Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 52, Ayat: 29-49)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما تقدم إقسام الله تعالى على وقوع العذاب ، وذكر أشياء من أحوال المعذبين والناجين ، أمره بالتذكير ، إنذاراً للكافر ، وتبشيراً للمؤمن ، ودعاء إلى الله تعالى بنشر رسالته ، ثم نفى عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون ، إذا كانا طريقين إلى الإخبار ببعض المغيبات ، وكان للجن بهما ملابسة للإنس . وممن كان ينسبه إلى الكهانة شيبة بن ربيعة ، وممن كان ينسبه إلى الجنون عقبة بن أبي معيط . وقال الزمخشري : { فذكر } فاثبت على تذكير الناس وموعظتهم ، ولا يثبطنك قولهم كاهن أو مجنون ، ولا تبال به ، فإنه قول باطل متناقض . فإن الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة ودقة نظر ، والمجنون مغطى على عقله ؛ وما أنت ، بحمد الله تعالى وإنعامه عليك بصدق النبوة ورصافة العقل ، أحد هذين . انتهى . وقال الحوفي : { بنعمة ربك } متعلق بما دل عليه الكلام ، وهو اعتراض بين اسم ما وخبرها ، والتقدير : ما أنت في حال إذكارك بنعمة ربك بكاهن . قال أبو البقاء : الباء في موضع الحال ، والعامل في بكاهن أو مجنون ، والتقدير : ما أنت كاهناً ولا مجنوناً ملتبساً بنعمة ربك . انتهى . وتكون حالاً لازمة لا منتقلة ، لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبساً بنعمة ربه . وقيل : { بنعمة ربك } مقسم بها ، كأنه قيل : ونعمة ربك ما أنت كاهن ولا مجنون ، فتوسط المقسم به بين الاسم والخبر ، كما تقول : ما زيد والله بقائم . ولما نفى عنه الكهانة والجنون اللذين كان بعض الكفار ينسبونهما إليه ، ذكر نوعاً آخر مما كانوا يقولونه . روي أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة ، وكثرت آراؤهم فيه صلى الله عليه وسلم ، حتى قال قائل منهم ، وهم بنو عبد الدار ، قاله الضحاك : تربصوا به ريب المنون ، فإنه شاعر سيهلك ، كما هلك زهير والنابغة والأعشى ، فافترقوا على هذه المقالة ، فنزلت الآية في ذلك . وقول من قال ذلك هو من نقص الفطرة بحيث لا يدرك الشعر ، وهو الكلام الموزون على طريقة معروفة من النثر الذي ليس هو على ذلك المضمار ، ولا شك أن بعضهم كان يدرك ذلك ، إذ كان فيهم شعراء ، ولكنهم تمالؤوا مع أولئك الناقصي الفطرة على قولهم : هو شاعر ، حجداً الآيات الله بعد استيقانها . وقرأ زيد بن علي : يتربص بالياء مبنياً للمفعول به ، { ريب } : مرفوع ، وريب المنون : حوادث الدهر ، فإنه لا يدوم على حال ، قال الشاعر : @ تربص بها ريب المنون لعلها تطلق يوماً أو يموت حليلها @@ وقال الهندي : @ أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع @@ { قل تربصوا } : هو أمر تهديد من المتربصين هلاككم ، كما تتربصون هلاكي . { أم تأمرهم أحلامهم } : عقولهم بهذا ، أي بقولهم كاهن وشاعر ومجنون ، وهو قول متناقض ، وكانت قريش تدعى أهل الأحلام والنهي . وقيل لعمرو بن العاص : ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل ؟ فقال : تلك عقول كادها الله ، أي لم يصحبها التوفيق . { أم تأمرهم } ، قيل : أم بمعنى الهمزة ، أي أتأمرهم ؟ وقدرها مجاهد ببل ، والصحيح أنها تتقدر ببل والهمزة . { أم هم قوم طاغون } : أي مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحق . وقرأ مجاهد : بل هم ، مكان : { أم هم } ، وكون الأحلام آمرة مجازاً لما أدت إلى ذلك ، جعلت آمرة كقوله : { أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا } [ هود : 87 ] . وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال : كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف . تقوله : اختلقه من قبل نفسه ، كما قال : { ولو تقول علينا بعض الأقاويل } [ الحاقة : 44 ] . وقال ابن عطية : تقوله معناه : قال عن الغير أنه قاله ، فهو عبارة عن كذب مخصوص . انتهى . { بل لا يؤمنون } : أي لكفرهم وعنادهم ، ثم عجزهم بقوله تعالى : { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } : أي مماثل للقرآن في نظمه ووصفه من البلاغة ، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات ، والحكم إن كانوا صادقين في أنه تقوله ، فليقولوا هم مثله ، إذ هو واحد منهم ، فإن كانوا صادقين فليكونوا مثله في التقوّل . فقرأ الجحدري وأبو السمّال : { بحديث مثله } ، على الإضافة : أي بحديث رجل مثل الرسول في كونه أمياً لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده ، أو مثله في كونه واحداً منهم ، فلا يجوز أن يكون مثله في العرب فصاحة ، فليأت بمثل ما أتى به ، ولن يقدر على ذلك أبداً . { أم خلقوا من غير شيء } : أي من غير شيء حي كالجماد ، فهم لا يؤمرون ولا ينهون ، كما هي الجمادات عليه ، قاله الطبري . وقيل : { من غير شيء } : أي من غير علة ولا لغاية عقاب وثواب ، فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون ، وهذا كما تقول : فعلت كذا وكذا من غير علة : أي لغير علة ، فمن للسبب ، وفي القول الأول لابتداء الغاية . وقال الزمخشري : { أم خلقوا } : أم أحدثوا ؟ وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم ؛ { من غير شيء } : من غير مقدر ، أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق ؟ { بل لا يوقنون } : أي إذا سئلوا : من خلقكم وخلق السموات والأرض ؟ قالوا : الله ، وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون . أم خلقوا من غير رب ولا خالق ؟ أي أم أحدثوا وبرزوا للوجود من غير إله يبرزهم وينشئهم ؟ { أم هم الخالقون } لأنفسهم ، فلا يعبدون الله ، ولا يأتمرون بأوامره ، ولا ينتهون عن مناهيه . والقسمان باطلان ، وهم يعترفون بذلك ، فدل على بطلانهم . وقال ابن عطية : ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم ، أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ؟ ثم خصص من تلك الأشياء السموات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات ، ثم حكم عليهم بأنهم لا يوقنون ولا ينظرون نظراً يؤديهم إلى اليقين . { أم عندهم خزائن ربك } ، قال الزمخشري : خزائن الرزق ، حتى يرزقوا النبوة من شاءوا ، أو : أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة ؟ { أم هم المسيطرون } : الأرباب الغالبون حتى يدبرون أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم . وقال ابن عطية : أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور ، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله تعالى . وقال الزهراوي : وقيل يريد بالخزائن : العلم ، وهذا قول حسن إذا تؤمل وبسط . وقال الرماني : خزائنه تعالى : مقدوراته . انتهى . والمسيطر ، قال ابن عباس : المسلط القاهر . وقرأ الجمهور : المصيطرون بالصاد ؛ وهشام وقنبل وحفص : بخلاف عنه بالسين ، وهو الأصل ؛ ومن أبدلها صاداً ، فلأجل حرف الاستعلاء وهو الطاء ، وأشم خلف عن حمزة ، وخلاد عنه بخلاف عنه الزاي . { أم لهم سلم } منصوب إلى السماء ، { يستمعون فيه } : أي عليه أو منه ، إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض ، وقدره الزمخشري : صاعدين فيه ، ومفعول يستمعون محذوف تقديره : الخبر بصحة ما يدعونه ، وقدره الزمخشري : ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون . { بسلطان مبين } : أي بحجة واضحة بصدق استماعهم مستمعهم ، { أم تسألهم أجراً } على الإيمان بالله وتوحيده واتباع شرعه ، { فهم } من ذلك المغرم الثقيل اللام { مثقلون } ، فاقتضى زهدهم في اتباعك . { أم عندهم الغيب } : أي اللوح المحفوظ ، { فهم يكتبون } : أي يثبتون ذلك للناس شرعاً ، وذلك عبادة الأوثان وتسييب السوائب وغير ذلك من سيرهم . وقيل : المعنى فهم يعلمون متى يموت محمد صلى الله عليه وسلم الذي يتربصون به ، ويكتبون بمعنى : يحكمون . وقال ابن عباس : يعني أم عندهم اللوح المحفوظ ، فهم يكتبون ما فيه ويخبرون . { أم يريدون كيداً } : أي بك وبشرعك ، وهو كيدهم به في دار الندوة ، { فالذين كفروا } : أي فهم ، وأبرز الظاهر تنبيهاً على العلة ، أو الذين كفروا عام فيندرجون فيه ، { هم المكيدون } : أي الذين يعود عليهم وبال كيدهم ، ويحيق بهم مكرهم ، وذلك أنهم قتلوا يوم بدر ، وسمى غلبتهم كيداً ، إذ كانت عقوبة الكيد . { أم لهم إله غير الله } يعصمهم ويدفع عنهم في صدور إهلاكهم ، ثم نزه تعالى نفسه ، { عما يشركون } به من الأصنام والأوثان . { وإن يروا كسفاً من السماء } : كانت قريش قد اقترحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما اقترحت من قولهم : أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ، فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عياناً ، حسب اقتراحهم ، لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه ، وقالوا : هو سحاب مركوم ، تراكم بعضه على بعض ممطرنا ، وليس بكسف ساقط للعذاب . { فذرهم } : أمر موادعة منسوخ بآية السيف . وقرأ الجمهور : { حتى يلاقوا } ؛ وأبو حيوة : حتى يلقوا ، مضارع لقي ، { يومهم } : أي يوم موتهم واحداً واحداً ، والصعق : العذاب ، أو يوم بدر ، لأنهم عذبوا فيه ، أو يوم القيامة ، أقوال ، ثالثها قول الجمهور ، لأن صعقته تعم جميع الخلائق . وقرأ الجمهور : يصعقون ، بفتح الياء . وقرأ عاصم وابن عامر وزيد بن عليّ وأهل مكة : في قول شبل بن عبادة ، وفتحها أهل مكة ، كالجمهور في قول إسماعيل . وقرأ السلمي : بضم الياء وكسر العين ، من أصعق رباعياً . { وإن للذين ظلموا } : أي لهؤلاء الظلمة ، { عذاباً دون ذلك } : أي دون يوم القيامة وقبله ، وهو يوم بدر والفتح ، قاله ابن عباس وغيره . وقال البراء بن عازب وابن عباس أيضاً : هو عذاب القبر . وقال الحسن وابن زيد : مصائبهم في الدنيا . وقال مجاهد : هو الجوع والقحط ، سبع سنين . { فإنك بأعيننا } : عبارة عن الحفظ والكلاءة ، وجمع لأنه أضيف إلى ضمير الجماعة ، وحين كان الضمير مفرداً ، أفرد العين ، قال تعالى : { ولتصنع على عيني } [ طه : 39 ] . وقرأ أبو السمال : بأعيننا ، بنون واحدة مشدّدة . { وسبح بحمد ربك } ، قال أبو الأحوص عوف بن مالك : هو التسبيح المعروف ، وهو قول سبحان الله عند كل قيام . وقال عطاء : حين تقوم من كل مجلس ، وهو قول ابن جبير ومجاهد . وقال ابن عباس : حين تقوم من منامك . وقيل : هو صلاة التطوع . وقيل : الفريضة . وقال الضحاك : حين تقوم إلى الصلاة تقول : سبحانك اللهم وبحمدك ، تبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك . وقال زيد بن أسلم : حين تقوم من القائلة والتسبيح ، إذ ذاك هو صلاة الظهر . وقال ابن السائب : اذكر الله بلسانك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة . { ومن الليل فسبحه } : قبل صلاة المغرب والعشاء . { وأدبار النجوم } : صلاة الصبح . وعن عمرو وعليّ وأبي هريرة والحسن : إنها النوافل ، { وأدبار النجوم } : ركعتا الفجر . وقرأ سالم بن أبي الجعد والمنهال بن عمرو ويعقوب : وأدبار ، بفتح الهمزة ، بمعنى : وأعقاب النجوم .