Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 40-48)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

السَّحْت والسحُت بسكون الحاء وضمها الحرام ، سمي بذلك لأنه يسحت البركة أي يذهبها . يقال : سحته الله أي أهلكه ، ويقال : أسحته ، وقرىء بهما في قوله : { فيسحتكم بعذاب } [ طه : 61 ] أي يستأصلكم ويهلككم ، ومنه قول الفرزدق : @ وعض زمان يا ابن مروان لم يدع من المال إلا مسحتاً أو مجلف @@ ومصدر الثلاثي سحت بفتحتين ، وسحت بإسكان الحاء . وقال الفراء : أصل السحت كلب الجوع ويقال : فلان مسحوت المعدة إذا كان لا يلقى أبداً إلا خائفاً ، وهو راجع لمعنى الهلاك . الحبر : بفتح الحاء وكسرها العالم ، وجمعه الأحبار . وكان أبو عبيد ينكر ذلك ويقول : هو بفتح الحاء . وقال الفراء : هو بالكسر ، واختار أبو عبيد الفتح . وتسمى هذه السورة سورة الأحبار ، ويقال : كعب الأحبار . والحبر بالكسر الذي يكتب به ، وينسب إليه الحبري الحبار . ويقال : كتب الحبر لمكان الحبر الذي يكتب به ، وسمي حبراً لتحسينه الخط وتبيينه إياه . وقيل : سمي حبراً لتأثيره في الموضع الذي يكون به من الحبار وهو الأثر . العين : حاسة الرؤية وهي مؤنثة ، وتجمع في القلة على أعين وأعيان ، وفي الكثرة على عيون . وقال الشاعر : @ ولكنني أغدو عليّ مفاضة دلاص كأعيان الجراد المنظم @@ ويقال للجاسوس : ذو العينين ، والعين لفظ مشترك بين معان كثيرة ذكرها اللغويون . الأنف : معروف والجمع آناف وأنف وأنوف . المهيمن : الشاهد الرقيب على الشيء الحافظ له ، وهو اسم فاعل من هيمن قالوا : ولم يجيء على هذا الوزن إلا خمسة ألفاظ : هيمن ، وسيطر ، وبيطر ، وحيمر ، وبيقر ، ذكر هذا الخامس الزجاجي في شرحه خطبة أدب الكاتب ، ومعناه : سار من الحجاز إلى اليمن ، ومن أفق إلى أفق . وهيمن بنا أصل . وذهب بعض اللغويين إلى أنّ مهيمناً اسم فاعل من أمن غيره من الخوف قال : فأصله مأمن قلبت الهمزة الثانية ياء كراهة اجتماع الهمزتين فصار مؤيمن ، ثم أبدلت الهمزة الأولى هاء كما قالوا : اهراق في اراق ، وهياك في إياك ، وهذا تكلف لا حاجة إليه ، وقد ثبت نظير هذا الوزن في ألفاظ فيكون هذا منها . وأيضاً فالهمزة في مؤمن اسم فاعل من آمن قد سقطت كراهة اجتماع الهمزتين ، فلا يدعي أنها أقرت وأبدل منها . وأما ما ذهب إليه ابن قتيبة من أنه تصغير مؤمن ، وأبدلت همزته هاء ، فقد كتب إليه أبو العباس المبرد يحذره من هذا القول . واعلم أنّ أسماء الله تعالى لا تصغر . الشرعة : السنة والطريقة شرع يشرع شرعاً أي سنّ ، والشارع الطريق الأعظم ، ومنزل شارع إذا كان بابه قد شرع إلى طريق نافذ . المنهاج والمنهج : الطريق الواضح ، ونهج الأمر استبان ، ونهجت الطريق أبنته وأوضحته ، ونهجت الطريق سلكته . { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } روي عن أبي هريرة وابن عباس وجماعة : أن سبب نزولها أنّ يهودياً زنى بيهودية ، قيل : بالمدينة . وقيل : بغيرها من أرض الحجاز ، فسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم وطمعوا أن يكون غير الرجم حدهما ، وكان في التوراة رجم ، فأنكروا ذلك أن يكون في التوراة وافتضحوا إذ أحضروها ، وحكم الرسول فيهما بالرجم وأنفذه . وقال قتادة : السبب أنّ بني النضير كانوا إذا غزوا بني قريظة ، فإن قتل قرظي نضيرياً قتل به ، أو نضيري قرظياً أعطى الدية . وقيل : كانت دية القرظي على نصف دية النضيري ، فلما جاء الرسول المدينة طلبت قريظة الاستواء لأنهما ابناء عم ، وطلبت الحكومة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت بنو النضير : إنْ حكم بما نحن عليه فخذوه ، وإلا فاحذروا . وقال السدي : نزلت في رجل من الأنصار وهذا بعيد من مساق الآية . وذكروا أن هذا الرجل هو أبو لبابة بن عبد المنذر ، أشارت إليه قريظة يوم حصرهم علام ينزل من الحكم ، فأشار إلى حلقه بمعنى أنه الذبح . وقال الشعبي : نزلت في قوم من اليهود قتل واحد منهم آخر ، فكلفوا رجلاً من المسلمين أن يسأل الرسول قالوا : فإنْ أفتى بالدية قبلنا ، وإن أفتى بالقتل لم نقبل . وهذا نحو من قول قتادة في النضير وقريظة . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما بين أحكام الحرابة والسرقة ، وكان في ذكر المحاربين أنهم يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً ، أمره تعالى أن لا يحزن ولا يهتم بأمر المنافقين ، وأمر اليهود من تعنتهم وتربصهم به وبمن معه الدوائر ونصبهم له حبائل المكروه ، وما يحدث لهم من الفساد في الأرض . ونصب المحاربة لله ولرسوله وغير ذلك من الرذائل الصادرة عنهم . ونداؤه تعالى له : يا أيها الرسول هنا ، وفي { يا أيها الرسول بلغ } [ المائدة : 67 ] ويا أيها النبي في مواضع تشريف وتعظيم وتفخيم لقدره ، ونادى غيره من الأنبياء باسمه فقال : { يا آدم اسكن } [ البقرة : 35 ] و { يا نوح اهبط } [ هود : 48 ] { يا ابراهيم قد صدّقت الرؤيا } [ الصافات : 104 - 105 ] { يا موسى إني اصطفيتك } [ الأعراف : 144 ] { يا عيسى إني متوفيك } [ آل عمران : 55 ] { يا يحيى خذ الكتاب } [ مريم : 12 ] . وقال مجاهد وعبد الله بن كثير : من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، هم اليهود المنافقون ، وسماعون للكذب هم اليهود . والمعنى على هذا : لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفر واليهود بإظهار ما يلوح لهم من آثار الكفر وهو كيدهم للإسلام وأهله ، فإنّ ناصرك عليهم ويقال : أسرع فيه السبب ، وأسرع فيه الفساد ، إذا وقع فيه سريعاً . ومسارعتهم في الكفر وقوعهم وتهافتهم فيه . أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطئوها ، وتكون من الأولى والثانية على هذا تنبيهاً وتقسيماً للذين يسارعون في الكفر ، ويكون سماعون خبر مبتدأ محذوف أي : هم سماعون ، والضمير عائد على المنافقين وعلى اليهود . ويدل على هذا المعنى قراءة الضحاك : سماعين ، وانتصابه على الذم نحو قوله : @ أقارع عوف لا أحاول غيرها وجوه قرود تبتغي من تخادع @@ ويجوز أن يكون : { ومن الذين هادوا } [ النساء : 46 ] استئنافاً ، وسماعون مبتدأ وهم اليهود ، وبأفواههم متعلق بقالوا لا بآمنا والمعنى : أنهم لم يجاوز قولهم أفواههم ، إنما نطقوا بالإيمان خاصة دون اعتقاد . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى : لا يحزنك المسارعون في الكفر من اليهود ، وصفهم بأنهم قالوا : آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم إلزاماً منهم ذلك من حيث حرفوا توراتهم وبدلوا أحكامها ، فهم يقولون بأفواههم : نحن مؤمنون بالتوراة وبموسى ، وقلوبهم غير مؤمنة من حيث بدلوا وجحدوا ما فيها من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما ينكرونه . ويؤيد هذا التأويل قوله تعالى بعد هذا { وما أولئك بالمؤمنين } ويجيء على هذا التأويل قوله : من الذين قالوا كأنه قال : ومنهم ، ولكنْ صرّح بذكر اليهود من حيث الطائفة السماعة غير الطائفة التي تبدّل التوراة على علم منها انتهى . وهو احتمال بعيد متكلف ، وسماعون من صفات المبالغة ، ولا يراد به حقيقة السماع إلا إن كان للكذب مفعولاً من أجله ، ويكون المعنى : إنهم سماعون منك أقوالك من أجل أن يكذبوا عليك ، وينقلون حديثك ، ويزيدون مع الكلمة أضعافها كذباً . وإن كان للكذب مفعولاً به لقوله : سماعون ، وعدى باللام على سبيل التقوية للعامل ، فمعنى السماع هنا قبولهم ما يفتريه أحبارهم ويختلقونه من الكذب على الله وتحريف كتابه من قولهم : الملك يسمع كلام فلان ، ومنه " سمع الله لمن حمده " وتقدم ذكر الخلاف في قراءة يحزنك ثلاثياً ورباعياً . وقرأ السلمي : يسرعون بغير ألف من أسرع . وقرأ الحسن وعيسى بن عمر : للكذب بكسر الكاف وسكون الذال . وقرأ زيد بن عليّ : الكذب بضم الكاف والذال جمع كذوب ، نحو صبور وصبر ، أي : سماعون للكذب الكذب . { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } فيحتمل أن يكون المعنى : سماعون لكذب قوم آخرين لم يأتوك أي كذبهم ، والذين لم يأتوه يهود فدك . وقيل : يهود خيبر . وقيل : أهل الرأيين . وقيل : أهل الخصام في القتل والدية . ويحتمل أن يكون المعنى : سماعون لأجل قوم آخرين ، أي هم عيون لهم وجواسيس يسمعون منك وينقلون لقوم آخرين ، وهذا الوصف يمكن أن يتصف به المنافقون ، ويهود المدينة . وقيل : السماعون بنو قريظة ، والقوم الآخرون يهود خيبر . وقيل لسفيان بن عيينة : هل جرى ذكر الجاسوس في كتاب الله ؟ فقال : نعم . وتلا هذه الآية سماعون لقوم آخرين ، لم يأتوك : صفة لقوم آخرين . ومعنى لم يأتوك : لم يصلوا إلى مجلسك وتجافوا عنك لما فرط منهم من شدّة العداوة والبغضاء ، فعلى هذا الظاهر أن المعنى : هم قائلون من الأحبار كذبهم وافتراؤهم ، ومن أولئك المفرطين في العداوة الذين لا يقدرون أن ينظروا إليك . { يحرّفون الكلم من بعض مواضعه } قرئ الكلم بكسر الكاف وسكون اللام أي : يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعها الله فيها . قال ابن عباس والجمهور : هي حدود الله في التوراة ، وذلك أنهم غيروا الرجم أي : وضعوا الجلد مكان الرجم . وقال الحسن : يغيرون ما يسمعون من الرسول عليه السلام بالكذب عليه . وقيل : بإخفاء صفة الرسول . وقيل : بإسقاط القود بعد استحقاقه . وقيل : بسوء التأويل . قال الطبري : المعنى يحرفون حكم الكلام ، فحذف للعلم به انتهى . ويحتمل أن يكون هذا وصفاً لليهود فقط ، ويحتمل أن يكون وصفاً لهم وللمنافقين فيما يحرفونه من الأقوال عند كذبهم ، لأن مبادىء كذبهم يكون من أشياء قيلت وفعلت ، وهذا هو الكذب الذي يقرب قبوله . ومعنى من بعد مواضعه : قال الزجاج من بعد أن وضعه الله مواضعه ، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه . { يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه } الإشارة بهذا قيل : إلى التحميم والجلد في الزنا . وقيل : إلى قبول الدية في أمر القتل . وقيل : على إبقاء عزة النضير على قريظة ، وهذا بحسب الاختلاف المتقدم في سبب النزول . وقال الزمخشري : إن أوتيتم ، هذا المحرّف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق ، واعملوا به انتهى . وهو راجع لواحد مما ذكرناه ، والفاعل المحذوف هو الرسول أي : إن أتاكم الرسول هذا . { وإن لم تؤتوه فاحذروا } أي : وإنْ أفتاكم محمد بخلافه فاحذروا وإياكم من قبوله فهو الباطل والضلال . وقيل : فاحذروا أن تعلموه بقوله السديد . وقيل : أن تطلعوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به . وقيل : فاحذروا أن تسألوه بعدها ، والظاهر الأول لأنه مقابل لقوله : فخذوه . فالمعنى : وإن لم تؤتوه وأتاكم بغيره فاحذروا قبوله . { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } قال الحسن وقتادة : فتنته أي عذابه بالنار . ومنه يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون . وقال الزجاج : فضيحته . وقيل : اختباره لما يظهر به أمره . وقيل : إهلاكه . وقال ابن عباس ومجاهد : كفره وإضلاله ، يقال : فتنه عن دينه صرفه عنه ، وأصله فلن يقدر على دفع ما يريد الله منه . وقال الزمخشري : ومن يرد الله فتنته تركه مفتوناً وخذلانه ، فلن تستطيع له من لطف الله وتوفيقه شيئاً انتهى . وهذا على طريقة الاعتزال . وهذه الجملة جاءت تسلية للرسول وتخفيفاً عنه من ثقل حزنه على مسارعتهم في الكفر . وقطعاً لرجائه من فلاحهم . { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } أي سبق لهم في علم الله ذلك ، وأن يكونوا مدنسين بالكفر . وفي هذا وما قبله ردّ على القدرية والمعتزلة . وقال الزمخشري : أولئك الذين لم يرد الله أن يمنحهم من ألطافه ما يطهر به قلوبهم ، لأنهم ليسوا من أهلها لعلمه أنها لا تنفع ولا تنجع فيها . إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله كيف يهدي الله قوماً كفروا بعد إيمانهم انتهى . وهو على مذهبه الاعتزالي . { لهم في الدنيا خزي } أي ذل وفضيحة . فخزي المنافقين بهتك سترهم وخوفهم من القتل إن اطلع على كفرهم المسلمون ، وخزي اليهود تمسكنهم وضرب الجزية عليهم ، وكونهم في أقطار الأرض تحت ذمّة غيرهم وفي إيالته . وقال مقاتل : خزي قريظة بقتلهم وسبيهم ، وخزي بني النضير بإجلائهم . { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وصف بالعظم لتزايده فلا انقضاء له ، أو لتزايد ألمه أو لهما . { سماعون للكذب أكالون للسحت } قال الحسن : يسمعون الكلام ممن يكذب عندهم في دعواه فيأتيهم برشوة فيأخذونها . وقال أبو سليمان : هم اليهود ويسمعون الكذب ، وهو قول بعضهم لبعض : محمد كاذب ليس بنبي ، وليس في التوراة الرجم ، وهم يعلمون كذبهم . وقيل : الكذب هنا شهادة الزور انتهى . وهذا الوصف إن كان قوله أوّلاً : سماعون للكذب ، وصفاً لبني إسرائيل . وتقدم أن السحت المال الحرام . واختلف في المراد به هنا ، فعن ابن مسعود : أنه الرشوة في الحكم ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن ، وثمن الكلب ، والنرد ، والخمر ، والخنزير ، والميتة ، والدم ، وعسب الفحل ، وأجرة النائحة والمغنية ، والساحر ، وأجر مصوّر التماثيل ، وهدية الشفاعة . قالوا وسمي سحتاً المال الحرام لأنه يسحت الطاعات أو بركة المال أو الدين أو المروءة وعن ابن مسعود ومسروق : أن المال المأخوذ على الشفاعة سحت . وعن الحسن : أنّ ما أكل الرجل من مال من له عليه دين سحت . وقيل لعبد الله : كنا نرى أنه ما أخذ على الحكم يعنون الرشا ، قال : ذلك كفر ، قال تعالى { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } . وقال أبو حنيفة : إذا ارتشى الحاكم يعزل ، وفي الحديث : " كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به " وقال علي وأبو هريرة : كسب الحجام سحت ، يعني أنه يذهب المروءة ، وما ذكر في معنى السحت فهو من أمثلة المال الذي لا يحل كسبه . ومن أعظم السحت الرشوة في الحكم ، وهي المشار إليها في الآية . كان اليهود يأخذون الرشا على الأحكام وتحليل الحرام . وعن الحسن : كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحدهم برشوة جعلها في كمه فأراه إياها ، وتكلم بحاجته ، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيأكل الرشوة ويسمع الكذب . وقرأ النحويان وابن كثير : السحت بضمتين . وقرأ باقي السبعة : بإسكان الحاء . وزيد بن علي وخارجة بن مصعب عن نافع : بفتح السين وإسكان الحاء ، وقرىء بفتحتين . وقرأ عبيد بن عمير : بكسر السين وإسكان الحاء ، فبالضم والكسر والفتحتين اسم المسحوت كالدهن والرّعي والنبض ، وبالفتح والسكون مصدر أريد به المفعول كالصيد بمعنى المصيد ، أو سكنت الحاء طلباً للخفة . { فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } أي فإن جاؤوك للحكم بينهم فأنت مخير بين أن تحكم ، أو تعرض . والظاهر بقاء هذا الحكم من التخيير لحكام المسلمين . وعن عطاء ، والنخعي ، والشعبي ، وقتادة ، والأصم ، وأبي مسلم ، وأبي ثور : أنهم إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين ، فإن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا أعرضوا . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وعطاء الخراساني ، وعمر بن عبد العزيز ، والزهري : التخيير منسوخ بقوله : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] فإذا جاؤوا فليس للإمام أن يردهم إلى أحكامهم . والمعنى عند غيرهم : وأن احكم بينهم بما أنزل الله إذا اخترت الحكم بينهم دون الإعراض عنهم . وعن أبي حنيفة : إنْ احتكموا إلينا حملوا على حكم الإسلام ، وأقيم الحدّ على الزاني بمسلمة ، والسارق من مسلم . وأما أهل الحجاز فلا يرون إقامة الحدود عليهم ، يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود ، ويقولون : إنّ رجم اليهوديين كان قبل نزول الجزية . وقال ابن عطية : الأمة مجمعة على أنّ حاكم المسلمين يحكم بين أهل الذمة في التظالم ، ويتسلط عليهم في تغيير ، ومن ذلك حبس السلع المبيعة وغصب المال . فأما نوازل الأحكام التي لا تظالم فيها ، وإنما هي دعاء ومحتملة ، فهي التي يخير فيها الحاكم انتهى . وفيه بعض تلخيص . وظاهر الآية يدل على مجيء المتداعيين إلى الحاكم ، ورضاهما بحكمه كاف في الإقدام على الحكم بينهما . وقال ابن القاسم : لا بد مع ذلك من رضا الأساقفة والرهبان ، فإنْ رضي الأساقفة دون الخصمين ، أو الخصمان دون الأساقفة ، فليس له أن يحكم . وقال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والزهري ، وغيرهم : فإن جاؤوك يعني أهل نازلة الزانيين ، ثم الآية تتناول سائر النوازل . وقال قوم : في قتيل اليهود من قريظة والنضير . وقال قوم : التخيير مختص بالمعاهدين لازمة لهم . ومذهب الشافعي : أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه ، لأنّ في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم ، فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب عليه أن يحكم بينهم ، بل يتخير في ذلك ، وهو التخيير الذي في الآية وهو مخصوص بالمعاهدين . وروي عن الشافعي مثل قول عطاء والنخعي . { وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً } أي أنت آمن من ضررهم ، منصور عليهم على كل حال . وكانوا يتحاكمون إليه لطلب الأيسر والأهون عليهم ، فالجلد مكان الرجم ، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وتكرهوا إعراضه عنهم ، وكانوا خلقاء بأن يعادوه ويضروه ، فأمنه الله منهم ، وأخبره أنهم ليسوا قادرين على شيء من ضرره . { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } أي : وإن أردت الحكم بالقسط بالعدل كما تحكم بين المسلمين . والقسط : هو المبين في قوله { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] ، وهو صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالقسط ، فهو أمر معناه الخبر أي : فحكمك لا يقع إلا بالعدل ، لأنك معصوم من اتباع الهوى . { إن الله يحب المقسطين } وأنت سيدهم ، فمحبته إياك أعظم من محبته إياهم . وفيه حث على توخي القسط وإيثاره ، حيث ذكر الله أنه يحب من اتصف به . { وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله } هذا تعجيب من تحكيمهم إياه مع أنهم لا يؤمنون به ولا بكتابه . وفي كتابهم الذي يدعون الإيمان به حكم الله تعالى نص جلي ، فليسوا قاصدين حكم الله حقيقة ، وإنما قصدوا بذلك أن يكون عنده صلى الله عليه وسلم رخصة فيما تحاكموا إليه فيه اتباعاً لأهوائهم ، وأنهماكاً في شهواتهم . ومن عدل عن حكم الله في كتابه الذي يدعي أنه مؤمن به إلى تحكيم من لا يؤمن به ولا بكتابه ، فهو لا يحكم إلا رغبة فيما يقصده من مخالفة كتابه . وإذا خالفوا كتابهم لكونه ليس على وفق شهواتهم ، فلأنْ يخالفوك إذا لم توافقهم أولى وأحرى . والواو في : وعندهم ، للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر ، وقوله : فيها . حكم الله ، حال من التوراة ، وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي : كائناً فيها حكم الله . ويجوز أن يكون فيها في موضع رفع خبراً عن التوراة كقولك : وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله . أو لا محل له ، وتكون جملة مبينة ، لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كما تقول : عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره ؟ وهذان الإعرابان للزمخشري . { ثم يتولون من بعد ذلك } أي من بعد تحكيمك الموافق لما في كتابهم ، لأن التعجيب من التحكيم إنما كان بعد صدوره منهم ، ثم تولوا عنه ولم يرضوا به . وقال ابن عطية : من بعد ذلك ، أي من بعد حكم الله في التوراة وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمر الله انتهى . وهذه الجملة مستأنفة أي : ثم هم يتولون بعد . وهي أخبار من الله بتوليهم على عادتهم في أنهم إذا وضح لهم الحق أعرضوا عنه وتولوا . قال الزمخشري : ( فإن قلت ) : علام عطف ثم يتولون ؟ ( قلت ) : على يحكمونك انتهى . ويكون إذ ذاك داخلاً في الاستفهام الذي يراد به التعجب ، أي ثمّ كيف يتولون بعد ذلك ، فيكون قد تعجب من تحكيمهم إياه ، ثم من توليهم عنه . أي : كيف رضوا به ثم سخطوه ؟ . { وما أولئك بالمؤمنين } ظاهره نفي الإيمان عنهم ، أي : من حكم الرسول ، وخالف كتابه ، وأعرض عما حكم له ، إذ وافى كتابه فهو كافر . وقيل : هو إخبار عنهم أنهم لا يؤمنون أبداً ، فهو خبر عن المستقبل لا الماضي . وقيل : نفي الإيمان بالتوراة وبموسى عنهم . وقيل : هو تعليق بقوله : وكيف يحكمونك ، أي اعجب لتحكيمهم إياك ، وليسوا بمؤمنين بك ، ولا معتقدين في صحة حكمك ، وذلك يدل على أنهم إنما قصدهم تحصيل منافع الدنيا وأغراضهم الفاسدة دون اتباع الحق . { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن : نزلت في الجاحدين حكم الله ، وهي عامة في كل من جحد حكم الله . وقال البراء بن عازب : نزل { يا أيها لرسول - إلى - فأولئك هم الكافرون } في اليهود خاصة وذكر قصة رجم اليهوديين . وقيل لحذيفة : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } نزلت في بني إسرائيل ؟ قال نعم . وقال الحسن وأبو مجلز وأبو جعفر : هي في اليهود . وقال الحسن : هي علينا واجبة . وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما نزلت هذه الآية : : " نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان " وفي الآية ترغيب لليهود بأن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم ، وتنبيه المنكرين لوجوب الرجم . وقال جماعة : الهدى والنور سواء ، وكرر للتأكيد . وقال قوم : ليسا سواء ، فالهدى محمول على بيان الأحكام ، والنور والبيان للتوحيد والنبوة والمعاد . قال الزمخشري : يهدي للعدل والحق ، ونور يبين ما استبهم من الأحكام . وقال ابن عطية : الهدى الإرشاد المعتقد والشرائع ، والنور ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها . وقيل : المعنى فيها بيان أمر الرسول وما جاءوا يستفتون فيه . { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } ظاهر قوله : النبيون ، الجمع . قالوا : وهم من لدن موسى إلى عيسى . وقال عكرمة : محمد ومن قبله من الأنبياء . وقيل : النبيون الذين هم على دين ابراهيم . وقال الحسن والسدي : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك حين حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كقوله : { أم يحسدون الناس } [ النساء : 54 ] { والذين أسلموا } وصف مدح الأنبياء كالصفات التي تجري على الله تعالى ، وأريد بإجرائها التعريض باليهود والنصارى ، حيث قالت اليهود : إن الأنبياء كانوا يهوداً ، والنصارى قالت : كانوا نصارى ، فبين أنهم كانوا مسلمين ، كما كان ابراهيم عليه السلام . ولذلك جاء : { هو سماكم المسلمين من قبل } [ الحج : 78 ] ونبه بهذا الوصف أنّ اليهود والنصارى بعداء من هذا الوصف الذي هو الإسلام ، وأنه كان دين الأنبياء كلهم قديماً وحديثاً . والظاهر أنّ الذين هادوا متعلق بقوله : يحكم بها النبيون . وقيل : بأنزلنا . وقيل : التقدير هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون . وفي قوله : للذين هادوا ، تنبيه على أنهم ليسوا مسلمين ، بل هم بعداء من ذلك . واللام في للذين هادوا إذا علقت بيحكم للاختصاص ، فيشمل من يحكم له ومن يحكم عليه . وقيل : ثم محذوف أي : للذين هادوا وعليهم . وقيل : اللام بمعنى على ، أي على الذين هادوا . { والربانيون والأحبار } هما بمعنى واحد ، وهم العلماء . قاله الأكثرون ومنهم : ابن قتيبة والزجاج . وقال مجاهد : الربانيون الفقهاء العلماء ، وهم فوق الأحبار . وقال السدي : الربانيون العلماء ، والأحبار الفقهاء . وقال ابن زيد : الربانيون الولاة ، والأحبار العلماء . وقيل : الربانيون علماء النصارى ، والأحبار علما اليهود ، وقد تقدم شرح الرباني . وقال الزمخشري : والربانيون والأحبار الزهاد ، والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا ، دين اليهود . وقال السدي : المراد هنا بالربانيين والأحبار الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهما ربانياً ، والآخر حبراً ، وكانا قد أعطيا النبي عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به ، فسألهما عن أمر الرجم فأخبراه به على وجهه ، فنزلت الآية مشيرة إليهما . قال ابن عطية : وفي هذا نظر . والرواية الصحيحة أن ابنا صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم ، وفضحهم فيه عبد الله بن سلام ، وإنما اللفظ في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان ، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم ، فلم يسم حبراً ولا ربانياً انتهى . { بما استحفظوا من كتاب الله } الباء في بما للسبب ، وتتعلق بقوله : يحكم . واستفعل هنا للطلب ، والمعنى : بسبب ما استحفظوا . والضمير في استحفظوا عائد على النبيين والربانيين والأحبار أي : بسبب ما طلب الله منهم حفظهم لكتاب الله وهو التوراة ، وكلفهم حفظها ، وأخذ عهده عليهم في العمل بها والقول بها ، وقد أخذ الله على العلماء حفظ الكتاب من وجهين : أحدهما : حفظه في صدورهم ودرسه بألسنتهم . والثاني : حفظه بالعمل بأحكامه واتباع شرائعه . وهؤلاء ضيعوا ما استحفظوا حتى تبدلت التوراة . وفي بناء الفعل للمفعول وكون الفعل للطلب ما يدل على أنه تعالى لم يتكفل بحفظ التوراة ، بل طلب منهم حفظها وكلفهم بذلك ، فغيروا وبدلوا وخالفوا أحكام الله بخلاف كتابنا ، فإنّ الله تعالى قد تكفل بحفظه ، فلا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير . قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] وقيل : الضمير في استحفظوا عائد على الربانيين والأحبار فقط . والذين استحفظهم التوراة هم الأنبياء . { وكانوا عليه شهداء } الظاهر أنّ الضمير عائد على كتاب الله أي : كانوا عليه رقباء لئلا يبدل . والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى ، وكان بينهما ألف نبي للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم ، وإبائهم عليهم ما اشتهوه من الجلد . وقيل : الهاء تعود على الحكم أي : وكانوا شهداء على الحكم . وقيل : عائد على الرسول أي : وكانوا شهداء على أنه نبي مرسل . { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } هذا نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم ، وإذهابهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل بخشية سلطان ظالم ، أو خيفة أذية أحد من الغرماء والأصدقاء . ولا تستعطوا بآيات الله ثمناً قليلاً وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة فهلكوا . وهذا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين . وروى أبو صالح عن ابن عباس أن معناه : لا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بالرجم ، واخشون في كتمان ذلك . ولما كان الإقدام على تغيير أحكام الله سببه شيئآن : الخوف ، والرغبة ، وكان الخوف أقوى تأثيراً من الرغبة ، قدم النهي عن الخوف على النهي عن الرغبة والطمع . والظاهر أنّ هذا الخطاب لليهود على سبيل الحكاية ، والقول لعلماء بني إسرائيل . وقال مقاتل : الخطاب ليهود المدينة قيل لهم : لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم ، واخشوني في كتمانه انتهى . وهذا وإن كان خطاباً لعلماء بني إسرائيل ، فإنه يتناول علماء هذه الأمة . وقال ابن جريج : هو خطاب لهذه الأمة أي لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس ، فلم يقولوا الحق . { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ظاهر هذا العموم ، فيشمل هذه الأمة وغيرهم ممن كان قبلهم ، وإن كان الظاهر أنه في سياق خطاب اليهود ، وإلى أنها عامة في اليهود وغيرهم . ذهب ابن مسعود ، وابراهيم ، وعطاء ، وجماعة ولكنْ كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق يعني : إنّ كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر ، وكذلك ظلمه وفسقه لا يخرجه ذلك عن الملة قاله : ابن عباس وطاووس . وقال أبو مجلز : هي مخصوصة باليهود والنصارى وأهل الشرك وفيهم نزلت . وبه قال : أبو صالح قال : ليس في الإسلام منها شيء . وروي في هذا حديث عن البراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : : " أنها الثلاثة في الكافرين " قال عكرمة ، والضحاك : هي في أهل الكتاب ، وقاله : عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وذكر أبو عبيدة هذه الأقوال فقال : إنّ بشراً من الناس يتأوّلون الآيات على ما لم تنزل عليه ، وما أنزلت هذه الآيات إلا في حيين من يهود قريظة والنضير ، وذكر حكاية القتل بينهم . وقال الحسن : نزلت في اليهود وهي علينا واجبة . وقيل لحذيفة : أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل ؟ فقال : نعم ، الإخوة لكم بنو إسرائيل أن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، لتسلكن طريقهم قدّ الشرك ، وعن ابن عباس ، واختاره ابن جرير : إنّ الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب ، وعنه نعم القوم أنتم ما كان من حلو فلكم ، وما كان من مرّ فهو لأهل الكتاب . من جحد حكم الله كفر ، ومن لم يحكم به وهو مقر به ظالم فاسق . وعن الشعبي : الكافرون في أهل الإسلام ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى . وكأنه خصص كل عام منها بما تلاه ، إذ قبل الأولى : { فإن جاؤك فاحكم بينهم } و { فإن حكمت فاحكم } { وكيف يحكمونك } و { يحكم بها النبيون } وقبل الثانية : { وكتبنا عليهم فيها } وقبل الثالثة : وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه الآية . وقال الزمخشري : ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهيناً به ، فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ، وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها انتهى . وقال السدّي : من خالف حكم الله وتركه عامداً وتجاوزه وهو يعلم ، فهو من الكافرين حقاً ، ويحمل هذا على الجحود ، فهو الكفر ضد الإيمان كما قال : ابن عباس . واحتجت الخوارج بهذه الآية على أنّ كل من عصى الله تعالى فهو كافر ، وقالوا : هي نص في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافراً . وأجيبوا : بأنها نزلت في اليهود ، فتكون مختصة بهم . وضعف بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ومنهم من قال : تقديره ومن لم يحكم بما أنزل الله من هؤلاء الذين سبق ذكرهم قبل ، وهذا ضعيف ، لأنّ من شرط وهي عام ، وزيادة ما قدر زيادة في النقص ، وهو غير جائز . وقيل : المراد كفر النعمة ، وضعف بأنّ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدّين . وقال ابن الأنباري : فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار ، وضعف بأنه عدول عن الظاهر . وقال عبد العزيز بن يحيـى الكناني : ما أنزل صيغة عموم ، فالمعنى : من أتى بضد حكم الله في كل ما أنزل الله ، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل وهو العمل ، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق . وضعف بأنه لو كان كذلك لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفاتهم حكم الله في الرجم . وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم ، فدل على سقوطه هذا . وقال عكرمة : إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف أنه حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله ، إلا أنه أتى بما يضاد ، فهو حاكم بما أنزل الله ، لكنه تارك له ، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية . { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسنّ بالسنّ والجروح قصاص } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى بين في التوراة أن حكم الزاني المحصن الرجم ، وغيره اليهود ، وبين هنا أنّ في التوراة : أن النفس بالنفس وغيره اليهود أيضاً ، ففضلوا بني النضير على بني قريظة ، وخصوا إيجاب القود على بني قريظة دون بني النضير . ومعنى وكتبنا : فرضنا . وقيل : قلنا والكتابة بمعنى القول ويجوز أن يراد الكتابة حقيقة ، وهي الكتابة في الألواح ، لأن التوراة مكتوبة في الألواح ، والضمير في فيها عائد على التوراة ، وفي : عليهم ، على الذين هادوا . وقرأ نافع ، وحمزة ، وعاصم : بنصب ، والعين وما بعدها من المعاطيف على التشريك في عمل أنّ النصب ، وخبر أنّ هو المجرور ، وخبر والجروح قصاص . وقدَّر أبو عليّ العامل في المجرور مأخوذ بالنفس إلى آخر المجرورات ، وقدره الزمخشري أولاً : مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا قتلها بغير حق ، وكذلك العين مفقوأة بالعين ، والأنف مجدوع بالأنف ، والأذن مأخوذة مقطوعة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن . وينبغي أن يحمل قول الزمخشري : مقتولة ومفقوأة ومجدوع مقطوعة على أنه تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ، لأن المجرور إذا وقع خبراً لا بد أن يكون العامل فيه كوناً مطلقاً ، لا كوناً مقيداً . والباء هنا باء المقابلة والمعاوضة ، فقدر ما يقرب من الكون المطلق وهو مأخوذ . فإذا قلت : بعت الشاء شاة بدرهم ، فالمعنى مأخوذ بدرهم ، وكذلك { الحر بالحر والعبد بالعبد } [ البقرة : 178 ] . التقدير : الحر مأخوذ بالحر ، والعبد مأخوذ بالعبد . وكذلك هذا الثوب بهذا الدرهم معناه مأخوذ بهذا الدرهم . وقال الحوفي : بالنفس يتعلق بفعل محذوف تقديره : يجب ، أو يستقر . وكذا العين بالعين وما بعدها مقدر الكون المطلق ، والمعنى : يستقر قتلها بقتل النفس . وقرأ الكسائي : برفع والعين وما بعدها . وأجاز أبو عليّ في توجيه الرفع وجوهاً . الأول : أنّ الواو عاطفة جملة على جملة ، كما تعطف مفرداً على مفرد ، فيكون والعين بالعين جملة اسمية معطوفة على جملة فعلية وهي : وكتبنا ، فلا تكون تلك الجمل مندرجة تحت كتبنا من حيث اللفظ ، ولا من حيث التشريك في معنى الكتب ، بل ذلك استئناف إيجاب وابتداء تشريع . الثاني : أنّ الواو عاطفة جملة على المعنى في قوله : أن النفس بالنفس ، أي : قل لهم النفس بالنفس ، وهذا العطف هو من العطف على التوهم ، إذ يوهم في قوله : أنَّ النفس بالنفس ، إنه النفس بالنفس ، والجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى ، لا من حيث اللفظ . الثالث : أن تكون الواو عاطفة مفرداً على مفرد ، وهو أن يكون : والعين معطوفاً على الضمير المستكن في الجار والمجرور ، أي بالنفس هي والعين وكذلك ما بعدها . وتكون المجرورات على هذا أحوالاً مبينة للمعنى ، لأن المرفوع على هذا فاعل ، إذ عطف على فاعل . وهذان الوجهان الأخيران ضعيفان : لأن الأول منهما هو المعطوف على التوهم ، وهو لا ينقاس ، إنما يقال منه ما سمع . والثاني منهما فيه العطف على الضمير المتصل المرفوع من غير فصل بينه وبين حرف العطف ، ولا بين حرف العطف والمعطوف بلا ، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا في الضرورة ، وفيه لزوم هذه الأحوال . والأصل في الحال أن لا تكون لازمة . وقال الزمخشري : الرفع للعطف على محل : أنّ النفس ، لأن المعنى : وكتبنا عليهم النفس بالنفس ، إما لإجراء كتبنا مجرى قلنا ، وإما أنّ معنى الجملة التي هي قولك : النفس بالنفس ، مما يقع عليه الكتب كما تقع عليه القراءة يقول : كتبت الحمد لله ، وقرأت سورة أنزلناها . وكذلك قال الزجاج : لو قرىء أنّ النفس لكان صحيحاً انتهى . وهذا الذي قاله الزمخشري هو الوجه الثاني من توجيه أبي علي ، إلا أنه خرج عن المصطلح فيه ، وهو أن مثل هذا لا يسمى عطفاً على المحل ، لأن العطف على المحل هو العطف على الموضع ، وهذا ليس من العطف على الموضع ، لأن العطف على الموضع هو محصور وليس هذا منه ، وإنما هو عطف على التوهم . ألا ترى أنا لا نقول أن قوله : أنّ النفس بالنفس في موضع رفع ، لأن طالب الرفع مفقود ، بل نقول : إنّ المصدر المنسبك من أنّ واسمها وخبرها لفظه وموضعه واحد وهو النصب ، والتقدير : وكتبنا عليهم فيها النفس بالنفس ، إمّا لإجراء كتبنا مجرى قلنا ، فحكيت بها الجملة : وإمّا لأنهما مما يصلح أن يتسلط الكتب فيها نفسه على الجملة لأنّ الجمل مما تكتب كما تكتب المفردات ، ولا نقول : إن موضع أنّ النفس بالنفس وقع بهذا الاعتبار . وقرأ العربيان وابن كثير : بنصب والعين ، والأنف ، والأذن ، والسن ، ورفع والجروح . وروي ذلك عن : نافع . ووجه أبو علي : رفع والجروح على الوجوه الثلاثة التي ذكرها في رفع والعين وما بعدها . وروي أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ أنّ النفس بتخفيف أنْ ، ورفع العين وما بعدها فيحتمل أن وجهين : أحدهما : أن تكون مصدرية مخففة من أنّ ، واسمها ضمير الشأن وهو محذوف ، والجملة في موضع رفع خبر أنّ فمعناها معنى المشدّدة العاملة في كونها مصدرية . والوجه الثاني : أن تكون أنْ تفسيرية التقدير أي : النفس بالنفس ، لأن كتبنا جملة في معنى القول . وقرأ أبيّ بنصب النفس ، والأربعة بعدها . وقرأ : وأنْ الجروح قصاص بزيادة أن الخفيفة ، ورفع الجروح . ويتعين في هذه القراءة أن تكون المخففة من الثقيلة ، ولا يجوز أن تكون التفسيرية من حيث العطف ، لأن كتبنا تكون عاملة من حيث المشدّدة غير عاملة من حيث التفسيرية ، فلا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك ، فإذا لم يكن عمل فلا تشريك . وقرأ نافع : والأذن بالأذْن بإسكان الذال معرفاً ومنكراً ومثنى حيث وقع . وقرأ الباقون : بالضم . فقيل : هما لغتان ، كالنكر والنكر . وقيل : الإسكان هو الأصل ، وإنما ضم اتباعاً . وقيل : التحريك هو الأصل ، وإنما سكن تخفيفاً . ومعنى هذه الآية : أن الله فرض على بني إسرائيل أنّ من قتل نفساً بحد أخذ نفسه ، ثم هذه الأعضاء كذلك ، وهذا الحكم معمول به في ملتنا إجماعاً . والجمهور على أنّ قوله أنّ النفس بالنفس عموم يراد به الخصوص في المتماثلين . وقال قوم : يقتل الحر بالعبد والمسلم بالذمي ، وبه قال أبو حنيفة : وأجمعوا على أنّ المسلم لا يقتل بالمستأمن ولا بالحربي ، ولا يقتل والد بولده ، ولا سيد بعبده . وتقتل جماعة بواحد خلافاً لعلي ، وواحد بجماعة قصاصاً ، ولا يجب مع القود شيء من المال . وقال الشافعي : يقتل بالأول منهم وتجب دية الباقين ، قد مضى الكلام في ذلك في البقرة في قوله : { كتب عليكم القصاص في القتلى } [ البقرة : 178 ] الآية . وقال ابن عباس : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة فنزلت . وقال أيضاً : رخص الله تعالى لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ، ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم . وقال الثوري : بلغني عن ابن عباس أنه نسخ { الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد } [ البقرة : 178 ] قوله : أن النفس بالنفس ، والظاهر في قوله : النفس بالنفس العموم ، ويخرج منه ما يخرج بالدليل ، ويبقى الباقي على عمومه . والظاهر في قوله : العين بالعين فتفقأ عين الأعور بعين من كان ذا عينين ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وروي عن عثمان وعمر في آخرين : أن عليه الدية . وقال مالك : إن شاء فقأ وإن شاء أخذ الدية كاملة . وبه قال : عبد الملك بن مروان ، وقتادة ، والزهري ، والليث ، ومالك ، وأحمد ، والنخعي . وروى نصف الدية عن : عبد الله بن المغفل ، ومسروق ، والنخعي ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، والثوري ، والشافعي . قال ابن المنذر : وبه نقول . وتفقأ اليمنى باليسرى ، وتقلع الثنية بالضرس ، وعكسهما لعموم اللفظ ، وبه قال ابن شبرمة . وقال الجمهور : هذا خاص بالمساواة ، فلا تؤخذ يمنى بيسرى مع وجودها إلا مع الرضا . ولو فقأ عيناً لا يبصر بها فعن زيد بن ثابت : فيها مائة دينار ، وعن عمر : ثلث ديتها . وقال مسروق ، والزهري ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وأبو ثور ، وابن المنذر : فيها حكومة . ولو أذهب بعض نور العين وبقي بعض ، فمذهب أبي حنيفة : فيها الارش . وعن علي : اختبار بصره ، ويعطى قدر ما نقص من مال الجاني . وفي الأجفان كلها الدية ، وفي كل جفن ربع الدية قاله : زيد بن ثابت ، والحسن ، والشعبي ، وقتادة ، وابراهيم ، والثوري ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي . وقال الشعبي : في الجفن الأعلى ثلث الدية ، وفي الأسفل ثلثاها . واختلف فيمن قطع أنفاً هل يجري فيها القصاص أم لا ؟ فقال أبو حنيفة : إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه ، وإنما فيه الدية . وروي عن أبي يوسف : أن في ذلك القصاص إذا استوعب . واختلف في كسر الأنف : فمالك يرى القود في العمد منه ، والاجتهاد في الخطأ . وروي عن نافع : لا دية فيه حتى يستأصله . وروي عن علي : أنه أوجب القصاص في كسره . وقال الشافعي : إن جبر كسره ففيه حكومة ، وما قطع من المارن بحسابه ، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز والشعبي ، وبه قال الشافعي : وفي المارن إذا قطع ولم يستأصل الأنف الدية كاملة ، قاله : مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه . والمارن ما لان من الأنف ، والأرنبة والروثة طرف المارن . ولو أفقده الشم أو نقصه : فالجمهور على أنّ فيه حكومة عدل . والأذن بالأذن يقتضي وجوب القصاص إذا استوعب ، فإن قطع بعضها ففيه القصاص إذا عرف قدره . وقال الشافعي : في الأذنين الدية ، وفي إحداهما نصفها . وقال مالك : في الأذنين حكومة ، وإنما الدية في السمع ، ويقاس نقصاه كما يقاس في البصر . وفي إبطاله من إحداهما نصف الدية ولو لم يكن يسمع إلا بها . والسن بالسن يقتضي أنّ القلع قصاص ، وهذا لا خلاف فيه ، ولو كسر بعضها . والأسنان كلها سواء : ثناياها ، وأنيابها ، وأضراسها ، ورباعياتها ، في كل واحدة خمس من الإبل من غير فضل . وبه قال : عروة ، وطاووس ، وقتادة ، والزهري ، والثوري ، وربيعة ، والأوزاعي ، وعثمان البتي ، ومالك ، وأبو حنيفة ، وأصحابه ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق . وروي عن علي ، وابن عباس ، ومعاوية . وروى ابن المسيب عن عمر : أنه قضى فيما أقبل من الفم بخمس فرائض وذلك خمسون ديناراً ، كل فريضة عشر دنانير ، وفي الأضراس بعير بعير . قال ابن المسيب : فلو أصيب الفم كله في قضاء عمر نقصت الدية ، أو في قضاء معاوية زادت ، ولو كنت إنا لجعلتها في الأضراس بعيرين بعيرين . قال عمر : الأضراس عشرون ، والأسنان اثنا عشر : أربع ثنايا ، وأربع رباعيات ، وأربع أنياب . والخلاف إنما هو في الأضراس لا في الأسنان ، ففي قضاء عمر الدية ثمانون ، وفي قضاء معاوية مائة وستون . وعلى قول ابن المسيب مائة ، وهي الدية كاملة من الإبل . وقال عطاء في الثنيتين والرباعيتين والنابين : خمس خمس ، وفيما بقي بعيران بعيران ، أعلى الفم وأسفله سواء . ولو قلعت سن صبي لم يثغر فنبتت فقال أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي : لا شيء على القالع . إلا أن مالكاً والشافعي قالا : إذا نبتت ناقصة الطول عن التي تقاربها أخذ له من ارشها بقدر نقصها . وقالت طائفة : فيها حكومة ، وروي ذلك عن الشعبي ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه . ولو قلعت سن كبير فأخذ ديتها ثم نبتت فقال مالك : لا يرد ما أخذ . وقال أبو حنيفة وأصحابه : يرد ، والقولان عن الشافعي . ولو قلعت سن قوداً فردها صاحبها فالتحمت فلا يجب قلعها عند أبي حنيفة ، وبه قال عطاء الخراساني وعطاء بن أبي رباح . وقال الشافعي وأحمد وإسحاق : يجبر على القلع ، به قال ابن المسيب ، ويعيد كل صلاة صلاها بها . وكذا لو قطعت أذنه فردها في حرارة الدم فالتزقت ، وروي هذا القول عن عطاء أبو بكر بن العربي قال : وهو غلط . ولو قلع سناً زائدة فقال الجمهور : فيها حكومة ، فإن كسر بعضها أعطى بحساب ما نقص منها ، وبه قال : مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد . قال الأدفوي : وما علمت فيه خلافاً . وقال زيد بن ثابت : في السن الزائدة ثلث السن ، ولو جنى على سن فاسودت ثم عقلها ، روي ذلك عن زيد ، وابن المسيب ، وبه قال : الزهري ، والحسن ، وابن سيرين ، وشريح ، والنخعي ، وعبد الملك بن مروان ، وأبو حنيفة ، ومالك ، والثوري . وروي عن عمران : فيها ثلث ديتها ، وبه قال : أحمد وإسحاق . وقال النخعي والشافعي وأبو ثور : فيها حكومة ، فإن طرحت بعد ذلك ففيها عقلها ، وبه قال الليث وعبد العزيز بن أبي سلمة ، وإنْ اسود بعضها كان بالحساب قاله : الثوري . والجروح قصاص أي ذات قصاص . ولفظ الجروح عام ، والمراد به الخصوص ، وهو ما يمكن فيه القصاص . وتعرف المماثلة ولا يخاف فيها على النقص ، فإن خيف كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها . ومدلول : والجروح قصاص ، يقتضي أن يكون الجرح بمثله ، فإن لم يكن بمثله فليس بقصاص . واختلفوا في القصاص بين الرجال والنساء ، وبين العبد والحر . وجميع ما عدا النفس هو من الجراحات التي أشار إليها بقوله : والجروح قصاص ، لكنه فصل أول الآية وأجمل آخرها ليتناول ما نص عليه وما لم ينص ، فيحصل العموم . معنى : وإن لم يحصل لفظاً . ومن جملة الجروح الشجاج فيما يمكن فيه القصاص ، فلا خلاف في وجوبها فيه ، وما لا فلا قصاص فيه كالمأمومة . وقال أبو عبيد : فليس في شيء من الشجاج قصاص إلا في الموضحة خاصة ، لأنه ليس شيء منها له حد ينتهي إليه سواها ، وأما غيرها من الشجاج ففيه ديته انتهى . وقال غيره : في الخارصة القصاص بمقدارها إذا لم يخش منها سراية ، وأقاد ابن الزبير من المأمومة ، وأنكر الناس عليه . قال عطاء : ما علمنا أحداً أقاد منها قبله . وأما الجروح في اللحم فقال : فقد ذكر بعض أهل العلم أن القصاص فيها ممكن بأن يقاس بمثل ، ويوضع بمقدار ذلك الجرح . { فمن تصدق به فهو كفارة له } المتصدق صاحب الحق . ومستو في القصاص الشامل للنفس والأعضاء وللجروح التي فيها القصاص ، وهو ضمير يعود على التصدق أي : فالتصدق كفارة للمتصدق ، والمعنى : أنّ من تصدق بجرحه يكفر عنه ، قاله : عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمرو ، وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وأبو الدرداء ، وقتادة ، والحسن ، والشعبي . وذكر أبو الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة " وذكر مكي حديثاً من طريق الشعبي : » أنه يحط عنه من ذنوبه ما عفى عنه من الدية « وعن عبد الله بن عمر : يهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق . وقيل : الضمير في له عائد على الجاني وإنْ لم يتقدّم له ذكر ، لكنه يفهم من سياق الكلام ، ويدل عليه المعنى . والمعنى : فذلك العفو والتصدق كفارة للجاني يسقط عنه ما لزمه من القصاص . وكما أن القصاص كفارة كذلك العفو كفارة ، وأجر العافي على الله تعالى قاله : ابن عباس ، والسبيعي ، ومجاهد ، وابراهيم ، والشعبي ، وزيد بن أسلم ، ومقاتل . وقيل : المتصدق هو الجاني ، والضمير في له يعود عليه . والمعنى : إذا جنى جان فجهل وخفى أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن من نفسه ، فذلك الفعل كفارة لذنبه . وقال مجاهد : إذا أصاب رجل رجلاً ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب . وأصاب عروة عند الركن إنساناً وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة : أنا أصبتك ، وأنا عروة بن الزبير ، فإن كان يلحقك بها بأس فأنا بها . وعلى هذا القول يحتمل أن يكون تصدق تفعل من الصدقة ، ويحتمل أن يكون من الصدق . وقرأ أبي : فهو كفارة له يعني : فالتصدق كفارته ، أي الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها ، وهو تعظيم لما فعل لقوله : { فأجره على الله } [ الشورى : 40 ] وترغيب في العفو . وتأول قوم الآية على معنى : والجروح قصاص ، فمن أعطى دية الجرح وتصدق به فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت . وفي مصحف أبي : ومن يتصدق به فإنه كفارة له . { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } ناسب فيما تقدم ذكر الكافرين ، لأنه جاء عقيب قوله : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } الآية ففي ذلك إشارة إلى أنه لا يحكم بجميعها ، بل يخالف رأساً . ولذلك جاء : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } وهذا كفر ، فناسب ذكر الكافرين . وهنا جاء عقيب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجروح ، فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص وعدم التسوية ، وإشارة إلى ما كانوا قرروه من عدم التساوي بين بني النضير وبني قريظة . { وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه من التوراة } مناسبة هذه الآية قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ التوراة يحكم بها النبيون ، ذكر أنه قفاهم بعيسى تنبيهاً على أنه من جملة الأنبياء ، وتنويهاً باسمه ، وتنزيهاً له عما يدعيه اليهود فيه ، وأنه من جملة مصدقي التوراة . ومعنى : قفينا ، أتينا به ، يقفو آثارهم أي يتبعها . والضمير في آثارهم يعود على النبيين من قوله : يحكم بها النبيون وقيل : على الذين كتبت عليهم هذه الأحكام . وعلى آثارهم ، متعلق بقفينا ، وبعيسى متعلق به أيضاً . وهذا على سبيل التضمين أي : ثم جئنا على آثارهم بعيسى ابن مريم قافياً لهم ، وليس التضعيف في قفينا للتعدية ، إذ لو كان للتعدية ما جاء مع الباء المعدية ، ولا تعدى بعلى . وذلك أن قفا يتعدى لواحد قال تعالى : { ولا تقف ما ليس لك به علم } [ الإسراء : 36 ] وتقول : قفا فلان الأثر إذا اتبعه ، فلو كان التضعيف للتعدي لتعدى إلى اثنين منصوبين ، وكان يكون التركيب : ثم قفينا على آثارهم عيسى ابن مريم ، وكان يكون عيسى هو المفعول الأول ، وآثارهم المفعول الثاني ، لكنه ضمن معنى جاء وعدي بالياء ، وتعدى إلى آثارهم بعلى . وقال الزمخشري : قفيته مثل عقبته إذا اتبعته ، ثم يقال : قفيته بفلان وعقبته به ، فتعديه إلى الثاني بزيادة الباء . ( فإن قلت ) : فأين المفعول الأول في الآية ؟ ( قلت ) : هو محذوف ، والظرف الذي هو على آثارهم كالسادّ مسده ، لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه انتهى . وكلامه يحتاج إلى تأويل ، وذلك أنه جعل قفيته المضعف بمعنى قفوته ، فيكون فعل بمعنى فعل نحو : قدر الله ، وقدر الله ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها فعل ، ثم عداه بالباء ، وتعدية المتعدي لمفعول بالباء لثان قلّ أن يوجد ، حتى زعم بعضهم أنه لا يوجد . ولا يجوز فلا يقال : في طعم زيد اللحم ، أطعمت زيداً باللحم ، والصحيح أنه جاء على قلة تقول : دفع زيد عمراً ، ثم تعديه بالباء فتقول : دفعت زيداً بعمرو . أي : جعلت زيداً يدفع عمراً ، وكذلك صك الحجر الحجر . ثم تقول : صككت الحجر بالحجر أي جعلته يصكه . وأما قوله : المفعول الأول محذوف الظرف كالساد مسده فلا يتجه ، لأنّ المفعول هو مفعول به صريح ، ولا يسد الظرف مسده ، وكلامه مفهم التضمين وإن لم يصرح به . ألا ترى إلى قوله : لأنه إذا قفى به أثره فقد قفى به إياه ؟ وقول الزمخشري : فقد قفى به إياه فصل الضمير ، وحقه أن يكون متصلاً ، وليس من مواضع فصل لو قلت : زيد ضربت بسوط إيتاه لم يجز إلا في ضرورة شعر ، فإصلاحه زيد ضربته بسوط ، وانتصب مصدقاً على الحال من عيسى . ومعنى : لما بين يديه ، لما تقدمه من التوراة لأنها جاءت قبله ، كما أن الرسول بين يدي الساعة . وتقدم الكلام في هذا . وتصديقه إياها هو بكونه مقراً أنها كتاب منزل من الله حقاً واجب العمل به قبل ورود النسخ ، إذ شريعته مغايرة لبعض ما فيها . { وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور } هذه الجملة معطوفة على قوله : وقفينا . وفيه تعظيم عيسى عليه السلام بأن الله آتاه كتاباً إلهيّاً . وتقدمت قراءة الحسن الإنجيل بفتح الهمزة ، وما ذكروه في اشتقاقه إن كان عربياً . وقوله : فيه هدى ونور ، في موضع الحال ، وارتفاع هدى على الفاعلية بالجار والمجرور ، إذ قد اعتمد بأن . وقع حالاً لذي حال أي : كائناً فيه هدى . ولذلك عطف عليه { ومصدقاً لما بين يديه من التوراة } والضمير في يديه عائد على الإنجيل ، والمعنى : أن عيسى وكتابه الذي أنزل عليه هما مصدقان لما تقدمهما من التوراة ، فتظافر على تصديقه الكتاب الإلهي المنزل ، والنبي المرسل المنزل عليه ذلك الكتاب . ومعنى كونه فيه هدى أنه يشتمل على دلائل التوحيد ، وتنزيه الله عن الولد والصاحبة والمثل والضد ، وعلى الإرشاد والدعاء إلى الله تعالى ، وإلى إحياء أحكام التوراة ، والنور هو ما فيه مما يستضاء به إذ فيه بيان أحكام الشريعة وتفاصيلها . قال ابن عطية : ومصدقاً حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى ، فإنها جملة في موضع الحال انتهى . وإنما قال : إن مصدقاً ، حال مؤكدة من حيث المعنى ، لأنه يلزم من كون الإنجيل كتاباً إلاهيا أن يكون مصدقاً للكتب الإلهية ، لكن قوله : معطوفة على الجملة التي هي فيه هدى ، فإنها جملة في موضع الحال قول مرجوح ، لأنّا قد بينا أنّ قوله : فيه هدى ونور من قبيل المفرد لا من قبيل الجملة ، إذ قدرناه كائناً فيه هدى ونور ، ومتى دار الأمر بين أن يكون الحال مفرداً أو جملة ، كان تقدير المفرد أجود على تقدير أنه جملة يكون ذلك من القليل ، لأنها جملة اسمية ، ولم تأت بالواو ، وإن كان يغني عن الرابط الذي هو الضمير ، لكن الأحسْن والأكثر أن يأتي بالواو ، حتى أنّ الفراء زعم أن عدم الواو شاذ ، وإن كان ثم ضمير ، وتبعه على ذلك الزمخشري . قال علي بن أبي طالب : ومصدقاً معطوف على مصدقاً الأول انتهى . ويكون إذ ذاك حالاً من عيسى ، كرره على سبيل التوكيد ، وهذا فيه بعد من جهة التركيب واتساق المعانى ، وتكلفه أن يكون وآتيناه الإنجيل جملة حالية معطوفة على مصدّقاً . { وهدى وموعظة للمتقين } قرأ الضحاك : وهدى وموعظة بالرفع ، وهو هدى وموعظة . وقرأ الجمهور : بالنصب حالاً معطوفة على قوله : ومصدقاً ، جعله أولاً فيه هدى ونور ، وجعله ثانياً هدى وموعظة . فهو في نفسه هدى ، وهو مشتمل على الهدى ، وجعله هدى مبالغة فيه إذ كان كتاب الإنجيل مبشراً برسول الله صلى الله عليه وسلم والدلالة منه على نبوته ظاهرة . ولما كانت أشد وجوه المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى ذلك ، أعاد الله ذكر الهدى تقريراً وبياناً لنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ، ووصفه بالموعظة لاشتماله على نصائح وزواجر بليغة ، وخصصها بالمتقين لأنهم هم الذين ينتفعون بها ، كما قال تعالى : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] فهم المقصودون في علم الله تعالى ، وإن كان الجميع يدعي ويوعظ ، ولكنه على غير المتقين عمى وحسرة ، وأجاز الزمخشري أن ينتصب هدى وموعظة على أنهما مفعول لهما لقوله : وليحكم . قال : كأنه قيل : وللهدي والموعظة آتيناه الإنجيل ، وللحكم بما أنزل الله فيه من الأحكام . وينبغي أن يكون الهدى والموعظة مسندين في المعنى إلى الله ، لا إلى الإنجيل ، ليتحد المفعول من أجله مع العامل في الفاعل ، ولذلك جاء منصوباً . ولما كان : وليحكم ، فاعله غير الله ، أتى معدي إليه بلام العلة . ولاختلاف الزمان أيضاً ، لأن الإيتاء قارن الهداية والموعظة في الزمان ، والحكم خالف فيه لاستقباله ومضيه في الإيتاء ، فعدى أيضاً لذلك باللام ، وهذا الذي أجازه الزمخشري خلاف الظاهر . قال الزمخشري : فإن نظمت هدى وموعظة في سلك مصدّقاً فما تصنع بقوله : وليحكم ؟ ( قلت ) : أصنع به كما صنعت بهدى وموعظة ، حين جعلتهما مفعولاً لهما ، فأقدر : ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه انتهى . وهو جواب واضح . { وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه } أمر تعالى أهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية ، وقلنا لهم : احكموا ، أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن ذلك أن يكون بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع ، أو بما أنزل الله فيه مخصوصاً بالدلائل الدالة على نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول الأصم ، أو بخصوص الزمان إلى بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو عبر بالحكم بما أنزل الله فيه عن عدم تحريفه وتغييره . فالمعنى : وليقرأه أهل الإنجيل على الوجه الذي أنزل لا يغيرونه ولا يبدلونه ، وهذا بعيد . وظاهر الأمر يرد قول من قال : إن عيسى كان متعبداً بأحكام التوراة . وقال تعالى : { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } ولهذا القائل أن يقول : بما أنزل الله فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة . والذي يظهر أن الأحكام في الإنجيل قليلة ، وإنما أكثره زواجر . وتلك الأحكام المخالفة لأحكام التوراة أمروا بالعمل بها ، ولهذا جاء : { ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم } [ آل عمران : 50 ] . وقرأ الجمهور : وليحكم بلام الأمر ساكنة ، وبعض القراء يكسرها . وقرأ أبيّ : وأن ليحكم بزيادة أن قبل لام كي ، وتقدّم كلام الزمخشري فيما يتعلق به . وقال ابن عطية : والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ، وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه انتهى . فعطف وليحكم على توهم علة ولذلك قال : ليتضمن الهدى . والزمخشري جعله معطوفاً على هدى وموعظة ، على توهم النطق باللام فيهما كأنه قال : وللهدى والموعظة وللحكم أي : جعله مقطوعاً مما قبله ، وقدر العامل مؤخراً أي : وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه آتيناه إياه . وقول الزمخشري أقرب إلى الصواب ، لأن الهدي الأول والنور والتصديق لم يؤت بها على سبيل العلة ، إنما جيء بقوله : فيه هدى ونور ، على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً ، وهذا معنى الحال ، والحال لا يكون علة . فقول ابن عطية : ليتضمن كيت وكيت ، وليحكم ، بعيد . { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } ناسب هنا ذكر الفسق ، لأنه خرج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله : وليحكم ، وهو أمر . كما قال تعالى : { اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه } [ الكهف : 50 ] أي : خرج عن طاعة أمره تعالى . فقد اتضح مناسبة ختم الجملة الأولى بالكافرين ، والثانية بالظالمين ، والثالثة بالفاسقين . وقال ابن عطية : وتكرير هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التوكيد ، وأصوب ما يقال فيها : أنها تعم كل مؤمن وكافر ، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه ، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها . وقال القفال : هي لموصوف واحد كما تقول : من أطاع الله فهو البر ، ومن أطاع فهو المؤمن ، ومن أطاع فهو المتقي . وقيل : الأول في الجاحد ، والثاني والثالث في المقر التارك . وقال الأصم : الأول والثاني في اليهود ، والثالث في النصارى . وعلى قول ابن عطية يعم كل كافر ومؤمن ، يكون إطلاق الكافرين والظالمين والفاسقين عليهم للاشتراك في قدر مشترك . { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه } لما ذكر تعالى أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور ، ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك كلهم في أنها نزلت على موسى ، فترك ذكره للمعرفة بذلك ، ثم ذكر عيسى وأنه آتاه الإنجيل ، فذكره ليقروا أنه من جملة الأنبياء ، إذ اليهود تنكر نبوّته ، وإذا أنكرته أنكرت كتابه ، فنص تعالى عليه وعلى كتابه . ثم ذكر إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر الكتاب ، ومن أنزله مقرّراً لنبوّته وكتابه ، لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه . وجاء هنا ذكر المنزل إليه بكاف الخطاب ، لأنه أنص على المقصود . وكثيراً ما جاء ذلك بلفظ الخطاب لأنه لا يلبس البتة وبالحق : ملتبساً بالحق ومصاحباً له لا يفارقه ، لما كان متضمناً حقائق الأمور ، فكأنه نزل بها . ويحتمل أن يتعلق بأنزلنا أي : أنزلناه بأن حق ذلك ، لا أنه وجب على الله ، لكنه حق في نفسه . والألف واللام في الكتاب للعهد وهو القرآن بلا خلاف . وانتصب مصدقاً على الحال لما بين يديه ، أي : لما تقدمه من الكتاب . الألف واللام فيه للجنس ، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة ، ويحتمل أن تكون للعهد ، لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق ، وإنما أريد نوع معلوم منه ، وهو ما أنزل السماء سوى القرآن . والفرق بينهما أنه في الأوّل يحتاج إلى تقدير الصفة ، وأنها حذفت ، والتقدير : من الكتاب الإلهي . وفي الثاني لا يحتاج إلى هذا التقدير ، لأن العهد في الاسم يتضمن الاسم به جميع الصفات التي للاسم ، فلا يحتاج إلى تقدير حذف . ومهيمناً عليه أي أميناً عليه ، قاله ابن عباس في رواية التيمي ، وابن جبير ، وعكرمة ، وعطاء ، والضحاك ، والحسن . وقال ابن جريج : القرآن أمين على ما قبله من الكتب ، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدّقوا ، وإلا فكذبوا . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : شاهداً . وبه قال الحسن أيضاً وقتادة ، والسدّي ، ومقاتل ، وقال ابن زيد : مصدّقاً على ما أخبر من الكتب ، وهذا قريب من القول الأول . وقال الخليل : المهيمن هو الرقيب الحافظ . ومنه قوله : @ إن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب @@ وحكاه الزجاج ، وبه فسر الزمخشري قال : ومهيمناً رقيباً على سائر الكتب ، لأنه يشهد لها بالصحة والبيان انتهى . وقال الشاعر : @ مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد @@ فسر بالحافظ ، وهذا في صفات الله . وأما في القرآن فمعناه أنه حافظ للدّين والأحكام . وقال الضحاك أيضاً : معناه قاضياً . وقال عكرمة أيضاً : معناه دالاً . وقال ابن عطية : وقد ذكر أقوالاً أنه شاهد ، وأنه مؤتمن ، وأنه مصدّق ، وأنه أمين ، وأنه رقيب ، قال : ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنى بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحامله ، فلا يدخل فيه ما ليس منه ، والقرآن جعله الله مهيمناً على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرّفون إليها ، فيصحح الحقائق ويبطل التحريف . وقرأ مجاهد وابن محيصن : ومهيمناً بفتح الميم الثانية ، جعله اسم مفعول أي مؤمن عليه ، أي : حفظ من التبديل والتغيير . والفاعل المحذوف هو الله أو الحافظ في كل بلد ، لو حذف منه حرف أو حركة أو سكون لتنبه له وأنكر ذلك . وردّ ففي قراءة اسم الفاعل الضمير في عليه عائد على الكتاب الثاني . وفي قراءة اسم المفعول عائد على الكتاب الأول ، وفي كلا الحالين هو حال من الكتاب الأول لأنه معطوف على مصدّقاً والمعطوف على الحال حال . وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قراءته بالفتح وقال : معناه محمد مؤتمن على القرآن . قال الطبري : فعلى هذا يكون مهيمناً حالاً من الكاف في إليك . وطعن في هذا القول لوجود الواو في ومهيمناً ، لأنها عطف على مصدّقاً ، ومصدّقاً حال من الكتاب لا حال من الكاف ، إذ لو كان حالاً منها لكان التركيب لما بين يديك بكاف الخطاب ، وتأويله على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد عن نظم القرآن ، وتقديره : وجعلناك يا محمد مهيمناً عليه أبعد . وأنكر ثعلب قول المبرد وابن قتيبة أنّ أصله مؤتمن . { فاحكم بينهم بما أنزل الله } ظاهره أنه أمر أن يحكم بما أنزل الله ، وتقدم قول من قال : إنها ناسخة لقوله : { أو أعرض عنهم } وقول الجمهور : إنْ اخترت أن تحكم بينهم بما أنزل الله ، وهذا على قول من جعل الضمير في بينهم عائداً على اليهود ، ويكون على قول الجمهور أمر ندب ، وإن كان الضمير للمتحاكمين عموماً ، فالخطاب للوجوب ولا نسخ . { ولا تتبع أهواءهم } أي لا توافقهم في أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع ، وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع . { عما جاءك من الحّق } الذي هو القرآن . وضمن تتبع معنى تنحرف ، أو تنصرف ، فلذلك عدي بعن أي : لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعاً أهواءهم ، أو بسبب أهوائهم . وقال أبو البقاء : عما جاءك في موضع الحال أي : عادلاً عما جاءك ، ولم يضمن تتبع معنى ما تعدى بعن ، وهذا ليس بجيد . لأنّ عن حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالاً من الجنة ، كما لا يصلح أن يكون خبراً ، وإذا كان ناقصاً فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق ، والكون المقيد لا يجوز حذفه . { لكلّ جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } الظاهر أنّ المضاف إليه كل المحذوف هو : أمة أي : لكل أمّة . والخطاب في منكم للناس أي : أيها الناس لليهود شرعة ومنهاج ، وللنصارى كذلك ، قاله : عليّ ، وقتادة والجمهور ، ويعنون في الأحكام . وأما المعتقد فواحد لجميع العالم توحيد ، وإيمان بالرسل ، وكتبها وما تضمنته من المعاد ، والجزاء الأخروي . وقد ذكر تعالى جماعة من الأنبياء شرائعهم مختلفة ثم قال : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] والمعنى في المعتقدات . وقال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء ، لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم ، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال تنبيهاً لمحمد صلى الله عليه وسلم أي : فاحفظ شرعك ومنهاجك لئلا تستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه انتهى . فيكون المحذوف المضاف إليه لكلّ نبي ، أي : لكل نبيّ منكم أيها الأنبياء . والشرعة والمنهاج لفظان لمعنى واحد أي : طريقاً ، وكرر للتوكيد كما قال الشاعر : @ وهـند أتـى مـن دونهـا النـأي والبعـد @@ وقال ابن عباس والحسن وغيرهما : سبيلاً وسنة . وقال مجاهد : الشرعة والمنهاج دين محمد صلى الله عليه وسلم ، فيكون المعنى لكل منكم أيها الناس جعلنا هذا الدين الخالص فاتبعوه ، والمراد بذلك إنّا أمرناكم باتباع دين محمد إذ هو ناسخ للأديان كلها . وقال المبرد : الشرعة ابتداء الطريق ، والمنهاج الطريق المستمر . وقال ابن الأنباري : الشرعة الطريق الذي ربما كان واضحاً وغير واضح ، والمنهاج لا يكون إلا واضحاً . وقيل : الشرعة الدين ، والمنهاج الدليل . وقيل : الشرعة النبي ، والمنهاج الكتاب . قال ابن عطية : والمنهاج بناء مبالغة من النهج ، ويحتمل أن يراد بالشرعة الأحكام ، وبالمنهاج المعتقد أي هو واحد في جميعكم ، وفي هذا الاحتمال بعد انتهى . قيل : وفي هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا . وقرأ النخعي وابن وثاب : شَرعة بفتح الشين ، والظاهر أنّ جعلنا بمعنى صيرنا ، ومفعولها الثاني هو لكل ، ومنكم متعلق بمحذوف تقديره : أعني منكم . قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون منكم صفة لكل ، لأنَّ ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تشديد فيه للكلام ، ويوجب أيضاً أن يفصل بين جعلتا وبين معمولها وهو شرعة انتهى . فيكون في التركيب كقولك : من كل ضربت تميمي رجلاً ، وهو لا يجوز . { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكموها أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في الضلال . وقيل لجعلكم أمة واحدة على الحق . { ولكن ليبلوكم فيما آتاكم } أي : ولكن لم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب . وقال الزمخشري : من الشرائع المختلفة ، هل تعلمون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات ، معترفين بأن الله تعالى لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة ، أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل انتهى ؟ وقال ابن جريج وغيره : ولكنه لم يشأ ، لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع ، فليس لهم إلا أن يجدوا في امتثال الأوامر . { فاستبقوا الخيرات } أي ابتدروا الأعمال الصالحة قاله : مقاتل . وهي التي عاقبتها أحسن الأشياء . وقال ابن عباس والضحاك : الخيرات الإيمان بالرسول . { إلى الله مرجعكم جميعاً } هو استئناف في معنى التعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات ، كأنه يقول : يظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته . { فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون } أي فيخبركم بأعمالكم ، وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب ، وهو أخبار إيقاع . قال ابن جرير : قد بين ذلك في الدنيا بالدلالة والحجج ، وغداً يبينه بالمجازاة انتهى . وبهذا التنبيه يظهر الفضل بين المحق والمبطل ، والمسبق والمقصر في العمل . ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسها ، وإلى آخر بحرف الجر ، ولم يضمنها معنى أعلم فيعديها إلى ثلاثة .