Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 41-52)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بدأ المؤمنون بذكر المتسبب عن دعوتهم ، وأبدى التفاضل بينهما . ولما ذكر المسببين ، ذكر سببهما ، وهو دعاؤهم إلى الكفر والشرك ، ودعاؤه إياهم إلى الإيمان والتوحيد . وأتى بصيغة العزيز ، وهو الذي لا نظير له ، والغالب الذي العالم كلهم في قبضته يتصرف فيهم كما يشاء ، الغفار لذنوب من رجع إليه وآمن به ، وأوصل سبب دعائهم بمسببه ، وهو الكفر والنار ، وأخر سبب مسببه ليكون افتتاح كلامه واختتامه بما يدعو إلى الخير . وبدأ أولاً بجملة اسمية ، وهو استفهام المتضمن التعجب من حالتهم ، وختم أيضاً بجملة اسمية ليكون أبلغ في توكيد الأخبار . وجاء في حقهم { وتدعونني } بالجملة الفعلية التي لا تقتضي توكيداً ، إذ دعوتهم باطلة لا ثبوت لها ، فتؤكد . و { ما ليس لي به علم } هي الأوثان ، أي لم يتعلق به علمي ، إذ ليس لها مدخل في الألوهية ولا لفرعون . قال الزمخشري : فإن قلت : لم جاء بالواو في النداء الثالث دون الثاني ؟ قلت : لأن الثاني داخل في كلام هو بيان للمجمل وتفسير له ، فأعطى الداخل عليه حكمه في امتناع دخول الواو ، وأما الثالث فداخل على كلام ليس بتلك المثابة . انتهى . وتقدم الكلام على لا جرم . وقال الزمخشري هنا ، وروي عن العرب : لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء ، يريد لا بد ، وفعل وفعل أخوان ، كرشد ورشد ، وعدم وعدم . { أنما } : أي أن الذي تدعونني إليه ، أي إلى عبادته ، { ليس له دعوة } ، أي قدر وحق يجب أن يدعى إليه ، أو ليس له دعوة إلى نفسه ، لأن الجماد لا يدعو ، والمعبود بالحق يدعو العباد إلى طاعته ، ثم يدعو العباد إليها إظهاراً لدعوة ربهم . وقال الزجاج : المعنى ليس له استجابة دعوة توجب الألوهية في الدنيا ولا في الآخرة ، أو دعوة مستجابة جعلت الدعوة التي لا استجابة لها ولا منفعة كلا دعوة ، أو سميت الاستجابة باسم الدعوة ، كما سمى الفعل المجازى عليه باسم الجزاء في قوله : كما تدين تدان . وقال الكلبي : ليست له شفاعة في الدنيا ولا في الآخرة ، وكان فرعون أولاً يدعو الناس إلى عبادة الأصنام ، ثم دعاهم إلى عبادة البقر ، وكانت تعبد ما دامت شابة ، فإذا هزلت أمر بذبحها ودعا بأخرى لتعبد . فلما طال عليه الزمان قال : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] . ولما ذكر انتفاء دعوة ما عبد من دون الله وذكر أن مرد الجميع إلى الله ، أي إلى جزائه ، { وأن المسرفين } : وهم المشركون في قول قتادة ، والسفاكون للدماء بغير حلها في قول ابن مسعود ومجاهد . وقيل : من غلب شره خيره هو المسرف . وقال عكرمة : هم الجبارون المتكبرون . وختم المؤمن كلامه بخاتمة لطيفة توجب التخويف والتهديد وهي قوله : { فستذكرون ما أقول لكم } : أي إذا حل بكم عقاب الله . { وأفوّض أمري } إلى قضاء الله وقدره ، لا إليكم ولا إلى أصنامكم ، وكانوا قد توعدوه . ثم ذكر ما يوجب التفويض ، وهو كونه تعالى بصيراً بأحوال العباد وبمقادير حاجاتهم . قال مقاتل : لما قال هذه الكلمات ، قصدوا قتله ؛ فهرب هذا المؤمن إلى الجبل ، فلم يقدروا عليه . وقيل : لما أظهر إيمانه ، بعث فرعون في طلبه ألف رجل ؛ فمنهم من أدركه ، فذب السباع عنه وأكلتهم السباع ، ومنهم من مات في الجبال عطشاً ، ومنهم من رجع إلى فرعون خائباً ، فاتهمه وقتله وصلبه . وقيل : نجا مع موسى في البحر ، وفر في جملة من فر معه . { فوقاه الله سيئات مامكروا } : أي شدائد مكرهم التي تسوؤه ، وما هموا به من أنواع العذاب لمن خالفهم . { وحاق بآل فرعون سوء العذاب } ، قال ابن عباس : هو ما حاق بالألف الذين بعثهم فرعون في طلب المؤمن ، من أكل السباع ، والموت بالعطش ، والقتل والصلب ، كما تقدم . وقيل : { سوء العذاب } : هو الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة . { النار } بدل من { سوء العذاب } ، أو خبر مبتدأ محذوف ، كأنه قيل : ما سوء العذاب : قيل : النار ، أو مبتدأ خبره { يعرضون } ، ويقوي هذا الوجه قراءة من نصب ، أي تدخلون النار يعرضون عليها . وقال الزمخشري : ويجوز أن ينصب على الاختصاص . والظاهر أن عرضهم على النار مخصوص بهذين الوقتين ، ويجوز أن يراد بذكر الطرفين الدوام في الدنيا ، والظاهر أن العرض خلاف الإحراق . وقال الزمخشري : عرضهم عليها : إحراقهم بها ، يقال : عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به . انتهى ، والظاهر أن العرض هو في الدنيا . وروي ذلك عن الهذيل بن شرحبيل ، وعن ابن مسعود والسدي : أن أرواحهم في جوف طيور سود ، تروح بهم وتغدوا إلى النار . وقال رجل للأوزاعي : رأيت طيوراً بيضاً تغدوا من البحر ، ثم تروح بالعشي سوداً مثلها ، فقال الأوزاعي : تلك التي في حواصلها أرواح آل فرعون ، يحرق رياشها وتسود بالعرض على النار . وقال محمد بن كعب وغيره : أراد أنهم يعرضون في الآخرة على تقدير ما بين الغدوّ والعشي ، إذ لا غدوّ ولا عشي في الآخرة ، وإنما ذلك على التقدير بأيام الدنيا . وعن ابن مسعود : تعرض أرواح آل فرعون ومن كان مثلهم من الكفار على النار بالغداة والعشي ، يقال : هذه داركم . وفي صحيح البخاري ، ومسلم ، من حديث ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة " واستدل مجاهد ومحمد بن كعب وعكرمة ومقاتل بقوله : { النار يعرضون عليها غدوًّا وعشياً } : أي عند موتهم على عذاب القبر في الدنيا . والظاهر تمام الجملة عند قوله : { وعشياً } ، وأن يوم القيامة معمول لمحذوف على إضمار القول ، أي ويوم القيامة يقال لهم : ادخلوا . وقيل : ويوم معطوف على وعشياً ، فالعامل فيه يعرضون ، وأدخلوا على إضمار الفعل . وقيل : العامل في يوم أدخلوا . وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعمش ، وابن وثاب ، وطلحة ، ونافع ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : أدخلوا ، أمراً للخزنة من أدخل . وعليّ ، والحسن ، وقتادة ، وابن كثير ، والعربيان ، وأبو بكر : أمراً من دخل آل فرعون أشد العذاب . قيل : وهو الهاوية . قال الأوزاعي : بلغنا أنهم ألفا ألف وستمائة ألف . { وإذ يتحاجون في النار } : الظاهر أن الضمير عائد على فرعون . وقال ابن عطية : والضمير في قوله : { يتحاجون } لجميع كفار الأمم ، وهذا ابتداء قصص لا يختص بآل فرعون ، والعامل في إذ فعل مضمر تقديره واذكروا . وقال الطبري : وإذ هذه عطف على قوله : { إذ القلوب لدى الحناجر } ، وهذا بعيد . انتهى ، والمحاجة : التحاور بالحجة والخصومة . والضعفاء : أي في القدر والمنزلة في الدنيا . والذين استكبروا : أي عن الإيمان واتباع الرسل . { إنا كنا لكم تبعاً } : أي ذوي تبع ، فتبع مصدر أو اسم جمع لتابع ، كآيم وأيم ، وخادم وخدم ، وغائب وغيب . { فهل أنتم مغنون عنا } : أي حاملون عنا ؟ فأجابوهم : { إنا كل فيها } ، وأن حكم الله قد نفذ فينا وفيكم ، إنا مستمرون في النار . وقرأ ابن المسيفع ، وعيسى بن عمران : كلا بنصب كل . وقال الزمخشري ، وابن عطية : على التوكيد لاسم إن ، وهو معرفة ، والتنوين عوض من المضاف إليه ، يريد : إنا كلنا فيها . انتهى . وخبر إن هو فيها ، ومن رفع كلا فعلى الابتداء ، وخبره فيها ، والجملة خبر إن . وقال ابن مالك في تصنيفه ( تسهيل الفوائد ) : وقد تكلم على كل ، ولا يستغنى بنية إضافته ، خلافاً للفرّاء والزمخشري . انتهى ، وهذا المذهب منقول عن الكوفيين ، وقد رد ابن مالك على هذا المذهب بما قرره في شرحه ( التسهيل ) . وقال الزمخشر : فإن قلت : هل يجوز أن يكون كلاً حالاً قد عمل فيها فيها ؟ قلت : لا ، لأن الظرف لا يعمل ، والحال متقدمة ، كما يعمل في الظرف متقدماً ، تقول : كل يوم لك ثوب ، ولا تقول : قائماً في الدار زيد . انتهى . وهذا الذي منعه أجازه الأخفش إذا توسطت الحال ، نحو : زيد قائماً في الدار ، وزيد قائماً عندك ، والتمثيل الذي ذكره ليس مطابقاً في الآية ، لأن الآية تقدم فيها المسند إليه الحكم ، وهو اسم إن ، وتوسطت الحال إذا قلنا إنها حال ، وتأخر العامل فيها ، وأما تمثيله بقوله : ولا تقول قائماً في الدار زيد ، تأخر فيه المسند والمسند إليه ، وقد ذكر بعضهم أن المنع في ذلك إجماع من النحاة . وقال ابن مالك : والقول المرضي عندي أن كلاً في القراءة المذكورة منصوب على أن الضمير المرفوع المنوي في فيها ، وفيها هو العامل ، وقد تقدمت الحال عليه مع عدم تصرفه ، كما قدمت في قراءة من قرأ : { والسماوات مطويات بيمينه } [ الزمر : 67 ] . وفي قول النابغة الذبياني : @ رهط ابن كوز محقبي أدراعهم فيهم ورهط ربيعة بن حذار @@ وقال بعض الطائيين : @ دعا فأجبنا وهو باديّ ذلة لديكم فكان النصر غير قريب @@ انتهى . وهذا التخريج هو على مذهب الأخفش ، كما ذكرناه ، والذي أختاره في تخريج هذه القراءة أن كلاً بدل من اسم إن ، لأن كلاً يتصرف فيهما بالابتداء ونواسخه وغير ذلك ، فكأنه قال : إن كلاً بدل من اسم إن ، لأن كلاً فيها : وإذا كانوا قد تأولوا حولا أكتعاً ويوماً أجمعاً على البدل ، مع أنهما لا يليان العوامل ، فإن يدعى في كل البدل أولى ، وأيضاً فتنكير كل ونصبه حالاً في غاية الشذوذ ، والمشهور أن كلاً معرفة إذا قطعت عن الإضافة . حكى : مررت بكل قائماً ، وببعض جالساً في الفصيح الكثير في كلامهم ، وقد شذ نصب كل على الحال في قولهم : مررت بهم كلاً ، أي جميعاً . فإن قلت : كيف يجعله بدلاً ، وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم ، وهو لا يجوز على مذهب البصريين ؟ قلت : مذهب الأخفش والكوفيين جوازه ، وهو الصحيح ، على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف ، بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة ، جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب ، لا نعلم خلافاً في ذلك ، كقوله تعالى : { تكون لنا عيداً لأوّلنا وآخرنا } [ المائدة : 114 ] ، وكقولك : مررت بكم صغيركم وكبيركم ، معناه : مررت بكم كلكم ، وتكون لنا عيداً كلنا . فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة ، فجوازه فيما دل على الإحاطة ، وهو كل أولى ، ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه ، لأنه بدل من ضمير المتكلم ، لأنه لم يتحقق مناط الخلاف . ولما أجاب الضعفاء المستكبرون قالوا جميعاً : { لخزنة جهنم } ، وأبرز ما أضيف إليه الخزنة ، ولم يأت ضميراً ، فكان يكون التركيب لخزنتها ، لما في ذكر جهنم من التهويل ، وفيها أطغى الكفار وأعتاهم . ولعل الكفار توهموا أن ملائكة جهنم الموكلين بعذاب تلك الطغاة هم أقرب منزلة عند الله من غيرهم من الملائكة الموكلين ببقية دركات النار ، فرجوا أن يجيبوهم ويدعوا لهم بالتخفيف ، فراجعتهم الخزنة على سبيل التوبيخ لهم والتقرير : { أوَلم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } ، فأجابوا بأنهم أتتهم ، { قالوا } : أي الخزنة ، { فادعوا } أنتم على معنى الهزء بهم ، أو فادعوا أنتم ، فإنا لا نجترىء على ذلك . والظاهر أن قوله : { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } من كلام الخزنة : أي دعاؤكم لا ينفع ولا يجدي . وقيل : هو من كلام الله تعالى إخباراً منه لمحمد صلى الله عليه وسلم . وجاءت هذه الأخبار معبراً عنها بلفظ الماضي الواقع لتيقن وقوعها . ثم ذكر تعالى أنه ينصر رسله ويظفرهم بأعدائهم ، كما فعل بموسى عليه السلام ، حيث أهلك عدوّه فرعون وقومه ، وفيه تبشير للرسول عليه السلام بنصره على قومه ، { في الحياة الدنيا } ، العاقبة الحسنة لهم ، { ويوم يقوم الأشهاد } : وهو يوم القيامة . قال ابن عباس : ينصرهم بالغلبة ، وفي الآخرة بالعذاب . وقال السدّي : بالانتقام من أعدائهم . وقال أبو العالية : بإفلاح حجتهم . وقال السدّي أيضاً : ما قتل قوم قط نبيًّا أو قوماً من دعاة الحق إلا بعث الله من ينتقم لهم ، فصاروا منصورين فيها وإن قتلوا . انتهى . ألا ترى إلى قتلة الحسين ، رضي الله عنه ، كيف سلط الله عليهم المختار بن عبيد يتبعهم واحداً واحداً حتى قتلهم ؟ وبختنصر تتبع اليهود حين قتلوا يحيـى بن زكريا ، عليهما السلام ؟ وقيل : والنصر خاص بمن أظهره الله تعالى على أمّته ، كنوح وموسى ومحمد عليهم السلام ، لأنا نجد من الأنبياء من قتله قومه ، كيحيـى ، ومن لم ينصر عليهم . وقال السدي : الخبر عام ، وذلك أن نصرة الرسل والأنبياء واقعة ولا بد ، إما في حياة الرسول المنصور ، كنوح وموسى عليهما السلام ، وإما بعد موته . ألا ترى إلى ما صنع الله تعالى ببني إسرائيل بعد قتلهم يحيـى عليه السلام من تسليط بختنصر حتى انتصر ليحيـى عليه السلام ؟ وقرأ الجمهور : يقوم بالياء ؛ وابن هرمز ، وإسماعيل ، والمنقري عن أبي عمرو : بتاء التأنيث . الجماعة والأشهاد ، جمع شهيد ، كشريف وأشراف ، أو جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، كما قال تعالى : { فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد } [ النساء : 41 ] . وقال : { لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة : 143 ] ، والظاهر أنه من الشهادة . وقيل : من المشاهدة ، بمعنى الحضور . { يوم لا ينفع } : بدل من يوم { يقوم } . وقرىء : تنفع بالتاء وبالياء ، وتقدم ذكر الخلاف في ذلك في آخر الروم ، ويحتمل أنهم يعتذرون ولا تقبل معذرتهم ، أو أنهم لا معذرة لهم فتقبل . { ولهم اللعنة } والإبعاد من الله . { ولهم سوء الدار } : سوء عاقبة الدار .