Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 45, Ayat: 18-26)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر تعالى إنعامه على بني إسرائيل واختلافهم بعد ذلك ، ذكر حال نبيه عليه الصلاة والسلام وما منّ به عليه من اصطفائه فقال : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء } . قال قتادة : الشريعة : الأمر ، والنهي ، والحدود ، والفرائض . وقال مقاتل : البينة ، لأنها طريق إلى الحق . وقال الكلبي : السنة ، لأنه كان يستن بطريقة من قبله من الأنبياء . وقال ابن زيد : الدّين ، لأنه طريق إلى النجاة . والشريعة في كلام العرب : الموضع الذي يرد فيه الناس في الأنهار والمياه ، ومنه قول الشاعر : @ وفي الشرائع من جيلان مقتص رث الثياب خفي الشخص منسرب @@ فشريعة الدّين من ذلك ، من حيث يرد الناس أمر الله ورحمته والقرب منه ، من الأمور التي من دين الله الذي بعثه في عباده في الزمان السالف ؛ أو يكون مصدر أمر ، أي من الأمر والنهي ، وسمي النهي أمراً . { أهواء الذين لا يعلمون } ، قيل : جهال قريظة والنضير . وقيل : رؤساء قريش ، حين قالوا : أرجع إلى دين آبائك . { هذا بصائر } : أي هذا القرآن ؛ جعل ما نافية من معالم الدين ، بصائر للقلوب ، كما جعل روحاً وحياة . وقرىء : هذى ، أي هذه الآيات . { أم حسب } : أم منقطعة تتقدر ببل والهمزة ، وهو استفهام إنكار . وقال الكلبي : نزلت في عليّ ، وحمزة ، وعبيدة بن الحارث ، وفي عتبة ، وشيبة ، والوليد بن عتبة . قالوا للمؤمنين : والله ما أنتم على شيء ، ولئن كان ما تقولون حقاً ، لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة ؛ كما هو أفضل في الدنيا . واجترحوا : اكتسبوا ، والسيئات : هنا سيئات الكفر ؛ ونجعلهم : نصيرهم ، والمفعول الثاني هو كالذين ، وبه تمام المعنى . وقرأ الجمهور : سواء بالرفع ، ومماتهم بالرفع أيضاً ؛ وأعربوا سواء : مبتدأ ، وخبره ما بعده ، ولا مسوغ لجواز الابتداء به ، بل هو خبر مقدم ، وما بعده المبتدأ . والجملة خبر مستأنف ؛ واحتمل الضمير في { محياهم ومماتهم } أن يعود على { الذين اجترحوا } ، أخبر أن حالهم في الزمانين سواء ، وأن يعود على المجترحين والصالحين بمعنى : أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء في إهانتهم عند الله وعدم كرامتهم عليه ، ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى ، وذهن السامع يفرقه ، إذ قد تقدم إبعاد الله أن يجعل هؤلاء كهؤلاء . قال أبو الدرداء : يبعث الناس على ما ماتوا عليه . وقال مجاهد : المؤمن يموت مؤمناً ويبعث مؤمناً ، والكافر يموت كافراً ويبعث كافراً . وقال ابن عطية : مقتضى هذا الكلام أنه لفظ الآية ؛ ويظهر لي أن قوله : { سواء محياهم ومماتهم } داخل في المحسنة المنكرة السيئة ، وهذا احتمال حسن ، والأول أيضاً أجود . انتهى . ولم يبين كيفية تشبث الجملة بما قبلها حتى يدخل في المحسنة . وقال الزمخشري : والجملة التي هي : سواء محياهم ومماتهم ، بدل من الكاف ، لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً ؛ فكانت في حكم المفرد . ألا تراك لو قلت : أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم كان سديداً ؟ كما تقول : ظننت زيد أبوه منطلق . انتهى . وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري ، من إبدال الجملة من المفرد ، قد أجازه أبو الفتح ، واختاره ابن مالك ، وأورد على ذلك شواهد على زعمه ، ولا يتعين فيها البدل . وقال بعض أصحابنا ، وهو الإمام العالم ضياء الدين أبو عبد الله محمد بن عليّ الإشبيلي ، ويعرف بابن العلج ، وكان ممن أقام باليمن وصنف بها ، قال في كتابه ( البسيط في النحو ) : ولا يصح أن يكون جملة معمولة للأول في موضع البدل ، كما كان في النعت ، لأنها تقدر تقدير المشتق تقدير الجامد ، فيكون بدلاً ، فيجتمع فيه تجوز أن ، ولأن البدل يعمل فيه العامل الأول ، فيصح أن يكون فاعلاً ، والجملة لا تكون في موضع الفاعل بغير سائغ ، لأنها لا تضمر ، فإن كانت غير معمولة ، فهل تكون جملة ؟ لا يبعد عندي جوازها ، كما يتبع في العطف الجملة للجملة ، ولتأكيد الجملة التأكيد اللفظي . انتهى . وتبين من كلام هذا الإمام ، أنه لا يجوز أن تكون الجملة بدلاً من المفرد ، وأما تجويز الزمخشري أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم ، فيظهر لي أنه لا يجوز ؛ لأنها بمعنى التصيير . لا يجوز صيرت زيداً أبوه قائم ، ولا صيرت زيداً غلامه منطلق ، لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات ، أو من وصف في الذات إلى وصف فيها . وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولاً ثانياً ، ليس فيها انتقال مما ذكرنا ، فلا يجوز والذي يظهر لي أنه إذا قلنا بتشبث الجملة بما قبلها ، أن تكون الجملة في موضع الحال ، والتقدير : أم حسب الكفار أن نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم ؟ ليسوا كذلك ، بل هم مفترقون ، أي افتراق في الحالتين ، وتكون هذه الحال مبينة ما انبهم في المثلية الدال عليها الكاف ، التي هي في موضع المفعول الثاني . وقرأ زيد بن علي ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : سواء بالنصب ، وما بعده مرفوع على الفاعلية ، أجرى سواء مجرى مستوياً ، كما قالوا : مررت برجل سواء هو والعدم . وجوز في انتصاب سواء وجهين : أحدهما : أن يكون منصوباً على الحال ، وكالذين المفعول الثاني ، والعكس . وقرأ الأعمش : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالنصب أيضاً ، وخرج على أن يكون محياهم ومماتهم ظرفي زمان ، والعامل ، إما أن نجعلهم ، وإما سواء ، وانتصب على البدل من مفعول نجعلهم ، والمفعول الثاني سواء ، أي أن يجعل محياهم ومماتهم سواء . وقال الزمخشري : ومن قرأ ومماتهم بالنصب ، جعل محياهم ومماتهم ظرفين ، كمقدم الحاج وخفوق النجم ، أي سواء في محياهم وفي مماتهم ، والمعنى : إنكار أن يستوي المسيئون والمحسنون محياً ، وأن يستووا مماتاً ، لافتراق أحوالهم وتمثيله بقوله : وخفوق النجم ليس بجيد ، لأن خفوق مصدر ليس على مفعل ، فهو في الحقيقة على حذف مضاف ، أي وقت خفوق النجم ، بخلاف محيا وممات ومقدم ، فإنها تستعمل بالوضع مصدراً واسم زمان واسم مكان ، فإذا استعملت اسم مكان أو اسم زمان ، لم يكن ذلك على حذف مضاف قامت هذه مقامه ، لأنها موضوعة للزمان وللمكان ، كما وضعت للمصدر ؛ فهي مشتركة بين هذه المدلولات الثلاثة ، بخلاف خفوق النجم ، فإنه وضع للمصدر فقط . وقد خلط ابن عطية في نقل القرآن ، وله بعض عذر . فإنه لم يكن معرباً ، فقال : وقرأ طلحة بن مصرف ، وعيسى بخلاف عنه : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالرفع ، وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص ، والأعمش : سواء بالنصب ، محياهم ومماتهم بالنصب ؛ ووجه كلاً من القراءتين على ما تقتضيه صنعة الإعراب ، وتبعه على هذا الوهم صاحب التحرير ، وهو معذور ، لأنه ناسخ من كتاب إلى كتاب ؛ والصواب ما استبناه من القراءات لمن ذكرنا . ويستنبط من هذه الآية تباين حال المؤمن العاصي من حال الطائع ، وإن كانت في الكفار ، وتسمى مبكاة العابدين . وعن تميم الداري ، رضي الله عنه ، أنه كان يصلي ذات ليلة عند المقام ، فبلغ هذه الآية ، فجعل يبكي ويردد إلى الصباح : { ساء ما يحكمون } . وعن الربيع بن خيثم ، أنه كان يردّدها ليلة أجمع ، وكذلك الفضيل بن عياض ، كان يقول لنفسه : ليت شعري من أي الفريقين أنت ؟ وقال ابن عطية : وأما لفظها فيعطي أنه اجتراح الكفر ، بدليل معادلته بالإيمان ؛ ويحتمل أن تكون المعادلة هي بالاجتراح وعمل الصالحات ، ويكون الإيمان في الفريقين ، ولهذا بكى الخائفون . { ساء ما يحكمون } : هو كقوله : { بئسما اشتروا } [ البقرة : 90 ] ، وتقدم إعرابه في البقرة . وقال ابن عطية : هنا ما مصدرية ، والتقدير : ساء الحكم حكمهم . { بالحق } : بأن خلقها حق ، واجب لما فيه من فيض الخيرات ، وليدل عليه دلالة الصنعة على الصانع . { ولتجزي } : هي لام كي معطوفة على بالحق ، لأن كلاًّ من التاء واللام يكونان للتعليل ، فكان الخلق معللاً بالجزاء . وقال الزمخشري : أو على معلل محذوف تقديره : ليدل بها على قدرته ، { ولتجزي كل نفس } . وقال ابن عطية : ويحتمل أن تكون لام الصيرورة ، أي فصار الأمر منها من حيث اهتدى بها قوم وضل عنها آخرون ، لأن يجازي كل واحد بعمله ، وبما اكتسب من خير أو شر . انتهى . { أفرأيت } الآية ، قال مقاتل : نزلت في الحرث بن قيس السهمي ، وأفرأيت : هو بمعنى أخبرني ، والمفعول الأول هو : { من اتخذ } ، والثاني محذوف تقديره بعد الصلاة التي لمن اهتدى ، يدل عليه قوله بعد : { فمن يهديه من بعد الله } ، أي لا أحد يهديه من بعد إضلال الله إياه . { من اتخذ إلهه هواه } : أي هو مطواع لهوى نفسه ، يتبع ما تدعوه إليه ، فكأنه يعبده ، كما يعبد الرجل إلهه . قال ابن جبير ، إشارة إلى الأصنام : إذ كانوا يعبدون ما يهوون من الحجارة . وقال قتادة : لا يهوى شيئاً إلا ركبه ، لا يخاف الله ، فلهذا يقال : الهوى إله معبود . وقرأ الأعرج ، وأبو جعفر : آلهة ، بتاء التأنيث ، بدل من هاء الضمير . وعن الأعرج أنه قرأ : آلهة على الجمع . قال ابن خالويه : ومعناه أن أحدهم كان يهوى الحجر فيعبده ، ثم يرى غيره فيهواه ، فيلقى الأول ، فكذلك قوله : { إلهه هواه } الآية . وإن نزلت في هوى الكفر ، فهي متناولة جميع هوى النفس الأمارة . قال ابن عباس : ما ذكر الله هوى إلاّ ذمه . وقال وهب : إذا شككت في خبر أمرين ، فانظر أبعدهما من هواك فأته . وقال سهل التستري : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك . وفي الحديث : " والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني " ومن حكمه الشعر قول عنترة ، وهو جاهلي : @ إني امرؤ سمح الخليقة ماجد لا أتبع النفس اللجوج هواها @@ وقال أبو عمران موسى بن عمران الإشبيلي الزاهد ، رحمه الله تعالى : @ فخالف هواها واعصها إن من يطع هوى نفسه ينزع به شر منزع ومن يطع النفس اللجوج ترده وترم به في مصرع أي مصرع @@ { وأضله الله على علم } : أي من الله تعالى سابق ، أو على علم من هذا الضال بأن الحق هو الدين ، ويعرض عنه عناداً ، فيكون كقوله : { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم } [ النمل : 14 ] . وقال الزمخشري : صرفه عن الهداية واللطف ، وخذ له عن علم ، عالماً بأن ذلك لا يجدي عليه ، وأنه ممن لا لطف به ، أو مع علمه بوجوه الهداية وإحاطته بأنواع الألطاف المحصلة والمقربة . انتهى ، وهو على طريقة الاعتزال . وقرأ الجمهور : { غشاوة } : بكسر الغين ؛ وعبد الله ، والأعمش : بفتحها ، وهي لغة ربيعة . والحسن ، وعكرمة ، وعبد الله أيضاً : بضمها ، وهي لغة عكلية . والأعمش ، وطلحة ، وأبو حنيفة ، ومسعود بن صالح ، وحمزة ، والكسائي ، غشوة ، بفتح الغين وسكون الشين . وابن مصرف ، والأعمش أيضاً : كذلك ، إلا أنهما كسرا العين ، وتقدم تفسير الجملتين في أول البقرة . وقرأ الجمهور : { تذكرون } ، بشد الذال ؛ والجحدري يخففها ، والأعمش : بتاءين . { وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا } [ الأَنعام : 29 ] : هي مقالة بعض قريش إنكاراً للبعث . والظاهر أن قولهم : { نموت ونحيا } حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم وتأخير ، أي تموت طائفة وتحيا طائفة . وأن المراد بالموت مفارقة الروح للجسد . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، أي نحيا ونموت . وقيل : نموت عبارة عن كونهم لم يوجدوا ، ونحيا : أي في وقت وجودنا ، وهذا قريب من الأول قبله ، ولا ذكر للموت الذي هو مفارقة الروح في هذين القولين . وقيل : تموت الآباء وتحيا الأبناء . وقرأ زيد بن علي : ونحيا ، بضم النون . { وما يهلكنا إلا الدهر } : أي طول الزمان ، لأن الآفات تستوي فيه كمالاتها هذا إن كان قائلو هذا معترفين بالله ، فنسبوا الآفات إلى الدهر بجهلهم أنها مقدرة من عند الله ، وإن كانوا لا يعرفون الله ولا يقرون به ، وهم الدهرية ، فنسبوا ذلك إلى الدهر . وقرأ عبد الله : إلا دهر ، وتأويله : إلا دهر يمر . كانوا يضيفون كل حادثة إلى الدهر ، وأشعارهم ناطقة بشكوى الدهر ، حتى يوجد ذلك في أشعار المسلمين . قال ابن دريد في مقصورته : @ يا دهر إن لم تك عتبي فاتئد فإن اروادك والعتبي سواء @@ و { ما كان حجتهم } ، ليست حجة حقيقة ، أي حجتهم عندهم ، أو لأنهم أدلوا بها ، كما يدلي المحتج بحجته ، وساقوها مساقها ، فسميت حجة على سبيل التهكم ؛ أو لأنه في نحو قولهم : @ تحيـة بينـهـم ضـرب وجيـع @@ أي : ما كان حجتهم إلا ما ليس بحجة ، والمراد نفي أن يكون لهم حجة البتة . وقرأ الجمهور : حجتهم بالنصب ؛ والحسن ، وعمرو بن عبيد ، وزيد بن علي ، وعبيد بن عمير ، وابن عامر ، فيما روى عنه عبد الحميد ، وعاصم ، فيما روى هارون وحسين ، عن أبي بكر عنه : حجتهم ، أي ما تكون حجتهم ، لأن إذا للاستقبال ، وخالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفياً بما ، لم تدخل الفاء ، بخلاف أدوات الشرط ، فلا بد من الفاء . تقول : إن تزرنا فما جفوتنا ، أي فما تجفونا . وفي كون الجواب منفياً بما ، دليل على ما اخترناه من أن جواب إذا لا يعمل فيها ، لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها . { ائتوا } : يظهر أنه خطاب للرسول والمؤمنين ، إذ هم قائلون بمقالته ، أو هو خطاب له ولمن جاء بالبعث ، وهم الأنبياء ، وغلب الخطاب على الغيبة . وقال ابن عطية : إئتوا ، من حيث المخاطبة له ؛ والمراد : هو وإلهه والملك الوسيط الذي ذكره هو لهم ؛ فجاء من ذلك جملة قيل لها إئتوا وإن كنتم . انتهى . ولما اعترفوا بأنهم ما يهلكهم إلا الدهر ، وأنهم استدلوا على إنكار البعث بما لا دليل لهم فيه من سؤال إحياء آبائهم ، ردّ الله تعالى عليهم بأنه تعالى هو المحيـي ، وهو المميت لا الدهر ، وضم إلى ذلك آية جامعة للحساب يوم البعث ، وهذا واجب الاعتراف به إن أنصفوا ، ومن قدر على هذا قدر على الإتيان بآبائهم