Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 12-19)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يتمتعون } : أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياماً قلائل ، { ويأكلون } ، غافلين غير مفكرين في العاقبة ، { كما تأكل الأنعام } في مسارحها ومعالفها ، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح . والكاف في موضع نصب ، إما على الحال من ضمير المصدر ، كما يقول سيبويه ، أي يأكلونه ، أي الأكل مشبهاً أكل الأنعام . والمعنى : أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر ، كما يقال للجاهل : يعيش كما تعيش البهيمة ، لا يريد التشبيه في مطلق العيش ، ولكن في لازمه . { والنار مثوى لهم } : أي موضع إقامة . ثم ضرب تعالى مثلاً لمكة والقرى المهلكة على عظمها ، كقرية عاد وغيرهم ، والمراد أهلها ، وأسند الإخراج إليها مجازاً . والمعنى : كانوا سبب خروجك ، وذلك وقت هجرته عليه السلام إلى المدينة . " وكما جاء في حديث ورقة بن نوفل : يا ليتني فيها جذعاً إذ يخرجك قومك ، قال : أوَ مخرجي هم " وقال ابن عطية : ونسب الإخراج إلى القرية حملاً على اللفظ ، وقال : { أهلكناهم } ، حملاً على المعنى . انتهى . وظاهر هذا الكلام لا يصح ، لأن الضمير في أهلكناهم ليس عائداً على المضاف إلى القرية التي أسند إليها الإخراج ، بل إلى أهل القرية في قوله : { وكأين من قرية } ، وهو صحيح ، لكن ظاهر قوله حملاً على اللفظ وحملاً على المعنى : أي أن يكون في مدلول واحد ، وكان يبقى كأين مفلتاً غير محدث عنه بشيء ، إلا أن وقت إهلاكهم كأنه قال : فهم لا ينصرون إذ ذاك . وقال ابن عباس : لما أخرج من مكة إلى الغار ، التفت إلى مكة وقال : أنت أحب بلاد الله إلى الله ، وأنت أحب بلاد الله إليّ ، فلو أن المشركين لم يخرجوني ، لم أخرج منك ، فأعدى الأعداء من عدا على الله في حرمه ، أو قتل غير قاتله . وقيل : بدخول الجاهلية قال : فأنزل الله تعالى ، { وكأين من قرية } الآية ؛ وقد تقدّم أول السورة عن ابن عباس خلاف هذا القول . { أفمن كان على بينة من ربه } : استفهام توقيف وتقرير على كل شيء متفق عليه ، وهي معادلة بين هذين الفريقين . قال قتادة : والإشارة إلى الرسول وإلى كفار قريش . انتهى . واللفظ عام لأهل الصنفين . ومعنى على بينة : واضحة ، وهو القرآن المعجز وسائر المعجزات . { كمن زين له سوء عمله } : وهو الشرك والكفر بالله وعبادة غيره . { واتبعوا أهواءهم } : أي شهوات أنفسهم ممن لا يكون له بينة ، فعبدوا غير خالقهم . والضمير في واتبعوا عائد على معنى من ، وقرىء أمن كان بغير فاء . { مثل الجنة } : أي صفة الجنة ، وهو مرفوع بالابتداء . قال الزمخشري : قال النضر بن شميل : كأنه قال : صفة الجنة ، وهو ما تسمعون . انتهى . فما تسمعون الخبر ، وفيها أنها تفسير لتلك الصفة ، فهو استئناف إخبار عن تلك الصفة . وقال سيبويه : فيما يتلى عليكم مثل الجنة ، وقدر الخبر المحذوف متقدماً ، ثم فسر ذلك الذي يتلى . وقال ابن عطية : وفي الكلام حذف يقتضيه الظاهر ، كأنه قيل : مثل الجنة ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف . وكان ابن عطية قد قال قبل هذا : ويظهر أن القصد بالتمثيل هو إلى الشيء الذي يتخيله المرء عند سماعه . فههنا كذا ، فكأنه يتصور عند ذلك اتباعاً على هذه الصورة ، وذلك هو مثل الجنة . قال : وعلى هذه التأويلات ، يعني قول النضر وقول سيبويه ، وما قاله هو يكون قبل قوله : { كمن هو خالد في النار } حذف تقديره : أساكن ؟ أو أهؤلاء ؟ إشارة إلى المتقين . قيل : ويحتمل عندي أن يكون الحذف في صدر هذه الآية ، كأنه قال : مثل أهل الجنة ، وهي بهذه الأوصاف ، { كمن هو خالد في النار } . ويجيء قوله : { فيها أنهار } في موضع الحال على هذا التأويل . انتهى . ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه . قال : ومثل الجنة : صفة الجنة العجيبة الشأن ، وهو مبتدأ ، وخبر من هو خالد في النار . وقوله : { فيها أنهار } ، في حكم الصلة ، كالتكرير لها . ألا ترى إلى سر قوله : التي فيها أنهار ؟ ويجوز أن تكون خبر مبتدأ محذوف هي : فيها أنهار ، كأن قائلاً قال : وما مثلها ؟ فقيل : فيها أنهار . وقال الزمخشري أيضاً : فإن قلت : ما معنى قوله : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار } ؟ قال : { كمن هو خالد في النار } . قلت : هو كلام في صورة الإثبات ، ومعناه النفي والإنكار ، لانطوائهم تحت كلام مصدر بحرف الإنكار ، ودخوله في حيزه ، وانخراطه في مسلكه ، وهو قوله : { أفمن كان على بينة من ربه كمن زين لهم سوء عمله } ، فكأنه قيل : مثل الجنة كمن هو خالد في النار ، أي كمثل جزاء من هو خالد في النار . فإن قلت : لم عري من حرف الإنكار ؟ وما فائدة التعرية ؟ قلت : تعريته من حرف الإنكار فيها زيادة تصوير لمكابرة من سوى بين المستمسك بالبينة والتابع لهواه ، وأنه بمنزلة من يثبت التسوية بين الجنة التي تجري فيها تلك الأنهار ، وبين النار التي يسقى أهلها الحميم ، ونظيره قول القائل : @ أفرح أن أرزأ الكرام وأن أورث ذوداً شصائصاً نبلا @@ هو كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود ، مع تعريته من حرف الإنكار ، لانطوائه تحت حكم من قال : أتفرح بموت أخيك ، وبوراثة إبله ؟ والذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصور قبح ما أذن به ، فكأنه قال : نعم مثلي يفرح بمرزأة الكرام ، وبأن يستبدل منهم ذوداً يقل طائله ، وهو من التسليم الذي تحته كل إنكار . انتهى . وتلخص من هذا الاتفاق على إعراب : { مثل الجنة } مبتدأ ، واختلفوا في الخبر ، فقيل : هو مذكور ، وهو : { كمن هو خالد في النار } . وقيل : محذوف ، فقيل : مقدر قبله ، وهو قول سيبويه . وقيل : بعده ، وهو قول النضر وابن عطية على اختلاف التقدير . ولما بين الفرق بين الفريقين في الاهتداء والضلال ، بين الفرق بينهما فيما يؤولان إليه . وكما قدم من على بينة ، على من اتبع هواه ، قدّم حاله على حاله . وقرأ ابن كثير وأهل مكة : آسن ، على وزن فاعل ، من أسن ، بفتح السين ؛ وقرىء : غير ياسن بالياء . قال أبو علي : وذلك على تخفيف الهمز . { لم يتغير } ، وغيره . و { لذة } : تأنيث لذ ، وهو اللذيذ ، ومصدر نعت به ، فالجمهور بالجر على أنه صفة لخمر ، وقرىء بالرفع صفة لأنهار ، وبالنصب : أي لأجل لذة ، فهو مفعول له . { من عسل مصفى } قال ابن عباس : لم يخرج من بطون النحل . قيل : فيخالطه الشمع وغيره ، ووصفه بمصفى لأن الغالب على العسل التذكير ، وهو مما يذكر ويؤنث . وعن كعب : أن النيل ودجلة والفرات وجيحان ، تكون هذه الأنهار في الجنة . واختلف في تعيين كل ، فهو منها لماذا يكون ينزل ، وبدىء من هذه الأنهار بالماء ، وهو الذي لا يستغنى عنه في المشروبات ، ثم باللبن ، إذ كان يجري مجرى الطعوم في كثير من أقوات العرب وغيرهم ، ثم بالخمر ، لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوقت النفس إلى ما تلتذ به ، ثم بالعسل ، لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم ، فهو متأخر في الهيئة . { ولهم فيها من الثمرات } ، وقيل : المبتدأ محذوف ، أي أنواع من كل الثمرات ، وقدره بعضهم بقوله : زوجان . { ومغفرة من ربهم } : لأن المغفرة قبل دخول الجنة ، أو على حذف ، أي بنعيم مغفرة ، إذ المغفرة سبب التنعيم . { وسقوا } : عائد على معنى من ، وهو خالد على اللفظ ؛ وكذا : { اخرجوا } : على معنى من يستمع . كان المنافقون يحضرون عند الرسول ويستمعون كلامه وتلاوته ، فإذا خرجوا ، { قالوا للذين أوتوا العلم } ، وهم السامعون كلام الرسول حقيقة الواعون له : { ماذا قال آنفاً } ؟ أي الساعة ، وذلك على سبيل الهزء والاستخفاف ، أي لم نفهم ما يقول ، ولم ندر ما نفع ذلك . وممن سألوه : ابن مسعود . وآنفاً : حال ؛ أي مبتدأ ، أي : ما القول الذي ائتنفه قبل انفصاله عنه ؟ وقرأ الجمهور : آنفاً ، على وزن فاعل ؛ وابن كثير : على وزن فعل . وقال الزمخشري : وآنفاً نصب على الظرف . انتهى . وقال ذلك لأنه فسره بالساعة . وقال ابن عطية ، والمفسرون يقولون : آنفاً ، معناه : الساعة الماضية القريبة منا ، وهذا تفسير بالمعنى . انتهى . والصحيح أنه ليس بظرف ، ولا نعلم أحداً من النحاة عده في الظروف . والضمير في { زادهم } عائد على الله ، كما أظهره قوله : { طبع الله } ، إذ هو مقابلهم ، وكما هو في : { وآتاهم } ؛ والزيادة في هذا المعنى تكون بزيادة التفهيم والأدلة ، أو بورود الشرع بالأمر والنهي والإخبار ، فيزيد المهدي لزيادة علم ذلك والإيمان به . قيل : ويحتمل أن يعود على قول المنافقين واضطرابهم ، لأن ذلك مما يعجب به المؤمن ويحمد الله على إيمانه ويزيد نصرة في دينه . وقيل : يعود على قول الرسول { وآتاهم تقواهم } : أي أعطاهم ، أي جعلهم متقين له ؛ فتقواهم مصدر مضاف للفاعل . { أن تأتيهم } : بدل اشتمال من الساعة ، والضمير للمنافقين ؛ أي الأمر الواقع في نفسه انتظار الساعة ، وإن كانوا هم في أنفسهم ينتظرون غير ذلك ؛ لأن ما في أنفسهم غير مراعى ، لأنه باطل . وقرأ أبو جعفر الرواسي عن أهل مكة : { أن تأتهم } على الشرط ، وجوابه : { فقد جاء أشراطها } ، وهذا غير مشكوك فيه ، لأنها آتية لا محالة . لكن خوطبوا بما كانوا عليه من الشك ، ومعناه : إن شككتم في إثباتها فقد جاء أعلامها ؛ فالشك راجع إلى المخاطبين الشاكين . وقال الزمخشري : فإن قلت : فما جزاء الشرط ؟ قلت : قولهم : { فأنى لهم } ، ومعناه : أن تأتيهم الساعة ، فكيف لهم ذكراهم ، أي تذكرهم واتعاظهم ؟ إذا جاءتهم الساعة يعني لا تنفعهم الذكرى حينئذ لقوله : { يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى } [ الفجر : 23 ] . فإن قلت : بم يتصل قوله ، وقد جاء أشراطها على القراءتين ؟ قلت : بإتيان الساعة اتصال العلة بالمعلول كقولك : إن أكرمني زيد فأنا حقيق بالإكرام أكرمه . وقرأ الجعفي ، وهارون ، عن أبي عمرو : { بغتة } ، بفتح الغين وشد التاء . قال صاحب اللوامح : وهي صفة ، وانتصابها على الحال لا نظير لها في المصادر ولا في الصفات ، بل في الأسماء نحو : الحرية ، وهو اسم جماعة ، والسرية اسم مكان . انتهى . وكذا قال أبو العباس بن الحاج ، من أصحاب الأستاذ أبي علي الشلوبين ، في ( كتاب المصادر ) على أبي عمرو : أن يكون الصواب بغتة ، بفتح الغين من غير تشديد ، كقراءة الحسن فيما تقدم . انتهى . وهذا على عادته في تغليظ الرواية . { فقد جاء أشراطها } : أي علاماتها ، فينبغي الاستعداد لها . ومن أشراط الساعة مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ هو خاتم الأنبياء . وروي عنه أنه قال : " أنا من أشراط الساعة " وقال : " بعثت أنا والساعة كهاتين وكفرسي رهان " وقيل : منها الدخان وانشقاق القمر . وعن الكلبي : كثرة المال ، والتجارة ، وشهادة الزور ، وقطع الأرحام ، وقلة الكرام ، وكثرة اللئام . { فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } : الظاهر أن المعنى : فكيف لهم الذكرى والعمل بها إذا جاءتهم الساعة ؟ أي قد فاتها ذلك . قيل : ويحتمل أن يكون المبتدأ محذوفاً ، أي : فأنى لهم الخلاص إذا جاءتهم الذكرى بما كانوا يخبرون به فيكذبون به بتواصله بالعذاب ؟ ثم أضرب عن ذكر المنافقين وقال : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } ، والمعنى : دم على عملك بتوحيد . واحتج بهذا على قول من قال : أول الواجبات العلم والنظر قبل القول والإقرار . وفي الآية ما يدل على التواضع وهضم النفس ، إذ أمره بالاستغفار ، ومع غيره بالاستغفار لهم . { متقبلكم } : متصرفكم في حياتكم الدنيا . { ومثواكم } : إقامتكم في قبوركم وفي آخرتكم . وقال عكرمة : متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ، ومثواكم : إقامتكم في الأرض . وقال الطبري وغيره : متقلبكم : تصرفكم في يقظتكم ، ومثواكم : منامكم . وقيل : متقلبكم في معائشكم ومتاجركم ، ومثواكم حيث تستفزون من منازلكم . وقيل : متقلبكم بالتاء ، وابن عباس بالنون .