Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 127-141)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الشح : قال ابن فارس البخل مع الحرص . وتشاح الرجلان في الأمر لا يريدان أن يفوتهما ، وهو بضم الشين وكسرها . وقال ابن عطية : الشح الضبط على المعتقدات والإرادة ، ففي الهمم والأموال ونحو ذلك مما أفرط فيه ، وفيه بعض المذمة . وما صار إلى حيز الحقوق الشرعية وما تقتضيه المروءة فهو البخل ، وهو رذيلة . لكنها قد تكون في المؤمن ومنه الحديث : " قيل : يا رسول الله ، أيكون المؤمن بخيلاً ؟ قال : نعم " وأما الشح ففي كل أحد ، ويدل عليه : { وأحضرت الأنفس الشح } و { ومن يوق شح نفسه } [ التغابن : 16 ] لكل نفس شحاً وقول النبي عليه السلام : " أن تصدق وأنت صحيح شحيح " ولم يرد به واحداً بعينه ، وليس بحمد أن يقال هنا إن تصدق وأنت صحيح بخيل . المعلقة : هي التي ليست مطلقة ولا ذات بعل . قال الرجل : هل هي إلا خطة ، أو تعليق ، أو صلف ، أو بين ذاك تعليق . وفي حديث أم زرع : زوجي العشنق إن انطق أطلق ، وإن أسكت أعلق » شبهت المرأة بالشيء المعلق من شيء ، لأنه لا على الأرض استقر ، ولا على ما علق منه . وفي المثل : أرض من المركب بالتعليق . الخوض : الاقتحام في الشيء تقول : خضت الماء خوضاً وخياضاً ، وخضت الغمرات اقتحمتها ، وخاضه بالسيف حرّك سيفه في المضروب ، وتخاوضوا في الحديث تفاوضوا فيه ، والمخاضة موضع الخوض . قال الشاعر وهو عبد الله بن شبرمة : @ إذا شالت الجوزاء والنجم طالع فكل مخاضات الفرات معابر @@ والخوضة بفتح الخاء اللؤلؤة ، واختاض بمعنى خاض وتخوض ، تكلف الخوض . الاستحواذ : الاستيلاء والتغلب قاله : أبو عبيدة والزجاج . ويقال : حاذ يحوذ حوذاً وأحاذ ، بمعنى مثل حاذ وأحاذ . وشدت هذه الكلمة فصحت عينها في النقال ، قاس عليها أبو زيد الأنصاري . { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهنّ } سبب نزولها : أنّ قوماً من الصحابة رضي الله عنهم سألوا عن أمر النساء وأحكامهنّ في المواريث وغير ذلك . وأما مناسبتها فكذلك على تربيع العرب في كلامها أنها تكون في أمر ثم ، تخرج منه إلى شيء ، ثم تعود إلى ما كانت فيه أولاً . وهكذا كتاب الله يبين فيه أحكام تكليفه ، ثم يعقب بالوعد والوعيد ، والترغيب والترهيب ، ثم يعقب ذلك بذكر المخالفين المعاندين الذين لا يتبعون تلك الأحكام ، ثم بما يدل على كبرياء الله تعالى وجلاله ، ثم يعاد لتبيين ما تعلق بتلك الأحكام السابقة . وقد عرض هنا في هذه السورة أنْ بدأ بأحكام النساء والمواريث ، وذكر اليتامى ، ثم ثانياً بذكر شيء من ذلك في هذه الآية ، ثم أخيراً بذكر شيء من المواريث أيضاً . ولما كانت النساء مطرحاً أمرهنّ عند العرب في الميراث وغيره ، وكذلك اليتامى أكد الحديث فيهنّ مراراً ليرجعوا عن أحكام الجاهلية . والاستفتاء طلب الإفتاء ، وأفتاه إفتاء وفتيا وفتوى ، وأفتيت فلاناً في رؤياه عبرتها له . ومعنى الإفتاء إظهار المشكل على السائل . وأصله من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل ، فالمعنى : كأنه بيان ما أشكل فيثبت ويقوى . والاستفتاء ليس في ذوات النساء ، وإنما هو عن شيء من أحكامهن ، ولم يبين فهو مجمل . ومعنى يفتيكم فيهن : يبين لكم حال ما سألتم عنه وحكمه . { وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان } ذكروا في موضع ما من الإعراب : الرفع ، والنصب ، والجر ، فالرفع ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون معطوفاً على اسم الله أي : الله يفتيكم ، والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى . قال الزمخشري : يعني قوله : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } [ النساء : 3 ] وهو قوله أعجبني زيد وكرمه انتهى . والثاني : أن يكون معطوفاً على الضمير المستكن في يفتيكم ، وحسن الفصل بينهما بالمفعول والجار والمجرور . الثالث : أن يكون ما يتلى مبتدأ ، وفي الكتاب خبره على أنها جملة معترضة . والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ تعظيماً للمتلو عليهم ، وأن العدل والنصفة في حقوق اليتامى من عظائم الأمور المرفوعة الدرجات عند الله التي يجب مراعاتها والمحافظة عليها ، والمخل ظالم متهاون بما عظمه الله . ونحوه في تعظيم القرآن وأنه { في أم الكتاب لدينا لعليّ حكيم } [ الزخرف : 4 ] . وقيل في هذا الوجه : الخبر محذوف ، والتقدير : وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء لكم أو يفتيكم ، وحذف لدلالة ما قبله عليه . وعلى هذا التقدير يتعلق في الكتاب بقوله : يتلى عليكم ، أو تكون في موضع الحال من الضمير في يتلى ، وفي يتامى بدل من في الكتاب . وقال أبو البقاء في الثانية : تتعلق بما تعلقت به الأولى ، لأن معناها يختلف ، فالأولى ظرف ، والثانية بمعنى الباء أي : بسبب اليتامى ، كما تقول : جئتك في يوم الجمعة في أمر زيد . ويجوز أن تتعلق الثانية بالكتاب أي : فيما كتب بحكم اليتامى . ويجوز أن تكون الثانية حالاً ، فتتعلق بمحذوف . وأما النصب فعلى التقدير : ويبين لكم ما يتلى ، لأن بفتيكم معناها يبين فدلت عليها . وأما الجر فمن وجهين : أحدهما : أن تكون الواو للقسم كأنه قال : وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب ، والقسم بمعنى التعظيم ، قاله الزمخشري : والثاني : أن يكون معطوفاً على الضميرالمجرور في فيهن ، قاله محمد بن أبي موسى . وقال : أفتاهم الله فيما سألوا عنه ، وفي ما لم يسألوا عنه . قال ابن عطية : ويضعف هذا التأويل ما فيه من العطف على الضمير المخفوض بغير إعادة حرف الخفض . قال الزمخشري : ليس بسديد أن يعطف على المجرور في فيهن ، لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى انتهى . والذي أختاره هذا الوجه ، وإن كان مشهور مذهب جمهور البصريين أنّ ذلك لا يجوز إلا في الشعر ، لكن قد ذكرت دلائل جواز ذلك في الكلام . وأمعنتُ في ذكر الدلائل على ذلك في تفسير قوله : { وكفر به و ٱالمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] وليس مختلاً من حيث اللفظ ، لأنّا قد استدللنا علي جواز ذلك ، ولا من حيث المعنى كما زعم الزمخشري ، بل المعنى عليه ويكون على تقدير حذف أي : يفتيكم في متلوهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب ، من إضافة متلو إلى ضميرهن سائغة ، إذ الإضافة تكون لأدنى ملابسة لما كان متلواً فيهن صحت الإضافة إليهما . ومن ذلك قول الشاعر : @ إذا كوكـب الخرقـاء لاح بسحـرة @@ وأما قول الزمخشري : لاختلاله في اللفظ والمعنى فهو قول الزجاج بعينه . قال الزجاج : وهذا بعيد ، لأنه بالنسبة إلى اللفظ وإلى المعنى ، أما اللفظ فإنه يقتضي عطف المظهر على المضمر ، وذلك غير جائز . كما لم يجز قوله : { تساءلون به والأرحام } [ النساء : 1 ] وأما المعنى فإنه تعالى أفتى في تلك المسائل ، وتقدير العطف على الضمير يقتضي أنه أفتى فيما يتلى عليكم في الكتاب . ومعلوم أنه ليس المراد ذلك ، وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيما سألوه من المسائل انتهى كلامه . وقد بينا صحة المعنى على تقدير ذلك المحذوف ، والرفع على العطف على الله ، أو على ضمير يخرجه عن التأسيس . وعلى الجملة تخرج الجملة بأسرها عن التأسيس ، وكذلك الجر على القسم . فالنصب بإضمار فعل ، والعطف على الضمير يجعله تأسيساً . وإذا أراد الأمرين : التأسيس والتأكيد ، كان حمله على التأسيس هو الأولى ، ولا يذهب إلى التأكيد إلا عند اتضاح عدم التأسيس . وتقدم الكلام في تعلق قوله : { في يتامى النساء } . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : بم تعلق قوله : في يتامى النساء ؟ ( قلت ) : في الوجه الأول هو صلة يتلى أي : يتلى عليكم في معناهن : ويجوز أن يكون في يتامى النساء بدلاً من فيهنّ . وأما في الوجهين الأخيرين فبدل لا غير انتهى كلامه . ويعني بقوله في الوجه الأول : أن يكون وما يتلى في موضع رفع ، فأما ما أجازه في هذا الوجه من أنه يكون صلة يتلى فلا يتصوّر إلا إن كان في يتامى بدلاً من في الكتاب ، أو تكون في للسبب ، لئلا يتعلق حرفا جر بمعنى واحد بفعل واحد ، فهو لا يجوز إلا إن كان على طريقة البدل أو بالعطف . وأما ما أجازه في هذا الوجه أيضاً من أن في يتامى بدل من فيهن ، فالظاهر أنه لا يجوز للفصل بين البدل والمبدل منه بالعطف . ونظير هذا التركيب : زيد يقيم في الدار وعمرو في كسر منها ، ففصلت بين في الدار وبين في كسر منها بالعطف ، والتركيب المعهود : زيد يقيم في الدار في كسر منها . وعمرو واتفق من وقفنا على كلامه في التفسير على أنّ هذه الآية إشارة إلى ما مضى في صدر هذه السورة وهو قوله تعالى : { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } [ النساء : 4 ] وقوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } [ النساء : 2 ] وقوله : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء } [ النساء : 3 ] قالت عائشة رضي الله عنها : نزلت هذه الآية يعني : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أوّلاً ، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر النساء فنزلت : { ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهنّ } وما يتلى عليكم فعلى ما قاله المفسرون وما نقل عن عائشة يكون يفتيكم ويتلى فيه وضع المضارع موضع الماضي ، لأن الإفتاء والتلاوة قد سبقت . والإضافة في يتامى النساء من باب إضافة الخاص إلى العامّ ، لأن النساء ينقسمن إلى يتامى وغير يتامى . وقال الكوفيون : هي من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وهذا عند البصريين لا يجوز ، وذلك مقرر في علم النحو . وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : الإضافة في يتامى النساء ما هي ؟ ( قلت ) : إضافة بمعنى من هي إضافة الشيء إلى جنسه ، كقولك : خاتم حديد ، وثوب خز ، وخاتم فضة . ويجوز الفصل واتباع الجنس لما قبله ونصبه وجره بمن ، والذي يظهر في يتامى النساء وفي سحق عمامة أنها إضافة على معنى اللام ، ومعنى اللام الاختصاص . وقرأ أبو عبد الله المدني : في يتامى النساء بياءين ، وأخرجه ابن جني على أن الأصل أيامى ، فأبدل من الهمزة ياء ، كما قالوا : باهلة بن يعصر ، وإنما هو أعصر سمي بذلك لقوله : @ أثناك أن أباك غير لونه كر الليالي واختلاف الأعصر @@ وقالوا في عكس ذلك : قطع الله أيده يريدون يده ، فأبدل من الياء همزة . وأيامى جمع أيم على وزن فعيل ، وهو مما اختص به المعتل ، وأصله : أيايم كسيايد جمع سيد ، قلبت اللام موضع العين فجاء أيامى ، فأبدل من الكسرة فتحة انقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها . وقال ابن جني : ولو قال قائل كسر أيم على أيمي على وزن سكرى ، ثم كسر أيمي على أيامى لكان وجهاً حسناً . ومعنى ما كتب لهنّ قال ابن عباس ، ومجاهد ، وجماعة : هو الميراث . وقال آخرون : هو الصداق ، والمخاطب بقوله : لا تؤتونهنّ أولياء المرأة كانوا يأخذون صدقات النساء ولا يعطونهن شيئاً . وقيل : أولياء اليتامى كانوا يزوجون اليتامى اللواتي في حجورهن ولا يعدلون في صدقاتهن . وقرىء : ما كتب الله لهن . وقال أبو عبيدة : وترغبون أن تنكحوهن ، هذا اللفظ يحتمل الرغبة والنفرة فالمعنى في الرغبة في أن تنكحوهن لمالهن أو لجمالهن ، والنفرة وترغبون عن أن تنكحوهن لقبحهن فتمسكوهن رغبة في أموالهن . والأول قول عائشة رضي الله عنها وجماعة انتهى . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى ، فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل : هي غنية جميلة قال له : اطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع . وإذا قيل : هي دميمة فقيرة قال له : أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك . والمستضعفين معطوف على يتامى النساء ، والذي تلي فيهم قوله تعالى : { يوصيكم الله في أولادكم } [ النساء : 11 ] الآية وذلك أن العرب كانت لا تورث الصبية ولا الصبي الصغير ، وكان الكبير ينفرد بالمال ، وكانوا يقولون : إنما يرث من يحمي الحوزة ويرد الغنيمة ، ويقاتل عن الحريم ، ففرض الله تعالى لكل واحد حقه . ويجوز أن يكون خطاباً للأوصياء كقوله : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } [ النساء : 2 ] وقيل : المستضعفين هنا العبيد والإماء . { وأن تقوموا لليتامى بالقسط } هو في موضع جر عطفاً على ما قبله أي : وفي أن تقوموا . والذي تلي في هذا المعنى قوله تعالى : { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } [ النساء : 2 ] إلى غير ذلك مما ذكر في مال اليتيم . والقسط : العدل . وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون منصوباً بمعنى ويأمركم أن تقوموا . وهو خطاب للأئمة في أن ينظروا لهم ، ويستوفوا لهم حقوقهم ، ولا يخلوا أحداً يهتضمهم انتهى . وفي ري الظمآن : ويحتمل أن يرفع ، وأن تقوموا بالابتداء وخبره محذوف أي : خير لكم انتهى . وإذا أمكن حمله على غير حذف بكونه قد عطف على مجرور كان أولى من إضمار ناصب ، كما ذهب إليه الزمخشري . ومن كونه مبتدأ قد حذف خبره . { وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليماً } لما تقدم ذكر النساء ، ويتامى النساء ، والمستضعفين من الولدان ، والقيام بالقسط ، عقب ذلك بأنه تعالى يعلم ما يفعل من الخير بسبب من ذكر ، فيجازي عليه بالثواب الجزيل . واقتصر على ذكر فعل الخير لأنه هو الذي رغب فيه ، وإن كان تعالى يعلم ما يفعل من خير ومن شر ، ويجازي على ذلك بثوابه وعقابه . { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يُصالحا بينهما صُلحاً } نزلت بسبب ابن بعكك وامرأته قاله : مجاهد . وبسبب رافع بن خديج وامرأته خولة بنت محمد بن مسلمة ، وكانت قد أسنت فتزوج عليها شابة فآثرها ، فلم تصبر خولة فطلقها ثم راجعها ، وقال : إنما هي واحدة ، فإما أن تقوى على الأثرة وإلا طلقتك ففرت . قاله : عبيدة ، وسليمان بن يسار ، وابن المسيب . أو بسبب النبي صلى الله عليه وسلم وسودة بنت زمعة خشيت طلاقها فقالت : لا تطلقني واحبسني مع نسائك ، ولا تقسم لي ، ففعل ، فنزلت قاله : ابن عباس وجماعة . والخوف هنا على بابه ، لكنه لا يحصل إلا بظهور أمارات ما تدل على وقوع الخوف . وقيل : معنى خافت علمت . وقيل : ظنت . ولا ينبغي أن يخرج عن الظاهر ، إذ المعنى معه يصح . والنشوز : أن يجافى عنها بأن يمنعها نفسه ونفقته ، والمودة التي بينهما ، وأن يؤذيها بسبب أو ضرب . والإعراض : أن يقل محادثتها ومؤانستها لطعن في سن أو دمامة ، أو شين في خلق أو خلق أو ملال ، أو طموح عين إلى أخرى ، أو غير ذلك ، وهو أخف النشوز . فرفع الجناح بينهما في الصلح بجميع أنواع من بذل من الزوج لها على أن تصبر ، أو بذل منها له على أن يؤثرها وعن أن يؤثر وتتمسك بالعصمة ، أو على صبر على الأثرة ونحو ذلك ، فهذا كله مباح . ورتب رفع الجناح على توقع الخوف ، وظهور أمارات النشوز والإعراض ، وهو مع وقوع تلك وتحققها أولى . لأنه إذا أبيح الصلح مع خوف ذلك فهو مع الوقوع أوكد ، إذ في الصلح بقاء الألفة والمودّة . ومن أنواع الصلح أن تهب يومها لغيرها من نسائه كما فعلت سودة ، وأن ترضى بالقسم لها في مدة طويلة مرة ، أو تهب له المهر أو بعضه ، أو النفقة ، والحق الذي للمرأة على الزوج هو المهر والنفقة ، والقسم هو على إسقاط ذلك أو شيء منه على أن لا يطلقها ، وذلك جائز . وقرأ الكوفيون : يصلحا من أصلح على وزن أكرم . وقرأ باقي السبعة : يصالحا ، وأصله يتصالحا ، وأدغمت التاء في الصاد . وقرأ عبيدة السلماني : يصالحا من المفاعلة . وقرأ الأعمش : أن أصالحا ، وهي قراءة ابن مسعود ، جعل ماضياً . وأصله تصالح على وزن تفاعل ، فأدغم التاء في الصاد ، واجتلبت همزة الوصل ، والصلح ليس مصدر الشيء من هذه الأفعال التي قرئت ، فإن كان اسماً لما يصلح به كالعطاء والكرامة مع أعطيت وأكرمت ، فيحتمل أن يكون انتصابه على إسقاط حرف الجرّ أي : يصلح أي بشيء يصطلحان عليه . ويجوز أن يكون مصدراً لهذه الأفعال على حذف الزوائد . { والصلح خير } ظاهره أنّ خيراً أفعل التفضيل ، وأن المفضل عليه هو من النشوز والإعراض ، فحذف لدلالة ما قبله عليه . وقيل : من الفرقة . وقيل : من الخصومة ، وتكون الألف واللام في الصلح للعهد ، ويعني به صلحاً السابق كقوله تعالى : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } [ المزمل : 15 - 16 ] . وقيل : الصلح عام . وقيل : الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف ، ويندرج تحته صلح الزوجين ، ويكون المعنى : خير من الفرقة والاختلاف . وقيل : خير هنا ليس أفعل تفضيل ، وإنما معناه خير من الخيور ، كما أن الخصومة شرّ من الشرور . { وأحضرت الأنفس الشح } هذا من باب المبالغة جعل الشح كأنه شيء معدّ في مكان . وأحضرت الأنفس وسيقت إليه ، ولم يأت ، وأحضر الشح الأنفس فيكون مسوقاً إلى الأنفس ، بل الأنفس سيقت إليه لكون الشح مجبولاً عليه الإنسان ، ومركوزاً في طبيعته ، وخص المفسرون هذه اللفظة هنا . فقال ابن عباس وابن جبير : هو شح المرأة بنصيبها من زوجها ومالها . وقال الحسن وابن زيد : هو شح كل واحد منهما بحقه . وقال الماتريدي : ويحتمل أن يراد بالشح الحرص ، وهو أن يحرص كل على حقه يقال : هو شحيح بمودّتك ، أي حريص على بقائها ، ولا يقال في هذا بخيل ، فكان الشح والحرص واحد في المعنى ، وإن كان في أصل الوضع الشح للمنع والحرص للمطلب ، فأطلق على الحرص الشح لأن كل واحد منهما سبب لكون الآخر ، ولأنّ البخل يحمل على الحرص ، والحرص يحمل على البخل انتهى . وقال الزمخشري : في قوله : والصلح خير ، وهذه الجملة اعتراض وكذلك قوله : وأحضرت الأنفس الشح . ومعنى إحضار الأنفس الشح : إن الشح جعل حاضراً لها لا يغيب عنها أبداً ولا تنفك عنه ، يعني : أنها مطبوعة عليه . والغرض أنّ المرأة لا تكاد تسمح بأن يقسم لها ، أو يمسكها إذا رغب عنها وأحب غيرها انتهى . قوله . والصلح خبر جملة اعتراضية ، وكذلك وأحضرت الأنفس الشح هو باعتبار أنَّ قوله : { وإن يتفرقا } [ النساء : 130 ] معطوف على قوله : { فلا جناح عليهما أن يصلحا } وقوله : ومعنى إحضار الأنفس الشح إن الشح جعل حاضراً لا يغيب عنها أبداً ، جعله من باب القلب وليس بجيد ، بل التركيب القرآني يقتضي أنّ الأنفس جعلت حاضرة للشح لا تغيب عنه ، لأنّ الأنفس هو المفعول الذي لم يسم فاعله ، وهي التي كانت فاعلة قبل دخول همزة النقل ، إد الأصل : حضرت الأنفس الشح . على أنه يجوز عند الجمهور في هذا الباب إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل على تفصيل في ذلك ؛ وإن كان الأجود عندهم إقامة الأول . فيحتمل أن تكون الأنفس هي المفعول الثاني ، والشح هو المفعول الأول ، وقام الثاني مقام الفاعل . والأولى حمل القرآن على الأفصح المتفق عليه . وقرأ العدوي : الشح بكسر الشين وهي لغة . { وإن تحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيراً } ندب تعالى إلى الإحسان في العشرة على النساء وإن كرهن مراعاة لحق الصحبة ، وأمر بالتقوى في حالهن ، لأنّ الزوج قد تحمله الكراهة للزوجة على أذيتها وخصومتها لا سيما وقد ظهرت منه أمارات الكراهة من النشوز والإعراض . وقد وصى النبي صلى الله عليه وسلم بهنّ " فإنهنّ عوان عند الأزواج " . وقال الماتريدي : وإنْ تحسنوا في أن تعطوهنّ أكثر من حقهنّ ، وتتقوا في أنْ لا تنقصوا من حقهن شيئاً . أو أن تحسنوا في إيفاء حقهنّ والتسوية بينهنّ ، وتتقوا الجور والميل وتفضيل بعض على بعض . أو أن تحسنوا في اتباع ما أمركم الله به من طاعتهنّ ، وتتقوا ما نهاكم عنه عن معصيته انتهى . وختم آخر هذه بصفة الخبير وهو علم ما يلطف إدراكه ويدق ، لأنه قد يكون بين الزوجين من خفايا الأمور ما لا يطلع عليه إلا الله تعالى ، ولا يظهران ذلك لكل أحد . وكان عمران بن حطان الخارجي من أدم الناس ، وامرأته من أجملهنّ ، فأجالت في وجهه نظرها ثم تابعت الحمد لله ، فقال : ما لك ؟ قالت : حمدت الله على أني وإياك من أهل الجنة قال : كيف ؟ قالت : لأنك رزقت مثلي فشكرت ، ورزقت مثلك فصبرت ، وقد وعد الله الجنة الشاكرين والصابرين . { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } قال ابن عطية : روي أنها نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وميله بقلبه إلى عائشة رضي الله عنها انتهى . ونبه تعالى على انتفاء استطاعة العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ، ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن ، وفي ذلك عذر للرجال فيما يقع من التفاوت في الميل القلبي ، والتعهد ، والنظر ، والتأنيس ، والمفاكهة . فإن التسوية في ذلك محال خارج عن حد الاستطاعة ، وعلق انتفاء الاستطاعة في التسوية على تقدير وجود الحرص من الانسان على ذلك . وقيل : معنى أن تعدلوا في المحبة قاله : عمر ، وابن عباس ، والحسن . وقيل : في التسوية والقسم . وقيل : في الجماع . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول : هذه قسمتي فيما أملك ، فلا تؤاخذاني فيما تملك ولا أملك " يعني المحبة ، لأنّ عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه وكان عمر يقول : اللهم قلبي فلا أملكه ، وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل فيه . { ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة } نهى تعالى عن الجور على المرغوبعنها بمنع قسمتها من غير رضا منها ، واجتناب كل الميل داخل في الوسع ، ولذلك وقع النهي عنه أي : إن وقع منكم التفريط في شيء من المساواة فلا تجوروا كل الجور . والضمير في فتذروها عائد على الميل عنها المفهوم من قوله : فلا تميلوا كل الميل . وقرأ أُبيّ : فتذروها كالمسجونة . وقرأ عبد الله : فتذروها كأنها معلقة . وتقدم تفسير المعلقة في الكلام على المفردات . وقال ابن عباس : كالمحبوسة بغير حق . وقيل : معنى كالمعلقة كالبعيدة عن زوجها . قيل : أو عن حقها ، ذكره الماوردي مأخوذ من تعليق الشيء لبعده عن قراره . وتذروها يحتمل أن يكون مجزوماً عطفاً على تميلوا ، ويحتمل أن يكون منصوباً بإضمار أن في جواب النهي . وكالمعلقة في موضع نصب على الحال ، فتتعلق الكاف بمحذوف . وفي الحديث : " من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل " والمعنى : يميل مع إحداهما كل الميل ، لا مطلق الميل . وقد فاضل عمر في عطاء بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبت عائشة وقالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل بيننا في القسمة بماله ونفسه ، فساوى عمر بينهن ، وكان لمعاذ امرأتان فإذا كان عند إحداهما لم يتوضأ في بيت الأخرى ، فماتتا في الطاعون فدفنهما في قبر واحد . { وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفوراً رحيماً } قال الزمخشري : وإن تصلحوا ما مضى من قبلكم وتتداركوه بالتوبة ، وتتقوا فيما يستقبل ، غفر الله لكم انتهى . وفي ذلك نزغة الاعتزال . وقال ابن عطية : وإن تصلحوا ما أفسدتم بسوء العشرة ، وتلزموا ما يلزمكم من العدل فيما تملكون ، فإن الله كان غفوراً لما تملكونه متجاوزاً عنه . وقال الطبري : غفوراً لما سلف منكم من الميل كل الميل قبل نزول الآية انتهى . فعلى هذا هي مغفرة مخصصة لقوم بأعيانهم واقعوا المحظور في مدّة النبي صلى الله عليه وسلم ، وختمت تلك بالإحسان ، وهذه بالإصلاح . لأنّ الأولى في مندوب إليه إذ له أن لا يحسن وإن يشح ويصالح بما يرضيه ، وهذه في لازم ، إذ ليس له إلا أن يصلح ، بل يلزمه العدل فيما يملك . { وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته } الضمير في يتفرقا عائد على الزوجين المذكورين في قوله : { وإن امرأة خافت من بعلها } والمعنى : وإن شح كل منهما ولم يصطلحا وتفرّقا بطلاق ، فالله يغني كلاً منهما عن صاحبه بفضله ولطفه في المال والعشرة والسعة . ووجود المراد والسعة الغنى والمقدرة وهذا وعد بالغنى لكل واحد إذا تفرقا ، وهو معروف بمشيئة الله تعالى . ونسبة الفعل إليهما يدل على أنّ لكل منهما مدخلاً في التفرق ، وهو التفرق بالأبدان وتراخي المدة بزوال العصمة ، ولا يدل على أنه تفرق بالقول ، وهو طلاق لأنه مختص بالزوج ، ولا نصيب للمرأة في التفرق القولي ، فيسند إليها خلافاً لمن ذهب إلى أنّ التفرق هاهنا هو بالقول وهو الطلاق . وقرأ زيد بن أفلح : وإن يتفارقا بألف المفاعلة أي : وإن يفارق كل منهما صاحبه . وهذه الآية نظير قوله تعالى : { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } [ البقرة : 229 ] وقول العرب : إن لم يكن وفاق فطلاق . فنبه تعالى على أنّ لهما أن يتفارقا ، كما أنّ لهما أن يصطلحا . ودل ذلك على الجواز قالوا : وفي قوله تعالى : يغن الله كلاً من سعته إشارة إلى الغنى بالمال . وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما رووا طلقة ذوقة فقيل له في ذلك فقال : إني رأيت الله تعالى علق الغنى بأمرين فقال : { وأنكحوا الأيامى } [ النور : 32 ] الآية ، وقال : وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته . { وكان الله واسعاً حكيماً } ناسب ذلك ذكر السعة ، لأنه تقدّم من سعته . والواسع عام في الغنى والقدرة والعلم وسائر الكمالات . وناسب ذكر وصف الحكمة ، وهو وضع الشيء موضع ما يناسب ، لأن السعة ما لم تكن معها الحكمة كانت إلى فساد أقرب منها للصلاح قاله الراغب . وقال ابن عباس : يريد فيما حكم ووعظ . وقال الكلبي : فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريح بإحسان . وقال الماتريدي : أو حيث ندب إلى الفرقة عند اختلافهما ، وعدم التسوية بينهما . { ولله ما في السموات وما في الأرض } لما ذكر تعالى سعة رزقه وحكمته ، ذكر أنَّ له ملك ما في السموات وما في الأرض ، فلا يعتاض عليه غنى أحد ، ولا التوسعة عليه ، لأنّ من له ذلك هو الغني المطلق . { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله } وصينا : أمرنا أو عهدنا إليهم وإليكم ، ومن قبلكم : يحتمل أن يتعلق بأوتوا وهو الأقرب ، أو بوصينا . والمعنى : أن الوصية بالتقوى هي سنة الله مع الأمم الماضية فلستم مخصوصين بهذه الوصية . وإياكم عطف على الموصول ، وتقدّم الموصول لأن وصيته هي السابقة على وصينا فهو تقدم بالزمان . ومثل هذا العطف أعني : عطف الضمير المنصوب المنفصل على الظاهر فصيح جاء في القرآن وفي كلام العرب ، ولا يختص بالشعر ، وقد وهم في ذلك بعض أصحابنا وشيوخنا فزعم أنه لا يجوز إلا في الشعر ، لأنك تقدر على أن تأتي به متصلاً فتقول : آتيك وزيداً . ولا يجوز عنده : رأيت زيداً وإياك إلا في الشعر ، وهذا وهم فاحش ، بل من موجب انفصال الضمير كونه يكون معطوفاً فيجوز قام زيد وأنت ، وخرج بكر وأنا ، لا خلاف في جواز ذلك . فكذلك ضربت زيداً وإياك . والذين أوتوا الكتاب هو عام في الكتب الإلهية ، ولا ضرورة تدعو إلى تخصيص الذين أوتوا الكتاب باليهود والنصارى كما ذهب إليه بعض المفسرين ، لأن وصية الله بالتقوى لم تزل مذ أوجد العالم ، فليست مخصوصة باليهود والنصارى . وإن اتقوا : يحتمل أن تكون مصدرية أي : بأن اتقوا الله ، وأن تكون مفسرة التقدير أي : اتقوا الله لأن وصينا فيه معنى القول . { وإن تكفروا } ظاهره الخطاب لمن وقع له الخطاب بقوله : وإياكم ، وهم هذه الأمة ، ويحتمل أن يكون شاملاً للذين أوتوا الكتاب وللمخاطبين ، وغلب الخطاب على ما تقرر في لسان العرب كما تقول : قلت لزيد ذلك لا تضرب عمراً ، وكما تقول : زيد وأنت تخرجان . { فإن لله ما في السموات وما في الأرض } أي أنتم من جملة من يملكه تعالى وهو المتصرف فيكم ، إذ هو خالفكم والمنعم عليكم بأصناف النعم وأنتم مملوكون له ، فلا يناسب أن تكفروا من هو مالككم وتخالفون مره ، بل حقه أن يطاع ولا يعصى ، وأن يتقى عقابه ويرجى ثوابه ، ولله ما في سمائه وأرضه من يوحده ويعبده ولا يعصيه . { وكان الله غنياً } أي عن خلقه وعن عبادتهم لا تنفعه طاعتهم ، ولا يضره كفرهم . { حميداً } أي مستحقاً لأن يحمد لكثرة نعمه وإن كفرتموه أنتم . { ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً } الوكيل القائم بالأمور المنفذ فيها ما يراه ، فمن له ملك ما في السموات والأرض فهو كاف فيما يتصرف فيه لا يعتمد على غيره . وأعاد قوله : ولله ما في السموات وما في الأرض ثلاث مرات بحسب السياق . فقال ابن عطية : الأول : تنبيه على موضع الرجاء يهدي المتفرقين . والثاني : تنبيه على استغنائه عن العباد . والثالث : مقدمة للوعيد . وقال الزمخشري : وتكرير قوله : { ولله ما في السموات وما في الأرض } تقرير لما هو موجب تقواه ليتقوه ، فيطيعوه ولا يعصوه ، لأن الخشية والتقوى أصل الخير كله . وقال الراغب : الأول : للتسلية عما فات . والثاني : أنّ وصيته لرحمته لا لحاجة ، وأنهم إن كفروه لا يضروه شيئاً . والثالث : دلالته على كونه غنياً . وقال أبو عبد الله الرّازي : الأول : تقرير كونه واسع الجود . والثاني : للتنزيه عن طاعة المطيعين . والثالث : لقدرته على الإفناء والإيجاد ، والغرض منه تقرير كونه قادراً على مدلولات كثيرة فيحسن أن يذكر ذلك الدليل على كل واحد من مدلولاته ، وهذه الإعادة أحسن وأولى من الاكتفاء بذكر الدليل مرة واحدة ، لأنه عنده إعادة ذكر الدليل يحضر في الذهن ما يوجب العلم بالمدلول ، وكان العلم الحاصل بذلك المدلول أقوى وأجل ، فظهر أنّ هذا التكرار في غاية الكمال . وقال مكي : نبهنا أولاً على ملكه وسعته . وثانياً على حاجتنا إليه وغناه ، وثالثاً على حفظه لنا وعلمه بتدبيرنا . { إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين } ظاهره أنّ الخطاب لمن تقدم له الخطاب أولاً . وقال ابن عباس : الخطاب للمشركين والمنافقين ، والمعنى : ويأت بآخرين منكم . وقريب منه ما نقله الزمخشري : من أنه خطاب لمن كان يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب . وقال أبو سليمان الدمشقي : الخطاب للكفار وهو تهديد لهم ، كأنه قال : إن يشاء يهلككم كما أهلك من قبلكم إذ كفروا برسله . وقيل : للمؤمنين ينطلق عليه اسم الناس ، والمعنى : إن شاء يهلككم كما أنشأكم وأنشأ قوماً آخرين يعبدونه . وقال الطبري : الخطاب للذين شفعوا في طعمة بن أبيرق ، وخاصم وخاصموا عنه في أمر خيانته في الدّرع والدّقيق . وهذا التأويل بعيد ، وقد يظهر العموم فيكون خطاباً للعالم الحاضر الذي يتوجه إليه الخطاب والنداء . ويأت بآخرين أي : بناس غيركم ، فالمأتي به من نوع المذهب ، فيكون من جنس المخاطب المنادي وهم الناس . وروي أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على ظهر سلمان وقال : " إنهم قوم هذا يريد ابن فارس " ، وأجاز الزمخشري وابن عطية وغيرهما أن يكون المراد بآخرين من نوع المخاطبين . قال الزمخشري : ويأت بآخرين مكانكم أو خلقاً آخرين غير الإنس . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون وعيداً لجميع بني آدم ، ويكون الآخرون من غير نوعهم . كما أنه قد روي أنه كان في الأرض ملائكة يعبدون الله قبل بني آدم انتهى . وما جوّزه لا يجوز ، لأنّ مدلول آخر في اللغة هو مدلول غير خاص بجنس ما تقدم ، فلو قلت : جاء زيد وآخر معه ، أو مررت بامرأة وأخرى معها ، أو اشتريت فرساً وآخر ، وسابقت بين حمار وآخر ، لم يكن آخر ولا أخرى مؤنثه ، ولا تثنيته ولا جمعه إلا من جنس ما يكون قبله . ولو قلت : اشتريت ثوباً وآخر ، ويعني به : غير ثوب لم يجز ، فعلى هذا تجويزهم أن يكون قوله : بآخرين من غير جنس ما تقدم وهم الناس ليس بصحيح ، وهذا هو الفرق بين غير وبين آخر ، لأنّ غيراً تقع على المغاير في جنس أو في صفة ، فتقول : اشتريت ثوباً وغيره ، فيحتمل أن يكون ثوباً ، ويحتمل أن يكون غير ثوب وقلّ من يعرف هذا الفرق . { وكان الله على ذلك قديراً } أي على إذهابكم والإتيان بآخرين . وأتى بصيغة المبالغة في القدرة ، لأنه تعالى لا يمتنع عليه شيء أراده ، وهذا غضب عليهم وتخويف ، وبيان لاقتداره . { من كان يريد ثواب الدّنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } قال ابن عطية ، أي من كان لا رغبة له إلا في ثواب الدنيا ولا يعتقد أنّ ثمّ سواه فليس كما ظن ، بل عند الله ثواب الدّارين . فمن قصد الآخرة أعطاه من ثواب الدنيا وأعطاه قصده ، ومن قصد الدنيا فقط أعطاه من الدنيا ما قدر له ، وكان له في الآخرة العذاب . وقال الماتريدي : يحتمل أن يكون المعنى من عبد الأصنام طلباً للعز لا يحصل له ذلك ، ولكن عند الله عز الدنيا والآخرة ، أو للتقريب والشفاعة أي : ليس له ذلك ، ولكن اعبدوا الله فعنده ثواب الدنيا والآخرة ، لا عند من تطلبون . ويحتمل أن تكون في أهل النفاق الذين يراؤون بأعمالهم الصالحة في الدنيا لثواب الدنيا لا غير . ومن يحتمل أن تكون موصولة والظاهر أنها شرط وجوابه الجملة المقرونة بفاء الجواب : ولا بد في الجملة الواقعة جواباً لاسم الشرط غير الظرف من ضمير عائد على اسم الشرط حتى يتعلق الجزاء بالشرط ، والتقدير : ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ، هكذا قدّره الزمخشري وغيره . والذي يظهر أنّ جواب الشرط محذوف لدلالة المعنى عليه ، والتقدير : من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه ، وليطلب الثوابين ، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة . وقال الراغب : فعند الله ثواب الدنيا والآخرة تبكيت للإنسان حيث اقتصر على أحد السؤالين مع كون المسؤول مالكاً للثوابين ، وحث على أن يطلب منه تعالى ما هو أكمل وأفضل من مطلوبه ، فمن طلب خسيساً مع أنه يمكنه أن يطلب نفيساً فهو دنيء الهمة . قيل : والآية وعيد للمنافقين لا يريدون بالجهاد غير الغنيمة . وقيل : هي حض على الجهاد . { وكان الله سميعاً بصيراً } أي سميعاً لأقوالهم ، بصيراً بأعمالهم ونياتهم . { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين } قال الطبري : هي سبب نازلة بن أبيرق وقيام من قام في أمره بغير القسط . وقال السدّي : نزلت في اختصام غني وفقير عند النبي صلى الله عليه وسلم . ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر النساء والنشوز والمصالحة ، أعقبه بالقيام بأداء حقوق الله تعالى ، وفي الشهادة حقوق الله . أو لأنه لما ذكر تعالى طالب الدنيا وأنه عنده ثواب الدنيا والآخرة ، بيّن أنّ كمال السعادة أن يكون قول الإنسان وفعله الله تعالى ، أو لأنه لما ذكر في هذه السورة { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } [ النساء : 3 ] والإشهاد عند دفع أموال اليتامى إليهم وأمر ببذل النفس والمال في سبيل الله ، وذكر قصة ابن أبيرق واجتماع قومه على الكذب والشهادة بالباطل ، وندب للمصالحة ، أعقب ذلك بأن أمر عباده المؤمنين بالقيام بالعدل والشهادة لوجه الله سبحانه وتعالى ، وأتى بصيغة المبالغة في قوّامين حتى لا يكون منهم جور مّا ، والقسط العدل . ومعنى شهداء الله أي : لوجه الله ، لا يراعي في الشهادة إلا جهة الله تعالى . والظاهر أن معنى قوله : شهداء لله من الشهادة في الحقوق ، ولذلك أتبعه بما بعده من قوله : ولو على أنفسكم ، وهكذا فسره المفسرون . قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون قوله : شهداء لله معناه بالوحدانية ، ويتعلق قوله : ولو على أنفسكم ، بقوله : قوّامين بالقسط ، والتأويل الأول أبين انتهى كلامه . ويضعفه أنه خطاب للمؤمنين وهم شهداء لله بالوحدانية ، إلا إن أريد استمرار الشهادة . وتقدّمت صفة قوّامين بالقسط على شهداء الله . لأنّ القيام بالقسط أعم ، والشهادة أخص . ولأنّ القيام بالقسط فعل وقول ، والشهادة قول فقط . ومعنى : ولو على أنفسكم ، أي تشهدون على أنفسكم أي تقرّون بالحق وتقيمون القسط عليها . والظاهر أنه أراد بقوله : ولو على أنفسكم أنفس الشهداء لله تعالى . وأبعد من جوّز أن يكون المعنى في أنفسكم : الأهل والأقارب ، وأن يكون « أو الوالدين » تفسيراً لأنفسكم ، ويضعفه العطف بأو . وانتصب شهداء على أنه خبر بعد خبر . ومن ذهب إلى جعله حالاً من الضمير في قوّامين كأبي البقاء ، فقوله ضعيف . لأن فيها تقييداً لقيام بالقسط ، سواء كان مثل هذا أم لا . وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ما يشهد لهذا القول الضعيف ، قال ابن عباس : معناه كونوا قوّامين بالعدل في الشهادة على من كان ومجيء لو هنا لاستقصاء جميع ما يمكن فيه الشهادة ، لما كانت الشهادة من الإنسان على نفسه بصدد أن لا يقيمها لما جبل عليه المرء من محاباة نفسه ومراعاتها ، نبّه على هذه الحال ، وجاء هذا الترتيب في الاستقصاء في غاية من الحسن والفصاحة . فبدأ بقوله : ولو على أنفسكم ، لأنه لا شيء أعز على الإنسان من نفسه ، ثم ذكر الوالدين وهما أقرب إلى الإنسان وسبب نشأته ، وقد أمر ببرهما وتعظيمهما ، والحوطة لهما ، ثم ذكر الأقربين وهم مظنة المحبة والتعصب . وإذا كان هؤلاء أمر في حقهم بالقسط والشهادة عليهم ، فالأجنبي أحرى بذلك . والآية تعرضت للشهادة عليهم لا لهم ، فلا دلالة فيها على الشهادة لهم ، كما ذهب إليه بعض المفسرين . ولو شرطية بمعنى : أنّ وقوله على أنفسكم متعلق بمحذوف ، لأن التقدير : وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله ، هذا تقرير الكلام . وحذف كان بعد لو كثير تقول : ائتني بتمر ولو حشفاً ، أي : وإن كان التمر حشفاً فائتني به . وقال ابن عطية : ولو على أنفسكم متعلق بشهداء . فإن عنى شهداء هذا الملفوظ به فلا يصح ذلك ، وإن عنى الذي قدّرناه نحن فيصح . وقال الزمخشري : ولو على أنفسكم ، ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم . ( فإن قلت ) : الشهادة على الوالدين والأقربين أن يقول : أشهدُ أنّ لفلان على والدي كذا وعلى أقاربي ، فما معنى الشهادة على نفسه ؟ ( قلت ) : هي الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها ، ويجوز أن يكون المعنى : وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم ، أو على آبائكم وأقاربكم ، وذلك أن يشهد على من توقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره انتهى كلامه . وتقديره : ولو كانت الشهادة على أنفسكم ، ليس بجيد ، لأن المحذوف إنما يكون من جنس الملفوظ به قبل ليدل عليه . فإذا قلت : كن محسناً لمن أساء إليك ، فتحذف كان واسمها والخبر ، ويبقى متعلقه لدلالة ما قبله عليه ولا تقدره : ولو كان إحسانك لمن أساء . فلو قلت : ليكن منك إحسان ولو لمن أساء ، فتقدر : ولو كان الإحسان لمن أساء لدلالة ما قبله عليه ، ولو قدرته . ولو كنت محسناً لمن أساء إليك لم يكن جيداً ، لأنك تحذف ما لا دلالة عليه بلفظ مطابق . وقول الزمخشري : ويجوز أن يكون المعنى وإن كانت الشهادة وبالاً على أنفسكم هذا لا يجوز ، لأن ما تعلق به الظرف كون مقيد ، ولا يجوز حذف الكون المقيد ، لو قلت : كان زيد فيك وأنت تريد محباً فيك لم يجز ، لأنّ محباً مقيداً ، وإنما ذلك جائز في الكون المطلق ، وهو : تقدير كائن أو مستقر . { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما } أي إن يكن المشهود عليه غنياً فلا تمتنع من الشهادة عليه لغناه ، أو فقيراً فلا تمنعها ترحماً عليه وإشفاقاً . فعلى هذا الجواب محذوف ، لأن العطف هو بأو ، ولا يثني الضمير إذا عطف بها ، بل يفرد . وتقدير الجواب : فليشهد عليه ولا يراعي الغنيّ لغناه ، ولا لخوف منه ، ولا الفقير لمسكنته وفقره ، ويكون قوله : فالله أولى بهما ليس هو الجواب ، بل لما جرى ذكر الغني والفقير . عاد الضمير على ما دل عليه ما قبله كأنه قيل : فالله أولى بجنسي الغني والفقير أي : بالأغنياء والفقراء . وفي قراءة أبيّ : فالله أولى بهم ما يشهد بإرادة الجنس . وذهب الأخفش وقوم ، إلى أنّ أو في معنى الواو ، فعلى قولهم يكون الجواب : فالله أولى بهما ، أي : حيث شرع الشهادة عليهما ، وهو أنظر لهما منكم . ولولا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها . وقال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور : وقد ذكر العطف بالواو وثم وحتى ما نصه تقول : زيد أو عمر ، وقام زيد لا عمرو قام ، وكذلك سائر ما بقي من حروف العطف يعني غير الواو وحتى والفاء وثم ، والذي بقي بل ولكن وأم . قال : لا تقول قاما لأنّ القائم إنما هو أحدهما لا غير ، ولا يجوز قاما إلا في أو خاصة ، وذلك شذوذ لا يقاس عليه . قال الله تعالى : إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما ، فأعاد الضمير على الغني والفقير لتفرقهما في الذكر انتهى . وهذا ليس بسديد . ولا شذوذ في الآية ، ولا دليل فيها على جواز زيد أو عمرو قاما على جهة الشذوذ ، ولا غيره . ولأن قوله : فالله أولى بهما ليس بجواب كما قررناه ، والضمير ليس عائداً على الغني والفقير الملفوظ بهما في الآية ، وإنما يعود على ما دل عليه المعنى من جنسي الغني والفقير . وقرأ عبد الله : إن يكن غني أو فقير على أنّ كان تامة . { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } لما أمر تعالى بالقيام بالعدل وبالشهادة لمرضاة الله نهى عن اتباع الهوى ، وهو ما تميل إليه النفس مما لم يبحه الله تعالى وإن تعدلوا من العدول عن الحق ، أو من العدل وهو القسط . فعلى الأول يكون التقدير : إرادة أن تجوروا ، أو محبة أن تجوروا . وعلى الثاني يكون التقدير : كراهة أن تعدلوا بين الناس وتقسطوا . وعكس ابن عطية هذا التقدير فقال : يحتمل أن يكون معناه مخافة أن تعدلوا ، ويكون العدل بمعنى القسط كأنه قال : انتهوا خوف أن تجوروا ، أو محبة أن تقسطوا . فإن جعلت العامل تتبعوا فيحتمل أن يكون المعنى : محبة أن تجوروا انتهى كلامه . وهذا الذي قرره من التقديره يكون العامل في أنّ تعدلوا فعلاً محذوفاً من معنى النهي ، وكان الكلام قد تم عند قوله : فلا تتبعوا الهوى ، ثم أضمر فعلاً وقدره : انتهوا خوف أن تجورا ، أو محبة أن تقسطوا ، ولذلك قال : فإن جعلت العامل تتبعوا . والذي يدل عليه الظاهر أنّ العامل هو تتبعوا ، ولا حاجة إلى إضمار جملة أخرى ، فيكون فعلها عاملاً في أن تعدلوا . وإذا كان العامل تتبعوا فيكون التقدير الأول هو المتجه ، وعلى هذه التقادير فإنَّ تعدلوا مفعول من أجله . وجوّز أبو البقاء وغيره أن يكون التقدير : أن لا تعدلوا ، فحذف لا ، أي : لا تتبعوا الهوى في ترك العدل . وقيل : المعنى لا تتبعوا الهوى لتعدلوا أي : لتكونوا في اتباعكموه عدولاً ، تنبيهاً أنّ اتباع الهوى وتحري العدالة متنافيان لا يجتمعان . وقال أبو عبد الله الرازي : المعنى اتركوا متابعة الهوى حتى تصيروا موصوفين بصفة العدل ، والعدل عبارة عن ترك متابعة الهوى ، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر ، فالتقدير : لأجل أن تعدلوا . { وأن تلووا أو تعرضوا } الظاهر أنّ الخطاب للمأمورين بالقيام بالقسط ، والشهادة لله ، والمنهيين عن اتباع الهوى . وقال ابن عباس : هو في ليِّ الحاكم عنقه عن أحد الخصمين . وقال مجاهد نحوه قال : ليّ الحاكم شدقه لأحد الخصمين ميلاً إليه . وقال ابن عباس أيضاً ، والضحاك ، والسدي ، وابن زيد ، ومجاهد : هي في الشهود يلوي الشهادة بلسانه فيحرفها ولا يقول الحق فيها ، أو يعرض عن أداء الحق فيها ، ويقول معناه : يدافعوا الشهادة من ليّ الغريم . وقال الزمخشري : وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق ، أو حكومة العدل ، أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها . وقرأ جماعة في الشاذ ، وابن عامر ، وحمزة : وإن تلوا بضم اللام بواو واحدة ، ولحن بعض النحويين قارىء هذه القراءة . قال : لا معنى للواية هنا ، وهذا لا يجوز لأنها قراءة متواترة في السبع ، ولها معنى صحيح وتخريج حسن . فنقول : اختلف في قوله : وإن تلووا . فقيل : هي من الولاية أي : وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها ، والولاية على الشيء هو الإقبال عليه . وقيل : هو من اللي واصله : تلووا ، وأبدلت الواو المضمومة همزة ، ثم نقلت حركتها إلى اللام وحذفت . قال الفراء ، والزجاج ، وأبو علي ، والنحاس ، ونقل عن النحاس أيضاً أنه استثقلت الحركة على الواو فألقيت على اللام ، وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين . { فإن الله كان بما تعملون خبيراً } هذا فيه وعيد لمن لوى عن الشهادة أو أعرض عنها . { يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل } مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالقيام بالقسط ، والشهادة لله ، بين أنه لا يتصف بذلك إلا مَن كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية فأمر بها . والظاهر أنه خطاب للمؤمنين . ومعنى : آمنوا دوموا على الإيمان قاله : الحسن ، وهو أرجح . لأن لفظ المؤمن متى أطلق لا يتناول إلا المسلم . وقيل : للمنافقين أي : يا أيها الذين أظهروا الإيمان بألسنتهم آمِنوا بقلوبكم . وقيل : لمن آمن بموسى وعيسى عليهما السلام أي : يا من آمن بنبي من الأنبياء آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : هم جميع الخلق أي : يا أيها الذين آمنوا يوم أخذ الميثاق حين قال : { ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] . وقيل : اليهود خاصة . وقيل : المشركون آمنوا باللات والعزى والأصنام والأوثان . وقيل : آمنوا على سبيل التقليد ، آمنوا على سبيل الاستدلال . وقيل : آمنوا في الماضي والحاضر ، آمنوا في المستقبل . ونظيره : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } [ محمد : 19 ] مع أنه كان عالماً بذلك . وروي أن عبد الله بن سلام ، وسلاماً ابن أخته ، وسلمة بن أخيه ، وأسد وأسيداً ابني كعب ، وثعلبة بن قيس ويامين ، أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا : نؤمن بك وبكتابك ، وموسى والتوراة ، وعزير ، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال عليه السلام : " بل آمنوا بالله ورسوله وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله " فقالوا : لا نفعل ، فنزلت فآمنوا كلهم . والكتاب الذي نزل على رسوله هو القرآن بلا خلاف ، والكتاب الذي أنزل من قبلُ المراد به جنس الكتب الإلهية ، ويدل عليه قوله : آخراً . وكتبه وإنْ كان الخطاب لليهود والنصارى فكيف قيل لهم والكتاب الذي أنزل من قبل وهم مؤمنون بالتوراة والإنجيل . وأجيب عن ذلك بأنهم كانوا مؤمنين بهما فحسب ، وما كانوا مؤمنين بكلّ ما أنزل من الكتب ، فأمروا أن يؤمنوا بجميع الكتب . أو لأنّ إيمانهم ببعض لا يصح ، لأن طريق الإيمان بالجميع واحد وهو المعجزة . وقرأ العربيان وابن كثير : نزل وأنزل بالبناء للمفعول ، والباقون بالبناء للفاعل . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : لم قال نزل على رسوله وأنزل من قبل ؟ ( قلت ) : لأن القرآن نزل منجماً مفرقاً في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله انتهى . وهذه التفرقة بين نزل وأنزل لا تصح ، لأن التضعيف في نزل ليس للتكثير والتفريق ، وإنما هو للتعدية ، وهو مرادف للهمزة . وقد أشبعنا الرد على الزمخشري في دعواه ذلك أول سورة آل عمران . { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً } جواب الشرط ليس مترتباً على الكفر بالمجموع ، بل المعنى : ومن يكفر بشيء من ذلك . وقرىء : وكتابه على الأفراد ، والمراد جنس الكتب . ولما كان خير الإيمان علق بثلاثة : بالله ، والرسول ، والكتب ، لأن الإيمان بالكتب تضمن الإيمان بالملائكة واليوم الآخر ، وبولغ في ذلك لأن الملك مغيب عنا ، وكذلك اليوم الآخر لم يقع وهو منتظر ، فنص عليهما على سبيل التوكيد ، ولئلا يتأولهما متأول على خلاف ما هما عليه . فمن أنكر الملائكة أو القيامة فهو كافر ، وقدّم الكتب على الرسل على الترتيب الوجودي ، لأن الملك ينزل بالكتب والرسل تتلقى الكتب من الملك . وقدّم في الأمر بالإيمان الموصول على الكتاب ، لأن الرسول أول ما يباشره المؤمن ثم يتلقى الكتاب منه . فحيث نفى الإيمان كان على الترتيب الوجودي ، وحيث أثبت كان على الترتيب اللقائي ، وهو راجع للوجود في حق المؤمن . { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً } لمّا أمر بالأشياء التي تقدم ذكرها ، وذكر أنّ من كفر بها أو بشيء منها فهو ضال ، أعقب ذلك بفساد ، وطريقة من كفر بعد الإيمان ، وأنه لا يغفر له على ما بين . والظاهر أنها في المنافقين إذ هم المتلاعبون بالدين ، فحيث لقوا المؤمنين « قالوا آمنا » وإذا لقوا أصحابهم { قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءُون } [ البقرة : 14 ] ولذلك جاء بعده بشر المنافقين ، فهم مترددون بين إظهار الإيمان والكفر باعتبار من يلقونه . ومعنى ازداد كفراً بأن تم على نفاقه حتى مات . وقيل : ازدياد كفرهم هو اجتماعهم في استخراج أنواع المكر والكيد في حرب المسلمين ، وإلى هذا ذهب : مجاهد وابن زيد . وقال الحسن : هي في الطائفة من أهل الكتاب التي قالت : { آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } [ آل عمران : 72 ] قصدوا تشكيك المسلمين وازدياد كفرهم هو أنهم بلغوا في ذلك إلى حدّ الاستهزاء والسخرية بالإسلام . قال قتادة وأبو العالية وطائفة ، ورجحه الطبري : هي في اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بموسى والتوراة ثم كفروا ، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ثم كفروا ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وضعف هذا القول ابن عطية قال : يدفعه ألفاظ الآية ، لأنها في طائفة يتصف كل واحد منها بهذه الصفة من المترددين بين الكفر والإيمان ثم يزداد . وقال بعضهم : هي في اليهود آمنوا بالتوراة وموسى ثم كفرا بعزير ، ثم آمنوا بداود ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفراً عند مقدم محمد صلى الله عليه وسلم . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الآية في المترددين ، فإن المؤمن إذا ارتد ثم آمن قبلت توبته إلى الثلاث ، ثم لا تقبل ويحكم عليه بالنار . وقال القفال : ليس المراد بيان هذا العدد ، بل المراد ترددهم كما قال : { مذبذبين بين ذلك } [ النساء : 143 ] ويدل عليه قوله : { بشر المنافقين } . وقال الزمخشري : المعنى أنّ الذين تكرر منهم الارتداد وعهد منهم ازدياد الكفر والإصرار عليه يستبعد منهم أن يحدثوا ما يستحقون به المغفرة ويستوجبون اللطف من إيمان صحيح ثابت يرضاه الله ، لأن قلوب أولئك الذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر ، ومرئت على الردة ، وكان الإيمان أهون شيء عندهم وأدونه حيث يدلونهم فيه كرة بعد أخرى ، وليس المعنى أنهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردة ونصحت توبتهم لم تقبل منهم ولم يغفر لهم ، لأن ذلك مقبول حيث هو بذل الطاقة واستفراغ الوسع ، ولكنه استبعاد له واستغراب ، وأنه أمر لا يكاد يكون . وهكذا نرى الفاسق الذي يتوب ثم يرجع لا يكاد يرجى منه الثبات ، والغالب أنه يموت على شر حال وأقبح صورة انتهى كلامه . وفي بعضه ألفاظ من ألفاظ الاعتزال . { لم يكن الله ليغفر لهم } الجمهور على تقدير محذوف أي : ثم ازدادوا كفراً وماتوا على الكفر ، لأنه معلوم من هذه الشريعة أنه لو آمن وكفر مراراً ثم تاب عن الكفر وآمن ووافى تائباً ، أنه مغفور له ما جناه في كفره السابق وإن تردد فيه مراراً . وقيل : يحمل على قوم معينين علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر ولا يتوبون عنه ، فيكون قوله : لم يكن الله ليغفر لهم إخباراً عن موتهم على الكفر . وقيل : الكلام خرج على الغالب المعتاد ، وهو أنّ مَن كان كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر لم يكن للإيمان في قلبه وقع ولا عظم قدر . والظاهر من حال مثل هذا أنه يموت على الكفر . وفي قوله : لم يكن الله ليغفر لهم ، دلالة على أنه مختوم عليهم بانتفاء الغفران وهداية السبيل ، وأنهم تقرر عليهم ذلك في الدنيا وهم أحياء ، وهذه فائدة المجيء بلام الجحود ، ففرق بين لم يكن زيد يقوم وبين لم يكن زيد ليقوم . فالأول ليس فيه إلا انتفاء القيام ، والثاني فيه انتفاء الإرادة والإيتاء للقيام ، ويلزم من انتفاء إرادة القيام نفي القيام ، وقد تقدّم لنا الكلام على ذلك مشبعاً في سورة آل عمران . وقال الزمخشري : نفي للغفران والهداية ، وهي اللطف على سبيل المبالغة التي توطئها اللام ، والمراد : بنفيهما نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الخالص الثابت انتهى . وظاهر كلامه أنه يقول بقول الكوفيين ، وهو أنهم يقولون : إذا قلت لم يكن زيد ليقوم ، أنْ خبر لم يكن هو قولك ليقوم ، واللام للتأكيد زيدت في النفي ، والمنفي هو القيام ، وليست أن مضمرة بل اللام هي الناصبة . والبصريون يقولون : النصب بإضمار أنْ ، وينسبك من أن المضمرة والفعل بعدها مصدر ، وذلك المصدر لا يصح أنْ يكون خبراً ، لأنه معنى والمخبر عنه جثة . ولكن الخبر محذوف ، واللام تقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر لأنه جثة . وأضمرت أنْ بعدها وصارت اللام كالعوض من أن المحذوفة ، ولذلك لا يجوز حذف هذه اللام ، ولا الجمع بينها وبين أن ظاهرة . ومعنى قوله : والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما أن المعنى لم يكونوا ليؤمنوا فيغفر الله لهم ويهديهم . { بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم . ومعنى : بشر أخبر ، وجاء بلفظ بشر على سبيل التهكم بهم نحو قوله : { فبشرهم بعذاب أليم } [ التوبة : 34 ، آل عمران : 21 ] أي القائم لهم مقام البشارة ، هو الإخبار بالعذاب كما قال : " تحية بينهم ضرب وجيع " . وقال ابن عطية : جاءت البشارة هنا مصرحاً بقيدها ، فلذلك حسن استعمالها في المكروه . ومتى جاءت مطلقة فإنما عرفها في المحبوب . وفي هذه الآية دليل على أنّ التي قبلها إنما هي في المنافقين . وقال الماتريدي : بشر المنافقين يدل على أنّ قوله : { يا أيها الذين آمنوا } [ النساء : 144 ] في أهل النفاق والمراءاة ، لأنه لم يسبق ذكر للمنافقين سوى هذه الآية . ويحتمل أن يكون ابتداء من غير تقدم ذكر المنافقين . { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } أي : اليهود والنصارى ومشركي العرب أولياء أنصاراً ومعينين يوالونهم على الرسول والمؤمنين ، ونص من صفات المنافقين على أشدها ضرراً على المؤمنين وهي : موالاتهم الكفار ، واطراحهم المؤمنين ، ونبه على فساد ذلك ليدعه من عسى أن يقع في نوع منه من المؤمنين غفلة أو جهالة أو مسامحة . والذين : نعت للمنافقين ، أو نصب على الذم ، أو رفع على خبر المبتدأ . أي : هم الذين . { أيبتغون عندهم العزة } أي : الغلبة والشدّة والمنعة بموالاتهم ، وقول بعضهم لبعض : لا يتم أمر محمد . وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنهم لا عزة لهم فكيف تبتغي منهم ؟ وعلى خبث مقصدهم . وهو طلب العزة بالكفار والاستكثار بهم . { فإن العزة لله جميعاً } أي لأوليائه الذين كتب لهم العز والغلبة على اليهود وغيرهم . قال تعالى : { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } [ المجادلة : 21 ] . وقال : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } [ المنافقون : 8 ] . وقال تعالى : { من كان يريد العزة فلله العزة جميعاً } [ فاطر : 10 ] والفاء في فإن العزة لله دخلت لما في الكلام من معنى الشرط ، والمعنى : أنْ تبتغوا العزة من هؤلاء فإن العزة ، وانتصب جميعاً على الحال . { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره } الخطاب لمن أظهر الإيمان من مخلص ومنافق . وقيل : للمنافقين الذين تقدّم ذكرهم ، ويكون التفاتاً . وكانوا يجلسون إلى أحبار اليهود وهم يخوضون في القرآن يسمعون منهم ، فنهوا عن ذلك ، وذكروا بما نزل عليهم بمكة من قوله : { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره } . وقرأ الجمهور : وقد نزل مشدداً مبنياً للمفعول . وقرأ عاصم : نزل مشدداً مبنياً للفاعل . وقرأ أبو حيوة وحميد : نزل مخففاً مبنياً للفاعل . وقرأ النخعي : أنزل بالهمزة مبنياً للمفعول ، ومحل أن رفع أو نصب على حسب العامل ، فنصب على قراءة عاصم ، ورفع على الفاعل على قراءة أبي حيوة وحميد ، وعلى المفعول الذي لم يسم فاعله على قراءة الباقين . وإنْ هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف وتقديره : ذلك أنه إذا سمعتم . وما قدره أبو البقاء من قوله : أنكم إذا سمعتم ، ليس بجيد ، لأنها إذا خففت إنْ لم تعمل في ضمير إلا إذا كان ضمير أمر ، وشأن محذوف ، وإعمالها في غيره ضرورة نحو قوله : @ فلو أنك في يوم الرخاء سألتني طلاقك لم أبخل وأنت صديق @@ وخبر أن هي الجملة من إذا وجوابها . ومثال وقوع جملة الشرط خبراً لأنْ المخففة من الثقيلة قول الشاعر : @ فعلمت أن من تتقوه فإنه جزر لخامعة وفرخ عقاب @@ ويكفر بها في موضع نصب على الحال ، والضمير في معهم عائد على المحذوف الذي دل عليه قوله : يكفر بها ويستهزأ أي : فلا تقعدوا مع الكافرين المستهزئين ، وحتى غاية لترك القعود معهم . ومفهوم الغاية أنهم إذا خاضوا في غير الكفر والاستهزاء ارتفع النهي ، فجاز لهم أن يقعدوا معهم . والضمير عائد على ما دل عليه المعنى أي : في حديث غير حديثهم الذي هو كفر واستهزاء . ويحتمل أن يفرد الضمير ، وإنْ كان عائداً على الكفر وعلى الاستهزاء المفهومين من قوله : يكفر بها ويستهزأ بها ، لأنهما راجعان إلى معنى واحد ، ولأنه أجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في كونه لمفرد ، وإنْ كان المراد به اثنين . { إِنكم إذاً مثلهم } حكم تعالى بأنهم إذا قعدوا معهم وهم يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها ، وهم قادرون على الإنكار مثلهم في الكفر ، لأنهم يكونون راضين بالكفر ، والرضا بالكفر كفر . والخطاب في إنكم على الخلاف السابق أهو للمنافقين ؟ أم للمؤمنين ؟ ولم يحكم تعالى على المسلمين الذين كانوا يجالسون الخائضين من المشركين بمكة بأنهم مثل المشركين ، لعجز المسلمين إذ ذاك عن الإنكار بخلاف المدينة ، فإن الإسلام كان الغالب فيها والأعلى ، فهم قادرون على الإنكار ، والسامع للذم شريك للقائل ، وما أحسن ما قال الشاعر : @ وسمعك صن عن سماع القبيح كصون اللسان عن النطق به @@ قال ابن عطية : وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة كقول الشاعر : @ عن المرء لا تسئل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدى @@ وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه أخذ قوماً يشربون الخمر فقيل له عن أحد الحاضرين : إنه صائم فحمل عليه الأدب ، وقرأ : إنكم إذاً مثلهم . ومَن ذهب إلى أنّ معنى قوله : إنكم إذاً مثلهم ، إنْ خضتم كخوضهم ووافقتموهم على ذلك فأنتم كفار مثلهم ، قوله تنبو عنه دلالة الكلام . وإنما المعنى ما قدّمناه من أنكم إذا قعدتم معهم مثلهم . وإذا هنا توسطت بين الاسم والخبر ، وأفرد مثل ، لأن المعنى أنّ عصيانكم مثل عصيانهم ، فالمعنى على المصدر كقوله : { أنؤمن لبشرين مثلنا } [ المؤمنون : 47 ] وقد جمع في قوله : { ثم لا يكونوا أمثالكم } [ محمد : 38 ] وفي قوله : { وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون } [ الواقعة : 22 - 23 ] والإفراد والمطابقة في التثنية أو الجمع جائزان . وقرىء شاذاً مثلهم بفتح اللام ، فخرجه البصريون على أنه مبني لإضافته إلى مبني كقوله : لحق مثل ما أنكم تنطقون على قراءة من فتح اللام ، والكوفيون يجيزون في مثل أن ينتصب محلاً وهو الظرف ، فيجوز عندهم زيد مثلك بالنصب أي : في مثل حالك . فعلى قولهم يكون انتصاب مثلهم على المحل ، وهو الظرف . { إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً } لما اتخذوهم في الدنيا أولياء جمع بينهم في الآخرة في النار ، والمرء مع من أحب ، وهذا توعد منه تعالى تأكد به التحذير من مجالستهم ومخالطتهم . { الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين } المعنى الذين ينتظرون بكم ما يتجدد من الأحوال من ظفر لكم أو بكم ، فإن كان لكم فتح من الله قالوا : ألم نكن معكم مظاهرين . والمعنى : فاسهموا لنا بحكم إنّنا مؤمنون ، وإن كان للكافرين أي اليهود نصيب ، أي : نيل من المؤمنين قالوا : ألم نستحوذ عليكم ، أي : ألم نغلبكم وننتمكن من قتلكم وأسركم ، وأبقينا عليكم ، ونمنعكم من المؤمنين بأن ثبطناهم عنكم ، فاسهموا لنا بحكم أننا نواليكم فلا نؤذيكم ، ولا نترك أحداً يؤذيكم . قيل : المعنى أنّ الكفار واليهود هموا بالدخول في الإسلام فحذرهم المنافقون عن ذلك ، وبالغوا في تنفيرهم سيضعف أمر الرسول ، فمنوا عليهم عند حصول نصيب لهم بأنهم قد أرشدوهم لهذه المصالح ، فيكون التقدير : ونمنعكم من اتباع المؤمنين والدخول في دينهم فاسهموا لنا . وقيل : المعنى ألم نخبركم بأمرِ محمد وأصحابه ونطلعكم على سرهم ؟ وعن ابن عباس : ألم نحط من ورائكم ؟ والذين يتربصون بدل من الذين يتخذون ، أو صفة للمنافقين ، أو نصب على الذم ، أو رفع على خبر الابتداء محذوف . وسمى تعالى ظفر المؤمنين فتحاً عظيماً لهم ، وجعل منه تعالى فقال : فتح من الله ، وظفر الكافرين نصيباً ، ولم ينسبه إليه تعالى تحقيراً لهم وتخسيساً لما نالوه من المؤمنين ، لأن ظفر المؤمنين أمر عظيم تفتح له أبواب السماء كما قال أبو تمام في فتح المعتصم عمورية بلاد الروم : @ فتح تفتح أبواب السماء له وتبرز الأرض في أثوابها القشب @@ وأما ظفر الكافرين فهو حظ دنيوي يصيبونه . وقرأ ابن أبي عبلة : ونمنعكم بنصب العين بإضمار بعد واو الجمع ، والمعنى : ألم نجمع بين الاستحواذ عليكم ، ومنعكم من المؤمنين ؟ ونظيره قول الحطيئة : @ ألم أك جاركم ويكون بيني وبينكم المودة والإخاء @@ وقال ابن عطية : ونمنعكم بفتح العين على الصرف انتهى . يعني الصرف عن التشريك لما بعدها في إعراب الفعل الذي قبلها ، وليس النصب على الصرف من اصطلاح البصريين . وقرأ أُبي : ومنعناكم من المؤمنين ، وهذا معطوف على معنى التقدير : لأن المعنى إما استخوذنا عليكم ومنعناكم كقوله : { ألم نشرح لك صدرك ووضعنا } [ الشرح : 1 - 2 ] . إذ المعنى : أما شرحنا لك صدرك ووضعنا . { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } أي وبينهم وينصفكم من جميعهم . ويحتمل أن لا عطف ، ومعنى بينكم أي : بين الجمع منكم ومنهم ، وغلب الخطاب . وهذه تسلية للمؤمنين وأنس بما وعدهم به . { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } يعني يوم القيامة قاله : عليّ وابن عباس . وروي عن سبيع الحضرمي قال : كنت عند عليّ فقال له رجل : يا أمير المؤمنين أرأيت قول الله تعالى : { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً } كيف ذلك وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحياناً ؟ فقال عليّ : معنى ذلك يوم القيامة ، يوم الحكم . قال ابن عطية : وبهذا قال جميع أهل التأويل . قال ابن العربي : وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه ، وإنْ أوهم صدر الكلام معناه لقوله : فالله يحكم بينكم يوم القيامة . وقيل : أنه تعالى لا يمحو بالكفر ملة الإسلام ولا يستبيح بيضتهم كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان قال : " فإني سألت ربي أن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً " . وقيل : المعنى أنْ لا يتواصوا بالباطل ، ولا يتناهوا عن المنكر ، ويتقاعدوا عن التوبة ، فيكون تسليط العدو عليهم من قبلهم كما قال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } [ الشورى : 30 ] . قال ابن العربي : وهذا بين جداً ، ويدل عليه قوله في حديث ثوبان : حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً . وذلك أنّ حتى غاية ، فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم هلاك بعضهم بعضاً ، وسبي بعضهم لبعض . وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين ، فغلظت شوكة الكفار ، واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله . وقيل : سبيلاً من جهة الشرع ، فإن وجد فبخلاف الشرع . وقيل : سبيلاً حجة شرعية ولا عقلية يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت . وقيل : سبيلاً أي ظهوراً قاله : الكلبي . ويحمل على الظهور الدائم الكلي ، فيؤول معناه إلى أنهم لا يستبيحون بيضة الإسلام وإلا فقد ظهروا في مواطن كأحد قبل . وقد تضمنت هذه الآيات من الفصاحة والبديع فنوناً التجنيس المغاير في : أن يصلحا بينهما صلحاً ، وفي : فلا تميلوا كل الميل ، وفي : فقد ضل ضلالاً ، وفي : كفروا وكفروا . والتجنيس المماثل في : ويستفتونك ويفتيكم ، وفي : صلحاً والصلح ، وفي : جامع وجميعاً . والتكرار في : لفظ النساء ، وفي لفظ يتامى ، واليتامى ، ورسوله ، ولفظ الكتاب ، وفي آمنوا ثم كفروا ، وفي المنافقين . والتشبيه في : كالمعلقة . واللفظ المحتمل للضدين في : ترغبون أن تنكحوهن . والاستعارة في : نشوزاً ، وفي : وأحضرت الأنفس الشح ، وفي : فلا تميلوا ، وفي : قوامين ، وفي : وإن تلووا أو تعرضوا ، وفي : ازدادوا كفراً ولا ليهديهم سبيلاً ، وفي : يتربصون ، وفي : فتح من الله ، وفي : ألم نستحوذ ، وفي : سبيلاً . وهذه كلها للأجسام استعيرت للمعاني . والطباق في : غنياً أو فقيراً ، وفي : فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا واتباع الهوى جور وفي الكافرين والمؤمنين . والاختصاص في : بما تعملون خبيراً خص العمل . والالتفات في : وقد نزل عليكم إذا كان الخطاب للمنافقين . والحذف في مواضع .