Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 46, Ayat: 27-35)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } : خطاب لقريش على جهة التمثيل لهم ، والذي حولهم من القرى : مأرب ، وحجر ، ثمود ، وسدوم . ويريد من أهل القرى : { وصرفنا الآيات } ، أي الحجج والدلائل والعظاة لأهل تلك القرى ، { لعلهم يرجعون } عن ما هم فيه من الكفر إلى الإيمان ، فلم يرجعوا . { فلولا نصرهم } : أي فهلا نصرهم حين جاءهم الهلاك ؟ { الذين اتخذوا } : أي اتخذوهم ، { من دون الله قرباناً } : أي في حال التقرب وجعلتهم شفعاء . { آلهة } : وهو المفعول الثاني لا تخذوا ، والأول الضمير المحذوف العائد على الموصول . وأجاز الحوفي وابن عطية وأبو البقاء أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً لا تخذوا آلهة بدل منه . وقال الزمخشري : وقرباناً حال ، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً وآلهة بدل منه ، لفساد المعنى . انتهى . ولم يبين الزمخشري كيف يفسد المعنى ، ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب . وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون قرباناً مفعولاً من أجله . { بل ضلوا عنهم } : أي غابوا عن نصرتهم . وقرأ الجمهور : إفكهم ، بكسر الهمزة وإسكان الهاء وضم الكاف ؛ وابن عباس في رواية : بفتح الهمزة . والإفك مصدر إن . وقرأ ابن عباس أيضاً ، وابن الزبير ، والصباح بن العلاء الأنصاري ، وأبو عياض ، وعكرمة ، وحنظلة بن النعمان ابن مرة ، ومجاهد : إفكهم ، بثلاث فتحات : أي صرفهم ؛ وأبو عياض ، وعكرمة أيضاً : كذلك ، إلا أنهما شددا الفاء للتكثير ؛ وابن الزبير أيضاً ، وابن عباس ، فيما ذكر ابن خالويه : آفكهم بالمد ، فاحتمل أن يكون فاعل . فالهمزة أصلية ، وأن يكون أفعل ، فالهمزة للتعدية ، أي جعلهم يأفكون ، ويكون أفعل بمعنى المجرد . وعن الفراء أنه قرىء : أفكهم بفتح الهمزة والفاء وضم الكاف ، وهي لغة في الأفك ؛ وابن عباس ، فيما روى قطرب ، وأبو الفضل الرازي : آفكهم اسم فاعل من آفك ، أي صارفهم ، والإشارة بذلك على من قرأ : إفكهم مصدراً إلى اتخاذ الأصنام آلهة ، أي ذلك كذبهم وافتراؤهم . وقال الزمخشري : وذلك إشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم لهم وضلالهم عنهم ، أي وذلك إثر إفكهم الذي هو اتخاذهم إياها آلهة ، وثمرة شركهم وافترائهم على الله الكذب من كونه ذا شركاء . انتهى . وعلى قراءة من جعله فعلاً معناه : وذلك الاتخاذ صرفهم عن الحق ، وكذلك قراءة اسم الفاعل ، أي صارفهم عن الحق . ويحتمل أن تكون ما مصدرية ، أي وافتراؤهم ، وأن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف ، أي يفترونه . { وإذ صرفنا إليكم نفراً من الجن يستمعون القرآن } : ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما بين أن الإنسي مؤمن وكافر ، وذكر أن الجن فيهم مؤمن وكافر ؛ وكان ذلك بأثر قصة هود وقومه ، لما كان عليه قومه من الشدة والقوة . والجن توصف أيضاً بذلك ، كما قال تعالى : { قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين } [ النمل : 39 ] . وإن ما أهلك به قوم هود هو الريح ، وهو من العالم الذي لا يشاهد ، وإنما يحس بهبوبه . والجن أيضاً من العالم الذي لا يشاهد . وإن هوداً عليه السلام كان من العرب ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب ، فهذه تجوز أن تكون مناسبة لهذه الآية بما قبلها . وفيها أيضاً توبيخ لقريش وكفار العرب ، حيث أنزل عليهم هذا الكتاب المعجز ، فكفروا به ، وهم من أهل اللسان الذي أنزل به القرآن ، ومن جنس الرسول الذي أرسل إليهم . وهؤلاء جن ، فليسوا من جنسه ، وقد أثر فيهم سماع القرآن وآمنوا به وبمن أنزل عليه ، وعلموا أنه من عند الله ، بخلاف قريش وأمثالها ، فهم مصرون على الكفر به . { وإذ صرفنا } : وجّهنا إليك . وقرأ : صرفنا ، بتشديد الراء ، لأنهم كانوا جماعة ، فالتكثير بحسب الحال . { نفراً من الجن } ، والنفر دون العشرة ، ويجمع على أنفار . قال ابن عباس : كانوا سبعة ، منهم زوبعة . والذي يجمع اختلاف الروايات ، أن قصة الجن كانت مرتين . إحداهما : حين انصرف من الطائف ، وكان خرج إليهم يستنصرهم في قصة ذكرها أصحاب السير . فروى أن الجن كانت تسترق السمع ؛ فلما بعث الرسول ، حرست السماء ، ورمي الجن بالشهب ، قالوا : ما هذا إلا أمر حدث . وطافوا الأرض ، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي نخلة ، وهو قائم يصلي ؛ فاستمعوا لقراءته ، وهو لا يشعر ؛ فأنبأه الله باستماعهم . { والمرة الأخرى } : " أن الله أمره أن ينذر الجن ويقرأ عليهم فقال : " إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني " ، قالها ثلاثاً ، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود ، قال : لم يحضره أحد ليلة الجن غيري . فانطلقنا حتى إذا كنا في شعب الحجون ، خط لي خطاً وقال : " لا تخرج منه حتى أعود إليك " ، ثم افتتح القرآن . وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم تقطعوا تقطع السحاب ، فقال لي : " هل رأيت شيئاً " ؟ قلت : نعم ، رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض ، فقال : " أولئك جن نصيبين " . وكانوا اثني عشر ألفاً ، والسورة التي قرأها عليهم : اقرأ باسم ربك " وفي آخر هذا الحديث قلت : " يا رسول الله ، سمعت لهم لغطاً ، فقال : " إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق " " وقد روي عن ابن مسعود أنه لم يحضر أحد ليلة الجن ، والله أعلم بصحة ذلك . { فلما حضروه } : أي القرآن ، أي كانوا بمسمع منه ، وقيل : حضروا الرسول ، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب . { قالوا انصتوا } : أي اسكتوا للاستماع ، وفيه تأديب مع العلم وكيف يتعلم . وقرأ الجمهور : { فلما قضى } : مبنياً للمفعول ؛ وأبو مجلز ، وحبيب بن عبد الله بن الزبير : قضى ، مبنياً للفاعل ، أي قضى محمد ما قرأ ، أي أتمه وفرغ منه . وقال ابن عمر ، وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة الرحمن ، فكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } ، قالوا : لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد . { ولوا إلى قومهم منذرين } : تفرقوا على البلاد ينذرون الجن . قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم . انتهى . وعند ذلك وقعت قصة سواد بن قارب ، وخنافر وأمثالهما ، حين جاءهما رياهما من الجن ، وكان سبب إسلامهما . { من بعد موسى } : أي من بعد كتاب موسى . قال عطاء : كانوا على ملة اليهود ، وعن ابن عباس : لم تسمع الجن بأمر عيسى ، وهذا لا يصح عن ابن عباس . كيف لا تسمع بأمر عيسى وله أمة عظيمة لا تنحصر على ملته ؟ فيبعد عن الجن كونهم لم يسمعوا به . ويجوز أن يكونوا قالوا : { من بعد موسى } تنبيهاً لقومهم على اتباع الرسول ، إذ كان عليه الصلاة والسلام قد بشر به موسى ، فقالوا : ذلك من حيث أن هذا الأمر مذكور في التوراة ، { مصدقاً لما بين يديه } من التوراة والإنجيل والكتب الإلهية ، إذ كانت كلها مشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد ، والأمر بتطهير الأخلاق . { يهدي إلى الحق } : أي إلى ما هو حق في نفسه صدق ، يعلم ذلك بصريح العقل . { وإلى صراط مستقيم } : غابر بين اللفظين ، والمعنى متقارب ، وربما استعمل أحدهما في موضع لا يستعمل الآخر فيه ، فجمع هنا بينهما وحسن التكرار . { أجيبوا داعي الله } : هو الرسول ، والواسطة المبلغة عنه ، { وآمنوا به } : يعود على الله . { يغفر لكم من ذنوبكم } : من للتبعيض ، لأنه لا يغفر بالإيمان ذنوب المظالم ، قال معناه الزمخشري . وقيل : من زائدة ، لأن الإسلام يجب ما قبله ، فلا يبقى معه تبعة . { ويجركم من عذاب أليم } : وهذا كله وظواهر القرآن تدل على الثواب ، وكذا قال ابن عباس : لهم ثواب وعليهم عقاب ، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها . وقيل : لا ثواب لها إلا النجاة من النار ، وإليه كان يذهب أبو حنيفة . { فليس بمعجز في الأرض } : أي بفائت من عقابه ، إذ لا منجا منه ، ولا مهرب ، كقوله : { وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هرباً } [ الجن : 12 ] . وروي عن ابن عامر : وليس لهم بزيادة ميم . وقرأ الجمهور : { ولم يعي } ، مضارع عيـي ، على وزن فعل ، بكسر العين ؛ والحسن : ولم يعي ، بكسر العين وسكون الياء ، ووجهه أنه في الماضي فتح عين الكلمة ، كما قالوا في بقي : بقا ، وهي لغة لطيـىء . ولما بنى الماضي على فعل بفتح العين ، بنى مضارعه على يفعل بكسر العين ، فجاء يعني . فلما دخل الجازم ، حذف الياء ، فبقي يعي بنقل حركة الياء إلى العين ، فسكنت الياء وبقي يعي . وقرأ الجمهور : { بقادر } : اسم فاعل ، والباء زائدة في خبر أن ، وحسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي . وقد أجاز الزجاج : ما ظننت أن أحداً بقائم ، قياساً على هذا ، والصحيح قصر ذلك على السماع ، فكأنه في الآية قال : أليس الله بقادر ؟ ألا ترى كيف جاء ببلى مقرراً لإحياء الموتى لا لرؤيتهم ؟ وقرأ الجحدري ، وزيد بن علي ، وعمرو بن عبيد ، وعيسى ، والأعرج : بخلاف عنه ؛ ويعقوب : يقدر مضارعاً . { أليس هذا بالحق } : أي يقال لهم ، والإشارة بهذا إلى العذاب . أي كنتم تكذبون بأنكم تعذبون ، والمعنى : توبيخهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم : { وما نحن بمعذبين } [ سبأ : 35 ] . { قالوا بلى وربنا } ، تصديق حيث لا ينفع . وقال الحسن : إنهم ليعذبون في النار وهم راضون بذلك لأنفسهم ، يعترفون أنه العدل ، فيقول لهم المجاوب من الملائكة عند ذلك : { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون . فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } : الفاء عاطفة هذه الجملة على الجملة من أخبار الكفار في الآخرة ، والمعنى بينهما مرتبط : أي هذه حالهم مع الله . فلا تستعجل أنت واصبر ، ولا تخف إلا الله . وأولو العزم : أي أولو الجد من الرسل ، وهم من حفظ له شدة مع قومه ومجاهدة . فتكون من للتبعيض ، وقيل : يجوز أن تكون للبيان ، أي الذين هم الرسل ، ويكون الرسل كلهم أولي العزم ؛ وأولو العزم على التبعيض يقتضي أنهم رسل وغير رسل ؛ وعلى البيان يقتضي أنهم الرسل ، وكونها للتبعيض قول عطاء الخراساني والكلبي ، وللبيان قول ابن زيد . وقال الحسن بن الفضل : هم الثمانية عشر المذكورة في سورة الأنعام ، لأنه قال عقب ذكرهم : { فبهادهم اقتده } [ الأَنعام : 90 ] . وقال مقاتل : هم ستة : نوح صبر على أذى قومه طويلاً ، وإبراهيم صبر على النار ، وإسحاق صبر نفسه على الذبح ، ويعقوب صبر على الفقد لولده وعمي بصره وقال فصبر جميل ، ويوسف صبر على السجن والبئر ، وأيوب على البلاء . وزاد غيره : وموسى قال قومه : { إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين } [ الشعراء : 61 62 ] ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة وقال : إنها معبر ، فاعبروها ولا تعمروها . { ولا تستعجل لهم } : أي لكفار قريش بالعذاب ، أي لا تدع لهم بتعجيله ، فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وإنهم مستقصرن حينئذ مدة لبثهم في الدنيا ، كأنهم { لم يلبثوا إلا ساعة } . وقرأ أبي : من النهار ؛ وقرأ الجمهور : من نهار . وقرأ الجمهور : بلاغ ، بالرفع ، والظاهر رجوعه إلى المدة التي لبثوا فيها ، كأنه قيل : تلك الساعة بلاغهم ، كما قال تعالى : { متاع قليل } [ النحل : 117 ] ، فبلاغ خبر مبتدأ محذوف . قيل : ويحتمل أن يكون بلاغ يعني به القرآن والشرع ، أي هذا بلاغ ، أي تبليغ وإنذار . وقال أبو مجلز : بلاغ مبتدأ وخبره لهم ؛ ويقف على فلا تستعجل ، وهذا ليس بجيد ، لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض ، إذ ظاهر قوله : لهم ، أنه متعلق بقوله : فلا تستعجل لهم ، والحيلولة الجملة التشبيهية بين الخبر والمبتدأ . وقرأ الحسن ، وزيد بن علي ، وعيسى : بلاغاً بالنصب ، فاحتمل أن يراد : بلاغاً في القرآن ، أي بلغوا بلاغاً ، أو بلغنا بلاغاً . وقرأ الحسن أيضاً : بلاغ بالجر ، نعتاً لنهار . وقرأ أبو مجلز ، وأبو سراح الهذلي : بلغ علي الأمر ، للنبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يؤيد حمل بلاغ رفعاً ونصباً على أنه يعني به تبليغ القرآن والشرع . وعن أبي مجلز أيضاً : بلغ فعلاً ماضياً . وقرأ الجمهور : يهلك ، بضم الياء وفتح اللام ، وابن محيصن ، فيما حكى عنه ابن خالويه : بفتح الياء وكسر اللام ؛ وعنه أيضاً : بفتح الياء واللام ، وماضيه هلك بكسر اللام ، وهي لغة . وقال أبو الفتح : هي مرغوب عنها . وقرأ زيد بن ثابت : يهلك ، بضم الياء وكسر اللام . { إلا القوم الفاسقون } : بالنصب ، وفي هذه الآية وعيد وإنذار .