Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 42, Ayat: 13-20)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما عدد تعالى نعمه عليهم الخاصة ، أتبعه بذكر نعمه العامة ، وهو ما شرع لهم من العقائد المتفق عليها ، من توحيد الله وطاعته ، والإيمان برسله وبكتبه وباليوم الآخر ، والجزاء فيه . ولما كان أول الرسل نوح عليه السلام ، وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم ، قال : { ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك } ، ثم أتبع ذلك ما وصى به إبراهيم ، إذ كان أبا العرب ، ففي ذلك هزلهم وبعث على اتباع طريقته ، وموسى وعيسى صلوات الله عليهم ، لأنهما هما اللذان كان أتباعهما موجودين زمان بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم . والشرائع متفقة فيما ذكرنا من العقائد ، وفي كثير من الأحكام ، كتحريم الزنا والقتل بغير حق . والشرائع مشتملة على عقائد وأحكام ؛ ويقال : إن نوحاً أول من أتى بتحريم البنات والأمهات وذوات المحارم . وقال ابن عباس : اختار ، ويحتمل أن تكون أن مفسرة ، لأن قبلها ما هو بمعنى القول ، فلا موضع لها من الإعراب . وأن تكون أن المصدرية ، فتكون في موضع نصب على البدل من ما ؛ وما عطف عليها ، أو في موضع رفع ، أي ذلك ، أو هو إقامة الدين ، وهو توحيد الله وما يتبعه مما لا بد من اعتقاده . ثم نهى عن التفرقة فيه ، لأن التفرق سبب للهلاك ، والاجتماع والألفة سبب للنجاة . { كبر على المشركين } : أي عظم وشق ، { ما تدعوهم إليه } من توحيد الله وترك عباده الأصنام وإقامة الدين . { الله يجتبي } : يجتلب ويجمع ، { إليه من يشاء } هدايته ، وهذا تسلية للرسول . وقيل : يجتبي ، فيجعله رسولاً إلى عباده ، { ويهدي إليه من ينيب } : يرجع إلى طاعته عن كفره . وقال الزمخشري : { من يشاء } : من ينفع فيهم توفيقه ويجري عليهم لطفة . انتهى ، وفيه دسيسة الاعتزال . وقال الحافظ أبو بكر بن العربي : لم يكن مع آدم عليه السلام إلا بنوه ، ولم تفرض ، له الفرائض ، ولا شرعت له المحارم ، وإنما كان منبهاً على بعض الأمور ، مقتصراً على ضرورات المعاش . واستمر الهدى إلى نوح ، فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات ، ووظف عليه الواجبات ، وأوضح له الأدب في الديانات . ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل ويتناصر بالأنبياء واحداً بعد واحد وشريعة إثر شريعة ، حتى ختمه الله بخير الملل على لسان أكرم الرسل ، فكان المعنى : أوصيناك يا محمد ونوحاً ديناً واحداً في الأصول التي لا تختلف فيها الشرائع ، وهي التوحيد والصلاة والزكاة والحج والتقرب بصالح الأعمال ، والصدق والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة وصلة الرحم وتحريم الكبر والزنا والإذاية للخلق كيفما تصرفت ، والاعتداء على الحيوان ، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروات ؛ فهذا كله مشروع ديناً واحداً ، أو ملة متحدة ، لم يختلف على ألسنة الأنبياء ، وإن اختلفت أعدادهم ، وذلك قوله : { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه } : أي اجعلوه قائماً ، يريد دائماً مستمراً محفوظاً مستقراً من غير خلاف فيه ولا اضطراب . انتهى . وقال مجاهد : لم يبعث نبي إلا أمر بإقامة الصلاة وايتاء الزكاة والإقرار بالله وطاعته ، فهو إقامة الدين . وقال أبو العالية : إقامة الدين : الإخلاص لله وعبادته ، { ولا تتفرقوا فيه } ، قال أبو العالية : لا تتعادوا فيه . وقال مقاتل : معناه لا تختلفوا ، فإن كل نبي مصدق . وقيل : لا تتفرقوا فيه ، فتؤمنوا ببعض الرسل وتكفروا ببعض . { وما تفرقوا } ، قال ابن عباس : يعني قرشياً ، والعلم : محمد عليه الصلاة والسلام ، وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي ، كما قال : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير } [ فاطر : 42 ] ، يريدون نبياً . وقيل : الضمير يعود على أمم الأنبياء ، جاءهم العلم ، فطال عليهم الأمد ، فآمن قوم وكفر قوم . وقال ابن عباس أيضاً : عائد على أهل الكتاب ، والمشركين دليله : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [ البينة : 4 ] ، قال المشركون : لم خص بالنبوة ، واليهود والنصارى حسدوه . { ولولا كلمة } : أي عدة التأخر إلى يوم القيامة ، فحينئذ يقع الجزاء ، { لقضي بينهم } : لجوزوا بأعمالهم في الدنيا ؛ لكنه قضى أن ذلك لا يكون إلا في الآخرة . وقال الزجاج : الكلمة قوله : { بل الساعة موعدهم } [ القمر : 46 ] { وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } : هم بقية أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، { من بعدهم } : أي من بعد أسلافهم ، أو هم المشركون ، أورثوا الكتاب من بعدما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل . وقرأ زيد بن علي : ورثوا مبنياً للمفعول مشدد الراء ، { لفي شك منه } : أي من كتابهم ، أو من القرآن ، أو مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، أو من الدين الذي وصى به نوحاً . ولما تقدم شيئآن : الأمر بإقامة الدين ، وتفرق الذين جاءهم العلم واختلافهم وكونهم في شك ، احتمل قوله . { فلذلك } ، أن يكون إشارة إلى إقامة الدين ، أي فادع لدين الله وإقامته ، لا تحتاج إلى تقدير اللام بمعنى لأجل ، لأن دعا يتعدى باللام ، قال الشاعر : @ دعوت لما نابني مسوراً فلبى فلبى يدي مسورا @@ واحتمل أن تكون اللام للعلة ، أي فلأجل ذلك التفرق . ولما حدث بسببه من تشعب الكفر شعباً ، { فادع } إلى الاتفاق والائتلاف على الملة الحنيفية ، { واستقم } : أي دم على الاستقامة ، وتقدم الكلام على { فاستقم كما أمرت } [ هود : 112 ] ، وكيفية هذا التشبيه في أواخر هود . { ولا تتبع أهواءهم } المختلفة الباطلة ، وأمره بأن يصرح أنه آمن بكل كتاب أنزله الله ، لأن الذين تفرقوا آمنوا ببعض . { وأمرت لأعدل بينكم } ، قيل : إن المعنى : وأمرت بما أمرت به لأعدل بينكم في ايصال ما أمرت به إليكم ، لا أخص شخصاً بشيء دون شخص ، فالشريعة واحدة ، والأحكام مشترك فيها . وقيل : لاعدل بينكم في الحكم إذا تخاصمتم فتحاكمتم . { لا حجة بيننا وبينكم } : أي قد وضحت الحجج وقامت البراهين وأنتم محجوجون ، فلا حاجة إلى إظهار حجة بعد ذلك . { الله يجمع بيننا } وبينكم ، أي يوم القيامة ، فيفصل بيننا . وما يظهر في هذه الآية من الموادعة منسوخ بآية السيف . { والذين يحاجون في الله } : أي يخاصمون في دينه ، قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام وإضلالهم ومحاجتهم ، بل قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ؛ فديننا أفضل ، فنزلت الآية في ذلك . وقيل : نزلت في قريش ، كانوا يجادلون في هذا المعنى ، ويطمعون في رد المؤمنين إلى الجاهلية . واستجيب مبني للمفعول ، فقيل : المعنى من بعدما استجاب الناس لله ، أي لدينه ودخلوا فيه . وقيل : من بعدما استجاب الله له ، أي لرسوله ودينه ، بان نصره يوم بدر وظهر دينه . { حجتهم داحضة } أي باطلة لا ثبوت لها . ولما ذكر من يحاج في دين الإسلام ، صرح بأنه تعالى هو الذي أنزل الكتاب ، والكتاب جنس يراد به الكتب الإلهية . { والميزان } ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم : هو المعدل ؛ وعن ابن مجاهد : هو هنا الميزان الذي بإيدي الناس ، وهذا مندرج في العدل . { وما يدريك } أيها المخاطب ، { لعل الساعة قريب } ، ذكر على معنى البعث أو على حذف مضاف : أي لعل مجيء الساعة ؛ ولعل الساعة في موضع معمول ، وما يدريك ، وتقدم الكلام على مثل هذا في قوله في آخر الأنبياء : { وإن أدري لعله فتنة لكم } [ الأَنبياء : 111 ] . وتوافقت هذه الجملة مع قوله : { الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان } . الساعة : يوم الحساب ، ووضع الموازين : القسط ، فكأنه قيل : أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم . { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } بطلب وقوعها عاجلة ، لأنهم ليسوا موقنين بوقوعها ، ليبين عجز من يؤمن بها عندهم ، أي هي مما لا يقع عندهم . { ألا إن الذين يمارون } ويلحون في أمر الساعة ، { لفي ظلال بعيد } عن الحق ، لأن البعث غير مستبعد من قدرة الله ، ودل عليه الكتاب المعجز ، فوجب الإيمان به . { الله لطيف بعباده } : أي بر بعباده المؤمنين ، ومن سبق له الخلود في الدنيا ، وما يرى من النعم على الكافر فليس بلطف ، إنما هو إملاء ، ولا لطف إلا ما آل إلى الرحمة والوفاة على الإسلام . وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يقتلهم جوعاً . وقال الزمخشري : يوصل بره إلى جميعهم ، { يرزق من يشاء } : أي من يشاء يرزقه شيئاً خاصاً ، ويحرم من يشاء من ذلك الشيء الخاص ، وكل منهم مرزوق ، وإن اختلف الرزق ، { وهو القوي } : أي البالغ القوة ، وهي القدرة { العزيز } : الغالب الذي لا يغلب . ولما ذكر تعالى الرزق ، ذكر حديث الكسب . ولما كان الحرث في الأرض أصلاً من أصول المكاسب ، استعير لكل مكسب أريد به النماء والفائدة ، أي من كان يريد عمل الآخرة ، وسعى لها سعيها ، { نزد له في حرثه } : أي جزاء حرثه أي من جزاء حرثه من تضعيف الحسنات ، { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها } : أي العمل لها لا لآخرته ، { نؤته منها } : أي نعطه شيئاً منها ، { وما له في الآخرة من نصيب } ، لأنه لم يعمل شيئاً للآخرة . والجملة الأولى وعد منجز ، والثانية مقيدة بمشيئته تعالى ، فلا يناله إلا رزقه الذي فرغ منه ، وكل ما يريده هو . واقتصر في عامل الآخرة على ذكر حظه في الآخرة ، كأنه غير معتبر ، فلا يناسب ذكر مع ما أعد الله له في الآخرة لمن يشاء ما يشاء . وجعل فعل الشرط ماضياً ، والجواب مجزوم لقوله تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها } [ هود : 15 ] ، ولا نعلم خلافاً في جواز الجزم ، فإنه فصيح مختار ، إلا ما ذكره صاحب كتاب الإعراب ، وهو أبو الحكم بن عذرة ، عن بعض النحويين ، أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع كأن لأنها أصل الأفعال ، ولا يجيء مع غيرها من الأفعال . ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص ذلك بكان ، بل سائر الأفعال في ذلك مثلها ، وأنشد سيبويه للفرزدق : @ دست رسولاً بأن القوم إن قدروا عليك يشفوا صدوراً ذات توغير @@ وقال آخر : @ تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان @@ وقرأ الجمهور : نزد ونؤته بالنون فيهما : وابن مقسم ، والزعفراني ، ومحبوب ، والمنقري ، كلاهما عن أبي عمرو : بالياء فيهما . وقرأ سلام : نؤته منها برفع الهاء ، وهي لغة الحجاز .