Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 46, Ayat: 20-26)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ويوم يعرض } : أي يعذب بالنار ، كما يقال : عرض على السيف ، إذا قتل به . والعرض : المباشرة ، كما تقول : عرضت العود على النار : أي باشرت به النار . وقال الزمخشري : ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون عرض الحوض عليها ، فقلبوا . ويدل عليه تفسير ابن عباس : يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها . انتهى . ولا ينبغي حمل القرآن على القلب ، إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر . وإذا كان المعنى صحيحاً واضحاً مع عدم القلب ، فأي ضرورة ندعو إليه ؟ وليس في قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، ولا في تفسير ابن عباس ما يدل على القلب ، لأن عرض الناقة على الحوض ، وعرض الحوض على الناقة ، كل منهما صحيح ؛ إذ العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الناقة والحوض . وقرأ الجمهور : أذهبتم على الخبر ، أي فيقال لهم : أذهبتم ، ولذلك حسنت الفاء في قوله : { فاليوم تجزون } . وقرأ قتادة ، ومجاهد ، وابن وثاب ، وأبو جعفر ، والأعرج ، وابن كثير : بهمزة بعدها مدة مطولة ، وابن عامر ، بهمزتين حققهما ابن ذكوان ، ولين الثانية هشام ، وابن كثير في رواية . وعن هشام : الفصل بين المحققة والملينة بألف ، وهذا الاستفهام هو على معنى التوبيخ والتقرير ، فهو خبر في المعنى ، فلذلك حسنت الفاء ، ولو كان استفهاماً محضاً لم تدخل الفاء . والطيبات هنا : المستلذات من المآكل والمشارب والملابس والمفارش والمراكب والمواطىء ، وغير ذلك مما يتنعم به أهل الرفاهية . وهذه الآية محرضة على التقلل من الدنيا ، وترك التنعم فيها ، والأخذ بالتقشف ، وما يجتزي به رمق الحياة عن رسول الله في ذلك ما يقتضي التأسي به . وعن عمر في ذلك أخبار تدل على معرفته بأنواع الملاذ ، وعزة نفسه الفاضلة عنها . أتظنون أنا لا نعرف خفض العيش ؟ ولو شئت لجعلت أكباداً وصلاء وصلائق ، ولكن استبقي حسناني ؛ فإن الله عز وجل وصف أقواماً فقال : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم } . والصلاء الشواء والصفار المتخذ من الخردل والزبيب ، والصلائق : الخبز الرقاق العريض . قال ابن عباس : وهذا من باب الزهد ، وإلا فالآية نزلت في كفار قريش ؛ والمعنى : أنه كانت تكون لكم طيبات الآخرة لو آمنتم ، لكنكم لم تؤمنوا ، فاستعجلتم طيباتكم في الحياة الدنيا . فهذه كناية عن عدم الإيمان ، ولذلك نزلت عليه : { فاليوم تجزون عذاب الهون } ؛ ولو أريد الظاهر ، ولم يكن كناية عن ما ذكرنا ، لم يترتب عليه الجزاء بالعذاب . وقرىء : الهوان ، وهو والهون بمعنى واحد ثم بين تلك الكناية بقوله : { بما كنتم تستكبرون } : أي تترفعون عن الإيمان ؛ { وبما كنتم تفسقون } : أي بمعاصي الجوارح وقدم ذنب القلب ، وهو الاستكبار على ذنب الجوارح ؛ إذ أعمال الجوارح ناشئة عن مراد القلب . ولما كان أهل مكة مستغرقين في لذات الدنيا ، معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول ، ذكرهم بما جرى للعرب الأولى ، وهم قوم عاد ، وكانوا أكثر أموالاً وأشد قوة وأعظم جاهاً فيهم ، فسلط عليهم العذاب بسبب كفرهم ، وضرب الأمثال . وقصص من تقدم تعرف بقبح الشيء وتحسينه ، فقال لرسوله : واذكر لقومك ، أهل مكة ، هوداً عليه السلام ، { إذ أنذر قومه } عاداً عذبهم الله { بالأحقاف } . قال ابن عباس : واد بين عمان ومهرة . وقال ابن إسحاق : من عمان إلى حضرموت . وقال ابن زيد : رمال مشرقة بالشحر من اليمن . وقيل : بين مهرة وعدن . وقال قتادة : هي بلاد الشحر المواصلة للبحر اليماني . وقال ابن عباس : هي جبل بالشام . قال ابن عطية : والصحيح أن بلاد عاد كانت باليمن ، ولهم كانت { إرم ذات العماد } [ الفجر : 7 ] ، وفي ذكر هذه القصة اعتبار لقريش وتسلية للرسول ، إذ كذبه قومه ، كما كذبت عاد هوداً عليه السلام . والجملة من قوله : { وقد خلت النذر } : وهو جمع نذير ، { من بين يديه ومن خلفه } ، يحتمل أن تكون حالاً من الفاعل في : { النذر من بين يديه } ، وهم الرسل الذين تقدموا زمانه ، ومن خلفه الرسل الذين كانوا في زمانه ، ويكون على هذا معنى { ومن خلفه } : أي من بعد إنذاره ؛ ويحتمل أن يكون اعتراضاً بين إنذار قومه وأن لا تعبدوا . والمعنى : وقد أنذر من تقدمه من الرسل ، ومن تأخر عنه مثل ذلك ، فاذكرهم . { قالوا أجئتنا } : استفهام تقرير ، وتوبيخ وتعجيز له فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم على ترك إفراد الله بالعبادة . { لتأفكنا } : لتصرفنا ، قاله الضحاك ؛ أو لتزيلنا عن آلهتنا بالإفك ، وهو الكذب ، أي عن عبادة آلهتنا ، { فأتنا بما تعدنا } : استعجال منهم بحلول ما وعدهم به من العذاب . ألا ترى إلى قوله : { بل هو ما استعجلتم به } ؟ { قال إنما العلم عند الله } : أي علم وقت حلوله ، وليس تعيين وقته إليّ ، وإنما أنا مبلغ ما أرسلني به الله إليكم . ولما تحقق عنده وعد الله ، وأنه حال بهم وهم في غفلة من ذلك وتكذيب ، قال : { ولكني أراكم قوماً تجهلون } : أي عاقبة أمركم لا شعور لكم بها ، وذلك واقع لا محالة . وكانت عاد قد حبس الله عنها المطر أياماً ، فساق الله إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد يقال له المغيث ، فاستبشروا . والضمير في { رأوه } الظاهر أنه عائد على ما في قوله : { بما تعدنا } ، وهو العذاب ، وانتصب عارضاً على الحال من المفعول . وقال ابن عطية ، ويحتمل أن يعود على الشيء المرئي الطالع عليهم ، الذي فسره قوله : { عارضاً } . وقال الزمخشري : { فلما رأوه } ، في الضمير وجهان : أن يرجع إلى ما تعدنا ، وأن يكون مبهماً ، قد وضح أمره بقوله : { عارضاً } ، إما تمييز وإما حال ، وهذا الوجه أعرب وأفصح . انتهى . وهذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جارياً على ما ذكره النحاة ، لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب ، نحو : رب رجلاً لقيته ، وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين ، نحو : نعم رجلاً زيد ، وبئس غلاماً عمرو . وأما أن الحال يوضح المبهم ويفسره ، فلا نعلم أحداً ذهب إليه ، وقد حضر النحاة المضمر الذي يفسره ما بعده ، فلم يذكروا فيه مفعول رأي إذا كان ضميراً ، ولا أن الحال يفسر الضمير ويوضحه . والعارض : المعترض في الجو من السحاب الممطر ، ومنه قول الشاعر : @ يا من رأى عارضاً أرقت له بين ذراعي وجبهة الأسد @@ وقال الأعشى : @ يا من رأى عارضاً قد بث أرمقه كأنها البرق في حافاتها الشعل @@ { مستقبل أوديتهم } : هو جمع واد ، وأفعلة في جمع فاعل . الاسم شاذ نحو : ناد وأندية ، وجائز وأجوزة . والجائز : الخشبة الممتدة في أعلى السقف ، وإضافة مستقبل وممطر إضافة لا تعرف ، فلذلك نعت بهما النكرة . { بل هو ما استعجلتم } : أي قال لهم هو ذلك ، أي بل هو العذاب الذي استعجلتم به ، أضرب عن قولهم : { عارض ممطرنا } ، وأخبر بأن العذاب فاجأهم ، ثم قال : { ريح } : أي هي ريح بدل من هو . وقرأ : ما استعجلتم ، بضم التاء وكسر الجيم ، وتقدمت قصص في الريح ، فأغنى عن ذكرها هنا . { تدمر } : أي تهلك ، والدمار : الهلاك ، وتقدم ذكره . وقرأ زيد بن عليّ : تدمر ، بفتح التاء وسكون الدال وضم الميم . وقرىء كذلك إلا أنه بالياء ورفع كل ، أي يهلك كل شيء ، وكل شيء عام مخصوص ، أي من نفوسهم وأموالهم ، أو من أمرت بتدميره . وإضافة الرب إلى الريح دلالة على أنها وتصريفها مما يشهد بباهر قدرته تعالى ، لأنها من أعاجيب خلقه وأكابر جنوده . وذكر الأمر لكونها مأمورة من جهته تعالى . وقرأ الجمهور : لا ترى بتاء الخطاب ، إلا مساكنهم ، بالنصب ؛ وعبد الله ، ومجاهد ، وزيد بن علي ، وقتادة ، وأبو حيوة ، وطلحة ، وعيسى ، والحسن ، وعمرو بن ميمون : بخلاف عنهما ؛ وعاصم ، وحمزة : لا يرى بالياء من تحت مضمومة إلا مساكنهم بالرفع . وأبو رجاء ، ومالك بن دينار : بخلاف عنهما . والجحدري ، والأعمش ، وابن أبي إسحاق ، والسلمي : بالتاء من فوق مضمومة مساكنهم بالرفع ، وهذا لا يجيزه أصحابنا إلا في الشعر ، وبعضهم يجيزه في الكلام . وقال ذو الرمة : @ كأنه جمل همّ وما بقيت إلا النخيرة والألواح والعصب @@ وقال آخر : @ فمـا بقيـت إلا الضـلوع الجـراشـع @@ وقرأ عيسى الهمداني : لا يرى بضم الياء إلا مسكنهم بالتوحيد . وروي هذا عن الأعمش ، ونصر بن عاصم . وقرىء : لا ترى ، بتاء مفتوحة للخطاب ، إلا مسكنهم بالتوحيد مفرداً منصوباً ، واجتزىء بالمفرد عن الجمع تصغيراً لشأنهم ، وأنهم لما هلكوا في وقت واحد ، فكأنهم كانوا في مسكن واحد . ولما أخبر بهلاك قوم عاد ، خاطب قريشاً على سبيل الموعظة فقال : { ولقد مكناهم } ، وإن نافية ، أي في الذي ما مكناهم فيه من القوة والغنى والبسط في الأجسام والأموال ؛ ولم يكن النفي بلفظ ما ، كراهة لتكرير اللفظ ، وإن اختلف المعنى . وقيل : إن شرطية محذوفة الجواب ، والتقدير : إن مكناكما فيه طغيتم . وقيل : إن زائدة بعدما الموصولة تشبيهاً بما النافية وما التوقيتية ، فهي في الآية كهي في قوله : @ يرجى المرء ما إن لا يراه وتعرض دون أدناه الخطوب @@ أي مكناهم في مثل الذي مكناكم ، فيه ، وكونها نافية هو الوجه ، لأن القرآن يدل عليه في مواضع كقوله : { كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثاراً } [ غافر : 82 ] ، وقوله : { هم أحسن أثاثاً ورئياً } [ مريم : 74 ] ، وهو أبلغ في التوبيخ وأدخل في الحث في الاعتبار . ثم عدد نعمه عليهم ، وأنها لم تغن عنهم شيئاً ، حيث لم يستعملوا السمع والأبصار والأفئدة فيما يجب أن يستعمل . وقيل : ما استفهام بمعنى التقرير ، وهو بعيد كقوله : { من شيء } ، إذ يصير التقدير : أي شيء مما ذكر أغنى عنهم من شيء ، فتكون من زيدت في الموجب ، وهو لا يجوز على الصحيح ، والعامل في إذ أغنى . ويظهر فيها معنى التعليل لو قلت : أكرمت زيداً لإحسانه إليّ ، أو إذ أحسن إليّ . استويا في الوقت ، وفهم من إذ ما فهم من لام التعليل ، وإن إكرامك إياه في وقت إحسانه إليك ، إنما كان لوجود إحسانه لك فيه .