Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 49-50)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وأن احكم بينهم بما أنزل الله } قال ابن عباس : قال بعض اليهود لبعض منهم ابن صوريا وشاس بن قيس وكعب بن أسيد : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم ، وإنْ اتبعناك اتبعك كل اليهود ، وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن بك ، فأبى ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فنزلت . وقال مقاتل : قال جماعة من بني النضير له : هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا بني قريظة في أمر الدماء كما كنا عليه من قبل ، ونبايعك ؟ فنزلت . قال القاضي أبو يعلى : وليس هذه الآية تكراراً لما تقدم ، وإنما نزلت في شيئين مختلفين : أحدهما : شأن الرجم ، والآخر التسوية انتهى . وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله : { أو أعرض عنهم } [ المائدة : 42 ] وتقدم ذكر ذلك وأجازوا في : وأن احكم ، أن يكون في موضع نصب عطفاً على الكتاب ، أي : والحكم . وفي موضع جر عطفاً على بالحق ، وفي موضع رفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر مؤخراً ، والتقدير : وحكمك بما أنزل أنزل الله أمرنا وقولنا . أو مقدماً والتقدير : ومن الواجب حكمك بما أنزل الله . وقيل : أنْ تفسيرية ، وأبعد ذلك من أجل الواو ، ولا يصح ذلك بأن يقدر قبل فعل الأمر فعلاً محذوفاً فيه معنى القول أي : وأمرناك أن احكم ، لأنه يلزم من ذلك حذف الجملة المفسرة بأن وما بعدها ، وذلك لا يحفظ من كلام العرب . وقُرىء بضم النون من : وأن احكم ، اتباعاً لحركة الكاف ، وبكسرها على أصل التقاء الساكنين . والضمير في بينهم عائد على اليهود . وقيل : على جميع المتحاكمين . { ولا تتبع أهوائهم } تقدم شرح هذه الجملة . { واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك } أي يستزلوك . وحذره عن ذلك ، وإنْ كان مأيوساً من فتنتهم إياه لقطع أطماعهم ، وقال : عن بعض ، لأن الذي سألوه هو أمر جزئي ، سألوه أن يقضي لهم فيه على خصومهم فأبى منه . وموضع أن يفتنوك نصب على البدل ، ويكون مفعولاً من أجله . { فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } أي فإنْ تولوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره . ومعنى : أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، أن يعذبهم ببعض آثامهم . وأبهم بعضاً هنا ويعني به والله أعلم التولي عن حكم الله وإرادة خلافه ، فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك ، وأراد أنهم ذوو ذنوب جمة كثيرة لا العدد ، وهذا الذنب مع عظمه وهذا الإبهام فيه تعظيم التولي ، وفرط إسرافهم في ارتكابه ، ونظيره قول لبيد : @ أو يـرتبـط بعـض النفـوس حمـامهـا @@ أراد نفسه وقصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام ، كأنه قال : نفساً كبيرة أو نفساً أي نفس ، وهذا الوعد بالمصيبة قد أنجزه له تعالى بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر رضي الله عنه أهل خيبر وفدك وغيرهم . قال ابن عطية : وخصص إصابتهم ببعض الذنوب ، لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان : نوع يخصهم كشرب الخمر وزناهم ورشاهم ، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كممالأتهم للكفار ، وأقوالهم في الدين ، فهذا النوع هو الذي توعدهم الله به في الدنيا ، وإنما يعذبون بكل الذنوب في الآخرة . وقال ابن عطية أيضاً : فإن تولوا قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر تقديره : لا تتبع واحذر ، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك ، وإن تولوا فاعلم . ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل لقوله : لفاسقون انتهى . ولا يحتاج إلى تقدير هذا . { وإن كثيراً من الناس لفاسقون } أي متمردون مبالغون في الخروج عن طاعة الله . وقال ابن عباس : المراد بالفسق هنا الكفر . وقال مقاتل : المعاصي . وقال ابن زيد : الكذب وظاهر الناس العموم ، وإنْ كان السياق في اليهود ، وجاء بلفظ العموم لينبه من سواهم . ويحتمل أن يكون الناس للعهد ، وهم اليهود الذين تقدم ذكرهم . { أفحكم الجاهلية يبغون } هذا استفهام معناه الإنكار على اليهود ، حيث هم أهل كتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى ، ومع ذلك يعرضون عن حكم الله ويختارون عليه حكم الجاهلية ، وهو بمجرد الهوى من مراعاة الأشرف عندهم ، وترجيح الفاضل عندهم في الدنيا على المفضول ، وفي هذا أشد النعي عليهم حيث تركوا الحكم الإلهي بحكم الهوى والجهل . وقال الحسن : هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله . والحكم حكمان : حكم بعلم ، فهو حكم الله . وحكم بجهل فهو حكم الشيطان . وسئل عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فقرأ هذه الآية . وقرأ الجمهور : أفحكمَ بنصب الميم ، وهو مفعول يبغون . وقرأ السلمي ، وابن وثاب ، وأبو رجاء ، والأعرج : أفحكمُ الجاهلية برفع الميم على الابتداء . والظاهر أن الخبر هو قوله : يبغون ، وحسن حذف الضمير قليلاً في هذه القراءة كون الجملة فاصلة . وقال ابن مجاهد : هذا خطأ . قال ابن جني : وليس كذلك ، وجد غيره أقوى منه وقد جاء في الشعر انتهى . وفي هذه المسألة خلاف بين النحويين . وبعضهم يجيز حذف هذا الضمير في الكلام ، وبعضهم يخصه بالشعر ، وبعضهم يفصل . وهذه المذاهب ودلائلها مذكورة في علم النحو . وقال الزمخشري : وإسقاط الراجع عنه كإسقاطه عن الصلة في { أهذا الذي بعث الله رسولاً } [ الفرقان : 41 ] وعن الصفة في : الناس رجلان ، رجل أهنت ورجل أكرمت . وعن الحال في : مررت بهند تضرب زيداً انتهى . فإنْ كان جعل الإسقاط فيه مثل الإسقاط في الجواز والحسن ، فليس كما ذكر عند البصريين ، بل حذفه من الصلة بشروط الحذف فصيح ، وحذفه من الصفة قليل ، وحذفه من الخبر مخصوص بالشعر ، أو في نادر . وإن كان شبهه به من حيث مطلق الإسقاط فهو صحيح . وقال ابن عطية : وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير : أفحكم الجاهلية حكم تبغون ، فلا تجعل تبغون خبراً بل تجعل صفة خبر محذوف ، ونظيره : { من الذين هادوا يحرفون } [ النساء : 46 ] تقديره قوم يحرفون انتهى . وهو توجيه ممكن . وقرأ قتادة والأعمش : أفحكَمَ بفتح الحاء والكاف والميم ، وهو جنس لا يراد به واحد كأنه قيل : أحكام الجاهلية وهي إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان وهي رشا الكهان ، ويحكمون لهم بحسبه وبحسب الشهوات ، أرادوا بسفههم أن يكون خاتم النبيين حكماً كأولئك الحكام . وقرأ الجمهور : يبغون بالياء على نسق الغيبة المتقدّمة . وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب ، وفيه مواجهتهم بالإنكار والرّدع والزجر ، وليس ذلك في الغيبة ، فهذه حكمة الالتفات والخطاب ليهود قريظة والنضير . { ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون } أي لا أحد أحسن من الله حكماً . وتقدّم { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فجاءت هذه الآية مشيرة لهذا المعنى والمعنى : أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل . وهو استفهام معناه التقرير ، ويتضمن شيئاً من التكبر عليهم . واللام في : لقوم يوقنون ، للبيان فتتعلق بمحذوف أي : في هيت لك وسقياً لك أي : هذا الخطاب . وهذا الاستفهام لقوم يوقنون قاله الزمخشري . وقال ابن عطية : وحسن دخول اللام في لقوم من حيث المعنى يبين ذلك ، ويظهر لقوم يوقنون . وقيل : اللام بمعنى عند أي عند قوم يوقنون ، وهذا ضعيف . وقيل : تتعلق بقوله : حكماً ، أي أن أحكم الله للمؤمن على الكافر . ومتعلق يوقنون محذوف تقديره : يوقنون بالقرآن قاله ابن عباس . وقيل : يوقنون بالله تعالى قاله مقاتل . وقال الزجاج : يوقنون يثبتون عهد الله تعالى في حكمه ، وخصوا بالذكر لسرعة إذعانهم لحكم الله وأنهم هم الذين يعرفون أن لا أعدل منه ولا أحسن حكماً .