Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 1-10)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الرقيب : فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقباً ورقوباً ورقباناً ، أحد النظر إلى أمر ليتحققه على ما هو عليه . ويقترن به الحفظ ومنه قيل للذي يرقب خروج السهم : رقيب . وقال أبو داود : @ كمقاعد الرقباء للـضضرباء أيديهم نواهد @@ والرقيب : السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء . والرقيب : ضرب من الحيات ، والمرقب : المكان العالي المشرف الذي يقف عليه الرقيب . والارتقاب : الانتظار . الحوب : الإثم . يقال : حاب يحوب حوباً وحوباً وحاباً وحؤوباً وحيابه . قال : المخبل السعدي . @ فلا يدخلني الدهر قبرك حوب فإنك تلقاه عليك حسيب @@ وقال آخر : @ وإن تهاجرين تكففاه غرايته لقد خطيا وحابا @@ وقيل : الحوب بفتح الحاء المصدر وبضمها الاسم ، وتحوَّب الرجل ألقى الحوب عن نفسه كتحنث وتأثم وتحرج . وفلان يتحوب من كذا يتوقع . وأصل الحوب : الزجر للإبل ، فسمى الإثم حوباً لأنه يزجر عنه ، وبه الحوبة الحاجة ، ومنه في الدعاء إليك أرفع حوبتي . ويقال : ألحق الله به الحوبة أي المسكنة والحاجة . مثنى وثلاث ورباع : معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة . ولا يراد بالمعدول عنه التوكيد ، إنما يراد بذلك تكرار العدد إلى غاية المعدود . كقوله : ونفروا بعيراً بعيراً ، وفصلت الحساب لك باباً باباً ، ويتحتم منع صرفها لهذا العدل . والوصف على مذهب سيبويه والخليل وأبي عمرو ، وأجاز الفرّاء أن تصرف ، ومنع الصرف عنده أولى . وعلة المنع عنده العدل والتعريف بنية الألف واللام ، وامتنع عنده إضافتها لأنها في نية الألف واللام . وامتنع ظهور الألف واللام لأنها في نية الإضافة ، وقد ذكرنا الردّ عليه في كتاب التكميل من تأليفنا . وقال الزمخشري : إنما منعت الصرف لما فيها من العدلين : عدلها عن صيغتها ، وعدلها عن تكريرها . وهي نكرات تعرفن بلام التعريف يقال : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع انتهى كلامه . وما ذهب إليه من امتناع الصرف لما فيها من العدلين : عدلها عن صيغتها ، وعدلها عن تكرّرها ، لا أعلم أحداً ذهب إلى ذلك ، بل المذاهب في علة منع الصرف المنقولة أربعة : أحدها : ما نقلناه عن سيبويه . والثاني : ما نقلناه عن الفراء . والثالث : ما نقل عن الزجاج وهو لأنها معدولة عن اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، وأنه عدل عن التأنيث . والرابع : ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه ، لأنه عدل عن لفظ اثنين وعدل عن معناه . وذلك أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد غير المعدولة تقول : جاءني اثنان وثلاثة ، ولا يجوز : جاءني مثنى وثلاث حتى يتقدّم قبله جمع ، لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل . فإذا قال : جاءني القوم مثنى ، أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين . فأما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الإخبار عن مقدار المعدودون غيره . فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى ، فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين انتهى ما قرر به هذا المذهب . وقد ردّ الناس على الزجاج قوله : أنه عدل عن التأنيث بما يوقف عليه في كتب النحو ، والزمخشري لم يسلك شيئاً من هذه العلل المنقولة ، فإن كان تقدّمه سلف ممن قال ذلك فيكون قد تبعه ، وإلا فيكون مما انفرد بمقالته . وأما قوله : يعرفن بلام التعريف ، يقال : فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع ، فهو معترض من وجهين : أحدهما : زعمه أنها تعرف بلام التعريف ، وهذا لم يذهب إليه أحد ، بل لم يستعمل في لسان العرب إلا نكرات . والثاني : أنه مثل بها ، وقد وليت العوامل في قوله : فلان ينكح المثنى ، ولا يلي العوامل ، إنما يتقدّمها ما يلي العوامل ، ولا تقع إلا خبراً كما جاء : " صلاة الليل مثنى " أو حالاً نحو : { ما طاب لكم من النساء مثنى } أو صفه نحو : { أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع } [ فاطر : 1 ] وقوله : @ ذئـاب يبغى النـاس مثنـى وموحـدا @@ وقد تجيء مضافة قليلاً نحو ، قول الآخر : @ بمثـنى الزقـاق المتـرعـات وبـالجـزر @@ وقد ذكر بعضهم أنها تلي العوامل على قلة ، وقد يستدل له بقول الشاعر : @ ضربت خماس ضربة عبشمي أدار سداس أن لا يستقيما @@ ومن أحكام هذا المعدول أنه لا يؤنث ، فلا تقول : مثناة ، ولا ثلاثة ، ولا رباعة ، بل يجري بغير تاء على المذكر والمؤنث . عال : يعول عولاً وعيالة ، مال . وميزان فلان عائل . وعال الحاكم في حكمه جار ، وقال أبو طالب في النبي صلى الله عليه وسلم : له شاهد من نفسه غير عائل وحكى ابن الأعرابي : أن العرب تقول : عال الرجل يعول كثر عياله . ويقال : عال يعيل افتقر وصار عالة . وعال الرجل عياله يعولهم ما نهم ومنه : " ابدأ بنفسك ثم بمن تعول " والعول في الفريضة مجاوزته لحد السهام المسماة . وجماع القول في عال : أنها تكون لازمة ومتعدية . فاللازمة بمعنى : مال ، وجار ، وكثر عياله ، وتفاقم ، وهذا مضارعه يعول . وعال الرجل افتقر ، وعال في الأرض ذهب فيها ، وهذا مضارعه يعيل . والمتعدية بمعنى أثقل ، ومان من المؤنة . وغلب منه أعيل صبري وأعجز . وإذا كان بمعنى أعجز فهو من ذوات الياء ، تقول : عالني الشيء يعيلني عيلاً ومعيلاً أعجزني ، وباقي المتعدّي من ذوات الواو . الصدقة على وزن سمرة المهر ، وقد تسكن الدال ، وضمها وفتح الصاد لغة أهل الحجاز . ويقال : صدقة بوزن غرفة . وتضم داله فيقال : صدقة وأصدقها أمهرها . النحلة : العطية عن طيب نفس . والنحلة الشرعة ، ونحلة الإسلام خير النحل . وفلان ينحل بكذا أي يدين به . هنيئاً مريئاً : صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ ، إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه . ويقال : هنا يهنا بغير همز ، وهنأني الطعام ومرّأني ، فإذا لم تذكر هنأني قلت : أمرأني رباعياً ، واستعمل مع هنأني ثلاثياً للاتباع . قال سيبويه : هنيئاً مريئاً صفتان نصبوهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل غير المستعمل إظهاره المختزل ، للدلالة التي في الكلام عليه كأنهم قالوا : ثبت ذلك هنيئاً مريئاً انتهى . وقال كثير : @ @ هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت @@ @@ قيل : واشتقاق الهنيء من هناء البعير ، وهو الدواء الذي يطلى به من الجرب ، ويوضع في عقره . ومنه قوله : @ متبذل تبدو محاسنه يضع الهناء مواضع النقب @@ والمريء ما يساغ في الحلق ، ومنه قيل لمجرى الطعام في الحلقوم إلى فم المعدة : المريء . آنس كذا أحس به وشعر . قال : @ آنست شاة وأفزعها القنـاص عصراً وقددنا الامساء @@ وقال الفراء : وجد . وقال الزجاج : علم . وقال عطاء : أبصر . وقال ابن عباس : عرف . وهي أقوال متقاربة . السديد من القول هو الموافق للحق منه . @ أعلمه الرماية كل يوم فلما اشتدّ ساعده رماني @@ المعنى : لما وافق الأغراض التي يرمي إليها . صلى بالنار تسخن بها ، وصليته أدنيته منها . التسعير : الجمر المشتعل من سعرت النار أوقدتها ، ومنه مسعر حرب . { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } الجمهور على أن هذه السورة مدنية إلا قوله تعالى : { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } [ النساء : 58 ] . وقال النحاس : مكية . وقال النقاش : نزلت عند الهجرة من مكة إلى المدينة انتهى . ولا خلاف أنّ فيها ما نزل بالمدينة . وفي البخاري : آخر آية نزلت { يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة } [ النساء : 176 ] ومناسبة هذه السورة لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولي الألباب ، ونبه تعالى بقوله : { أني لا أضيع عمل عامل منكم } [ آل عمران : 195 ] على المجازاة . وأخبر أنَّ بعضهم من بعض في أصل التوالد ، نبه تعالى في أول هذه السورة على إيجاد الأصل ، وتفرَّع العالم الإنساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم الاختلاف ، ولينبه بذلك على أنّ أصل الجنس الإنساني كان عابداً لله مفرده بالتوحيد والتقوى ، طائعاً له ، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه . فنادى تعالى : دعاء عامًّا للناس ، وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر ، وجعل سبباً للتقوى تذكاره تعالى إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة . ومن كان قادراً على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأنْ يتقي . ونبه بقوله : من نفس واحدة ، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض ، وألف له دون غيره ، ليتألف بذلك عباده على تقواه . والظاهر في الناس : العموم ، لأن الألف واللام فيه تفيده ، وللأمر بالتقوى وللعلة ، إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان . وقيل : المراد بالناس أهل مكة ، كان صاحب هذا القول ينظر إلى قوله : { تساءلون به والأرحام } لأن العرب هم الذين يتساءلون بذلك . يقول : أنشدك بالله وبالرحم . وقيل : المراد المؤمنون نظراً إلى قوله : { إنما المؤمنون إخوة } [ الحجرات : 10 ] وقوله : " المسلم أخو المسلم " والأغلب أنه إذا كان الخطاب والنداء بيا أيها الناس وكان للكفرة فقط ، أو لهم مع غيرهم أعقب بدلائل الوحدانية والربوبية ، لأنهم غير عارفين بالله ، فنبهوا على الفكر في ذلك لأن يعرفوا نحو : { يا أيها الناس إن وعد الله حق } [ فاطر : 5 ] { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] وإذا كان الخطاب للمؤمنين أعقب بذكر النعم لمعرفتهم بالربوبية . قيل : وجعل هذا المطلع مطلعاً السورتين : إحداهما : هذه وهي الرابعة من النصف الأول . والثانية : سورة الحج ، وهي الرابعة من النصف الثاني . وعلل هنا الأمر بالتقوى بما يدل على معرفة المبدأ ، وهناك بما يدل على معرفة المعاد . وبدأ بالمبدأ بأنه الأول ، وهو ظاهر الأمر بالتقوى أنها تقوى عامّة فيما يتقي من موجب العقاب ، ولذلك فسر باجتناب ما جاء فيه الوعيد . وقيل : يجوز أن يكون أراد بالتقوى تقوى خاصة ، وهو أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم ، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله . فقيل : اتقوا ربكم الذي وصل بينكم بأن جعلكم صنواناً مفرعة من أرومة واحدة فيما يجب لبعضكم على بعض ولبعض ، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه . وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة . وقال ابن عباس : المراد بالتقوى الطاعة . وقال مقاتل : الخشية . وقيل : اجتناب الكبائر والصغائر . والمراد بقوله : من نفس واحدة آدم . وقرأ الجمهور : واحدة بالتاء على تأنيث لفظ النفس . وقرأ ابن أبي عبلة : واحد على مراعاة المعنى ، إذ المراد به آدم ، أو على أن النفس تذكر وتؤنث ، فجاءت قراءته على تذكير النفس . ومعنى الخلق هنا : الاختراع بطريق التفريع ، والرجوع إلى أصل واحد كما قال الشاعر : @ إلى عرق الثرى وشجت عروقي وهذا الموت يسلبني شبابي @@ قال : في ري الظمآن ، ودلت الإضافة على جواز إضافة الشيء إلى الأصل الذي يرجع إليه ، وأن يعد ذلك الراجع إلى التوالد والتعاقب والتتابع . وعلى أنّا لسنا فيه كما زعم بعض الدهرية ، وإلا لقال : أخرجكم من نفس واحدة ، فأضاف خلقنا إلى آدم ، وإن لم نكن من نفسه بل كنا من نطفة واحدة حصلت بمن اتصل به من أولاده ، ولكنه الأصل انتهى . وقال الأصم : لا يدل العقل على أنَّ الخلق مخلوقين من نفس واحدة ، بل السمع . ولما كان صلى الله عليه وسلم أميّاً ما قرأ كتاباً ، كان معنى خلقكم دليلاً على التوحيد ، ومن نفس واحدة دليلاً على النبوّة انتهى . وفي قوله : من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر ، لتعريفه إياهم بأنهم من أصل واحد ودلالة على المعاد ، لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى . وزوجها : هي حواء . وظاهر منها ابتداء خلق حوّاء من نفسه ، وأنه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه ، وبه قال : ابن عباس ، ومجاهد ، والسدّي . وقتادة قالوا إن الله تعالى خلق آدم وحشاً في الجنة وحده ، ثم نام فانتزع الله تعالى أحد أضلاعه القصرى من شماله . وقيل : من يمينه ، فحلق منها حواء . قال ابن عطية : ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام : " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج ، فإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها " انتهى . ويحتمل أن يكون ذلك على جهة التمثيل لاضطراب أخلاقهن ، وكونهن لا يثبتن على حالة واحدة ، أي : صعبات المراس ، فهي كالضلع العوجاء كما جاء خلق الإنسان من عجل . ويؤيد هذا التأويل قوله : إن المرأة ، فأتى بالجنس ولم يقل : إن حوّاء . وقيل : هو على حذف مضاف ، التقدير : وخلق من جنسها زوجها قاله : ابن بحر وأبو مسلم لقوله : { من أنفسكم أزواجاً } [ الشورى : 11 ] و { رسولاً منهم } [ البقرة : 129 ] . قال القاضي : الأول أقوى ، إذ لو كانت حواء مخلوقة ابتداء لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة . ويمكن أن يجاب عنه بأن كلمة من لابتداء الغاية ، فلما كان ابتداء الخلق وقع بآدم ، صح أن يقال خلقكم من نفس واحدة . ولما كان قادراً على خلق آدم من التراب كان قادراً على خلق حواء أيضاً كذلك . وقيل : لا حذف ، والضمير في منها ، ليس عائداً على نفس ، بل هو عائد على الطينة التي فصلت عن طينة آدم . وخلقت منها حواء أي : أنها خلقت مما خلق منه آدم . وظاهر قول ابن عباس ومن تقدم : أنها خلقت وآدم في الجنة ، وبه قال : ابن مسعود . وقيل : قبل دخوله الجنة وبه قال : كعب الأحبار ووهب ، وابن إسحاق . وجاءت الواو في عطف هذه الصلة على أحد محاملها ، من أنَّ خلق حواء كان قبل خلق الناس . إذ الواو لا تدل على ترتيب زماني كما تقرر في علم العربية ، وإنما تقدم ذكر الصلة المتعلقة بخلق الناس ، وإن كان مدلولها واقعاً بعد خلق حواء ، لأجل أنهم المنادون المأمورون بتقوى ربهم . فكان ذكر ما تعلق بهم أولاً آكد ، ونظيره : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } [ البقرة : 21 ] ومعلوم أنّ خلقهم تأخر عن خلق من قبلهم . ولكنهم لما كانوا هم المأمورين بالعبادة والمنادين لأجلها ، اعتنى بذكر التنبيه على إنشائهم أولاً ، ثم ذكر إنشاء من كان قبلهم . وقد تكلف الزمخشري في إقرار ما عطف بالواو متأخراً عن ما عطف عليه ، فقدر معطوفاً عليه محذوفاً متقدماً على المعطوف في الزمان ، فقال : يعطف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها أو ابتدأها وخلق منها زوجها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه . والمعنى : شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها ، وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حوّاء من ضلع من أضلاعها . ولا حاجة إلى تكلف هذا الوجه مع مساغ الوجه الذي ذكرناه على ما اقتضته العربية . وقد ذكر ذلك الوجه الزمخشري فقال : يعطف على خلقكم . ويكون الخطاب في : يا أيها الناس الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . والمعنى : خلقكم من نفس آدم ، لأنهم من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حوّاء انتهى . ويجوز أن يكون قوله : وخلق منها زوجها معطوفاً على اسم الفاعل الذي هو واحدة التقدير من نفس وحدت ، أي انفردت . وخلق منها زوجها ، فيكون نظير { صافات ويقبضن } [ الملك : 19 ] وتقول العرب : وحد يحد وحدا ووحدة ، بمعنى انفرد . ومن غريب التفسير أنه عنى بالنفس الروح المذكورة فيما قيل أنه قال عليه الصلاة والسلام : " إن الله خلق الأرواح قبل الأجسام بكذا وكذا سنة " وعنى بزوجها البدن ، وعنى بالخلق التركيب . وإلى نحوه أشار بقوله تعالى : { ومن كل شيئين خلقنا زوجين } [ الذاريات : 49 ] وقوله : { سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم } [ يس : 36 ] ولا يصح ذلك في النبات إلا على معنى التركيب . وبدأ بذكر الزوجين والأزواج في الأشياء على أنها لا تنفك من تركيب ، والواحد في الحقيقة ليس إلا الله تعالى انتهى . وهذا مخالف لكلام المتقدمين ، قال بعضهم : ونبه بقوله : وخلق منها زوجها على نقصها وكمالها ، لكونها بعضه . وبث منهما أي من تلك النفس ، وزوجها أي : نشر وفرق في الوجود . ويقال : أبث الله الخلق رباعياً ، وبث ثلاثياً ، وهو الوارد في القرآن رجالاً كثيراً ونساء . قيل : نكر لما في التنكير من الشيوع ولم يكتف بالشيوع حتى صرح بالكثرة وقدم الرجال لفضلهم على النساء ، وخص رجالاً بذكر الوصف بالكثرة ، فقيل : حذف وصف الثاني لدلالة وصف الأول عليه ، والتقدير : ونساء كثيرة . وقيل : لا يقدر الوصف وإن كان المعنى فيه صحيحاً ، لأنّه نبه بخصوصية الرجال بوصف الكثرة ، على أن اللائق بحالهم الاشتهار والخروج والبروز ، واللائق بحال النساء الخمول والاختفاء . وفي تنويع ما خلق من آدم وحوّاء إلى رجال ونساء دليل على انتفاء الخنثى ، إذ حصر ما خلق في هذين النوعين ، فإنْ وجد ما ظاهره الإشكال فلا بد من صيرورته إلى هذين النوعين . وقرىء : وخالق منها زوجها ، وبات على اسم الفاعل وهو : خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو خالق . { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } كرر الأمر بالتقوى تأكيداً للأول . وقيل : لاختلاف التعليل وذكر أولاً : الرب الذي يدل على الإحسان والتربية ، وثانياً : الله الذي يدل على القهر والهيبة . بنى أولاً على الترغيب ، وثانياً على الترهيب . كقوله : { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } [ السجدة : 16 ] و { ويدعوننا رغباً ورهباً } [ الأَنبياء : 90 ] كأنه قال : إنه ربك أحسن إليك فاتق مخالفته ، فإن لم تتقه لذلك فاتقه لأنه شديد العقاب . وقرأ الجمهور من السبعة : تساءلون . وقرأ الكوفيون : بتخفيف السين ، وأصله تتساءلون . قال ابن عطية : وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً ، وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة . قال أبو علي : وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال ، كما قالوا : طست فابدلوا من السين الواحدة تاء ، إذ الأصل طس . قال العجاج : @ لو عرضت لأسقفي قس أشعث في هيكله مندس حن إليها كحنين الطس @@ انتهى . أما قول ابن عطية : حذفوا التاء الثانية فهذا مذهب أهل البصرة . وذهب هشام بن معاوية الضرير الكوفي : إلى أنّ المحذوفة هي الأولى ، وهي تاء المضارعة ، وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها في علم النحو . وأما قوله : وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى ، كان ينبغي أن ينبه على الإثبات ، إذ يجوز الإثبات وهو الأصل ، والإدغام وهو قريب من الأصل ، إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم . والحذف ، لاجتماع المثلين . وظاهر كلامه اختصاص الادغام والحذف بتتفاعلون ، وليس كذلك . أما الإدغام فلا يختص به ، بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر . وأما الحذف فيختص بما دخلت عليه التاء من المضارع ، فقوله : لاجتماع حروف متقاربة ظاهرة تعليل الحذف فقط لقربه ، أو تعليل الحذف والإدغام ، وليس كذلك . أما إن كان تعليلاً فليس كذلك ، بل الحذف علة اجتماع متماثلة لا متقاربة . وأما إن كان تعليلاً لهما فيصح الإدغام لا الحذف كما ذكرنا . وأما قول أبي علي : إذا اجتمعت المتقاربة فكذا ، فلا يعني أن ذلك حكم لازم ، إنما معناه : أنه قد يكون التخفيف بكذا ، فكم وجد من اجتماع متقاربة لم يخفف لا بحذف ولا إدغام ولا بدل . وأما تمثيله بطست في طس فليس البدل هنا لاجتماع ، بل هذا من اجتماع المثلين كقولهم في لص لصت . ومعنى يتساءلون به : أي يتعاطون به السؤال ، فيسأل بعضكم بعضاً . أو يقول : أسألك بالله أن تفعل ، وظاهر تفاعل الاشتراك أي : تسأله بالله ، ويسألك بالله . وقالت طائفة : معناه تسألون به حقوقكم وتجعلونه معظماً لها . وقرأ عبد الله : تسألون به مضارع سأل الثلاثي . وقرى : تسلون بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى السين . قال ابن عباس : معنى تساءلون به أي تتعاطفون . وقال الضحاك والربيع : تتعاقدون وتتعاهدون . وقال الزجاج : تتطلبون به حقوقكم والأرحام . قرأ جمهور : السبعة بنصب الميم . وقرأ حمزة : بجرها ، وهي قراءة النخعي وقتادة والأعمش . وقرأ عبد الله بن يزيد : بضمها ، فأما النصب فظاهره أن يكون معطوفاً على لفظ الجلالة ، ويكون ذلك على حذف مضاف ، التقدير : واتقوا الله ، وقطع الأرحام . وعلى هذا المعنى فسرها ابن عباس وقتادة والسدي وغيرهم . والجامع بين تقوى الله وتقوى الأرحام هذا القدر المشترك ، وإن اختلف معنى التقويين ، لأن تقوى الله بالتزام طاعته واجتناب معاصيه ، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يفضل بالبر والإحسان ، وبالحمل على القدر المشترك يندفع قول القاضي : كيف يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة ؟ ونقول أيضاً أنه في الحقيقة من باب عطف الخاص على العام ، لأن المعنى : واتقوا الله أي اتقوا مخالفة الله . وفي عطف الأرحام على اسم الله دلالة على عظم ذنب قطع الرحم ، وانظر إلى قوله : { لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى } [ البقرة : 83 ] كيف قرن ذلك بعبادة الله في أخذ الميثاق . وفي الحديث : " من أبرّ ؟ قال : أمّك وفيه : أنت ومالك لأبيك " وقال تعالى في ذم من أضله : من الفاسقين { الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } البقرة : 27 ] . وقيل : النصب عطفاً على موضع به كما تقول : مررت بزيد وعمراً . لما لم يشاركه في الاتباع على اللفظ اتبع على موضعه . ويؤيد هذا القول قراءة عبد الله : تساءلون به وبالأرحام . أما الرفع فوجه على أنه مبتدأ والخبر محذوف قدره ابن عطية : والأرحام أهل أن توصل . وقدره الزمخشري : والأرحام مما يتقى ، أو مما يتساءل به ، وتقديره أحسن من تقدير ابن عطية ، إذ قدر ما يدل عليه اللفظ السابق ، وابن عطية قدر من المعنى . وأما الجر فظاهره أنه معطوف على المضمر المجرور من غير إعادة الجار ، وعلى هذا فسرها الحسن والنخعي ومجاهد . ويؤيده قراءة عبد الله : وبالأرحام . وكانوا يتناشدون بذكر الله والرحم . قال الزمخشري : وليس بسديد يعني : الجر عطفاً على الضمير . قال : لأن الضمير المتصل متصل كاسمه ، والجار والمجرور كشيء واحد ، فكانا في قولك : مررت به وزيد ، وهذا غلامه وزيد شديدي الاتصال ، فلما اشتد الاتصال لتكرره اشتبه العطف على بعض الكلمة فلم يجر ، ووجب تكرير العامل كقولك : مررت به وبزيد ، وهذا غلامه وغلام زيد . ألا ترى إلى صحة رأيتك وزيداً ، ومررت بزيد وعمرو لما لم يقو الاتصال لأنه لم يتكرر ؟ وقد تمحل لصحة هذه القراءة بأنها على تقدير تكرير الجار ، ونظير هذا قول الشاعر : @ فما بك والأيام من عجب @@ وقال ابن عطية : وهذه القراءة عند رؤساء نحويين البصرة لا تجوز ، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض . قال الزجاج عن المازني : لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان ، يحل كل واحد منهما محل صاحبه . فكما لا يجوز مررت بزيدوك ، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد . وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر كما قال : @ فاليوم قد بت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب @@ وكما قال : @ تعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكف غوط تعانف @@ واستسهلها بعض النحويين انتهى كلام ابن عطية . وتعليل المازني معترض بأنه يجوز أن تقول : رأيتك وزيداً ، ولا يجوز رأيت زيداوك ، فكان القياس رأيتك وزيداً ، أن لا يجوز . وقال ابن عطية أيضاً : المضمر المخفوض لا ينفصل ، فهو كحرف من الكلمة ، ولا يعطف على حرف . ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان : أحدهما : أن ذكر الأرحام مما تساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها ، وهذا تفريق في معنى الكلام . وغض من فصاحته ، وإنما الفصاحة في أن تكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة . والوجه الثاني : أن في ذكرها على ذلك تقدير التساؤل بها والقسم بحرمتها ، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم : " من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " انتهى كلامه . وذهبت طائفة إلى أنَّ الواو في والأرحام واو القسم لا واو العطف ، والمتلقى به القسم هي الجملة بعده . ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته على ما جاء في غير ما آية في كتاب الله تعالى ، وذهبوا إلى تخريج ذلك فراراً من العطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار ، وذهاباً إلى أن في القسم بها تنبيهاً على صلتها وتعظيماً لشأنها ، وأنها من الله تعالى بمكان . قال ابن عطية : وهذا قول يأباه نظم الكلام وسره انتهى . وما ذهب إليه أهل البصرة وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية : من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار ، ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح ، بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز . وقد أطلنا الاحتجاج في ذلك عند قوله تعالى : { وكفر به والمسجد الحرام } [ البقرة : 217 ] . وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وأما قول ابن عطية : ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان ، فجسارة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه . إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها سلف الأمة ، واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا القرآن من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت . وأقرأ الصحابة أُبيّ بن كعب عمدَ إلى ردّها بشيء خطر له في ذهنه ، وجسارته هذه لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري ، فإنه كثيراً ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم ، وحمزة رضي الله عنه : أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش ، وحمدان بن أعين ، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد الصادق ، ولم يقرأ حمزة حرفاً من كتاب الله إلا بأثر . وكان حمزة صالحاً ورعاً ثقةً في الحديث ، وهو من الطبقة الثالثة ، ولد سنة ثمانين وأحكم القراءة وله خمس عشرة سنة ، وأم الناس سنة مائة ، وعرض عليه القرآن من نظرائه جماعة منهم : سفيان الثوري ، والحسن بن صالح . ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي ، وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيـى بن آدم : غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض . وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظناً بها وبقارئها ، فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك . ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم ، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون ، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون ، وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية ، لا أصحاب الكنانيس المشتغلون بضروب من العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ . { إن الله كان عليكم رقيباً } لا يراد بكان تقييد الخبر بالمخبر عنه في الزمان الماضي المنقطع في حق الله تعالى ، وإن كان موضوع كان ذلك ، بل المعنى على الديمومة فهو تعالى رقيب في الماضي وغيره علينا ، والرقيب تقدم شرحه في المفردات . وقال بعضهم : هنا هو العليم ، والمعنى : أنه مراع لكم لايخفى عليه ن أمركم شيء فاتقوه { وآتوا اليتامى أموالهم } قال مقاتل والكلبي : نزلت في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم ، فلما بلغ طلب المال فمنعه . ومناسبتها لما قبلها أنه لما وصل الأرحام أتبع بالأيتام ، لأنهم صاروا بحيث لا كافل لهم ، ففارق حالهم حال مَن له رحم ماسه . وظاهره الأمر بإعطاء اليتامى أموالهم . واليتم في بني آدم : فقد الأب ، وهو جمع يشمل الذكور والإناث . وينقطع هذا الاسم شرعاً بالبلوغ ، فلا بد من مجاز ، ما في اليتامى لإطلاقه على البالغين اعتباراً وتسمية بما كانوا عليه شرعاً قبل البلوغ من اسم اليتم ، فيكون الأولياء قد أمروا بأن لا تؤخر الأموال عن حد البلوغ ، ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد . وأمّا أن يكون المجاز في أوتوا ، ويكون معنى إيتاؤهم الأموال : الإنفاق عليهم منها شيئاً فشيئاً ، وأن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء ، ويكفوا عنها أيديهم الخاطئة . وعلى كلا المعنيين الخطاب لمن له وضع اليد على مال اليتيم شرعاً . وقال ابن زيد : الخطاب لمن كانت عادته من العرب أن لا يرث الصغير من الأولاد مع الكبير ، فقيل لهم : ورثوهم أموالهم ، ولا تتركوا أيها الكبار حظوظكم حلالاً طيباً حراماً خبيثاً ، فيجيء فعلكم ذلك تبدلاً . وقيل : كان الولي يربح على يتيمه فتستنفد تلك الأرباح مال اليتيم ، فنهوا عن ذلك . واحتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على السفيه لا يحجر عليه بلوغه خمساً وعشرين سنة . قال : لأن وآتوا اليتامى مطلق يتناول سفيهاً وغيره ، أونس منه الرشد أو لا ، ترك العمل به قبل السن المذكور بالإنفاق على أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذا السن شرط في وجوب دفع المال إليه ، وهذا الإجماع لم يوجد بعد هذا السن ، فوجب إجراء الأمر بعد هذا السن على حكم ظاهره . وأجيب بأنّ هذه الآية عامة وخصصت بقوله : وابتلوا اليتامى ولا تؤتوا السفهاء ، ولا شك أن الخاص مقدم على العام { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } قال ابن المسيب والنخعي والزهري والضحاك والسدي : كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله ، والدرهم الطيب بالزيف من ماله . وقال مجاهد وأبو صالح : المعنى ولا تتعجلوا أكل الخبيث من أموالهم ، وتدعوا انتظار الرزق الحلال من عند الله . وقيل : المعنى ولا تأكلوا أموالهم خبيثاً وتدعوا أموالكم طيباً . وقيل : المعنى لا تأخذوا مال اليتيم وهو خبيث ليؤخذ منكم المال الذي لكم وهو طيب . وقيل : لا تأكلوا أموالهم في الدنيا فتكون هي نار تأكلونها وتتركون الموعود لكم في الآخرة بسبب إبقاء الخبائث والمحرمات ، وقيل : لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو : اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو : حفظها والتورع منها . وتفعل هنا بمعنى استفعل كتعجل ، وتأخر بمعنى استعجل واستأخر . وظاهره أن الخبيث والطيب وصفان في الإجرام المتبدلة والمتبدل به ، فإما أن يكون ذلك باعتبار اللغة فيكونان بمعنى الكريه المتناول واللذيذ ، وإما أن يكون باعتبار الشرع فيكونان بمعنى الحرام والحلال . أما أن يكونا وصفين لاختزال الأموال وحفظها ففيه بعد ظاهر ، وإن كان له تعلق ما بقوله : وآتوا اليتامى أموالهم . وقرأ ابن محيصن : ولا تبدلوا بإدغام التاء الأولى في الثانية . { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } لما نهوا عن استبدال الخبيث من أموالهم بالطيب من أموال اليتامى ، ارتقى في النهي إلى ما هو أفظع من الاستبدال وهو : أكل أموال اليتامى فنهوا عنه . ومعنى إلى أموالكم : قيل مع أموالكم ، وقيل : إلى في موضع الحال التقدير : مضمومة إلى أموالكم . وقيل : تتعلق بتأكلوا على معنى التضمين أي : ولا تضموا أموالهم في الأكل إلى موالكم . وحكمة : إلى أموالكم ، وإن كانوا منهيين عن أكل أموال اليتامى بغير حق ، أنه تنبيه على غنى الأولياء . كأنه قيل : ولا تأكلوا أموالهم مع كونكم ذوي مال أي : مع غناكم ، لأنه قد أذن للولي إذا كان فقيراً أن يأكل بالمعروف . وهذا نص على النهي عن الأكل ، وفي حكمه التمول على جميع وجوهه . وقال مجاهد : الآية ناهية عن الخلط في الإنفاق ، فإن العرب كانت تخلط نفقتها بنفقة أيتامها فنهوا عن ذلك ، ثم نسخ منه النهي بقوله تعالى : { وإن تخالطوهم فإخوانكم } [ البقرة : 220 ] . وقال الحسن قريباً من هذا . قال : تأول الناس من هذه الآية النهي عن الخلط ، فاجتنبوه من قبل أنفسهم ، فخفف عنهم في آية البقرة . وحسَّن هذا القول الزمخشري بقوله : وحقيقته ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم ، وتسوية بينه وبين الحلال . قال : ( فإن قلت ) قد حرم عليهم أكل مال اليتامى وحده ومع أموالهم ، فلم ورد النهي عن أكله معها ؟ ( قلت ) : لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله من مال حلال ، وهم على ذلك يطمعون فيها ، كان القبح أبلغ والذم أحق . ولأنهم كانوا يفعلون ذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم انتهى كلامه . وملخصه أن قوله : إلى أموالكم ليس قيداً للاحتراز ، إنما جيء به لتقبيح فعلهم ، ولأن يكون نهياً عن الواقع ، فيكون نظير قوله : { أضعافاً مضاعفة } [ آل عمران : 130 ] وإن كان الربا على سائر أحواله منهياً عنه . وما قدمناه نحن يكون ذلك قيداً للاحتراز ، فإنه إذا كان الولي فقيراً جاز أن يأكل بالمعروف ، فيكون النهي منسحباً على أكل مال اليتيم لمن كان غنياً كقوله : { ومن كان غنياً فليستعفف } . { إنه كان حوباً كبيراً } قرأ الجمهور بضم الحاء ، والحسن بفتحها وهي لغة بني تميم وغيرهم ، وبعض القراء : إنه كان حاباً كبيراً ، وكلها مصادر . قال ابن عباس والحسن وغيرهما : الحوب الإثم . وقيل : الظلم . وقيل : الوحشة . والضمير في إنه عائد على الأكل . وقيل : على التبدل . وعوده على الأكل أقرب لقربه منه ، ويجوز أن يعود عليهما . كأنه قيل : إن ذلك كما قال : @ @ فيها خطوط من سواد وبلق @@ @ كأنه في الجلد توليع البهق @@ @@ أي كان ذلك { وإن خفتم أَلاَّ تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت : " نزلت في أولياء اليتامى الذين يعبجهم جمال ولياتهم فيريدون أن يبخسوهم في المهر لمكان ولا يتهم عليهن . قيل لهم : أقسطوا في مهورهن ، فمن خاف أن لا يقسط فليتزوج ما طاب له من الاجنبيات اللواتي يماكسن في حقوقهن . وقاله أيضاً ربيعة . وقال عكرمة : نزلت في قريش يتزوج منهم الرجل العشرة وأكثر وأقل ، فإذا ضاق ماله مال على مال يتيمه فيتزوج منه ، فقيل له : إن خفتم عجز أموالكم حتى تجوروا في اليتامى فاقتصروا . وقال ابن عباس ، وابن جبير ، وقتادة ، والسدي : كانت العرب تتحرج في أموال اليتامى ولا تتحرج في العدل بين النساء ، يتزوجون العشرة فأكثر ، فنزلت في ذلك أي : كما تخافون أن لا تقسطوا في اليتامى فكذلك فتحرجوا في النساء ، وانكحوا على هذا الحد الذي يبعد الجور عنه . وقال مجاهد : إنما الآية تحذير من الزنا وزجر عنه ، كما تتحرجون في مال اليتامى فكذلك تحرجوا من الزنا ، وانكحوا على ما حد لكم . وعلى هذه الأقوال غير الأول لا يختص اليتامى بإناث ولا ذكور ، وعلى ما روي عن عائشة يكون مختصاً بالإناث كأنه قيل في يتامى النساء . والظاهر من هذه الأقوال أن يكون التقدير : وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح يتامى النساء فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن ، لما أمروا بأن يؤتوا اليتامى أموالهم ، ونهوا عن الاستبدال المذكور ، وعن أكل أموال اليتامى ، كان في ذلك مزيد اعتناء باليتامى واحتراز من ظلمهم كما قال تعالى : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً } فخوطب أولياء يتامى النساء أو الناس بقوله : وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى أي : في نكاح يتامى النساء ، فانكحوا غيرهن ، وعلى هذا الذي اخترناه من أن المعنى في نكاح اليتامى . فاليتامى إن كان أريد به اليتم الشرعي فينطلق على الصغيرات اللاتي لم يبلغن . وقد استدل بذلك أبو حنيفة على جواز نكاح اليتيمة قبل البلوغ وقال : أما بعد البلوغ فليست يتيمة ، بدليل أنها لو أرادت أن تحط عن صداق مثلها جاز لها . خلافاً لمالك والشافعي والجمهور إذ قالوا : لا يجوز وإن كان المراد اليتم اللغوي ، فيندرج فيه البالغات ، والبالغة يجوز تزويجها بدون مهر المثل إذا رضيت ، فأي معنى للعدول إلى نكاح غيرها ؟ والجواب : أن العدول إنما كان لأن الوليّ يستضعفها ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته ، وإذا كان المراد باليتامى هنا البالغات فلا حجة لأبي حنيفة في الآية على جواز تزويج الصغيرة التي لم تبلغ . ومعنى : خفتم حذرتم ، وهو على موضوعه في اللغة من أن الخوف هو الحذر . وقال أبو عبيدة : معنى خفتم هنا أيقنتم ، وخاف تكون بمعنى أيقن ، ودليله قول الشاعر : @ فقلـت لهـم خـافوا بـألفي مـدحـج @@ وما قاله لا يصح ، لا يثبت من كلام العرب خاف بمعنى أيقن ، وإنما خاف من أفعال التوقع ، وقد يميل فيه الظن إلى أحد الجائزين . وقد روى ذلك البيت : @ فقلت لهم : ظنوا بألفي مدحج @@ هذه الرواية أشهر من خافوا . قال الراغب : الخوف يقال فيما فيه رجاء مّا ، ولهذا لا يقال : خفت أن لا أقدر على بلوغ السماء ، أو نسف الجبال انتهى . ومعنى أن لا تقسطوا أي : أن لا تعدلوا . أي : وإن خفتم الجور وأقسط : بمعنى عدل . وقرأ النخعي وابن وثاب تقسطوا بفتح التاء من قسط ، والمشهور في قسط أنه بمعنى جار . وقال الزجاج : ويقال قسط بمعنى أقسط أي عدل . فإن حملت هذه القراءة على مشهور اللغة كانت لا زائدة ، أي : وإن خفتم أن تقسطوا أي : إن تجوروا ، لأن المعنى لا يتم إلا باعتقاد زيادتها . وإن حملت على أن تقسطوا بمعنى تقسطوا ، كانت للنفي كما في تقسطوا . وقرأ ابن أبي عبلة من طاب . وقرأ الجمهور : ما طاب . فقيل : ما بمعنى من ، وهذا مذهب من يجوز وقوع ما على آحاد العقلاء ، وهو مذهب مرجوح . وقيل : عبر بما عن النساء ، لأن إناث العقلاء لنقصان عقولهن يجرين مجرى غير العقلاء . وقيل : ما واقعة على النوع ، أي : فانكحوا النوع الذي طاب لكم من النساء ، وهذا قول أصحابنا أنّ ما تقع على أنواع من يعقل . وقال أبو العباس : ما لتعميم الجنس على المبالغة ، وكان هذا القول هو القول الذي قبله . وقيل : ما مصدرية ، والمصدر مقدّر باسم الفاعل . والمعنى : فانحوا النكاح الذي طاب لكم . وقيل : ما نكرة موصوفة ، أي : فانكحوا جنساً أو عدداً يطيب لكم . وقيل : ما ظرفية مصدرية ، أي : مدة طيب النكاح لكم . والظاهر أنّ ما مفعولة بقوله : فانكحوا ، وأنّ من النساء معناه : من البالغات . ومن فيه إما لبيان الجنس للإبهام الذي في ما على مذهب من يثبت لها هذا المعنى ، وإمّا للتبعيض وتتعلق بمحذوف أي : كائناً من النساء ، ويكون في موضع الحال . وأما إذا كانت ما مصدرية أو ظرفية ، فمفعول فانكحوا هو من النساء ، كما تقول : أكلتُ من الرغيف ، والتقدير فيه : شيئاً من الرغيف . ولا يجوز أن يكون مفعول فانكحوا مثنى ، لأن هذا المعدول من العدد لا يلي العوامل كما تقرر في المفردات . وقرأ ابن أبي إسحاق والجحدري والأعمش طاب بالإمالة . وفي مصحف أبي طيب بالياء ، وهو دليل الإمالة . وظاهر فانكحوا الوجوب ، وبه قال أهل الظاهر مستدلين بهذا الأمر وبغيره . وقال غيرهم : هو ندب لقوم ، وإباحة لآخرين بحسب قرائن المرء ، والنكاح في الجملة مندوب إليه . ومعنى ما طاب : أي ما حل ، لأن المحرمات من النساء كثير قاله : الحسن وابن جبير وأبو مالك . وقيل : ما استطابته النفس ومال إليه القلب . قالوا : ولا يتناول قوله فانكحوا العبيد . ولما كان قوله : ما طاب لكم من النساء عامّاً في الأعداد كلها ، خص ذلك بقوله : مثنى وثلاث ورباع . فظاهر هذا التخصيص تقسيم المنكوحات إلى أنَّ لنا أن أن نتزوج اثنين اثنين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، ولا يجوز لنا أن نتزوج خمسة خمسة ، ولا ما بعد ذلك من الاعداد . وذلك كما تقول : أقسم الدراهم بين الزيدين درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة ، فمعنى ذلك أن تقع القسمة على هذا التفصيل دون غيره . فلا يجوز لنا أن نعطي أحداً من المقسوم عليهم خمسة خمسة ، ولا يسوغ دخول أو هنا مكان الواو ، لأنه كان يصير المعنى أنهم لا ينكحون كلهم إلا على أحد أنواع العدد المذكور ، وليس لهم أن يجعلوا بعضه على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع ، لأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء . والواو تدل على مطلق الجمع ، فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجميع إن شاؤوا مختلفين في تلك الأعداد ، وإن شاؤوا متفقين فيها محظوراً عليهم ما زاد . وذهب بعض الشيعة : إلى أنه يجوز النكاح بلا عدد ، كما يجوز التسري بلا عدد . وليست الآية تدل على توقيت في العدد ، بل تدل على الإباحة كقولك : تناول ما أحببت واحداً واثنين وثلاثاً . وذكر بعض مقتضى العموم جاء على طريق التبيين ، ولا يقتضي الاقتصار عليه . وذهب بعضهم إلى أنه يجوز نكاح تسع ، لأن الواو تقتضي الجمع . فمعنى : مثنى وثلاث ورباع اثنين وثلاثاً وأربعاً وذلك تسع ، وأكد ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع . وذهب بعضهم إلى أنَّ هذه الأعداد وكونها عطفت بالواو تدلّ على نكاح جواز ثمانية عشر ، لأن كل عدد منها معدول عن مكرر مرتين ، وإذا جمعت تلك المكررات كانت ثمانية عشر . والكلام على هذه الأقوال استدلالاً وإبطالاً مذكور في كتب الفقه الخلافية . وأجمع فقهاء الأمصار على أنه لا تجوز الزيادة على أربع . والظاهر أنه لا يباح النكاح مثنى أو ثلاث أو رباع إلا لمن خاف الجور في اليتامى لأجل تعليقه عليه ، أما مَن لم يخف فمفهوم الشرط يدل على أنه لا يجوز له ذلك ، والإجماع على خلاف ما دلّ عليه الظاهر من اختصاص الإباحة بمن خاف الجور . أجمع المسلمون على أنَّ مَن لم يجف الجور في أموال اليتامى يجوز له أن ينكح أكثر من واحدة ثنتين وثلاثاً وأربعاً كمن خاف . فدل على أن الآية جواب لمن خاف ذلك ، وحكمها أعم . وقرأ النخعي وابن وثاب : وربع ساقطة الألف ، كما حذفت في قوله : وحلياناً برداً يريد بارداً . وإذا أعربنا ما من ما طاب مفعوله وتكون موصولة ، فانتصاب مثنى وما بعده على الحال منها ، وقال أبو البقاء : حال من النساء . وقال ابن عطية : موضعها من الإعراب نصب على البدل من ما طاب ، وهي نكرات لا تتصرف لأنها معدولة وصفه انتهى . وهما إعرابان ضعيفان . أمّا الأوّل فلأن المحدث عنه هو ما طاب ، ومن النساء جاء على سبيل التبيين وليس محدثاً عنه ، فلا يكون الحال منه ، وإن كان يلزم من تقييده بالحال تقييد المنكوحات . وأما الثاني فالبدل هو على نية تكرار العامل ، فيلزم من ذلك أن يباشرها العامل . وقد تقرر في المفردات أنها لا يباشرها العامل . وأيضاً فإنه قال : إنها نكرة وصفة ، وما كان نكرة وصفة فإنه إذا جاء تابعاً لنكرة كان صفة لها كقوله تعالى : { أولي أجنحةٍ مثنى وثلاث ورباع } [ فاطر : 1 ] وما وقع صفة للنكرة وقع حالاً للمعرفة . وما طاب معرفة فلزم أن يكون مثنى حالاً . { فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } أي أن لا تعدلوا بين ثنتين إن نكحتموهما ، أو بين ثلاث أو أربع إن نكحتموهن في القسم أو النفقة أو الكسوة ، فاختاروا واحدة . أو ما ملكت أيمانكم هذا إن حملنا فانكحوا على تزوجوا ، وإن حملناه على الوطء قدرنا الفعل الناصب لقوله : فواحدة . فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم . ويحتمل أن يكون من باب علفتها تبناً وماء بارداً على أحد التخريجين فيه ، والتقدير : فانكحوا أي تزوجوا واحدة ، أوطئوا ما ملكت أيمانكم . ولم يقيد مملوكات اليمين بعدد ، فيجوز أن يطأ ما شاء منهن لأنه لا يجب العدل بينهن لا في القسم ولا في النفقة ولا في الكسوة . وقرأ الحسن والجحدري وأبو جعفر وابن هرمز : فواحدة بالرفع . ووجه ذلك ابن عطية على أنه مرفوع بالابتداء ، والخبر مقدر أي : فواحدة كافية . ووجهه الزمخشري على أنه مرفوع على الخبر أي : فالمقنع ، أو فحسبكم واحدة ، أو ما ملكت أيمانكم . وأو هنا لأحد الشيئين : إما على التخيير ، وإما على الإباحة . وروي عن أبي عمرو : فما ملكت أيمانكم يريد به الإماء ، والمعنى : على هذا إن خاف أن لا يعدل في عشرة واحدة فما ملكت يمينه . وقرأ ابن أبي عبلة : أو من ملكت أيمانكم ، وأسند الملك إلى اليمين لأنها صفة مدح ، واليمين مخصوصة بالمحاسن . ألا ترى أنها هي المنفقة في قوله : " حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " وهي المعاهدة والمتلقية لرايات المجد ، والمأمور في تناول المأكول بالأكل بها ، والمنهي عن الاستنجاء بها . وهذان شرطان مستقلان لكل واحد منهما جواب مستقل ، فأول الشرطين : وإن ختفم أن لا تقسطوا ، وجوابه : فانكحوا . صرف من خاف من الجور في نكاح اليتامى إلى نكاح البالغات منهن ومن غيرهن وذكر تلك الأعداد . وثاني الشرطين قوله : فإن خفتم أن لا تعدلوا وجوابه : فواحدة ، أو ما ملكت أيمانكم صرف من خاف من الجور في نكاح ما ذكر من العدد إلى نكاح واحدة ، أو تسرّ بما ملك وذلك على سبيل اللطف بالمكلف والرفق به ، والتعطف على النساء والنظر لهن . وذهب بعض الناس إلى أن هذه الجمل اشتملت على شرط واحد ، وجملة اعتراض . فالشرط : وإن خفتم أن لا تقسطوا ، وجوابه : فواحدة . وجملة الاعتراض قوله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ، وكرر الشرط بقوله : فإن خفتم أن لا تعدلوا . لما طال الكلام بالاعتراض إذ معناه : كما جاء في { فلما جاءهم ما عرفوا } [ البقرة : 89 ] بعد قوله ، { ولما جاءهم كتاب من عند الله } [ البقرة : 89 ] إذ طال الفصل بين لما وجوابها فأعيدت . وكذلك { فلا تحسبنهم بمفازة } [ آل عمران : 188 ] بعد قوله : { لا تحسبن الذين يفرحون } [ آل عمران : 89 ] إذ طال الفصل بما بعده بين : لا تحسبن ، وبين بمفازة ، فأعيدت الجملة ، وصار المعنى على هذا التقدير ، إن لم تستطيعوا أن تعدلوا فانكحوا واحدة . قال : وقد ثبت أنهم لا يستطيعون العدل بقوله : { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } [ النساء : 129 ] انتهى هذا القول وهو منسوب إلى أبي علي . ولعله لا يصح عنه ، فإن أبا علي كان من علم النحو بمكان ، وهذا القول فيه إفساد نظم القرآن التركيبي ، وبطلان للأحكام الشرعية : لأنه إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله : ولن تستطيعوا بما نتج من الدلالة ، اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوج غير واحدة ، أو يتسرّى بما ملكت يمينه . ويبقى هذا الفصل بالاعتراض بين الشرط وبين جوابه لغواً لا فائدة له على زعمه . والعدل المنفي استطاعته غير هذا العدل المنفي هنا ، ذاك عدل في ميل القلب وقد رفع الحرج فيه عن الإنسان ، وهذا عدل في القسم والنفقة . ولذلك نفيت هناك استطاعته ، وعلق هنا على خوف انتفائه ، لأن الخوف فيه رجاء وظن غالباً . وانتزع الشافعي من قوله : فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ، أن الاشتغال بنوافل العبادات أفضل من الاشتغال بالنكاح ، خلافاً لأبي حنيفة ، إذ عكس . ووجه انتزاعه ذلك واستدلاله بالآية أنه تعالى خير بين تزوج الواحدة والتسري ، والتخيير بين الشيئين مشعر بالمساواة بينهما في الحكمة المطلوبة ، والحكمة سكون النفس بالأزواج ، وتحصين الدين ومصالح البيت ، وكل ذلك حاصل بالطريقين ، وأجمعنا على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري ، فوجب أن يكون أفضل من النكاح ، لأن الزائد على المتساويين يكون زائداً على المساوي الثاني لا محالة . { ذلك أدنى أن لا تعولوا } الإشارة إلى اختيار الحرة الواحدة والأمة . أدنى من الدنو أي : أقرب أن لا تعولوا ، أي : أن لا تميلوا عن الحق . قاله : ابن عباس ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، وأبو مالك ، والسدّي . وقال مجاهد : لا تضلوا . وقال النخعي : لا تخونوا . وقالت فرقة منهم زيد بن أسلم وابن زيد والشافعي : معناه لا يكثر عيالكم . وقد رد على الشافعي في هذا القول من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، أما من جهة المعنى فقال أبو بكر بن داود والرازي ما معناه : غلط الشافعي ، لأن صاحب الإماء في العيال كصاحب الأزواج . وقال الزجاج : إن الله قد أباح كثرة السراري ، وفي ذلك تكثير العيال ، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا ؟ وقال صاحب النظم : قال : أولاً أن لا تعدلوا فيجب أن يكون ضد العدل هو الجور ، وأما من جهة اللفظ ويقتضي أيضاً الرد من جهة المعنى ، فتفسير الشافعي تعولوا بتعيلوا . وقالوا : يقال أعال يعيل إذا كثر عياله ، فهو من ذوات الياء لا من ذوات الواو ، فقد اختلفا في المادة ، فليس معنى تعولوا تعيلوا . وقال الرازي أيضاً عن الشافعي : أنه خالف المفسرين . وما قاله ليس بصحيح ، بل قد قال بمقالته زيد بن أسلم وابن زيد كما قدمناه وغيرهم . وأما تفسيره تعولوا بتعيلوا فليس فيه دليل على أنه أراد أن تعولوا وتعيلوا من مادة واحدة ، وأنهما يجمعهما اشتقاق واحد ، بل قد يكون اللفظان في معنى واحد ولا يجمعهما اشتقاق واحد ، نحو قولهم : دمت ودشير ، وسبط وسبطة ، فكذلك هذا . وقد نقل عال الرجل يعول ، أي كثر عياله ابن الأعرابي ، كما ذكرناه في المفردات . ونقله أيضاً الكسائي قال : وهي لغة فصيحة . قال الكسائي : العرب تقول : عال يعول ، وأعال يعيل كثر عياله ، ونقلها أيضاً أبو عمرو الدوري المقري وكان إماماً في اللغة غير مدافع قال : هي لغة حمير . وأنشد أبو عمرو حجة لها : @ وإن الموت يأخذ كل حي بلا شك وأن أمشي وعالا @@ أمشي كثرت ماشيته ، وعال كثر عياله . وجعل الزمخشري كلام الشافعي وتفسيره تعولوا تكثر عيالكم على أن جعله من قولك : عال الرجل عياله يعولهم . وقال : لا يظن به أنه حول تعيلوا إلى تعولوا ، وأثنى على الشافعي بأنه كان أعلى كعباً وأطول باعاً في كلام العرب من أن يخفى عليه مثل هذا . قال : ولكن للعلماء طرقاً وأساليب ، فسلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات . وأما ما رد به ابن داود والرازي والزجاج فقال ابن عطية : هذا القدح يشير إلى قدح الزجاج غير صحيح ، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع ، وإنما العيال القادح الحرائر ذوات الحقوق الواجبة . وقال الزمخشري : الغرض بالتزوج التوالد والتناسل ، بخلاف التسري . ولذلك جاز العزل عن السراري بغير إذنهن ، فكان التسري مظنة لقلة الولد بالإضافة إلى التزوج ، والواحدة بالإضافة إلى تزوج الأربع . وقال القفال : إذا كثرت الجواري فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضاً ، وتقل العيال . أما إذا كانت حرة فلا يكون الأمر كذلك انتهى . وروي عن الشافعي أيضاً أنه فسر قوله تعالى : أن لا تعولوا بمعنى أن لا تفتقروا ، ولا يريد أن تعولوا من مادة تعيلوا من عال يعيل إذا افتقر ، إنما يريد أيضاً الكناية ، لأن كثرة العيال يتسبب عنها الفقر . والظاهر أن المعنى : أن اختيار الحرة الواحدة أو الأمة أقرب إلى انتفاء الجور ، إذا هو المحذور المعلق على خوفه الاختيار المذكور . أي : عبر عن قوله : أن لا تعولوا بأن لا يكثر عيالكم ، فإنه عبر عن المسبب بالسبب ، لأن كثرة العيال ينشأ عنه الجور . وقرأ طلحة أن لا تعيلوا بفتح التاء ، أي لا تفتقروا من العيلة كقوله : { وإن خفتم عيلة } [ التوبة : 28 ] وقال الشاعر : @ فما يدري الفقير متى غناه ولا يدري الغني متى يعيل @@ وقرأ طاوس : أن لا تعيلوا من أعال الرجل إذا كثر عياله ، وهذه القراءة تعضد تفسير الشافعي من حيث المعنى الذي قصده . وأن تتعلق بأدنى وهي في موضع نصب أو جر على الخلاف ، إذ التقدير : أدنى إلى أن لا تعولوا . وافعل التفضيل إذا كان الفعل يتعدى بحرف جر يتعدّى هو إليه . تقول : دنوت إلى كذا فلذلك كان التقدير أدنى إلى أن تعولوا . ويجوز أن يكون الحرف المحذوف لام الجر ، لأنك تقول : دنوت لكذا . { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } الظاهر : أن الخطاب للأزواج ، لأن الخطاب قبله لهم ، قاله : ابن عباس ، وقتادة ، وابن زيد ، وابن جريج . قيل : كان الرجل يتزوج بلا مهر يقول : أرثك وترثيني فتقول : نعم . فأمروا أن يسرعوا إعطاء المهور . وقيل : الخطاب لأولياء النساء ، وكانت عادة بعض العرب أن يأكل ولي المرأة مهرها ، فرفع الله ذلك بالإسلام . قاله : أبو صالح ، واختاره : الفراء وابن قتيبة . وقيل : المراد بالآية ترك ما كان يفعله المتشاغرون من تزويج امرأة بأخرى ، وأمروا بضرب المهور قاله : حضرمي ، والأمر بإيتاء النساء صدقاتهن نحلة يتناول هذه الصور كلها . والصدقات المهور . قال ابن عباس وابن جريج وابن زيد وقتادة : نحلة فريضة . وقيل : عطية تمليك قاله الكلبي والفراء . وقيل : شرعة وديناً قاله : ابن الأعرابي . قال الراغب : والنحلة أخص من الهبة ، إذ كل هبة نحلة ولا ينعكس ، وسمي الصداق نحلة من حيث لا يجب في مقابلته أكثر من تمتع دون عوض مالي . ومن قال : النحلة الفريضة نظر إلى حكم الآية ، لا إلى موضوع اللفظ والاشتقاق ، والآية اقتضت إتيانهن الصداق انتهى . ودل هذا الأمر على التحرج من التعرض لمهور النساء كما دل الأمر في : { وآتوا اليتامى أموالهم } ، وأنهما متساويان في التحريم . ولما أذن في نكاح الأربع أمر الأزواج والأولياء باجتناب ما كانوا عليه من سنن الجاهلية . وقرأ الجمهور صدقاتهن جمع صدقة ، على وزن سمرة . وقرأ قتادة وغيره : بإسكان الدال وضم الصاد . وقرأ مجاهد وموسى بن الزبير وابن أبي عبلة وفياض بن غزوان وغيرهم : بضمها . وقرأ النخعي وابن وثاب : صدقتهن بضمها والافراد ، وانتصب نحلة على أنه مصدر على غير الصدر ، لأن معنى : وآتوا انحلوا فالنصب فيها بآتوا . وقيل : بانحلوهن مضمرة . وقيل : مصدر في موضع الحال ، إما عن الفاعلين أي ناحلين ، وإما من المفعول الأول أو الثاني أي : منحولات . وقيل : انتصب على إضمار فعل بمعنى شرع ، أي : أنحل الله ذلك نحلة ، أي شرعه شرعة وديناً . وقيل : إذا كان بمعنى شرعة فيجوز انتصابه على أنه مفعول من أجله ، أو حال من الصدقات . وفي قوله : وآتوا النساء صدقاتهن دلالة على وجوب الصداق للمرأة ، وهو مجمع عليه إلا ما روي عن بعض أهل العراق : أن السيد إذا زوج عبده بأمته لا يجب فيه صداق ، وليس في الآية تعرض لمقدار الصداق ، ولا لشيء من أحكامه . وقد تكلم بعض المفسرين في ذلك هنا ، ومحل الكلام في ذلك هو كتب الفقه . { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } الخطاب فيه الخلاف : أهو للأزواج ؟ أو للأولياء ؟ وهو مبني على الخلاف في : وآتوا النساء . وقال حضرمي : سبب نزولها أن قوماً تحرجوا أن يرجع إليهم شيء ما دفعوا إلى الزوجات ، والضمير في : منه ، عائد على الصداق قاله : عكرمة . إذ لو وقع مكان صدقاتهن لكان جائزاً وصار شبيهاً بقولهم : هو أحسن الفتيان وأجمله لصلاحية ، هو أحسن فتى . قال الزمخشري : ويجوز أن يكون تذكير الضمير لينصرف إلى الصداق الواحد ، فيكون متناولاً بعضه . فلو أنث لتناول ظاهرة هبة الصداق كله ، لأن بعض الصدقات واحد منها فصاعداً انتهى . وأقول : حسن تذكير الضمير ، لأن معنى : فإن طبن ، فإن طابت كل واحدة ، فلذلك قال منه أي : من صداقها ، وهو نظير : { واعتدت لهن متكأ } [ يوسف : 31 ] أي لكل واحدة ، ولذلك أفرد متكأ . وقيل : يعود على صدقاتهن مسلوكاً به مسلك اسم الإشارة ، كأنه قيل عن شيء من ذلك . واسم الإشارة وإن كان مفرداً قد يشار به إلى مجموع كقوله : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } [ آل عمران : 15 ] . وقد تقدّمت عليه أشياء كثيرة . وقيل : لرؤبة كيف قلت : كأنه في الجلد توليع البهق وقد تقدم ، فيها خطوط من سواد وبلق فقال : أردت كان ذاك . وقيل : يعود على المال ، وهو غير مذكور ، ولكن يدل عليه صدقاتهن . وقيل : يعود على الإيتاء وهو المصدر الدال عليه : وآتوا ، قاله الراغب ، وذكره ابن عطية . ويتعلق المجروران بقوله : طبن ، ومنه في موضع الصفة لشيء ، فيتعلق بمحذوف ، وظاهر من التبعيض . وفيه إشارة إلى أن ما تهبه يكون بعضاً من الصداق ، ولذلك ذهب الليث بن سعد إلى أنه لا يجوز تبرعها له إلا باليسير . وقال ابن عطية : ومن تتضمن الجنس هاهنا . وكذلك يجوز أن تهب المهر كله ، ولو وقعت على التبعيض لما جاز ذلك . وانتصب نفساً على التمييز ، وهو من التمييز المنقول من الفاعل . وإذا جاء التمييز بعد جمع وكان منتصباً عن تمام الجملة ، فإما أن يكون موافقاً لما قبله في المعنى ، أو مخالفاً فإن كان موافقاً طابقه في الجمعية نحو : كرم الزيدون رجالاً ، كما يطابق لو كان خبراً ، وإن كان مخالفاً ، فإما أن يكون مفرداً لمدلول أو مختلفه ، إن كان مفرداً لمدلول لزم إفراد اللفظ الدال كقولك في أبناء رجل واحد : كرم بنو فلان أصلاً وأباً . وكقولك : زكاة الأتقياء ، وجاد الأذكياء وعياً . وذلك إذا لم تقصد بالمصدر اختلاف الأنواع لاختلاف محاله . وإن كان مختلف المدلول ، فإما أن يلبس أفراده لو أفرد ، أو لا يلبس . فإن ألبس وجبت المطابقة نحو : كرم الزيدون آباء ، أي : كرم آباء الزيدين . ولو قلت : كرم الزيدون أباً ، لأوهم أن أباهم واحد موصوف بالكرم . وإن لم يلبس جاز الإفراد والجمع . والإفراد أولى ، كقوله : فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً إذ معلوم أن لكل نفساً ، وإنهن لسن مشتركات في نفس واحدة . وقرّ الزيدون عيناً ، ويجوز أنفساً وأعيناً . وحسن الإفراد أيضاً في الآية ما ذكرناه قبل من محسن تذكير الضمير وإفراده ، وهو أن المعنى : فإن طابت كل واحدة عن شيء منه نفساً . وقال بعض البصريين : أراد بالنفس الهوى . والهوى مصدر ، والمصادر لا تثنى ولا تجمع . وجواب الشرط : فكلوه ، وهو أمر إباحة . والمعنى : فانتفعوا به . وعبر بالأكل لأنه معظم الانتفاع . وهنيئاً مريئاً أي : شافياً سائغاً . وقال أبو حمزة : هنيئاً لا إثم فيه ، مريئاً لأداء فيه . وقيل : هنيئاً لذيذاً ، مريئاً محمود العاقبة . وقيل : هنيئاً مريئاً أي ما لا تنغيص فيه . وقيل : ما ساغ في مجراه ولا غص به من تحساه . وقيل : هنيئاً مريئاً أي : حلالاً طيباً . وقرأ الحسن والزهري : هنياً مرياً دون همزة ، أبدلوا الهمزة التي هي لام الكلمة ياء ، وأدغموا فيها ياء المدّ . وانتصاب هنيئاً على أنه نعت لمصدر محذوف ، أي : فكلوه أكلاً هنيئاً ، أو على أنه حال من ضمير المفعول ، هكذا أعربه الزمخشري وغيره . وهو قول مخالف لقول أئمة العربية ، لأنه عند سيبويه وغيره : منصوب بإضمار فعل لا يجوز إظهاره . وقد ذكرنا في المفردات نص سيبويه على ذلك . فعلى ما قاله أئمة العربية يكون هنيئاً مريئاً من جملة أخرى غير قوله : فكلوه هنيئاً مريئاً ، ولا تعلق له به من حيث الإعراب ، بل من حيث المعنى . وجماع القول في هنيئاً : أنها حال قائمة مقام الفعل الناصب لها . فإذا قيل : إن فلاناً أصاب خيراً فقلت هنيئاً له ، ذلك فالأصل ثبت له ذلك هنيئاً فحذف ثبت ، وأقيم هنيئاً مقامه . واختلفوا إذ ذاك فيما يرتفع به ذلك . فذهب السيرافي إلى أنه مرفوع بذلك الفعل المختزل الذي هو ثبت ، وهنيئاً حال من ذلك ، وفي هنيئاً ضمير يعود على ذلك . وإذا قلت : هنيئاً ولم تقل له ذلك ، بل اقتصرت على قولك : هنيئاً ، ففيه ضمير مستتر يعود على ذي الحال ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في ثبت المحذوفة . وذهب الفارسي إلى أن ذلك إذا قلت : هنيئاً له ، ذلك مرفوع بهنيئاً القائم مقام الفعل المحذوف ، لأنه صار عوضاً منه ، فعمل عمله . كما أنك إذا قلت : زيد في الدار ، رفع المجرور الضمير الذي كان مرفوعاً بمستقر ، لأنه عوض منه . ولا يكون في هنيئاً ضمير ، لأنه قد رفع الظاهر الذي هو اسم الإشارة . وإذا قلت : هنيئاً ففيه ضمير فاعل بها ، وهو الضمير فاعلاً لثبت ، ويكون هنيئاً قد قام مقام الفعل المختزل مفرعاً من الفعل . وإذا قلت : هنيئاً مريئاً ، فاختلفوا في نصب مريء . فذهب بعضهم : إلى أنه صفة لقولك هنيئاً ، وممن ذهب إلى ذلك الحوفي . وذهب الفارسي : إلى أن انتصابه انتصاب قولك هنيئاً ، فالتقدير عنده : ثبت مريئاً ، ولا يجوز عنده أن يكون صفة لهنيئاً ، من جهة أنَّ هنيئاً لما كان عوضاً من الفعل صار حكمه حكم الفعل الذي ناب منابه ، والفعل لا يوصف ، فكذلك لا يوصف هو . وقد ألمّ الزمخشري بشيء مما قاله النحاة في هنيئاً لكنه حرفه فقال بعد أن قدّم أن انتصابه على أنه وصف للمصدر ، أو حال من الضمير في فكلوه أي : كلوه وهو هنيء مريء . قال : وقد يوقف على فكلوه ، ويبتدأ هنيئاً مريئاً على الدعاء ، وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدر ، كأنه قيل : هنئاً مرئاً انتهى . وتحريفه أنه جعلهما أقيما مقام المصدر ، فانتصابهما على هذا انتصاب المصدر ، ولذلك قال : كأنه قيل هنأ مرأ ، فصار كقولك : سقياً ورعياً ، أي : هناءة ومراءة . والنحاة يجعلون انتصاب هنيئاً على الحال ، وانتصاب مريئاً على ما ذكرناه من الخلاف . إما على الحال ، وإما على الوصف . ويدل على فساد ما حرفه الزمخشري وصحة قول النحاة ارتفاع الأسماء الظاهرة بعد هنيئاً مريئاً ، ولو كانا ينتصبان انتصاب المصادر . والمراد بها : الدعاء . أجاز ذلك فيها تقول : سقياً لك ورعياً ، ولا يجوز سقياً الله لك ، ولا رعياً الله لك ، وإن كان ذلك جائزاً في فعله فتقول : سقاك الله ورعاك . والدليل على جواز رفع الأسماء الظاهرة بعدها قول الشاعر : هنيئاً مريئاً غير داء مخامر لعزة من أعراضنا ما استحلت فما : مرفوع بما تقدّم من هنيء أو مريء . أو بثبت المحذوفة على اختلاف السيرافي وأبي عليّ على طريق الأعمال . وجاز الأعمال في هذه المسألة وإن لم يكن بينهما رابط عطف ، لكون مريئاً لا يستعمل إلا تابعاً لهنيئاً ، فصارا كأنهما مرتبطان لذلك . ولو كان ذلك في الفعل لم يجز لو قلت : قام خرج زيد ، لم يصح أن يكون من الأعمال إلا على نية حرف العطف . وذهب بعضهم : إلى أنّ مريئاً يستعمل وحده غير تابع لهنيئاً ، ولا يحفظ ذلك من كلام العرب ، وهنيئاً مريئاً اسماً فاعل للمبالغة . وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءآ على وزن فعيل ، كالصهيل والهدير ، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر . وظاهر الآية يدل على أنّ المرأة إذا وهبت لزوجها شيئاً من صداقها طيبة بها نفسها غير مضطرة إلى ذلك بإلحاح أو شكاسة خلق ، أو سوء معاشرة ، فيجوز له أن يأخذ ذلك منها ويتملكه وينتفع به . ولم يوقت هذا التبرع بوقت ، ولا استثناء فيه رجوع . وذهب الأوزاعي : إلى أنه لا يجوز تبرعها ما لم تلد ، أو تقم في بيت زوجها سنة ، فلو رجعت بعد الهبة فقال شريح وعبد الملك بن مروان : لها أن ترجع . وروى مثله عن عمر . كتب عمر إلى قضاته : أن النساء يعطين رغبة ورهبة ، فأيما امرأة أعطت زوجها ثم أرادت أن ترجع فلها ذلك . قال شريح : لو طابت نفسها لما رجعت . وقال عبد الملك : قال تعالى : { فلا تأخذوا منه شيئاً } [ النساء : 20 ] وكلا القولين خلاف الظاهر من هذه الآية . وفي تعليق القبول على طيب النفس ذون لفظة الهبة أو الإسماح ، دلالة على وجوب الاحتياط في الأخذ ، وإعلام أنّ المراعى هو طيب نفسها بالموهوب . وفي قوله : هنيئاً مريئاً مبالغة في الإباحة والقبول وزوال التبعة . { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً } قال ابن مسعود والحسن والضحاك والسدي وغيرهم : نزلت في ولد الرجل الصغار وامرأته . وقال ابن جبير : في المحجورين . وقال مجاهد : في النساء خاصة . وقال أبو موسى الأشعري والطبري وغيرهما : نزلت في كل من اقتضى الصفة التي شرط الله من السفه كائناً من كان . ويضعف قول مجاهد أنها في النساء ، كونها جمع سفيهة ، والعرب إنما تجمع فعيلة على فعائل أو فعيلات قاله : ابن عطية . ونقلوا أنّ العرب جمعت سفيهة على سفهاء ، فهذا اللفظ قد قالته العرب للمؤنث ، فلا يضعف قول مجاهد . وإن كان جمع فعيلة الصفة للمؤنث نادراً لكنه قد نقل في هذا اللفظ خصوصاً . وتخصيص ابن عطية جمع فعيلة بفعائل أو فعيلات ليس بجيد ، لأنه يطرد فيه فعال كظريفة وظراف ، وكريمة وكرام ، ويوافق في ذلك المذكر . وإطلاقه فعيلة دون أن يخصها بأن لا يكون بمعنى مفعولة نحو : قتيلة ، ليس بجيد ، لأن فعيلة لا تجمع على فعائل . وقيل : عنى بالسفهاء الوارثين الذين يعلم من حالهم أنهم يتسفهون في استعمال ما تناله أيديهم ، فنهى عن جمع المال الذي ترثه السفهاء . والسفهاء : هم المبذرون الأموال بالإنفاق فيما لا ينبغي ، ولا يد لهم بإصلاحها وتثميرها والتصرّف فيها . والظاهر في قوله : أموالكم أن المال مضاف إلى المخاطبين بقوله : ولا تؤتوا . قال أبو موسى الأشعري وابن عباس والحسن وقتادة : نهى أن يدفع إلى السفيه شيء من مال غيره ، وإذا وقع النهي عن هذا فإن لا يؤتى شيئاً من مال نفسه أولى وأحرى بالنهي ، وعلى هذا القول : وهو أن يكون الخطاب لأرباب الأموال . قيل : يكون في ذلك دلالة على أن الوصية للمرأة جائزة ، وهو قول عامة أهل العلم . وأوصى عمر إلى حفصة . وروي عن عطاء : أنها لا تكون وصياً . قال : ولو فعل حولت إلى رجل من قومه . قيل : ويندرج تحتها الجاهل بأحكام البيع . وروي عن عمر أنه قال : " من لم يتفقه في الدين فلا يتجر في أسواقنا ، والكفار " . وكره العلماء أن يوكلَ المسلم ذمياً بالبيع والشراء ، أو يدفع إليه يضاربه . وقال ابن جبير : يريد أموال السفهاء ، وإضافها إلى المخاطبين تغبيطاً بالأموال ، أي : هي لهم إذا احتاجوها كأموالكم التي تقي أغراضكم وتصونكم وتعظم أقداركم . ومن مثل هذا : { ولا تقتلوا أنفسكم } [ النساء : 29 ] وما جرى مجراه . وهذا القول ذكره الزمخشري أولاً قال : والخطاب للأولياء ، وأضاف الأموال إليهم لأنها من جنس ما يقيم به الناس معائشهم . كما قال : ولا تقتلوا أنفسكم ، { فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } [ النساء : 25 ] ، والدليل على أنه خطاب للأولياء في أموال اليتامى قوله : { وارزقوهم فيها واكسوهم } . وقرأ الحسن والنخعي : اللاتي . وقرأ الجمهور : التي . قال ابن عطية : والأموال جمع لا يعقل ، فالأصوب فيه قراءة الجماعة انتهى . واللاتي جمع في المعنى للتي ، فكان قياسه أن لا يوصف به الإماء وصف مفرده بالتي ، والمذكر لا يوصف بالتي سواء كان عاقلاً أو غير عاقل ، فكان قياس جمعه أن لا يوصف بجمع التي الذي هو اللاتي . والوصف بالتي يجري مجرى الوصف بغيره من الصفات التي تلحقها التاء للمؤنث . فإذا كان لنا جمع لا يعقل فيجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على الواحدة المؤنثة ، ويجوز أن يجري الوصف عليه كجريانه على جمع المؤنثات فتقول : عندي جذوع منكسرة ، كما تقول : امرأة طويلة ، وجذوع منكسرات . كما تقول : نساء صالحات جرى الوصف في ذلك مجرى الفعل . والأولى في الكلام معاملته معاملة ما جرى على الواحدة ، هذا إذا كان جمع ما لا يعقل للكثرة . فإذا كان جمع قلة ، فالأولى عكس هذا الحكم : فأجذاع منكسرات أولى من أجذاع منكسرة ، وهذا فيما وجد له الجمعان : جمع القلة ، وجمع الكثرة . أمّا ما لا يجمع إلا على أحدهما ، فينبغي أن يكون حكمه على حسب ما تطلقه عليه من القلة والكثرة . وإذا تقرر هذا أنتج أنَّ التي أولى من اللاتي ، لأنه تابع لجمع لا يعقل . ولم يجمع مال على غيره ، ولا يراد به القلة لجريان الوصف به مجرى الوصف بالصفة التي تلحقها التاء للمؤنث ، فلذلك كانت قراءة الجماعة أصوب . وقال الفراء : تقول العرب في النساء : اللاتي ، أكثر مما تقول التي . وفي الأموال تقول التي أكثر مما تقول اللاتي ، وكلاهما في كليهما جائز . وقرىء شاذاً للواتي ، وهو أيضاً في المعنى جمع التي . ومعنى قياماً تقومون بها وتنتعشون بها ، ولو ضيعتموها لتلفت أحوالكم . قال الضحاك : جعلها الله قياماً لأنه يقام بها الحج والجهاد وإكمال البر ، وبها فكاك الرقاب من رق ومن النار ، وكان السلف تقول : المال سلاح المؤمن ، ولأن أترك ما يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس . وعن سفيان الثوري وكانت له بضاعة يقلبها : لولاها لتمندل أي : بنو العباس . وكانوا يقولون : اتجروا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل كل دينه . وقرأ نافع وابن عامر : قيماً ، وجمهور السبعة : قياماً ، وعبد الله بن عمر : قواماً بكسر القاف ، والحسن وعيسى بن عمر : قواماً بفتحها . ورويت عن أبي عمرو . وقرىء شاذاً : قوماً . فأما فيما فمقدر كالقيام ، والقيام قاله : الكسائي والفراء والأخفش ، وليس مقصوراً من قيام . وقيل : هو مقصور منه . قالوا : وحذفت الألف كما حذفت في خيم وأصله خيام ، أو جمع قيمة كديم جمع قاله : البصريون غير الأخفش . ورده أبو علي : بأنه وصف به في قوله : { ديناً قيماً } [ الأَنعام : 161 ] والقيم لا يوصف به ، وإنما هو مصدر بمعنى القيام الذي يراد به الثبات والدوام . ورد هذا بأنه لو كان مصدراً لما أعلّ كما لم يعلوا حولاً وعوضاً ، لأنه على غير مثال الفعل ، لا سيما الثلاثية المجردة . وأجيب : بأنه اتبع فعله في الإعلال فأعل ، لأنه مصدر بمعنى القيام ، فكما أعل القيام أعل هو . وحكى الأخفش : قيماً وقوماً ، قال : والقياس تصحيح الواو ، وإنما اعتلت على وجه الشذوذ كقولهم : تيره ، وقول بني ضبة : طيال في جمع طويل ، وقول الجميع : جياد في جمع جواد . وإذا أعلوا ديماً لاعتلال ديمة ، فإن إعلال المصدر لاعتلال فعله أولى . ألا ترى إلى صحة الجمع مع اعتلال مفرده في معيشة ومعائش ، ومقامة ومقاوم ، ولم يصححوا مصدراً أعلوا فعله . وقيل : يحتمل هنا أن يكون جمع قيمة ، وإن كان لا يحتمله ديناً قيماً . وأما قيام فظاهر فيه المصدر ، وأما قوام فقيل : مصدر قاوم . وقيل : هو اسم غير مصدر ، وهو ما يقام به كقولك : هو ملاك الأمر لما يملك به . وأما قوام فخطأ عند أبي حاتم . وقال : القوام امتداد القامة ، وجوزه الكسائي . وقال : هو في معنى القوام ، يعني أنه مصدر . وقيل : اسم للمصدر . وقيل : القوام القامة ، والمعنى : التي جعلها الله سبب بقاء قاماتكم . { وارزقوهم فيها واكسوهم } أي : اطعموهم واجعلوا لهم نصيباً . قيل : معناه فيمن يلزم الرجل نفقته من زوجته وبنيه الصغار . قال ابن عباس : لا تعمد إلى هلاك الشيء الذي جعله الله لك معيشة فتعطيه امرأتك أو بنيك ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، وأمسك ذلك وأصلحه ، وكن أنت تنفق عليهم في رزقهم وكسوتهم ومؤونتهم . وقيل : في المحجورين ، وهو خلاف مرتب على الخلاف في المخاطبين بقوله : وآتوا من هم . والمعنى على هذا القول : اجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا ، حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال ، فلا يأكلها الإنفاق . قيل : وقال فيها : ولم يقل منها تنبيهاً على ما قاله عليه السلام : " ابتغوا في أموال اليتامى التجارة لا تأكلها الزكاة " والمستحب أن يكون الإنفاق عليهم من فضلاتها المكتسبة . وقيل في : بمعنى من ، أي منها . { وقولوا لهم قولاً معروفاً } المعروف : ما تألفه النفوس وتأنس إليه ويقتضيه الشرع ، فإن كان المراد بالسفهاء المحجورين ، فمن المعروف وعدهم الوعد الحسن بأنكم إذا رشدتم سلمنا إليكم أموالكم قاله : ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، ومقاتل ، وابن جريج . وقال عطاء : إذا ربحت أعطيتك ، وإذا غنمت في غزاتي ، جعلت لك حظاً . وإن كان المراد النساء والبنين الأصاغر والسفهاء الأجانب ، فتدعو لهم : بارك الله فيكم ، وحاطكم ، وشبهه قاله : ابن زيد . وقال الضحاك : الرد الجميل . ولما أمرالله تعالى أولاً بإيتاء اليتامى بقوله : { وآتوا اليتامى أموالهم } وأمر ثانياً بإيتاء أموال النساء بقوله : { وآتوا النساء صدقاتهن } وكان ذلك عاماً من غير تخصيص بين في هذه الآية . إنَّ ذلك الإيتاء إنما هو لغير السفيه ، وخص ذلك العموم ، وقيد الإطلاق الذي في الأمر بالإيتاء . { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } قيل : توفي رفاعة وترك ابنه ثابتاً صغيراً فسأل : إنَّ ابن أخي في حجري ، فما يحل لي من ماله ، ومتى أدفع إليه ماله ؟ فنزلت . وقيل : " توفي أوس بن ثابت ، ويقال : أوس بن سويد عن زوجته أم كجه وثلاث بنات وابني عم سويد . وقيل : قتادة وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا المرأة ولا البنات شيئاً . وقيل : المانع ارثهن هو عم بنيها واسمه : ثعلبة . وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا البنات ولا الابن الصغير الذكر ، فشكتهما أم كجه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما ، فقال : لا يا رسول الله ، ولدها لا يركب فرساً ، ولا يحمل كلا ، ولا ينكى عدواً فقال : " انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله " فنزلت " وابتلاء اليتامى اختبارهم في عقولهم قاله : ابن عباس والسدي ، ومقاتل ، وسفيان . أو في عقولهم ودينهم وحفظهم لأموالهم وحسن تصرفهم فيها . ذكره : الثعلبي . وكيفية اختبار الصغير أن يدفع إليه نزر يسيرمن المال يتصرف فيه ، والوصي يراعى حاله فيه لئلا يتلفه . واختبار الصغيرة أن يرد إليها أمر البيت والنظر في الاستغزال دفعاً وأجرة واستيفاء . واختلاف كل منهما بحال ما يليق به وبما يعانيه من الأشغال والصنائع ، فإذا أنس منه الرشد بعد البلوغ والاختبار دفع إليه ماله ، وأشهد عليه هذا ظاهر الآية ، وهو يعقب الدفع . والإشهاد الإيناس المشروط . وقال ابن سيرين : لا يدفع إليه بعد الإيناس والاختبار المذكورين حتى تمضي عليه سنة وتداولة الفصول الأربع ، ولم تتعرض الآية لسن البلوغ ، ولا بماذا يكون . وتكلم فيها هنا بعض المفسرين . والكلام في البلوغ مذكور في كتب الفقه . وظاهر الآية أنه إن لم يؤنس منه رشد بقي محجوراً عليه دائماً ، ولا يدفع إليه المال ، وبه قال الجمهور . وقال النخعي وأبو حنيفة : ينتظر به خمس وعشرون سنة ، ويدفع إليه ماله أونس منه الرشد أو لم يؤنس . وظاهر الآية يدل على استبداد الوصي بالدفع والاستقلال به . وقالت طائفة : يفتقر إلى أن يدفعه إلى السلطان ويثبت عنده رشده ، أو يكون ممن يأمنه الحاكم . وظاهر عموم اليتامى اندراج البنات في هذا الحكم ، فيكون حكمهن حكم البنين في ذلك . فقيل : يعتبر رشدها ، وإن لم تتزوج بالبلوغ . وقيل : المدة بعد الدخول خمسة أعوام . وقيل : سنة . وقيل : سبعة في ذات الأب ، وعام واحد في اليتيمة التي لا وصي لها . وحتى هنا غاية للابتلاء ، ودخلت على الشرط وهو : إذاً ، وجوابه : فإن آنستم ، وجوابه وجواب إن آنستم : فادفعوا . وإيناس الرشد مترتب على بلوغ النكاح ، فيلزم أن يكون بعده . وحتى إذا دخلت على الشرط لا تكون عاملة ، بل هي التي تقع بعدها الجمل كقوله : @ وحتى الجيـاد مـا يقـدن بأرسـان @@ وقوله : @ وحتـى مـاء دجـلـة أشـكـل @@ على أن في هذه المسألة خلافاً ذهب الزّجاج وابن درستويه إلى أن الجملة في موضع جر ، وذهب الجمهور إلى أنها غير عاملة البتة . وفي قوله : بلغوا النكاح تقدير محذوف وهو : بلغوا حد النكاح أو وقته . وقال ابن عباس : معنى آنستم عرفتم . وقال عطاء : رأيتم . وقال الفراء : وجدتم . وقال الزجاج : علمتم . وهذه الأقوال متقاربة . وقرأ ابن مسعود : فإن أحستم ، يريد أحسستم . فحذف عين الكلمة ، وهذا الحذف شذوذ لم يرد إلا في ألفاظ يسيرة . وحكى غير سيبويه : أنها لغة سليم ، وأنها تطرد في عين كل فعل مضاعف اتصل بتاء الضمير أو نونه . وقرأ ابن مسعود وأبو عبد الرحمن وأبو السمال وعيسى الثقفي : رَشَداً بفتحتين . وقرىء شاذاً : رُشُداً بضمتين ، ونكر رشداً لأن معناه نوع من الرشد ، وطرف ومخيلة من مخيلته ، ولا ينتظر به تمام الرشد . قال ابن عطية ومالك : يرى الشرطين : البلوغ والرشد ، وحيئنذ يدفع المال . وأبو حنيفة : يرى أن يدفع المال بالشرط الواحد ما لم يحفظ له سفه ، كما أبيحت التسرية بالشرط الواحد . وكتاب الله قد قيدها بعدم الطول ، وخوف العنت . والتمثيل عندي في دفع المال بتوالي الشرطين غير صحيح ، وذلك أنّ البلوغ لم تسقه الآية سبباً في الشرط ، ولكنها حالة الغالب على بني آدم أن تلتئم عقولهم فيها ، فهو الوقت الذي لا يعتبر شرط الرشد إلا فيه . فقال : إذا بلغ ذلك الوقت فلينظر إلى الشرط وهو : الرشد حينئذ . وفصاحة الكلام تدل على ذلك لأن التوقيت بالبلوغ جاء بإذا ، والمشروط جاء بإن التي هي قاعدة حروف الشرط . وإذا ليست بحرف شرط لحصول ما بعدها ، وأجاز سيبويه أن يجازى بها في الشعر . وقال : فعلوا ذلك مضطرين ، وإنما جوزي بها لأنها تحتاج إلى جواب ، ولأنها يليها الفعل مظهراً أو مضمراً . واحتج الخليل على منع شرطيتها بحصول ما بعدها . ألا ترى أنك تقول : أجيئك إذا احمرّ البسر ، ولا تقول : إن احمرّ البسر انتهى كلامه . ودل كلامه على أنّ إذا ظرف مجرّد من معنى الشرط ، وهذا مخالف لكلام النحويين . بل النحويون كالمجمعين على أنّ إذا ظرف لما يستقبل فيه معنى الشرط غالباً ، وإن صرح أحد منهم بأنها ليست أداة شرط فإنما يعني أنها لا تجزم كأدوات الشرط ، لا نفي كونها تأتي للشرط . وكيف تقول ذلك ، والغالب عليها أنها تكون شرطاً ؟ ولم تتعرّض الآية إلى حكم من أونس منه الرشد بعد البلوغ ، ودفع إليه ماله ، ثم عاد إلى السفه ، أيعود الحجر عليه أم لا ؟ وفيه قولان : قال مالك : يعود . وقال أبو حنيفة : لا يعود ، والقولان عن الشافعي . { ولا تأكلوها إسرافاً وبداراً أن يكبروا } تقدم أنه يعبر بالأكل عن الأخذ ، لأن الأكل أعظم وجوه الانتفاع بالمأخوذ . وهذه الجملة مستقلة . نهاهم تعالى عن أكل أموال اليتامى وإتلافها بسوء التصرف ، وليست معطوفة على جواب الشرط ، لأنه وشرطه مترتبان على بلوغ النكاح . وهو معارض لقوله : وبداراً أن يكبروا ، فيلزم منه مشقة على ما ترتب عليه ، وذلك ممتنع . وبهذا الذي قرّرناه يتضح خطأ من جعل ولا تأكلوها عطفاً على فادفعوا ، وليس تقييد النهي بأكل أموال اليتامى في هاتين الحالتين مما يبيح الأكل بدونهما ، فيكون من باب دليل الخطاب . والإسراف : الإفراط في الإنفاق ، والسرف الخطأ في مواضع الإنفاق . قال : @ أعطوا هنيدة تجدوها ثمانية ما في عطائهم منّ ولا سرف @@ أي : ليس يخطئون مواضع العطاء . قال ابن عباس وغيره : ومبادرة كبرهم أن الوصي يستغنم مال محجوره فيأكل ويقول : أبادر كبره لئلا يرشد ويأخذ ماله . وانتصب إسرافاً وبداراً على أنهما مصدران في موضع الحال ، أي : مسرفين ومبادرين . والبدار مصدر بادر ، وهو من باب المفاعلة التي تكون بين اثنين . لأن اليتيم مبادر إلى الكبر ، والولي مبادر إلى أخذ ماله ، فكأنهما مستبقان . ويجوز أن يكون من واحد ، وأجيز أن ينتصبا على المفعول من أجله ، أي : لإسرافكم ومبادرتكم . وإن يكبروا مفعول بالمصدر ، أي : كبركم كقوله : " أو إطعام يتيماً " وفي إعمال المصدر المنوّن خلاف . وقيل : التقدير مخافة أن يكبروا ، فيكون أن يكبروا مفعولاً من أجله ، ومفعول بداراً محذوف . { ومن كان غنياً فليستعفف ومن كان فقيراً فليأكل بالمعروف } ظاهر هذه الجملة يدل على أنه تقسيم لحال الوصي على اليتيم ، فأمره تعالى بالاستعفاف عن ماله إن كان غنياً ، واقتناعه بما رزقه الله تعالى من الغنى ، وأباح له الأكل بالمعروف من مال اليتيم إن كان فقيراً ، بحيث يأخذ قوتاً محتاطاً في تقديره . وظاهر هذه الإباحة أنه لا تبعة عليه ، ولا يترتب في ذمته ما أخذ مما يسدّ جوعته بما لا يكون رفيعاً من الثياب ، ولا يقضي إذا أيسر قاله : ابراهيم ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وعلى هذا القول الفقهاء . وقال عمر ، وابن عباس ، وعبيدة ، والشعبي ، ومجاهد ، وأبو العالية ، وابن جبير : يقضي إذا أيسر ، ولا يستلف أكثر من حاجته . وبه قال الأوزاعي . وقال ابن عباس أيضاً وأبو العالية ، والحسن ، والشعبي : إنما يأكل بالمعروف إذا شرب من اللبن ، وأكل من التمر ، بما يهنأ الجرباء ويليط الحوض ، ويجد التمر وما أشبهه . فأما أعيان الأموال وأصولها فليس للولي أخذها . وقالت طائفة : المعروف أن يكون له أجر بقدر عمله وخدمته ، وهذه رواية عن الإمام أحمد . وفصل الحسن بن حي فقال : إن كان وصي أب فله الأكل بالمعروف ، أو وصي حاكم فلا سبيل له إلى المال بوجه ، وأجرته على بيت المال . وفصل أبو حنيفة وصاحباه فقالوا : إن كان وصي اليتيم مقيماً فلا يجوز له أن يأخذ من ماله شيئاً ، وإن كان مسافراً فله أن يأخذ ما يحتاج إليه ، ولا يقتني شيئاً . وفصل الشعبي فقال : إن كان مضطراً بحال من يجوز له أكل الميتة أكل بقدر حاجته وردّ إذا وجد ، وإلاّ فلا يأكل لا سفراً ولا حضراً . وقال مجاهد : هذه الإباحة منسوخة بقوله : { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً } . وقال أبو يوسف : لعلها منسوخة بقوله : { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] فليس له أن يأخذ قرضاً ولا غيره . وقال ابن عباس والنخعي أيضاً : هذا الأمر ليس متعلقاً بمال اليتيم ، والمعنى : أنّ الغني يستعفف بغناه ، وأما الفقير فيأكل بالمعروف من مال نفسه ، ويقوم على نفسه بماله حتى لا يحتاج إلى مال يتيمه . واختار هذا القول من الشافعية الكيا الطبري . وقيل : إن كان مال اليتيم كثيراً يحتاج إلى قيام كثير عليه بحيث يشغل الولي عن مصالح نفسه ومهماته فرض له في مال اليتيم أجر عمله ، وإن كان لا يشغله فلا يأكل منه شيئاً ، غير أنه يستحب له شرب قليل اللبن ، وأكل قليل الطعام والسمن ، غير مضربه ولا مستكثر منه على ما جرت به العادة والمسامحة . وقالت طائفة منهم ربيعة ويحيـى بن سعيد : هذا تقسيم لحال اليتيم ، لا لحال الوصي . والمعنى : من كان منهم غنياً فليعف بماله ، ومن كان منهم فقيراً فليقتر عليه بالمعروف والاقتصاد . ويكون من خطاب العين ، ويراد به الغير . خوطب اليتامى بالاستعفاف والأكل بالمعروف ، والمراد الأولياء . لأن اليتامى ليسوا من أهل الخطاب ، فكأنه قال للأولياء والأوصياء : إن كان اليتيم غنياً فانفقوا عليه نفقة متعفف مقتصد لئلا يذهب ماله بالتوسع في نفقته ، وإن كان فقيراً فلينفق عليه بقدر ماله لئلا يذهب فيبقى كلا مضعفاً . فهذه أقوال ملخصها : هل تقسيم في الولي أو الصبي قولان : فإذا كان في الولي فهل الأمر متوجه إلى مال نفسه ، أو مال الصبي ؟ قولان . وإذا كان متوجهاً إلى مال الصبي ، هل ذلك منسوخ أم لا ؟ قولان . وإذا لم يكن منسوخاً ، فهل يكون تفصيلاً بالنسبة إلى الأكل أو المأكول ؟ قولان . فإذا كان بالنسبة إلى الأكل ، فهل يختص بولي الأب ، أو بالمسافر ، أو بالمضطر ، أو بالمشتغل بذلك عن مهمات نفسه ؟ أقوال . وإذا كان بالنسبة للمأكول ، فهل يختص بالتافه أم يتعدّى إلى غيره ؟ قولان . وإذا تعدّى إلى غيره ، فهل يكون أجرة أم لا ؟ قولان . وإذا لم يكن أجرة فأخذ ، فهل يترتب ديناً في ذمته يجب قضاؤه إذا أيسر أم لا ؟ قولان . ودلائل هذه الأقوال مذكورة في مسائل الخلاف . ولفظه فليستعفف أبلغ من فليعف ، لأن فيه طلب زيادة العفة . { فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم } أمر تعالى بالإشهاد لحسم مادة النزاع ، وسوء الظن بهم ، والسلامة من الضمان والغرم على تقدير إنكار اليتيم ، وطيب خاطر اليتيم بفك الحجر عنه ، وانتظامه في سلك من يعامل ويعامل . وإذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع يمينه عند أبي حنيفة وأصحابه ، وعند مالك . والشافعي : لا يصدق إلا بالبينة . فكان في الإشهاد الاحتراز من توجه الحلف المفضي إلى التهمة ، أو من وجوب الضمان إذ لم يقم البينة . وظاهر الأمر أنه واجب . وقال قوم : هو ندب . وظاهر الآية الأمر بالإشهاد عليهم إذا دفع إليهم أموالهم ، وهي المأمور بدفعها في قوله : { فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم } وقال عمرو بن جبير : هذا الإشهاد إنما هو على دفع الولي ما استقرضه من مال اليتيم حالة فقره إذا أيسر . وقيل : فيها دليل على وجوب القضاء على من أكل من مال اليتيم ، المعنى : أقرضتم أو أكلتم فأشهدوا هذا غرمتم . وقيل : المعنى إذا أنفقتم شيئاً على المولى عليه فاشهدوا ، حتى لو وقع خلاف أمكن إقامة البينة ، فإن مالاً قبض على وجه الأمانة بإشهاد لا يبرأ منه إلا بإشهاد على دفعه . { وكفى بالله حسيباً } أي كافياً في الشهادة عليكم . ومعناه : محسباً من أحسبني كذا ، أي كفاني ، قاله : الأعمش والطبري . فيكون فعيلاً بمعنى مفعل ، أو محاسباً ، أو حاسباً لأعمالكم يجازيكم بها ، فعليكم بالصدق ، وإياكم والكذب . فيكون في ذلك وعيد لجاحد الحق . وحسيب فعيل بمعنى مفاعل ، كجليس وخليط ، أو بمعنى فاعل ، حول للمبالغة في الحسبان . وقال ابن عباس والسدي ومقاتل : معنى حسيباً شهيداً . وفي كفى خلاف : أهي اسم فعل ، أم فعل ؟ والصحيح أنها فعل ، وفاعله اسم الله ، والباء زائدة . وقيل : الفاعل مضمر وهو ضمير الاكتفاء ، أي : كفى هو ، أي الاكتفاء بالله ، والباء ليست بزائدة ، فيكون بالله في موضع نصب ، ويتعلق إذ ذاك بالفاعل . وهذا الوجه لا يسوغ إلا على مذهب الكوفيين ، حيث يجيزون أعمال ضمير المصدر كأعمال ظاهره . وإن عنى بالإضمار الحذف ففيه إعمال المصدر وهو موصول ، وإبقاء معموله وهو عند البصريين لا يجوز ، أعني : حذف الفاعل وحذف المصدر . وانتصب حسيباً على التمييز لصلاحية دخول مَن عليه . وقيل : على الحال . وكفى هنا متعدية إلى واحد وهو محذوف ، التقدير : وكفاكم الله حسيباً . وتأتي بغير هذا المعنى ، فتعديه إلى اثنين كقوله : { فسيكفيكهم الله } [ البقرة : 137 ] { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قلّ منه أو كثر نصيباً مفروضاً } قيل : سبب نزولها هو خبر أم كجه وقد تقدم ، قاله : عكرمة وقتادة وابن زيد . قال المروزي : كان اليونان يعطون جميع المال للبنات ، لأن الرّجل لا يعجز عن الكسب ، والمرأة تعجز . وكانت العرب لا يعطون البنات ، فردَّ الله على الفريقين . والمعنيّ : بالرجال الذكور ، وبالنساء الإناث كقوله : { وبثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساء } . وأبهم في قوله : نصيب ، ومما ترك في موضع الصفة لنصيب . وقيل : يتعلق بلفظ نصيب فهو من تمامه . والوالدان : يعني والدي الرجال والنساء ، وهما أبواهم ، وسمي الأب والداً ، لأن الولد منه ، ومن الوالدة . وللاشتراك جاء الفرق بينهما بالتاء كقوله : { لا تضار والدة بولدها } [ البقرة : 233 ] وجمع بالألف والتاء قياساً كقوله : { والوالدات } [ البقرة : 233 ] قال ابن عطية : كما قال الشاعر : @ بحيث يعتـشّ الغـراب البـائـض @@ لأن البيض من الأنثى والذكر انتهى . ولا يتعين أن يراد بالغراب هنا الذكر ، لأن لفظ الغراب ينطلق على الذكر والأنثى ، وليس مما فرق بينه وبين مؤنثه بالتاء . فهو كالّرعوب ينطلق على الذكر والأنثى ، ولا يرجح كونه ذكراً وصفه بالبائض ، وهو وصف مذكر لاحتمال أن يكون ذكر حملاً على اللفظ ، إذ لم تظهر فيه علامة تأنيث كما أنث المذكر حملاً على لفظ التأنيث في قوله : وعنترة الفلحاء . وفي قوله : @ أبوك خليفة ولدته أخرى @@ والأقربون : هم المتوارثون من ذوي القرابات . وقد أبهم في لفظ الأقربون كما أبهم في النصيب ، وعين الوارث والمقدار في الآيات بعدها . وقوله : مما قلّ منه ، هو بدل من قوله : مما ترك الأخير ، أعيد معه حرف الجر ، والضمير في منه عائد على ما من قوله : مما ترك الأخير . واكتفى بذكره في هذه الجملة ، وهو مراد في الجملة الأولى ، ولم يضطرّ إلى ذكره لأن البدل جاء على سبيل التوكيد ، إذ ليس فيه إلا توضيح أنه أريد بقوله : مما ترك العموم في المتروك . وهذا البدل فيه ذكر توعى المتروك من القلة أو الكثرة . وقال أبو البقاء : مما قلّ يجوز أن يكون حالاً من الضمير المحذوف في ترك ، أي : مما تركه مستقراً مما قلّ . ومعنى نصيباً مفروضاً : أي حظاً مقطوعاً به لا بد لهم من أن يحوزوه . وقال الزجاج ومكي : نصيباً منصوب على الحال ، المعنى : لهؤلاء أنصباء على ما ذكرنا هنا في حال الفرض . وقال الفراء : نصب لأنه أخرجه مخرج المصدر ، ولذلك وحده كقولك له : عليّ كذا حقاً لازماً ، ونحوه : { فريضة من الله } [ النساء : 11 ] ولو كان اسماً صحيحاً لم ينصب ، لا تقول : لك عليّ حق درهماً انتهى . وقال الزمخشري قريباً من هذا القول قال : ويجوز أن ينتصب انتصاب المصدر المؤكد لقوله : فريضة من الله ، كأنه قسمة مفروضة . وقال ابن عطية نحواً من كلام الزجاج قال : إنما هو اسم نصب كما ينصب المصدر في موضع الحال تقديره : فرضاً . ولذلك جاز نصبه كما تقول له : عليّ كذا وكذا حقاً واجباً ، ولولا معنى المصدر الذي فيه ما جاز في الاسم الذي ليس بمصدر هذا النصب ، ولكنّ حقه الرفع انتهى كلامه . وهو مركب من كلام الزجاج والفراء ، وهما متباينان لأن الانتصاب على الحال مباين للانتصاب على المصدر المؤكد مخالف له . وقال الزمخشري : ونصيباً مفروضاً نصب على الاختصاص بمعنى أعني : نصيباً مفروضاً مقطوعاً واجباً انتهى . فإن عني بالاختصاص ما اصطلح عليه النحويون فهو مردود بكونه نكرة ، والمنصوب على الاختصاص نصوا على أنه لا يكون نكرة . وقيل : انتصب نصب المصدر الصريح ، لأنه مصدر أي نصيبه نصيباً . وقيل : حال من النكرة ، لأنها قد وصفت . وقيل : بفعل محذوف تقديره : جعلته أو ، أوجبت لهم نصيباً . وقيل : حال من الفاعل في قلّ أو كثر . واستدلّ بظاهر هذه الآية على وجوب القسمة في الحقوق المتميزة إذا أمكنت وطلب ذلك كل واحد من الشريكين بلا خلاف . واختلفوا في قسمة المتروك على الفرائض ، إذا كانت القسمة بغيره على حاله كالحمام والرحا والبثر والدار التي تبطل منافعها بافتراق السهام . فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : تقسم . وقال ابن أبي ليلى وأبو ثور : لا تقسم . قال ابن المنذر : وهو أصح القولين . واستدل بها أيضاً على وجوب توريث الأخ للميت مع البنت ، فإذا أخذت النصف أخذ الباقي . واختلف في ابني عم أحدهما أخ لأم ، فقال عليّ وزيد : للأخ من الأم السدس ، وما بقي بينهما نصفان ، وهو قول فقهاء الأمصار . وقال عمر وعبد الله وشريح والحسن : المال للأخ من الأم . { وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولاً معروفاً } قيل : نزلت في أرباب الأموال يقسمونها عندما يحضر الموت في وصية ، وجهات يختارونها ، ويحضرهم من القرابات محجوب عن الإرث ، فيوصون للأجانب ويتركون المحجوبين فيحرمون الإرث والوصية قاله : ابن عباس وابن المسيب وابن زيد وأبو جعفر . وقيل : نزلت في أرباب الفرائض يحضرهم أيضاً محجوب ، فأمروا أن يرضخوا لهم مما أعطاهم الله . روي عن ابن عباس وابن المسيب : أنها منسوخة ، وبه قال : عكرمة والضحاك قالوا : كانت قسمة جعلها الله ثلاثة أصناف ، ثم نسخ ذلك بآية الميراث ، وأعطى كل ذي حظ حظه ، وجعل الوصية للذين يحرمون ولا يرثون . وقيل : هي محكمة أمر الله من استحق إرثاً ، وحضر القسمة قريب أو يتيم أو مسكين لا يرث ، أن لا يحرموا إن كان المال كثيراً ، وأن يعتذر إليهم إن كان قليلاً ، وأمر به أبو موسى الأشعري . وقال الحسن والنخعي : كان المؤمنون يفعلون ذلك يقسمون لهم من العين الورق والفضة ، فإذا قسموا الأرضين والرقيق قالوا لهم قولاً معروفاً : بورك فيكم . وفعله عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وتلا هذه الآية . وإذا كان الوارث صغيراً لا يتصرف ، هل يفعل ذلك الولي أولا ؟ قولان . والظاهر من سياق هذه الآية عقيب ما قبلها أنها في الوارثين لا في المحتضرين الموصين ، والذي يظهر من القسمة أنها مصدر بمعنى القسم قال تعالى : { تلك إذاً قسمة ضيزى } [ النجم : 22 ] . وقيل : المراد بالقسمة المقسوم . وقيل : القسمة الإسم من الاقتسام لا من القسم ، كالخيرة من الاختيار . ولا يكاد الفصحاء يقولون قسمت بينهم قسمة ، وروى ذلك الكسائي . وقسمتك ما أخذته من الاقسام ، والجمع قسم . وقال الخليل : القسم الحظ والنصيب من الجزء ، ويقال : قاسمت فلاناً المال وتقاسمناه واقتسمناه ، والقسم الذي يقاسمك . وظاهر قوله : فارزقوهم ، الوجوب . وبه قال جماعة منهم : مجاهد ، وعطاء ، والزهري . وقال ابن عباس ، وابن جبير ، والحسن : هو ندب . وفي قوله : فارزقوهم إضافة الرزق إلى غير الله تعالى ، كما قال : { والله خير الرازقين } [ الجمعة : 11 ] وقيل : كان ذلك في الورثة واجباً فنسخته آية الميراث ، والضمير في : منه عائد على المال المقسوم ، ودل عليه القسمة ، لأن القسمة وهي المصدر تدل على متعلقها وهو المال . وقيل : يعود إلى ما من قوله : ما ترك الوالدان والأقربون . ومن قال : القسمة المقسوم ، أعاد الضمير إلى القسمة على معنى التذكير ، إذ المراد المقسوم . وقدّم اليتامى على المساكين لأنّ ضعفهم أكثر ، وحاجتهم أشد ، فوضع الصدقات فيهم أفضل وأعظم للأجر . والظاهر أنهم يرزقون من عين المال المقسوم ، ورأى عبيدة وابن سيرين : أن الرزق في هذه الآية أن يصنع لهم طعام يأكلونه ، وفعلاً ذلك وذبحا شاة من التركة ، وقسم عند عبيدة مال ليتيم فاشترى منه شاة وذبحها ، وقال عبيدة : لولا هذه لكانت من مالي . وقوله : منه يدل على التبعيض ، ولا تقدير فيه بالإجماع ، وهذا مما يدل على الندب . إذ لو كان لهؤلاء حق معين لبين الله قدر ذلك الحق ، كما بين في سائر الحقوق . وعلى هذا فقهاء الأمصار إذا كان الورثة كبار ، وإن كانوا صغاراً فليس إلا القول المعروف . والضمير في قوله : وقولوا لهم ، عائد على ما عاد عليه الضمير في : فارزقوهم ، وهم : أولو القربى واليتامى والمساكين . وقال ابن جرير : الآية محكمة في الوصية ، والضمير في فارزقوهم عائد على أولي القربى الموصي لهم ، وفي لهم عائد على اليتامى والمساكين . أمر أن يقال لهم قول معروف . وقيل أيضاً بتفريق الضمير ، ويكون المراد من أولي القربى الذين يرثون ، والمراد من اليتامى والمساكين الذين لا يرثون . فقوله : فارزقوهم راجع إلى أولي القربى . وقوله : لهم ، راجع إلى اليتامى والمساكين . وما قيل من تفريق الضمير تحكم لا دليل عليه . والمقول المعروف فسره هنا ابن جبير أن يقول لهم : هذا المال لقوم غيب أو ليتامى صغار ، وليس لكم فيه حق . وقيل : الدعاء لهم بالرزق والغنى . وقيل : هو القول الدال على استقلال ما أرضخوهم به ، وروي عن ابن جبير . وقيل : العدة الحسنة بأن يقال : هؤلاء أيتام صغار ، فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم قاله ، عطاء بن يسار ، عن ابن جبير . وقيل : المعروف ما يؤنس به من دعاء وغيره . وظاهر الكلام أن الأصناف الثلاثة يجمع لهم بين الرزق والقول المعروف . وقيل : إما أن يعطوا وإما أن يقال لهم قول معروف . { وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً } ظاهر هذه الجملة أنه أمر بخشية الله واتقائه . والقول السديد من ينظر في حال ذرية ضعاف لتنبيهه على ذلك بكونه هو يترك ذرية ضعافاً ، فيدخل في ذلك ولاة الأيتام ، وبه فسر ابن عباس . والذي ينهى المحتضر عن الوصية لذوي القربى ، ومن يستحق ويحسن له الإمساك على قرابته وأولاده . وبه فسر مقسم وحضرمي ، والذي يأمر المحتضر بالوصية لفلان وفلان ويذكره بأن يقدم لنفسه ، وقصده إيذاء ورثته بذلك . وبه فسر ابن عباس أيضاً وقتادة والسدي وابن جبير والضحاك ومجاهد . وقالت فرقة : المراد جميع الناس أمروا باتقاء الله في الأيتام وأولاد الناس ، وإن لم يكونوا في حجرهم . وأن يسددو لهم القول كما يحبون أن يفعل بأولادهم . قال الزمخشري : ويجوز أن يتصل بما قبله ، وأن يكون آمراً للورثة بالشفقة على الذين يحضرون القسمة من ضعفاء أقاربهم واليتامى والمساكين ، وأن يتصور أنهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضائعين محتاجين ، هل كانوا يخافون عليهم الحرمان والخشية ؟ انتهى كلامه . وهو ممكن أن يكون مراداً . قال القاضي : الأليق بما تقدم وما تأخر أن يكون من الآيات الواردة في الأيتام ، فجعل تعالى آخر ما دعاهم به إلى حفظ مال اليتيم أن ينبههم على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ، ولا شك أن هذا من أقوى البواعث في هذا المقصود على الاحتياط فيه . وقرأ الزهري والحسن وأبو حيوة وعيسى بن عمر : بكسر لام الأمر في : وليخش ، وفي : فليتقوا ، وليقولوا . وقرأ الجمهور : بالإسكان . ومفعول وليخش محذوف ، ويحتمل أن يكون اسم الجلالة أي الله ، ويحتمل أن يكون هذا الحذف على طريق الأعمال ، أعمل فليتقوا . وحذف معمول الأول ، إذ هو منصوب يجوز أن يحذف اقتصاراً ، فكان حذفه اختصاراً أجوز ، ويصير نحو قولك : أكرمت فبررت زيداً . وصلة الذين الجملة من لو وجوابها . قال ابن عطية : تقديره لو تركوا لخانوا . ويجوز حذف اللام في جواب لو تقول : لو قام زيد لقام عمرو ، ولو قام زيد قام عمرو ، انتهى كلامه . وقال الزمخشري : معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً وذلك عند احتضارهم ، خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل : @ لقد زاد الحياة إليّ حبا بناتي إنهنّ من الضعاف أحاذر أن يرثن البؤس بعدي وأن يشربن رنقاً بعد صاف @@ انتهى كلامه . وقال غيرهما : لو تركوا ، لو يمتنع بها الشيء لامتناع غيره ، وخافوا جواب لو انتهى . فظاهر هذه النصوص أنّ لو هنا التي تكون تعليقاً في الماضي ، وهي التي يعبر عنها سيبويه : بأنها حرف لما كان يقع لوقوع غيره . ويعبر غيره عنها بأنها حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره . وذهب صاحب التسهيل : إلى أنَّ لو هنا شرطية بمعنى أن فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال ، والتقدير : وليخش الذين إن تركوا من خلفهم . قال : ولو وقع بعد لو هذه مضارع لكان مستقبل المعنى كما يكون بعد أن قال الشاعر : @ لا يلفك الراجيك إلا مظهراً خلق الكريم ولو تكون عديما @@ وكان قائل هذا توهم أنه لما أمروا بالخشية ، والأمر مستقبل ، ومتعلق الأمر هو موصول ، لم يصلح أن تكون الصلة ماضية على تقدير دالة على العدم الذي ينافي امتثال الأمر . وحسن مكان لو لفظ أن فقال : إنها تعليق في المستقبل ، وأنها بمعنى إن . وكأن الزمخشري عرض له هذا التوهم ، فلذلك قال : معناه وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا ، فلم تدخل لو على مستقبل ، بل أدخلت على شارفوا الذي هو ماض أسند للموصول حالة الأمر . وهذا الذي توهموه لا يلزم في الصلة إلا إن كانت الصلة ماضية في المعنى ، واقعة بالفعل . إذ معنى : لو تركوا من خلفهم ، أي ماتوا فتركوا من خلفهم ، فلو كان كذلك للزم التأويل في لو أن تكون بمعنى : أن إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل من مات بالفعل . أما إذا كان ماضياً على تقدير يصح أن يقع صلة ، وأن يكون العامل في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك : ليزرنا الذي لو مات أمس بكيناه . وأصل لو أن تكون تعليقاً في الماضي ، ولا يذهب إلى أنه يكون في المستقبل بمعنى : إن ، إلا إذ دلّ على ذلك قرينة كالبيت المتقدّم . لأن جواب لو فيه محذوف مستقبل لاستقبال ما دل عليه وهو قوله : لا يلفك . وكذلك قوله : @ قوم إذا حاربوا شدّة مآزرهم دون النساء ولو بانت بإطهار @@ لدخول ما بعدها في حيز إذا ، وإذا للمستقبل . ولو قال قائل : لو قام زيد قام عمر ، ولتبادر إلى الذهن أنه تعليق في الماضي دون المستقبل . ومن خلفهم متعلق بتركوا . وأجاز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من ذرية . وقرأ الجمهور ضعافاً جمع ضعيف ، كظريف وظراف . وأمال فتحة العين حمزة ، وجمعه على فعال قياس . وقرأ ابن محيصن : ضعفاً بضمتين ، وتنوين الفاء . وقرأت عائشة والسلمي والزهري وأبو حيوة وابن محيصن أيضاً : ضعفاء بضم الضاد والمد ، كظريف وظرفاء ، وهو أيضاً قياس . وقرىء ضعافى وضعافى بالإمالة ، نحو سكارى وسكارى . وأمال حمزة خافوا للكسرة التي تعرض له في نحو : خفت . وانظر إلى حسن ترتيب هذه الأوامر حيث بدأ أولاً بالخشية التي محلها القلب وهي الاحتراز من الشيء بمقتضى العلم ، وهي الحاملة على التقوى ، ثم أمر بالتقوى ثانياً وهي متسببة عن الخشية ، إذ هي جعل المرء نفسه في وقاية مما يخشاه . ثم أمر بالقول السديد ، وهو ما يظهر من الفعل الناشىء عن التقوى الناشئة عن الخشية . ولا يراد تخصيص القول السديد فقط ، بل المعنى على الفعل والقول السديدين . وإنما اقتصر على القول السديد لسهولة ذلك على الإنسان ، كأنه قيل : أقل ما يسلك هو القول السديد . قال مجاهد : يقولون للذين يفرقون المال زد فلاناً وأعط فلاناً . وقيل : هو الأمر بإخراج الثلث فقط . وقيل : هو تلقين المحتضر الشهادة . وقيل : الصدق في الشهادة . وقيل : الموافق للحق . وقيل : للعدل . وقيل : للقصد . وكلها متقاربة . والسداد : الاستواء في القول والفعل . وأصل السد إزالة الاختلال . والسديد يقال في معنى الفاعل ، وفي معنى المفعول . ورجل سديد متردد بين المعنيين ، فإنه يسدّد من قبل متبوعه ، ويسدّد لتابعه . { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً } نزلت في المشركين كانوا يأكلون أموال اليتامى ولا يورثونهم ولا النساء ، قاله : ابن زيد . وقيل : في حنظلة بن الشمردل ، ولي يتيماً فأكل ماله . وقيل : في زيد بن زيد الغطفاني ولي مال ابن أخيه فأكله ، قاله : مقاتل . وقال الأكثرون : نزلت في الأوصياء الذين يأكلون من أموال اليتامى ما لم يبح لهم ، وهي تتناول كل أكل بظلم لم يكن وصياً وانتصاب ظلماً على أنه مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله ، وخبران هي الجملة من قوله : إنما يأكلون . وفي ذلك دليل على جواز وقوع الجملة المصدرة بأن خبراً ، لأن وفي ذلك خلاف . وحسن ذلك هنا تباعدهما يكون اسم إنّ موصولاً ، فطال الكلام بذكر صلته . وفي بطونهم : معناه ملء بطونهم يقال : أكل في بطنه ، وفي بعض بطنه . كما قال : @ كلوا في بعض بطنكم تعفوا فإن زمانكم زمن خميص @@ والظاهر : تعلق في بطونهم بيأكلون ، وقاله الحوفي . وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال من قوله : ناراً . ونبّه بقوله : في بطونهم على نقصهم ، ووصفهم بالشره في الأكل ، والتهافت في نيل الحرام بسبب البطن . وأين يكون هؤلاء من قول الشاعر ؟ ! @ تـراه خميـص البطـن والـزاد حـاضر @@ وقول الشنفري : @ وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل @@ وظاهر قوله : ناراً أنهم يأكلون ناراً حقيقة . وفي حديث أبي سعيد عن ليلة الإسراء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت قوماً لهم مشافر كمشافر الإبل ، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صحراً من نار يخرج من أسافلهم ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ قال : هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً وبأكلهم النار حقيقة " قالت طائفة : وقيل : هو مجاز ، لما كان أكل مال اليتيم يجر إلى النار والتعذيب ، بها عبر عن ذلك بالأكل في البطن ، ونبه على الحامل على أخذ المال وهو البطن الذي هو أخس الأشياء التي ينتفع بالمال لأجلها ، إذ مآل ما يوضع فيه إلى الاضمحلال والذهاب في أقرب زمان . ولذلك قال : " ما ملأ الإنسان وعاء شراً من بطنه " وقرأ الجمهور : وسيصلون مبنياً للفاعل من الثلاثي . وقرأ ابن عامر وأبو بكر : بضم الياء وفتح اللام مبنياً للمفعول من الثلاثي . وابن أبي عبلة : بضم الياء وفتح الصاد واللام مشدّدة مبنياً للمفعول . والصلا من : التسخن بقرب النار ، والإحراق إتلاف الشيء بالنار . وعبر بالصلا بالنار عن العذاب الدائم بها ، إذ النار لا تذهب ذواتهم بالكلية ، بل كما قال : { كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب } [ النساء : 56 ] وهذا وعيد عظيم على هذه المعصية . وجاء يأكلون بالمضارع دون سين الاستقبال ، وسيصلون بالسين ، فإن كان الأكل للنار حقيقة فهو مستقبل ، واستغنى عن تقييده بالسين بعطف المستقبل عليه . وإن كان مجازاً فليس بمستقبل ، إذ المعنى : يأكلون ما يجر إلى النار ويكون سبباً إلى العذاب بها . ولما كان لفظ نار مطلقاً في قوله : إنما يأكلون في بطونهم ناراً ، قيد في قوله سعيراً ، إذ هو الجمر المتقد . وتضمنت هذه الآيات من ضروب البيان والفصاحة . الطباق في : واحدة وزوجها ، وفي غنياً وفقيراً ، وفي : قل أو كثر . والتكرار في : اتقوا ، وفي : خلق ، وفي : خفتم ، وأن لا تقسطوا ، وأن لا تعدلوا من جهة المعنى ، وفي اليتامى ، وفي النساء ، وفي فادفعوا إليهم أموالهم ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم ، وفي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون ، وفي قوله : وليخش ، وخافوا من جهة المعنى على قول من جعلهما مترادفين ، وإطلاق اسم المسبب على السبب في : ولا تأكلوا وشبهه لأن الأخذ سبب للأكل . وتسمية الشيء باسم ما كان عليه في : وآتوا اليتامى ، سماهم يتامى بعد البلوغ . والتأكيد بالاتباع في : هنيئاً مريئاً وتسمية الشيء باسم ما يؤول اليه في : نصيب مما ترك ، وفي ناراً على قول من زعم أنها حقيقة . والتجنيس المماثل في : فادفعوا فإذا دفعتم ، والمغاير في : وقولوا لهم قولاً . والزيادة للزيادة في المعنى في : فليستعفف . وإطلاق كل على بعض في : الأقربون ، إذ المراد أرباب الفرائض . وإقامة الظرف المكاني مقام الزماني في : من خلفهم ، أي من بعد وفاتهم . والاختصاص في : بطونهم ، خصها دون غيرها لأنها محل للمأكولات . والتعريض في : في بطونهم ، عرض بذكر البطون لحسنهم وسقوط هممهم والعرب تذم بذلك قال : @ دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي @@ وتأكيد الحقيقة بما يرفع احتمال المجاز بقوله : في بطونهم . رفع المجاز العارض في قوله : { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً } [ الحجرات : 12 ] وهذا على قول من حمله على الحقيقة ، ومن حمله على المجاز فيكون عنده من ترشيح المجاز ، ونظير كونه رافعاً للمجاز قوله : { يطير بجناحيه } [ الأَنعام : 38 ] وقوله : { يكتبون الكتاب بأيديهم } [ البقرة : 79 ] . والحذف في عدة مواضع .