المغربي : إلا إناثاً إلا ضعافاً عاجزين لا قدرة لهم ، يقال : سيف أنيث وميناثة بالهاء وميناث غير قاطع . قال الشاعر : @ فتخبرني بأن العقل عندي جراز لا أقل ولا أنيث @@ أنث في أمره لان ، والأنيث المخنث الضعيف من الرجال . وقرأ سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر ، وأبو المتوكل ، وأبو الجوزاء : إلا وثناً بفتح الواو والثاء من غير همزة . وقرأ ابن المسيب ، ومسلم بن جندب ، ورويت عن ابن عباس ، وابن عمر ، وعطاء : الا أنثـا ، يريدون وثناً ، فأبدل الهمزة واواً ، وخرج على أنه جمع جمع إذ أصله وثن ، فجمع على وثان كجمل وجمال ، ثم وثان على وثن كمثال ، ومثل وحمار وحمر . قال ابن عطية : هذا خطأ ، لأن فعالاً في جمع فعل إنما هو للتكثير ، والجمع الذي هو للتكثير لا يجمع ، وإنما يجمع جموع التقليل ، والصواب أن يقال : وثن جمع وثن دون واسطة ، كأسد وأسد انتهى . وليس قوله : وإنما يجمع جموع التقليل بصواب ، كامل الجموع مطلقاً لا يجوز أن تجمع بقياس سواء كانت للتكثير أم للتقليل ، نص على ذلك النحويون . وقرأ أيوب السجستاني : الاوثنا بضم الواو والثاء من غير همزة ، كشقق . وقرأت فرقة : الااثنا بسكون الثاء ، وأصله وثناً ، فاجتمع في هذا اللفظ ثماني قراءات : إناثاً ، وأنثى ، وأنثا ، وأوثاناً ، ووثناً ، ووثنا ، واثناً ، وأثنا . { وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً لعنه الله } المراد به إبليس قاله : الجمهور ، وهو الصواب ، لأن ما قاله بعد ذلك مبين أنه هو . وقيل : الشيطان المعين بكل صنم : أفرد لفظاً وهو مجموع في المعنى الواحد يدل على الجنس . قيل ؛ كان يدخل في أجواف الأصنام فيكلم داعيها ، ويحتمل أن يكون لعنه الله صفة ، وأن يكون خبراً عنه . وقيل : هو دعاء ، ولا يتعارض الحصران ، لأن دعاء الأصنام ناشىء عن دعائهم الشيطان ، لما عبدوا الشيطان أغراهم بعبادة الأصنام ، أو لاختلاف الدعاءين ، فالأول عبادة ، والثاني طواعية . وقال ابن عيسى : هو مثل : { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] يعني : أن نسبة دعائهم الأصنام هو على سبيل المجاز . وأما في الحقيقة فهم يدعون الشيطان . { وقال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً } أي نصيباً واجباً اقتطعته لنفسي من قولهم : فرض له في العطاء ، وفرض الجند رزقهم . والمعنى : لأستخلصنهم لغوايتي ، ولأخصنهم بإضلالي ، وهم الكفرة والعصاة . قال ابن عطية : المفروض هنا معناه المنحاز ، وهو مأخوذ من الفرض ، وهو الحز في العود وغيره ، ويحتمل أن يريد واجباً أن اتخذه ، وبعث النار هو نصيب إبليس . قال الحسن : من كل ألف تسعمائة وتسعون قالوا : ولفظ نصيب يتناول القليل فقط . والنص إنّ أتباع إبليس هم الكثير بدليل : { لأحتنكن ذريته إلا قليلاً } [ الإسراء : 62 ] { فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين } [ سبأ : 20 ] وهذا متعارض . وأجيب أن التفاوت إنما يحصل في نوع البشر ، أما إذا ضممت أنواع الملائكة مع كثرتهم إلى المؤمنين كانت الكثرة للمؤمنين . وأيضاً فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد ، نصيبهم عظيم عند الله تعالى . والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين فهم كالعدم . انتهى تلخيص ما أحب به . والذي أقول : إنّ لفظ نصيب لا يدل على القليل والكثير ، بدليل قوله : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } [ النساء : 7 ] الآية . والواو : قيل عاطفة ، وقيل واو الحال . { ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرنَّ خلق الله } هذه خمسة أقسم إبليس عليها : أحدها : اتخاذ نصيب من عباد الله وهو اختياره إياهم . والثاني : إضلالهم وهو صرفهم عن الهداية وأسبابها . والثالث : تمنيته لهم وهو التسويل ، ولا ينحصر في نوع واحد ، لأنه يمني كل إنسان بما يناسب حاله من طول عمر وبلوغ وطر وغير ذلك ، وهي كلها أماني كواذب باطلة . وقيل : الأماني تأخير التوبة . وقيل : هي اعتقاد أن لا جنة ولا نار ، ولا بعث ولا حساب . وقال الزمخشري : ولأمنينهم الأماني الباطلة من طول الأعمار ، وبلوغ الآمال ، ورحمة الله تعالى للمجرمين بغير توبة ، والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة ، ونحو ذلك انتهى . وهذا على منزعه الاعتزالي وولوعه بتفسير كتاب الله عليه من غير إشعار لفظ القرآن بما يقوله وينحله . والرابع : أمره إياهم الناشىء عنه تبتيك آذان الأنعام ، وهو فعلهم بالبحائر كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن . وجاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها قاله : عكرمة ، وقتادة ، والسدي . وقيل : فيه إشارة إلى كل ما جعله الله كاملاً بفطرته ، فجعل الإنسان ناقصاً بسوء تدبيره . والخامس أمره إياهم الناشىء عنه تغيير خلق الله تعالى . قال ابن عباس ، وابراهيم ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم . أراد تغيير دين الله ، ذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله : { فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله } [ الروم : 30 ] أي لدين الله . والتبديل يقع موقعه التغيير ، وإن كان التغيير أعم منه . ولفظ لا تبديل لخلق الله خبر ، ومعناه : النهي . وقالت فرقة منهم الزجاج : هو جعل الكفار آلهة لهم ما خلق للاعتبار به من الشمس والنار والحجارة ، وغير ذلك مما عبدوه . وقال ابن مسعود ، والحسن : هو الوشم وما جرى مجراه من التصنع للتحسين ، فمن ذلك الحديث في : " لعن الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله ولعن الواصلة والمستوصلة " انتهى . وقال ابن عباس أيضاً وأنس ، وعكرمة ، وأبو صالح ، ومجاهد ، وقتادة أيضاً : هو الخصاء ، وهو في بني آدم محظور . وكره أنس خصاء الغنم ، وقد رخص جماعة فيه لمنفعة السمن في المأكول ، ورخص عمر بن عبد العزيز في خصاء الخيل . وقيل للحسن : إن عكرمة قال ؛ هو الخصاء قال : كذب عكرمة ، هو دين الله تعالى . وقيل : التخنث . وقال الزمخشري : هو فقء عين الحامي وإعفاؤه عن الركوب انتهى . وناسب هذا أنه ذكر أثر ذلك تبتيك آذان الأنعام ، فناسب أن يكون التغيير هذا . وقيل : تغيير خلق الله هو أنَّ كل ما يوجده الله لفضيلة فاستعان به في رذيلة فقد غير خلقه . وقد دخل في عمومه ما جعله الله تعالى للإنسان من شهوة الجماع ليكون سبباً للتناسل على وجه مخصوص ، فاستعان به في السفاح واللواط ، فذلك تغيير خلق الله . وكذلك المخنث إذا نتف لحيته ، وتقنع تشبهاً بالنساء ، والفتاة إذا ترجلت متشبهة بالفتيان . وكل ما حلله الله فحرموه ، أو حرمه تعالى فحللوه . وعلى ذلك : { قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاًً } [ يونس : 59 ] وإلى هذه الجملة أشار المفسرون ، ولهذا قالوا : هو تغيير أحكام الله . وقيل : هو تغيير الإنسان بالاستلحاق أو النفي . وقيل : خضاب الشيب بالسواد . وقيل : معاقبة الولاة بعض الجناة بقطع الآذان ، وشق المناخر ، وكل العيون ، وقطع الأنثيين . ومن فسر بالوشم أو الخصاء أو غير ذلك مما هو خاص في التغيير ، فإنما ذلك على جهة التمثيل لا الحصر . وفي حديث عياض المجاشعي : " وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإن الشياطين ألهتهم وأحالتهم عن دينهم ، فحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ، وأمرتهم أن لا يغيروا خلقي " ومفعول أمر الثاني محذوف أي : ولآمرنهم بالتبتيك فيبتكن ، ولآمرنهم بالتغير فليغيرن . وحذف لدلالة ما بعده عليه . وقرأ أبو عمرو : ولآمرنهم بغير ألف ، كذا قاله ابن عطية . وقرأ أبي : وأضلنهم وأمنينهم وآمرنهم انتهى . فتكون جملاً مقولة ، لا مقسماً عليها . وجاء ترتيب هذه الجمل المقسم عليها في غاية من الفصاحة ، بدأ أولاً باستخلاص الشيطان نصيباً منهم واصطفائه إياهم ، ثم ثانياً بإضلالهم وهو عبارة عما يحصل في عقائدهم من الكفر ، ثم ثالثاً بتمنيتهم الأماني الكواذب والإطماعات الفارغة ، ثم رابعاً بتبتيك آذان الأنعام ، هو حكم لم يأذن الله فيه ، ثم خامساً بتغيير خلق الله وهو شامل للتبتيك وغيره من الأحكام التي شرعها لهم . وإنما بدأ بالأمر بالتبتيك وإن كان مندرجاً تحت عموم التغيير ، ليكون ذلك استدراجاً لما يكون بعده من التغيير العام ، واستيضاحاً من إبليس طواعيتهم في أول شيء يلقيه إليهم ، فيعلم بذلك قبولهم له . فإذا قبلوا ذلك أمرهم بجميع التغييرات التي يريدها منهم ، كما يفعل الإنسان بمن يقصد خداعه : يأمره أولاً بشيء سهل ، فإذا رآه قد قبل ما ألقاه إليه من ذلك أمره بجميع ما يريد منه . وإقسام إبليس على هذه الأشياء ليفعلنها يقتضي علم ذلك ، وأنها تقع إمّا لقوله تعالى . { لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } [ ص : 85 ] أو لكونه علم ذلك من جهة الملائكة ، أو لكونه لما استنزل آدم علم أن ذريته أضعف منه . { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } أي من يؤثر حظ الشيطان على حظه من الله . وكأنه لما قال إبليس : لأتخذن من عبادك نصيباً ، فذكر أنه يصطفيهم لنفسه ، أخبر أنهم قبلوا ذلك الاتخاذ وانفعلوا له ، فاتخذوه ولياً من دون الله . والوليّ هنا قال مقاتل : بمعنى الرب . وقال أبو سليمان الدمشقي : من الموالاة ، ورتب على هذا الاتخاذ الخسران المبين ، لأن من ترك حظه من الله لحظ الشيطان فقد خسرت صفقته . وقوله : من دون الله ، قيد لازم . لأنه لا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً إلا إذا لم يتخذ الله ولياً ، ولا يمكن أن يتخذ الشيطان ولياً ويتخذ الله ولياً ، لأنهما طريقان متباينان ، لا يجتمعان هدى وضلالة . وهذه الجملة الشرطية محذرة من اتباع الشيطان . { يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ } لفظان متقاربان والمعنى : أن الذي أقسم عليه مِن أن يمنيهم وقع بإخبار الله تعالى عنه بذلك ، واكتفى من الإخبار عن وقوع تلك الجمل التي أقسم عليها إبليس بوضوحها وظهورها . ولما كان الوعد والتمنية من أمور الباطن ، أخبر الله عنه بها . والمعنى : أنه يعدهم بالأمور الباطلة والزخارف الكاذبة ، وأنه لا ثواب ولا عقاب . { وما يعدهم الشيطان إلا غروراً } قرأ الأعمش : وما يعدهم يسكون الدال ، خفف لتوالي الحركات . وتقدّم تفسير الغرور ومعناه : هنا الخدع التي تظن نافعة ، ويكشف الغيب أنها ضارة . واحتمل النصب أن يكون مفعولاً ثانياً ، أو مفعولاً من أجله ، أو مصدراً على غير الصدر لتضمين يعدهم معنى يغرهم ، ويكون ثم وصف محذوف أي : إلا غروراً واضحاً أو نحوه ، أو نعتاً لمصدر محذوف أي : وعداً غروراً . أي : ذا غرور . { أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصاً } أخبر تعالى أنّ المكان الذي يأوون إليه ويستقرون فيه هو جهنم ، وأنهم لا يجدون عنها مراغاً يروغون إليه . وعنها : لا يجوز أن تتعلق بمحذوف ، لأنها لا تتعدّى بعن ، ولا بمحيصا وإن كان المعنى عليه لأنه مصدر ، فيحتمل أن يكون ذلك تبييناً على إضماراً عني . وجوزوا أن يكون حالاً من محيص ، فيتعلق بمحيص أي : كائناً عنها ، ولو تأخر لكان صفة . { والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً } لما ذكر مأوى الكفار ، ذكر مأوى المؤمنين ، وأسند الفعل إلى نون العظمة ، اعتناء بأنه تعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة وتشريفاً لهم . وقرىء : سيدخلهم بالياء . ولما رتب تعالى مصير مَن كان تابعاً لإبليس إلى النار لإشراكه وكفره وتغيير أحكام الله تعالى ، رتّب هنا دخول الجنة على الإيمان وعمل الصالحات . { وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّا } لما ذكر أنّ وعد الشيطان هو غرور باطل ، ذكر أنّ هذا الوعد منه تعالى هو الحق الذي لا ارتياب فيه ، ولا شك في إنجازه . والذين مبتدأ ، وسيدخلهم الخبر . ويجوز أن يكون من باب الاشتغال أي : وسندخل الذين آمنوا سندخلهم . وانتصب وعد الله حقاً على أنه مصدر مؤكد لغيره ، فوعد الله مؤكداً لقوله : سيدخلهم ، وحقاً مؤكد لوعد الله . { ومن أصدق من الله قيلاً } القيل والقول واحد ، أي : لا أحد أصدق قولاً من الله . وهي جملة مؤكدة أيضاً لما قبلها . وفائدة هذه التواكيد المبالغة فيما أخبر به تعالى عباده المؤمنين ، بخلاف مواعيد الشيطان وأمانته الكاذبة المخلفة لأمانيه . { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } قال ابن عباس ، والضحاك ، وأبو صالح ، ومسروق ، وقتادة ، والسدي ، وغيرهم : الخطاب للأمة . قال بعضهم : اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب فقالوا : ديننا أقدم من دينكم . وأفضل ، فنبينا قبل نبيكم . وقال المؤمنون : كتابنا يقضي على الكتب ، ونبينا خاتم الأنبياء ، ونحو هذا من المحاورة فنزلت . وقال مجاهد وابن زيد : الخطاب لكفار قريش ، وذلك أنهم قالوا : لن نبعث ولن نعذب ، وإنما هي حياتنا لنا فيها النعيم ، ثم لا عذاب . وقالت اليهود : نحن أبناء الله وأحباؤه . إلى نحو هذا من الأقوال كقولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } [ البقرة : 111 ] فرد الله تعالى على الفريقين . وقال الزمخشري في ليس : ضمير وعد الله ، أي : ليس ينال ما وعد الله من الثواب بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . والخطاب للمسلمين ، لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به ، ولذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم في الإيمان . وعن الحسن : ليس الإيمان بالتمني ، ولكن ما وقر في القلب ، وصدقه العمل . إنَّ قوماً ألهتم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم ، وقالوا : نحسن الظن بالله ، وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل . ويحتمل أن يكون الخطاب للمشركين لقولهم : إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيراً منهم وأحسن حالاً ، لأوتين مالاً وولداً إن لي عنده للحسنى . وكان أهل الكتاب يقولون : نحن أبناء الله وأحباؤه لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ، ويعضده تقدم ذكر أهل الشرك انتهى . وعلى هذه الأقوال وقع الاختلاف في اسم ليس ، وأقربها أنَّ الذي يعود الضمير عليه هو الوعد من أنه تعالى يدخلهم الجنة ، ويليه أن يعود على الإيمان المفهوم من قوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } كما ذهب إليه الحسن ، ثم إنه يعود على ما وقعت فيه محاورة المؤمنين وأهل الكتاب ، أو ما قالته قريش وأهل الكتاب على ما مر ذكره . وقال الحوفي : اسم ليس مضمر فيها على معنى : ليس الثواب عن الحسنات ولا العقاب على السيئات بأمانيكم ، لأنّ الاستحقاق إنما يكون بالعمل ، لا بالأماني . وقال أبو البقاء : ليس مضمر فيها ولم يتقدم له ذكر ، وإنما دل عليه سبب الآية ، وذلك أن اليهود والنصارى قالوا : نحن أصحاب الجنة . وقال المشركون : لا نبعث . فقال : ليس بأمانيكم أي : ليس ما ادعيتموه بأمانيكم . وقرأ الحسن ، وأبو جعفر ، وشيبة بن نصاح ، والحكم ، والأعرج : بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ساكنة الياء ، جمع على فعالل ، كما يقال : قراقير وقراقر ، جمع قرقور . { من يعمل سوءاً يجز به } قال الجمهور : اللفظ عام ، والكافر والمؤمن مجازيان بالسوء يعملانه . فمجازاة الكافر النار ، والمؤمن بنكبات الدنيا . فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لما نزلت قلت : يا رسول الله ما أشد هذه الآية جاءت قاصمة الظهر ، فقال صلى الله عليه وسلم : " إنما هي المصيبات في الدنيا " وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها . وقال به : أبي بن كعب ، وسأله الربيع بن زياد عن معنى الآية وكأنه خافها فقال له : أي ما كنت أظنك إلا أفقه مما أرى ، ما يصيب الرجل خدش أو غيره إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر . وخصص الحسن ، وابن زيد بالكفار يجازون على الصغائر والكبائر . وقال الضحاك : يعني اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب ، ورأى هؤلاء أن الله تعالى وعد المؤمنين بتكفير السيئات . وخصص السوء ابن عباس ، وابن جبير بالشرك . وقيل : السوء عام في الكبائر . { ولا يجدون لهم من دون الله ولياً ولا نصيراً } روى ابن بكار عن ابن عامر ولا يجد بالرفع على القطع . { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة } مِن الأولى هي للتبعيض ، لأن كل واحد لا يتمكن من عمل كل الصالحات ، وإنما يعمل منها ما هو تكليفه وفي وسعه . وكم مكلف لا يلزمه زكاة ولا حج ولا جهاد ، وسقطت عنه الصلاة في بعض الأحوال على بعض المذاهب . وحكى الطبري عن قوم : أنّ من زائدة ، أي : ومن يعمل الصالحات . وزيادة من في الشرط ضعيف ، ولا سيما وبعدها معرفة . ومِن الثانية لتبيين الإبهام في : ومن يعمل . وتقدم الكلام في أوفى قوله : { لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } [ آل عمران : 195 ] وهو مؤمن . جملة حالية ، وقيد في عمل الإنسان لأنه لو عمل من الأعمال الصالحة ما عمل فلا ينفعه إلا إن كان مؤمناً . قال الزمخشري : وإذا أبطل الله الأماني وأثبت أن الأمر كله معقود بالعمل الصالح وأن من أصلح عمله فهو الفائز ، ومن أساء عمله فهو الهالك ، تبين الأمر ووضح ، ووجب قطع الأماني وحسم المطامع ، والإقبال على العمل الصالح ، ولكنه نصح لا تعيه الآذان ، ولا تلقى إليه الأذهان انتهى . والذي تدل عليه الآية أن الإيمان شرط في الانتفاع بالعمل ، لأنّ العمل شرط في صحة الإيمان . { ولا يظلمون نقيراً } ظاهره : أنه يعود إلى أقرب مذكور وهم المؤمنون ، ويكون حكم الكفار كذلك . إذ ذكر أحد الفريقين يدل على الآخر ، أنّ كلاهما يجزى بعمله ، ولأنّ ظلم المسيء أنه يزاد في عقابه . ومعلوم أنه تعالى لا يزيد في عقاب المجرم ، فكان ذكره مستغنى عنه . والمحسن له ثواب ، وتوابع للثواب من فضل الله هي في حكم الثواب ، فجاز أن ينقص من الفضل . فنفي الظلم دلالة على أنه لا يقع نقص في الفضل . ويحتمل أن يعود الضمير في : ولا يظلمون إلى الفريقين ، عامل السوء ، وعامل الصالحات . وقرأ : يدخلون مبنياً للمفعول هنا ، وفي مريم ، وأوّلي غافر بن كثير وأبو عمر وأبو بكر . وقرأ كذلك ابن كثير وأبو بكرفي ثانية غافر . وقرأ كذلك أبو عمرو في فاطر . وقرأ الباقون مبنياً للفاعل . { ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن } تقدم الكلام على نحوه في قولين من أسلم وجهه لله وهو محسن . { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً } تقدم الكلام على ملة إبراهيم حنيفاً في قوله : { قل بل ملة إبراهيم حنيفاً } [ البقرة : 135 ] واتباعه . قال ابن عباس : في التوحيد . وقال أبو سليمان الدمشقي : في القيام لله بما فرضه . وقيل : في جميع شريعته إلا ما نسخ منها . { واتخذ الله إبراهيم خليلاً } هذا مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله . وتقدم اشتقاق الخليل في المفردات . والجمهور : على أنها من الخلة وهي المودّة التي ليس فيها خلل . وقول محمد بن عيسى الهاشمي : إنه إنما سمي خليلاً لأنه تخلى عما سوى خليله . فإن كان فسر المعنى فيمكن ، وإن كان أراد الاشتقاق فلا يصح لاختلاف المادتين . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يا جبريل بمَ اتخذ الله ابراهيم خليلاً ؟ قال : لإطعامه الطعام " والكرامة التي أكرمه الله بها ذكروها في قصة مطولة عن ابن عباس مضمونها : أن الله قلب له غرائر الرمل دقيقاً حواري عجن ، وخبز وأطعم الناس منه . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اتخذ الله ابراهيم خليلاً وموسى نجياً واتخذني حبيباً ثم قال : وعزتي وجلالي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجييّ " لما أثنى على من اتبع ملة ابراهيم أخبر بمزيته عنده واصطفائه ، ليكون ذلك أدعى إلى اتباعه . لأن من اختصه الله بالخلة جدير بأن يتبع أو ليبين أن تلك الخلة إنما سببها حنيفية ابراهيم عن سائر الأديان إلى دين الحق كقوله : { وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماماً } [ البقرة : 125 ] أي قدوة لإتمامك تلك الكلمات . ونبه بذلك على أنّ من عمل بشرعه كان له نصيب من مقامه . وليست هذه الجملة معطوفة على الجملة قبلها ، لأن الجملة قبلها معطوفة على صلة مَن ، ولا تصلح هذه للصلة ، وإنما هي معطوفة على الجملة الاستفهامية التي معناها الخبر ، أي : لا أحد أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله ، نبهت على شرف المنبع وفوز المتبع . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : ما موقع هذه الجملة ؟ ( قلت ) : هي جملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم : والحوادث جمة ، وفائدتها تأكيد وجوب اتباع ملته ، لأن من بلغ من الزلفى عند الله أن اتخذه خليلاً كان جديراً بأن تتبع ملته وطريقته انتهى . فإن عنى بالاعتراض غير المصطلح عليه في الضوء فيمكن أن يصح قوله ، كأنه يقول : اعترضت الكلام . وإن عنى بالاعتراض المصطلح عليه فليس بصحيح ، إذ لا يعترض إلا بين مفتقرين كصلة وموصول ، وشرط وجزاء ، وقسم ومقسم عليه ، وتابع ومتبوع ، وعامل ومعمول ، وقوله : كنحو ما يجيء في الشعر من قولهم : والحوادث جمة ، فالذي نحفظه أن مجيء الحوادث جمة إنما هو بين مفتقرين نحو قوله : @ وقد أدركتني والحوادث جمة أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل @@ ونحو قال الآخر : @ ألا هل أتاها والحوادث جمة بأن أمرأ القيس بن تملك بيقرا @@ ولا نحفظه جاء آخر كلام . { ولله ما في السموات وما في الأرض } لما تقدم ذكر عامل السوء وعامل الصالحات ، أخبر بعظيم ملكه . وملكه بجميع ما في السموات ، وما في الأرض ، والعالم مملوك له ، وعلى المملوك طاعة مالكه . ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة لما ذكرناه ، ولما تقدم ذكر الخلة ، فذكر أنه مع الخلة عبد الله ، وأن الخلة ليست لاحتياج ، وإنما هي خلة تشريف منه تعالى لابراهيم عليه السلام مع بقائه على العبودية . { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلّ شَىْء مُّحِيطاً } أي : عالماً بكل شيء من الجزئيات والكليات ، فهو يجازيهم على أعمالهم خيرها وشرها ، قليلها وكثيرها . وقد تضمنت هذه الآيات أنواعاً من الفصاحة والبلاغة والبيان والبديع . منها التجنيس المغاير في : فقد ضل ضلالاً ، وفي : فقد خسر خسراناً ، وفي : ومن أحسن وهو محسن . والتكرار في : لا يغفر ويغفر ، وفي : يشرك ومن يشرك ، وفي : لآمرنهم ، وفي : اسم الشيطان ، وفي : يعدهم وما يعدهم ، وفي : الجلالة في مواضع ، وفي : بأمانيكم ولا أماني ، وفي : من يعمل ومن يعمل ، وفي : ابراهيم . والطباق المعنوي في : ومن يشاقق والهدى ، وفي : أن يشرك به ولمن يشاء يعني المؤمن ، وفي : سواء والصالحات . والاختصاص في : بصدقة أو معروف أو إصلاح ، وفي : وهو مؤمن ، وملة ابراهيم ، وفي : ما في السموات وما في الأرض . والمقابلة في : من ذكر أو أنثى . والتأكيد بالمصدر في : وعد الله حقاً . والاستعارة في : وجهه لله عبر به عن القصد أو الجهة وفي : محيطاً عبر به عن العلم بالشيء من جميع جهاته . والحذف في عدة مواضع .