Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 20-28)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
كان المؤمنون حريصين على ظهور الإسلام وعلو كلمته وتمني قتل العدو ، وكانوا يستأنسون بالوحي ، ويستوحشون إذا أبطأ . والله تعالى قد جعل ذلك باباً ومضروبة لا يتعدى . فمدح تعالى المؤمنين بطلبهم إنزال سورة ، والمعنى تتضمن أمرنا بمجاهدة العدو ، وفضح أمر المنافقين . والظاهر أن ظاني ذلك هم خلص في إيمانهم ، ولذلك قال بعد { رأيت الذين في قلوبهم مرض } . وقال الزمخشري : كانوا يدعون الحرص على الجهاد ، ويتمنونه بألسنتهم ، ويقولون : { لولا نزلت سورة } في معنى الجهاد . { فإذا أنزلت } ، وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه ، كاعوا وشق عليهم وسقطوا في أيديهم ، كقوله : { فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس } [ النساء : 77 ] . انتهى ؛ وفيه تخويف لما يدل عليه لفظ القرآن و { لولا } : بمعنى هلا ؛ وعن أبي مالك : لا زائدة ، والتقدير : لو نزلت ، وهذا ليس بشيء . وقرىء : فإذا نزلت . وقرأ زيد بن علي : سورة محكمة ، بنصبهما ، ومرفوع نزلت بضم ، وسورة نصب على الحال . وقرأ هو وابن عمر : { وذكر } مبنياً للفاعل ، أي الله . { فيها القتال } ونصب . الجمهور : برفع سورة محكمة على أنه مفعول لم يسم فاعله ، وبناء وذكر للمفعول ، والقتال رفع به ، وإحكامها كونها لا تنسخ . قال قتادة : كل سورة فيها القتال ، فهي محكمة من القرآن ، لا بخصوصية هذه الآية ، وذلك أن القتال نسخ ما كان من المهادنة والصلح ، وهو غير منسوخ إلى يوم القيامة . وقيل : محكمة بالحلال والحرام . وقيل : محكمة أريدت مدلولات ألفاظها على الحقيقة دون المتشابه الذي أريد به المجاز ، نحو قوله : { على العرش استوى } [ طه : 5 ] ، { في جنب الله } [ الزمر : 56 ] ، { فضرب الرقاب } . { رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك } : أي تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً . { نظر المغشي عليه } : أي نظراً كما ينظر من أصابته الغشية من أجل حلول الموت . وقيل : يفعلون ذلك ، وهو شخوص البصر إلى الرسول من شدة العداوة . وقيل : من خشية الفضيحة ، فإنهم إن يخالفوا عن القتال افتضحوا وبان نفاقهم . وأولى لهم : تقدم شرحه في المفردات . وقال قتادة : كأنه قال : العقاب أولى لهم . وقيل : وهم المكروه ، وأولى وزنها أفعل أو أفلع على الاختلاف ، لأن الاستفعال الذي ذكرناه في المفردات . فعلى قول الجمهور : إنه اسم يكون مبتدأ ، والخبر لهم . وقيل : أولى مبتدأ ، ولهم من صلته وطاعة خبر ؛ وكأن اللام بمعنى الباء ، كأنه قيل : فأولى بهم طاعة . ولم يتعرض الزمخشري لإعرابه ، وإنما قال : ومعناه الدعاء عليهم بأن يليه المكروه . وعلى قول الأصمعي : أنه فعل يكون فاعله مضمراً يدل عليه المعنى . وأضمر لكثرة الاستعمال كأنه قال : قارب لهم هو ، أي الهلاك . قال ابن عطية : والمشهور من استعمال العرب أولى لك فقط على جهة الحذف والاختصار ، لما معها من القوة ، فيقول ، على جهة الزجر والتوعد : أولى لك يا فلان . وهذه الآية من هذا الباب . ومنه قوله : { أولى لك فأولى } [ القيامة : 34 ] . وقول الصديق للحسن رضي الله عنهما : أولى لك انتهى . والأكثرون على أن : { طاعة وقول معروف } كلام مستقل محذوف منه أحد الجزأين ، إما الخبر وتقديره : أمثل ، وهو قول مجاهد ومذهب سيبويه والخليل ؛ وإما المبتدأ وتقديره : الأمر أو أمرنا طاعة ، أي الأمر المرضي لله طاعة . وقيل : هي حكاية قولهم ، أي قالوا طاعة ، ويشهد له قراءة أبيّ يقولون : { طاعة وقول معروف } ، وقولهم هذا على سبيل الهزء والخديعة . وقال قتادة : الواقف على : { فأولى لهم طاعة } ابتداء وخبر ، والمعنى : أن ذلك منهم على جهة الخديعة . وقيل : طاعة صفة لسورة ، أي فهي طاعة ، أي مطاعة . وهذا القول ليس بشيء لحيلولة الفصل لكثير بين الصفة والموصوف . { فإذا عزم الأمر } : أي جد ، والعزم : الجد ، وهو لأصحاب الأمر . واستعير للأمر ، كما قال تعالى : { إن ذلك لمن عزم الأمور } [ الشورى : 43 ] . وقال الشاعر : @ قـد جـدت بهـم الحـرب فجـدوا @@ والظاهر أن جواب إذاً قوله : { فلو صدقوا الله } ، كما تقول : إذا كان الشتاء ، فلو جئتني لكسوتك . وقيل : الجواب محذوف تقديره : فإذا عزم الأمر هو أو نحوه ، قاله قتادة . ومن حمل { طاعة وقول معروف } ، على أنهم يقولون ذلك خديعة قدّرناه { عزم الأمر } ، فاقفوا وتقاضوا ، وقدره أبو البقاء فأصدّق ، { فلو صدقوا الله } فيما زعموا من حرصهم على الجهاد ، أو في إيمانهم ، وواطأت قلوبهم فيه ألسنتهم ، أو في قلوبهم { طاعة وقول معروف } . { فهل عسيتم } : التفات اللذين في قلوبهم مرض ، أقبل بالخطاب عليهم على سبيل التوبيخ وتوقيفهم على سوء مرتكبهم ، وعسى تقدّم الخلاف في لغتها . وفي القراءة فيها ، إذا اتصل بها ضمير الخطاب في سورة البقرة ، واتصال الضمير بها لغة الحجاز ، وبنو تميم لا يلحقون بها الضمير . وقال أبو عبد الله الرازي : وقد ذكروا أن عسى يتصل بها ضمير الرفع وضمير النصب ، وأنها لا يتصل بها ضمير قال : وأما قول من قال : عسى أنت تقوم ، وعسى أنا أقوم ، فدون ما ذكرنا لك تطويل الذي فيه . انتهى . ولا أعلم أحداً من نقلة العرب ذكر انفصال الضمير بعد عسى ، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط ، وهو أن توليتم . وقرأ الجمهور : { إن توليتم } ، ومعناه إن أعرضتم عن الإسلام . وقال قتادة : كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ؟ ألم يسفكوا الدم الحرام ، وقطعوا الأرحام ، وعصوا الرحمن ؟ يشير إلى ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول . وقال كعب ، ومحمد بن كعب ، وأبو العالية ، والكلبي : إن توليتم ، أي أمور الناس من الولاية ؛ ويشهد لها قراءة وليتم مبنياً للمفعول . وعلى هذا قيل : نزلت في بني هاشم وبني أمية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن توليتم " ؛ بضم التاء والواو وكسر اللام ، وبها قرأ علي وأويس ، أي إن وليتكم ولاية جور دخلتم إلى دنياهم دون إمام العدل . وعلى معنى إن توليتم بالتعذيب والتنكيل وإقفال العرب في جاهليتها وسيرتها من الغارات والثبات ، فإن كانت ثمرتها الإفساد في الأرض وقطيعة الرحم . وقيل معناه : إن تولاكم الناس : وكلكم الله إليهم ؛ والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال ، وهو الذي سبقت الآيات فيه ، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر الله في القتال . و { أن تفسدوا في الأرض } بعدم معونة أهل الإسلام ، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم . ويدل على ذلك { أولئك الذين لعنهم الله } . فالآيات كلها في المنافقين . وهذا التوقع الذي في عسى ليس منسوباً إليه تعالى ، لأنه عالم بما كان وما يكون ، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين ، كأنه يقول لهم : لنا علم من حيث ضياعهم . هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا ؟ وقرأ الجمهور : { تقطعوا } ، بالتشديد على التكثير ، وأبو عمرو ، في رواية ، وسلام ، ويعقوب ، وأبان ، وعصمة : بالتخفيف ، مضارع قطع ؛ والحسن : وتقطعوا ، بفتح التاء والقاف على إسقاط حرف الجر ، أي أرحامكم ، لأن تقطع لازم . { أولئك } إشارة إلى المرضى القلوب ، { فأصمهم } عن سماع الموعظة ، { وأعمى أبصارهم } عن طريق الهدى . وقال الزمخشري : لعنهم الله لإفسادهم وقطعهم الأرحام ، فمنعهم ألطافه ، وخذلهم حتى عموا . انتهى . وهو على طريق الاعتزال . وجاء التركيب : فأصمهم ، ولم يأت فأصم آذانهم ؛ وجاء : وأعمى أبصارهم ، ولم يأت وأعماهم . قيل : لأن الأذن لو أصمت لا تسمع الإبصار ، فالعين لها مدخل في الرؤية ، والأذن لها مدخل في السمع . انتهى . ولهذا جاء : { وعلى سمعهم } [ البقرة : 7 ] ، { وجعل لكم السمع } [ النحل : 78 ] ، ولم يأت : وعلى آذانهم ، ولا يأتي : وجعل لكم الآذان . وحين ذكر الأذن ، نسبت إليه الوقر ، وهو دون الصمم ، كما قال : { وفي آذاننا وقر } [ فصلت : 5 ] . { أفلا يتدبرون } : أي يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة ، وهو استفهام توبيخي وتوقيفي على محاربهم . { أم على قلوبهم أقفالها } : استعارة للذين منهم الإيمان ، وأم منقطعة بمعنى بل ، والهمزة للتقرير ، ولا يستحيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يصل إليها ذكر ، ولم يحتج إلى تعريف القلوب ، لأنه معلوم أنها قلوب من ذكر . ولا حاجة إلى تقدير صفة محذوف ، أي أم على قلوب أقفالها قاسية . وأضاف الأقفال إليها ، أي الأقفال المختصة ، أو هي أقفال الكفر التي استغلقت ، فلا تفتح . وقرىء : إقفالها ، بكسر الهمزة ، وهو مصدر ، وأقفلها بالجمع على أفعل . { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى } قال قتادة : نزلت في قوم من اليهود ، وكانوا عرفوا أمر الرسول من التوراة ، وتبين لهم بهذا الوجه ؛ فلما باشروا أمره حسدوه ، فارتدوا عن ذلك القدر من الهدى . وقال ابن عباس وغيره : نزلت في منافقين كانوا أسلموا ، ثم ماتت قلوبهم . والآية تتناول كل من دخل في ضمن لفظها . وتقدم الكلام على { سوّل } في سورة يوسف . وقال الزمخشري : سول لهم ركوب العظائم ، من السول ، وهو الاسترخاء ، وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعاً . انتهى . وقال أبو علي الفارسي : بمعنى ولا هم من السول ، وهو الاسترخاء والتدلي . وقال غيره : سولهم : رجاهم . وقال ابن بحر : أعطاهم سؤلهم . وقول الزمخشري ، وقد اشتقه إلى آخره ، ليس بجيد ، لأنه توهم أن السول أصله الهمزة . واختلفت المادتان ، أو عين سول واو ، وعين السؤل همزة ؛ والسول له مادتان : إحداهما الهمز ، من سأل يسأل ؛ والثانية الواو ، من سال يسال . فإذا كان هكذا ، فسول يجوز أن يكون من ذوات الهمز . وقال صاحب اللوامح : والتسويل أصله من الإرخاء ، ومنه : { فدلاهما بغرور } [ الأعراف : 22 ] . والسول : استرخاء البطن . وقرأ زيد بن علي : { سول لهم } : أي كيده على تقدير حذف مضاف . وقرأ الجمهور : { وأملى لهم } مبنياً للفاعل ، والظاهر أنه يعود على الشيطان ، وقاله الحسن ، وجعل وعده الكاذب بالبقاء ، كالإبقاء . والإبقاء هو البقاء ملاوة من الدهر يمد لهم في الآمال والأماني . قيل : ويحتمل أن يكون فاعل أملى ضميراً يعود على الله ، وهو الأرجح ، لأن حقيقة الإملاء إنما هو من الله . وقرأ ابن سيرين ، والجحدري ، وشيبة ، وأبو عمرو ، وعيسى : وأملى مبنياً للمفعول ، أي امهلوا ومدوا في عمرهم . وقرأ مجاهد ، وابن هرمز ، والأعمش ، وسلام ، ويعقوب : وأملي بهمزة المتكلم مضارع أملى ، أي وأنا أنظرهم ، كقوله : { إنما نملي لهم } [ آل عمران : 178 ] ، ويجوز أن يكون ماضياً سكنت منه الياء ، كما تقول في يعي بسكون الياء . { ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل } . وروي أن قوماً من قريظة والنضير كانوا يعينون المنافقين في أمر الرسول ، والخلاف عليه بنصره ومؤازرته ، وذلك قوله : { سنطيعكم في بعض الأمر } . وقيل : الضمير في قالوا للمنافقين ؛ والذين كرهوا مانزل الله : هم قريظة والنضير ؛ وبعض الأمر : قول المنافقين لهم : { لئن أخرجتم لنخرجن معكم } [ الحشر : 11 ] ، قاله ابن عباس . وقيل : بعض الأمر : التكذيب بالرسول ، أو بلا إله إلا الله ، أو ترك القتال معه . وقيل : هو قول الفريقين ، اليهود والمنافقين ، للمشركين : سنطيعكم في التكافؤ على عداوة الرسول والقعود عن الجهاد معه ، وتعين في بعض الأمر في بعض ما يأسرون به ، أو في بعض الأمر الذي يهمكم . وقرأ الجمهور : أسرارهم ، بفتح الهمزة ، وكانت أسرارهم كثيرة . وابن وثاب ، وطلحة ، والأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص : بكسرها : وهو مصدر ؛ قالوا ذلك سراً فيما بينهم ، وأفشاه الله عليهم . وقال أبو عبد الله الرازي : الأظهر أن يقال : والله يعلم أسرارهم ، ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد عليه السلام ، فإنهم كانوا معاندين مكابرين ، وكانوا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يعرفون أبناءهم . انتهى . { فكيف إذا توفتهم الملائكة } : تقدم شرح : { الذين في قلوبهم مرض } ، ومبلغهم لأجل القتال . وتقدم قول المرتدين ، وما يلحقهم في ذلك من جزائهم على طواعية الكاذبين ما أنزل الله . وتقدم : { والله يعلم إسرارهم } ؛ فجاء هذا الاستفهام الذي معناه التوقيف عقب هذه الأشياء . فقال الطبري : فكيف علمه بها ، أي بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة ؟ وقيل : فكيف يكون حالهم مع الله فيما ارتكبوه من ذلك القول ؟ وقرأ الأعمش : توفاهم ، بألف بدل التاء ، فاحتمل أن يكون ماضياً ومضارعاً حذفت منه التاء ، والظاهر أن وقت التوفي هو عند الموت . وقال ابن عباس : لا يتوفى أحد على معصيته إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره . والملائكة : ملك الموت والمصرفون معه . وقيل : هو وقت القتال نصرة للرسول ؛ يضرب وجوههم أن يثبتوا ؛ وأدبارهم : انهزموا . والملائكة ملائكة : النصر . والظاهر أن يضربون حال من الملائكة ؛ وقيل : حال من الضمير في توفاهم ، وهو ضعيف . { ذلك } : أي ذلك الضرب للوجوه والأدبار ؛ { بأنهم اتبعوا ما أسخط الله } : وهو الكفر ، أو كتمان بعث الرسول ، أو تسويل الشيطان ، أقوال . والمتبع الشيء هو مقبل بوجهه عليه ، فناسب ضرب الملائكة وجهه . { وكرهوا رضوانه } : وهو الإيمان بالله واتباع دينه . والكافر للشيء متول عنه ، فناسب ضرب الملائكة دبره ؛ ففي ذلك مقابلة أمرين بأمرين .