Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 44, Ayat: 30-59)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

لما ذكر تعالى إهلاك فرعون وقومه ، ذكر إحسانه لبني إسرائيل ؛ فبدأ بدفع الضرر عنهم ، وهو نجاتهم مما كانوا فيه من العذاب . ثم ذكر اتصال النفع لهم ، من اختيارهم على العالمين ، وإيتائهم الآيات والعذاب المهين : قتل أبنائهم ، واستخدامهم في الأعمال الشاقة . وقرأ عبد الله : { من العذاب المهين } : وهو من إضافة الموصوف إلى صفته ، كبقلة الحمقاء . و { من فرعون } : بدل { من العذاب } ، على حذف مضاف ، أي من عذاب فرعون . أولاً حذف جعل فرعون نفسه هو العذاب مبالغة . وقيل : يتعلق بمحذوف ، أي كائناً وصادراً من فرعون . وقرأ ابن عباس : { من فرعون } ، من : استفهام مبتدأ ، وفرعون خبره . لما وصف فرعون بالشدة والفظاعة قال : من فرعون ؟ على معنى : هل تعرفونه من هو في عتوه وشيطنته ؟ ثم عرف حاله في ذلك بقوله : { إنه كان عالياً من المسرفين } : أي مرتفعاً على العالم ، أو متكبراً مسرفاً من المسرفين . { ولقد اخترناهم } : أي اصطفيناهم وشرفناهم . { على علم } علم مصدر لم يذكر فاعله ، فقيل : على علم منهم ، وفضل فيهم ، فاخترناهم للنبوات والرسالات . وقيل : على علم منا ، أي عالمين بمكان الخيرة ، وبأنهم أحقاء بأن يختاروا . وقيل : على علم منا بما يصدر من العدل والإحسان والعلم والإيمان ، بأنهم يزيفون ، وتفرط منهم الهنات في بعض الأموال . وقيل : اخترناهم بهذا الإنجاء وهذه النعم على سابق علم لنا فيهم ، وخصصناهم بذلك دون العالم . { على العالمين } : أي عالمي زمانهم ، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم مفضلة عليهم . وقيل : على العالمين عام لكثرة الأنبياء فيهم ، وهذا خاص بهم ليس لغيرهم . وكان الاختيار من هذه الجهة ، لأن أمة محمد أفضل . وعلى ، في قوله : { على علم } ، ليس معناها معنى على في قوله : { على العالمين } ، ولذلك تعلقا بفعل واحد لما اختلف المدلول ، كقوله : @ ويوماً على ظهر الكتيب تعذرت عليّ وآلت حلفة لم يحلل @@ فعلى علم : حال ، إما من الفاعل ، أو من المفعول . وعلى ظهر : حال من الفاعل في تعذرت ، والعامل في ذي الحال . { وآتيناهم من الآيات } : أي المعجزات الظاهرة في قوم فرعون ، وما ابتلوا به ؛ وفي بني إسرائيل مما أنعم به عليهم من تظليل الغمام والمنّ والسلوى ، وغير ذلك مما لم يظهرها لغيرهم . { ما فيه بلاء } : أي اختبار بالنعم ظاهر ، أو الابتلاء بالنعم كقوله : { ونبلوكم بالشر والخير } [ الأَنبياء : 35 ] . { إن هؤلاء } : يعني قريشاً ، وفي اسم الإشارة تحقير لهم . { ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى } : أي ما الموتة إلا محصورة في موتتنا الأولى . وكان قد قال تعالى : { وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } [ البقرة : 28 ] ، فذكر موتتين ، أولى وثانية ، فأنكروا هم أن يكون لهم موتة ثانية . والمعنى : ما آخر أمرنا ومنتهى وجودنا إلا عند موتتنا . فيتضمن قولهم هذا إنكار البعث ، ثم صرحوا بما تضمنه قولهم ، فقالوا : { وما نحن بمنشرين } : أي بمبعوثين بحياة دائمة يقع فيها حساب وثواب وعقاب ؛ وكان قولهم ذلك في معنى قولهم : { إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين } [ الأَنعام : 29 ] . { فأتوا بآبائنا } : خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وللمؤمنين الذين كانوا يعدونهم بالبعث ، أي إن صدقتم فيما تقولون ، فأحيوا لنا من مات من أبنائنا ، بسؤالكم ربكم ، حتى يكون ذلك دليلاً على البعث في الآخرة . قيل : طلبوا من الرسول أن يدعوا الله فيحيـي لهم قصي بن كلاب ، ليشاوروه في صحة النبوة والبعث ، إذ كان كبيرهم ومشاورهم في النوازل . { أهم } : أي قريش ، { خير أم قوم تبع } ؟ الظاهر أن تبعاً هو شخص معروف ، وقع التفاضل بين قومه وقوم الرسول عليه الصلاة والسلام . وإن كان لفظ تبع يطلق على كل من ملك العرب ، كما يطلق كسرى على من ملك الفرس ، وقيصر على من ملك الروم ؛ قيل : واسمه أسعد الحميري ، وكنى أبا كرب ؛ وذكر أبو حاتم الرياشي أنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة . وروي أنه لما آمن بالمدينة ، كتب كتاباً ونظم شعراً . أما الشعر فهو : @ شهدت على أحمد أنه رسول من الله باري النسم فلو مد عمري إلى عمره لكنت وزيراً له وابن عم @@ وأما الكتاب ، فروى ابن اسحاق وغيره أنه كان فيه : أما بعد : فإني آمنت بك ، وبكتابك الذي أنزل عليك ، وأنا على دينك وسنتك ، وآمنت بربك ورب كل شيء ، وآمنت بكل ما جاء من ربك من شرائع الإسلام ، فإن أدركتك فيها ونعمت ، وإن لم أدركك ، فاشفع لي ، ولا تنسني يوم القيامة ، فإني من أمتك الأولين ، وتابعتك قبل مجيئك ، وأنا على ملتك وملة أبيك إبراهيم عليه السلام . ثم ختم الكتاب ونقش عليه : لله الأمر من قبل ومن بعد . وكتب عنوانه : إلى محمد بن عبد الله ، نبي الله ورسوله ، خاتم النبيين ، ورسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم ، من تبع الأول . ويقال : كان الكتاب والشعر عند أبي أيوب ، خالد بن زيد ، فلم يزل عنده حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يتوارثونه كابراً عن كابر ، حتى أدّوه للنبي صلى الله عليه وسلم . وعن ابن عباس : كان تبع نبياً ، وعنه لما أقبل تبع من الشرق ، بعد أن حير الحيرة وسمرقند ، قصد المدينة ، وكان قد خلف بها حين سافر ابناً ، فقتل غيلة ، فأجمع على خرابها واستئصال أهلها . فجمعوا له الأنصار ، وخرجوا لقتاله ، وكانوا يقاتلونه بالنهار ويقرونه بالليل . فأعجبه ذلك وقال : إن هؤلاء لكرام ، إذ جاءه كعب وأسد ، ابنا عم من قريظة جيران ، وأخبراه أنه يحال بينك وبين ما تريد ، فإنها مهاجر نبي من قريش اسمه محمد ، ومولده بمكة ، فثناه قولهما عما كان يريد . ثم دعواه إلى دينهما ، فاتبعهما وأكرمهما . وانصرفوا عن المدينة ، ومعهم نفر من اليهود ، فقال له في الطريق نفر من هذيل : يدلك على بيت فيه كنز من لؤلؤ وزبرجد وفضة بمكة ، وأرادت هذيل هلاكه ، لأنهم عرفوا أنه ما أراده أحد بسوء إلا هلك . فذكر ذلك للحبرين ، فقالوا : ما نعلم لله بيتاً في الأرض غير هذا ، فاتخذه مسجداً ، وانسك عنده ، واحلق رأسك ، وما أراد القوم إلا هلاكك . فأكرمه وكساه ، وهو أول من كسا البيت ؛ وقطع أيدي أولئك النفر من هذيل وأرجلهم ، وسمر أعينهم وصلبهم . وقال قوم : ليس المراد بتبع رجلاً واحداً ، إنما المراد ملوك اليمن ، وكانوا يسمون التتابعة . والذي يظهر أنه أراد واحداً من هؤلاء ، تعرفه العرب بهذا الاسم أكثر من معرفة غيره به . وفي الحديث : " لا تسبوا تبعاً فإنه كان مؤمناً " ، فهذا يدل على أنه واحد بعينه . قال الجوهري : التتابعة ملوك اليمن ، والتبع : الظل ، والتبع : ضرب من الطير . وقال أبو القاسم السهيلي : تبع لكل ملك اليمن ، والشحر وحضرموت ، وملك اليمن وحده لا يسمى تبعاً ، قاله المسعودي . والخيرية الواقعة فيها التفاضل ، وكلا الصنفين لا خير فهم ، هي بالنسبة للقوة والمنعة ، كما قال : { أكفاركم خير من أولئكم } [ القمر : 43 ] ؟ بعد ذكر آل فرعون في تفسير ابن عباس : أهم أشد أم قوم تبع ؟ وإضافة قوم إلى تبع دليل على أنه لم يكن مذهبهم . { أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين } : إخبار عما فعل تعالى بهم ، وتنبيه على أن علة الإهلاك هي الإجرام ، وفي ذلك وعيد لقريش ، وتهديد أن يفعل بهم ما فعل بقوم تبع ومن قبلهم من مكذبي الرسل لإجرامهم ، ثم ذكر الدليل القاطع على صحة القول بالبعث ، وهو خلق العالم بالحق . وقرأ الجمهور : { وما بينهما } من الجنسين ، وعبيد بن عميس : وما بينهن لاعبين . قال مقاتل : عابثين . { ما خلقناهما إلا بالحق } : أي بالعدل ، يجازي المحسن والمسيء بما أراد تعالى من ثواب وعقاب . { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أنه تعالى خلق ذلك ، فهم لا يخافون عقاباً ولا يرجون ثواباً . وقرىء : ميقاتهم ، بالنصب ، على أنه اسم إن ، والخبر يوم الفصل ، أي : إن يوم الفصل ميعادهم وجزاؤهم ، { يوم لا يغني مولى عن مولى شيئاً } يعم جميع الموالي من القرابة والعتاقة والصلة شيئاً من إغناء ، أي قليلاً منه : { ولا هم ينصرون } : جمع ، لأن عن مولى في سياق النفي فيعم ، فعاد على المعنى ، لا على اللفظ . { إلا من رحم الله } ، قال الكسائي : من رحم : منصوب على الاستثناء المنقطع ، أي لكن من رحمه الله لا ينالهم ما يحتاجون فيه من لعنهم من المخلوقين . قيل : ويجوز أن يكون الاستثناء متصلاً ، أي لا يغني قريب عن قريب إلا المؤمنين ، فإنه يؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض . وقال الحوفي : ويجوز أن يكون بدلاً من مولى المرفوع ، ويكون يغني بمعنى ينفع . وقال الزمخشري : { من رحم الله } ، في محل الرفع على البدل من الواو في { ينصرون } ، أي لا يمنع من العذاب إلا من رحم الله ؛ وقاله الحوفي قبله . { إنه العزيز الرحيم } : لا ينصر من عصاه ، الرحيم لمن أطاعه ومن عفا عنه . { إن شجرة الزقوم } : قرىء بكسر الشين ، وتقدم الكلام فيها في سورة الصافات . { طعام الأثيم } : صفة مبالغة ، وهو الكثير الآثام ، ويقال له : أثوم ، صفة مبالغة أيضاً ، وفسر بالمشرك . وقال يحيـى بن سلام : المكتسب للإثم . وعن ابن زيدان : الأثيم هنا هو أبو جهل ، وقيل : الوليد . { كالمهل } : هو دردي الزيت ، أو مذاب الفضة ، أو مذاب النحاس ، أو عكر القطران ، أو الصديد ؛ أولها لابن عمر وابن عباس ، وآخرها لابن عباس . وقال الحسن : كالمهل ، بفتح الميم : لغة فيه . وعن ابن مسعود ، وابن عباس أيضاً : المهل : ما أذيب من ذهب ، أو فضة ، أو حديد ، أو رصاص . وقرأ مجاهد ، وقتادة ، والحسن ، والابنان ، وحفص : يغلي ، بالياء ، أي الطعام . وعمرو بن ميمون ، وأبو رزين ، والأعرج ، وأبو جعفر ، وشيبة ، وابن محيصن ، وطلحة ، والحسن : في رواية ، وباقي السبعة : تغلي بالتاء ، أي الشجرة . { كغلي الحميم } : وهو الماء المسخن الذي يتطاير من غليانه . { خذوه فاعتلوه } ، يقال للزبانية : خذوه فاعتلوه ، أي سوقوه بعنف وجذب . وقال الأعمش : معنى اتعلوه : اقصفوه كما يقصف الحطب إلى سواء الجحيم . قال ابن عباس : وسطها . وقال الحسن : معظمها . وقرأ الجمهور : فاعتلوه ، بكسر التاء ، وزيد بن علي ، والابنان ، ونافع : بضمها ؛ والخلاف عن الحسن ، وقتادة ، والأعرج ، وأبي عمرو . { ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم } : وفي الحج يصيب من فوق رؤوسهم الحميم ، والمصبوب في الحقيقة هو الحميم ، فتارة اعتبرت الحقيقة ، وتارة اعتبرت الاستعارة ، لأنه أذم من الحميم ، فقد صب ما تولد عنه من الآلام والعذاب ، فعبر بالمسبب عن السبب ، لأن العذاب هو المسبب عن الحميم ، ولفظة العذاب أهول وأهيب . { ذق } : أي العذاب ، { إنك أنت العزيز الكريم } ، وهذا على سبيل التهكم والهزء لمن كان يتعزز ويتكرم على قومه . وعن قتادة ، أنه لما نزلت : { إن شجرة الزقوم طعام الأثيم } ، قال أبو جهل : أتهددني يا محمد ؟ وإن ما بين لابتيها أعز مني ولا أكرم ، فنزلت هذه الآية ، وفي آخرها : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } ، أي على قولك ، وهذا كما قال جرير : @ ألم تكن في رسوم قد رسمت بها من كان موعظة يا زهرة اليمن @@ يقولها لشاعر سمى نفسه به في قوله : @ أبلغ كليباً وأبلغ عنك شاعرها إني الأعز وإني زهرة اليمن @@ فجاء به جرير على جهة الهزء . وقرىء : إنك ، بكسر الهمزة . وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب على المنبر ، والكسائي بفتحها . { إن هذا } : أي الأمر ، أو العذاب ، { ما كنتم تمترون } : أي تشكون . ولما ذكر حال الكفار أعقبه بحال المؤمنين فقال : { إن المتقين في مقام أمين } . وقرأ عبد الله بن عمر ، وزيد بن علي ، وأبو جعفر ، وشيبة ، والأعرج ، والحسن ، وقتادة ، ونافع ، وابن عامر : في مقام ، بضم الميم ؛ وأبو رجاء ، وعيسى ، ويحيـى ، والأعمش ، وباقي السبعة : بفتحها ؛ ووصف المقام بالأمين ، أي يؤمن فيه من الغير ، فكأنه فعيل بمعنى مفعول ، أي مأمون فيه ، قاله ابن عطية . وقال الزمخشري : الأمين ، من قولك : أمن الرجل أمانة ، فهو أمين ، وهو ضد الخائن ؛ فوصف به المكان استعارة ، لأن المكان المخيف كان يخوف صاحبه بما يلقى فيه من المكاره . وتقدم شرح السندس والإستبرق . وقرأ ابن محيصن : { وإستبرق } ، جعله فعلاً ماضياً . { متقابلين } : وصف لمجالس أهل الجنة ، لا يستدبر بعضهم بعضاً في المجالس . { كذلك } : أي الأمر كذلك . وقرأ الجمهور : { بحور } منوناً ، وعكرمة : بغير تنوين ، لأن العين تقسمن إلى حور وغير حور ، فهؤلاء من حور العين ، لا من شهلن مثلاً . { يدعون فيها } : أي الخدم والمتصرفين عليهم ، { بكل فاكهة } أرادوا إحضارها لديهم ، { آمنين } من الأمراض والتخم . { لا يذوقون فيها الموت } . وقرأ عبيد بن عمير : لا يذاقون ، مبنياً للمفعول . { إلا الموتة الأولى } : هذا استثناء منقطع ، أي لكن الموتة الأولى ذاقوها في الدنيا ، وذلك تنبيه على ما أنعم به عليهم من الخلود السرمدي ، وتذكير لهم بمفارقة الدنيا الفانية إلى هذه الدار الباقية . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف استثنيت الموتة الأولى المذوقة قبل دخول الجنة من الموت المنفي ؟ قلت : أريد أن يقال : لا يذوقون فيها الموت البتة ، فوضع قوله : { إلا الموتة الأولى } موضع ذلك ، لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل ، فإنهم يذوقونها . وقال ابن عطية : قدر قوم إلاّ بسوى ، وضعف ذلك الطبري وقدرها ببعد ، وليس تضعيفه بصحيح ، بل يصح المعنى بسوى ويتسق . وأما معنى الآية ، فتبين أنه نفى عنهم ذوق الموت ، وأنه لا ينالهم من ذلك غير ما تقدم في الدنيا . وقرأ أبو حيوة : { ووقاهم } ، مشدداً بالقاف ، والضمير في { يسرناه } عائد على القرآن ؛ و { بلسانك } : بلغتك ، وهي لغة لعرب …