Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 75-96)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قرأ الجمهور : { فلا أقسم } ، فقيل : لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله : { لئلا يعلم أهل الكتاب } [ الحديد : 29 ] والمعنى : فاقسم . وقيل : المنفي المحذوف ، أي فلا صحة لما يقول الكفار . ثم ابتدأ أقسم ، قاله سعيد بن جبير وبعض النحاة ؛ ولا يجوز ، لأن في ذلك حذف اسم لا وخبرها ، وليس جواباً لسائل سأل ، فيحتمل ذلك ، نحو قوله { لا } لمن قال : هل من رجل في الدار ؟ وقيل : توكيد مبالغة ما ، وهي كاستفتاح كلام شبهه في القسم ، إلا في شائع الكلام القسم وغيره ، ومنه . @ فـلا وأبـي أعـدائها لا أخـونها @@ والأولى عندي أنها لام أشبعت فتحتها ، فتولدت منها ألف ، كقوله : @ أعـوذ بالله مـن العقـراب @@ وهذا وإن كان قليلاً ، فقد جاء نظيره في قوله : { فاجعل أفئدة من الناس } [ إبراهيم : 37 ] بياء بعد الهمزة ، وذلك في قراءة هشام ، فالمعنى : فلأقسم ، كقراءة الحسن وعيسى ، وخرج قراءة الحسن أبو الفتح على تقدير مبتدأ محذوف ، أي فلأنا أقسم ، وتبعه على ذلك الزمخشري . وإنما ذهبا إلى ذلك لأنه فعل حال ، وفي القسم عليه خلاف . فالذي اختاره ابن عصفور وغيره أن فعل الحال لا يجوز أن يقسم عليه ، فاحتاجوا إلى أن يصوروا المضارع خبراً لمبتدأ محذوف ، فتصير الجملة اسمية ، فيقسم عليها . وذهب بعض النحويين إلى أن جواز القسم على فعل الحال ، وهذا الذي اختاره فتقول : والله ليخرج زيد ، وعليه قول الشاعر : @ ليعلـم ربـي أن بيتـي واسـع @@ وقال الزمخشري : في قراءة الحسن ، ولا يصح أن تكون اللام لام قسم لأمرين ، أحدهما : أن حقها أن تقرن بها النون المؤكدة ، والإخلال بها ضعيف قبيح ؛ والثاني : أن لأفعلنّ في جواب القسم للاستقبال ، وفعل القسم يجب أن يكون للحال . انتهى . أما الأمر الأول ففيه خلاف ، فالذي قاله قول البصريين ، وأما الكوفيون فيختارون ذلك ، ولكن يجيزون تعاقبهما ، فيجيزون لأضربن زيداً ، واضربن عمراً . وأما الثاني فصحيح ، لكنه هو الذي رجح عندنا أن تكون اللام في لا أقسم لام القسم ، وأقسم فعل حال ، والقسم قد يكون جواباً للقسم ؛ كما قال تعالى : { وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى } [ التوبة : 107 ] فاللام في { وليحلفن } جواب قسم ، وهو قسم ، لكنه لما لم يكن حلفهم حالاً ، بل مستقبلاً ، لزمت النون ، وهي مخلصة المضارع للاستقبال . وقرأ الجمهور : { بمواقع } جمعاً ؛ وعمر وعبد الله وابن عباس وأهل المدينة وحمزة والكسائي : بموقع مفرداً ، مراداً به الجمع . قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهم : هي نجوم القرآن التي أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويؤيد هذا القول قوله : { إنه لقرآن } ، فعاد الضمير على ما يفهم من قوله : { بمواقع النجوم } ، أي نجوم القرآن . وقيل : النجوم : الكواكب ومواقعها . قال مجاهد وأبو عبيدة : عند طلوعها وغروبها . وقال قتادة : مواقعها : مواضعها من السماء . وقال الحسن : مواقعها عند الانكدار يوم القيامة . وقيل : عند الانفضاض أثر العفاري ، ومن تأول النجوم على أنها الكواكب ، جعل الضمير في إنه يفسره سياق الكلام ، كقوله : { حتى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] . وفي إقسامه تعالى بمواقع النجوم سر في تعظيم ذلك لا نعلمه نحن ، وقد أعظم ذلك تعالى فقال : { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } . والجملة المقسم عليها قوله : { إنه لقرآن كريم } ، وفصل بين القسم وجوابه ؛ فالظاهر أنه اعتراض بينهما ، وفيه اعتراض بين الصفة والموصوف بقوله : { لو تعلمون } . وقال ابن عطية : { وإنه لقسم } تأكيد للأمر وتنبيه من المقسم به ، وليس هذا باعتراض بين الكلامين ، بل هذا معنى قصد التهمم به ، وإنما الاعتراض قوله : { لو تعلمون } . انتهى . وكريم : وصف مدح ينفي عنه مالا يليق به . وقال الزمخشري : { كريم } : حسن مرضي في جنسه من الكتب ، أو نفاع جم المنافع ، أو كريم على الله تعالى . { في كتاب مكنون } : أي مصون . قال ابن عباس ومجاهد : الكتاب الذي في السماء . وقال عكرمة : التوراة والإنجيل ، كأنه قال : ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه ، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة . وقيل : { في كتاب مكنون } : أي في مصاحف للمسلمين مصونة من التبديل والتغيير ، ولم تكن إذ ذاك مصاحف ، فهو إخبار بغيب . والظاهر أن قوله : { لا يمسه إلا المطهرون } وصف لقرآن كريم ، فالمطهرون هم الملائكة . وقيل : { لا يمسه } صفة لكتاب مكنون ، فإن كان الكتاب هو الذي في السماء ، فالمطهرون هم الملائكة أيضاً : أي لا يطلع عليه من سواهم ، وكذا على قول عكرمة : هم الملائكة ، وإن أريد بكتاب مكنون الصحف ، فالمعنى : أنه لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على طهارة من الناس . وإذا كان { المطهرون } هم الملائكة ، { فلا يمسه } نفي ، ويؤيد المنفي ما يمسه على قراءة عبد الله . وإذا عنى بهم المطهرون من الكفر والجنابة ، فاحتمل أن يكون نفياً محضاً ، ويكون حكمه أنه لا يمسه إلا المطهرون ، وإن كان يمسه غير المطهر ، كما جاء : " لا يعضد شجرها " ، أي الحكم هذا ، وإن كان قد يقع العضد . واحتمل أن يكون نفياً أريد به النهي ، فالضمة في السين إعراب . واحتمل أن يكون نهياً فلو فك ظهر الجزم ، ولكنه لما أدغم كان مجزوماً في التقدير ، والضمة فيه لأجل ضمة الهاء ، كما جاء في الحديث : " إنا لم نرده عليك " ، إلا إنا جزم ، وهو مجزوم ، ولم يحفظ سيبويه في نحو هذا من المجزوم المدغم المتصل بالهاء ضمير المذكر إلا الضم . قال ابن عطية : والقول بأن لا يمسه نهي ، قول فيه ضعف ، وذلك أنه إذا كان خبراً ، فهو في موضع الصفة وقوله بعد ذلك { تنزيل } صفة ، فإذا جعلناه نهياً ، جاء معناه أجنبياً معترضاً بين الصفات ، وذلك لا يحسن في وصف الكلام فتدبره . وفي حرف ابن مسعود ما يمسه ، وهذا يقوي ما رجحته من الخبر الذي معناه حقه وقدره أن لا يمسه إلا طاهر . انتهى . ولا يتعين أن يكون { تنزيل } صفة ، بل يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، فيحسن إذ ذاك أن يكون { لا يمسه } نهياً . وذكروا هنا حكم مس المصحف ، وذلك مذكور في الفقه ، وليس في الآية دليل على منع ذلك . وقرأ الجمهور : { المطهرون } اسم مفعول من طهر مشدّداً ؛ وعيسى : كذلك مخففاً من أطهر ، ورويت عن نافع وأبي عمرو . وقرأ سلمان الفارسي : المطهرون ، بخف الطاء وشد الهاء وكسرها : اسم فاعل من طهر ، أي المطهرين أنفسهم ؛ وعنه أيضاً المطهرون بشدهما ، أصله المتطهرون ، فأدغم التاء في الطاء ، ورويت عن الحسن وعبد الله بن عوف . وقرىء : المتطهرون . وقرىء : تنزيلاً بالنصب ، أي نزل تنزيلاً ، والإشارة في : { أفبهذا الحديث } للقرآن ، و { أنتم } : خطاب للكفار ، { مدهنون } ، قال ابن عباس : مهاودون فيما لا يحل . وقال أيضاً : مكذبون . { وتجعلون رزقكم } : أي شكر ما رزقكم الله من إنزال القرآن عليكم تكذيبكم به ، أي تضعون مكان الشكر التكذيب ، ومن هذا المعنى قول الراجز : @ مكان شكر القوم عند المنن كي الصحيحات وفقء الأعين @@ وقرأ عليّ وابن عباس : { وتجعلون شكركم } ، وذلك على سبيل التفسير لمخالفته السواد . وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة أزد شنؤه ما رزق فلان فلاناً ، بمعنى : ما شكره . قيل : نزلت في الأنواء ، ونسبة السقيا إليها ، والرزق : المطر ، فالمعنى : ما يرزقكم الله من الغيب . وقال ابن عطية : أجمع المفسرون على أن الآية توبيخ للقائلين في المطر ، هذا بنوء كذا وكذا ، وهذا بنوء الأسد ، وهذا بنوء الجوزاء ، وغير ذلك . وقرأ الجمهور : { تكذبون } من التكذيب ؛ وعليّ والمفضل عن عاصم : من الكذب ، فالمعنى من التكذيب أنه ليس من عند الله ، أي القرآن أو المطر ، حيث ينسبون ذلك إلى النجوم . ومن الكذب قولهم : في القرآن سحر وافتراء ، وفي المطر من الأنواء . { فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون } ، قال الزمخشري : ترتيب الآية : فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين ، فلولا الثانية مكررة للتوكيد ، والضمير في ترجعونها للنفس . وقال ابن عطية : توقيف على موضع عجز يقتضي النظر فيه أن الله مالك كل شيء . { وأنتم } : إشارة إلى جميع البشر ، { حينئذ } : حين إذ بلغت الحلقوم ، { تنظرون } : أي إلى النازع في الموت . وقرأ عيسى : حينئذ بكسر النون اتباعاً لحركة الهمزة في إذ ، { ونحن أقرب إليه منكم } بالعلم والقدرة ، { ولكن لا تبصرون } : من البصيرة بالقلب ، أو { أقرب } : أي ملائكتنا ورسلنا ، { ولكن لا تبصرون } : من البصر بالعين . ثم عاد التوقيف والتقدير ثانية بلفظ التخصيص . والمدين : المملوك . قال الأخطل : @ ربت ورباني في حجرها ابن مدينة @@ قيل : ابن مملوكة يصف عبداً ابن أمة ، وآخر البيت : @ تراه على مسحانة يتوكل @@ والمعنى : فلولا ترجعون النفس البالغة إلى الحلقوم إن كنتم غير مملوكين وغير مقهورين . { إن كنتم صادقين } في تعطيلكم وكفركم بالمحيي المميت المبدىء المعيد ، إذ كانوا فيما ذهبوا إليه من أن القرآن سحر وافتراء ، وأن ما نزل من المطر هو بنوء ، كذا تعطيل للصانع وتعجيز له . وقال ابن عطية : قوله { ترجعونها } سد مسد جوابها ، والبيانات التي تقتضيها التخصيصات ، وإذا من قوله : { فلولا إذا } ، وإن المتكررة ، وحمل بعض القول بعضاً إيجازاً واقتصاراً . انتهى . وتقول : { إذا } ليست شرطية ، فتسد { ترجعونها } مسد جوابها ، بل هي ظرف غير شرط معمول لترجعونها المحذوف بعد فلولا ، لدلالة ترجعونها في التخصيص الثاني عليه ، فجاء التخصيص الأول مقيداً بوقت بلوغ الحلقوم ، وجاء التخصيص الثاني معلقاً على انتفاء مربوبيتهم ، وهم لا يقدرون على رجوعها ، إذ مربوبيتهم موجودة ، فهم مقهورون لا قدرة لهم . { فأما إن كان } : أي المتوفى ، { من المقرّبين } : وهم السابقون . وقرأ الجمهور ؛ { فروح } ، بفتح الراء ؛ وعائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ونوح القارىء ، والضحاك ، والأشهب ، وشعيب بن الحجاب ، وسليمان التيمي ، والربيع بن خيثم ، ومحمد بن عليّ ، وأبو عمران الجوني ، والكلبي ، وفياض ، وعبيد ، وعبد الوارث عن أبي عمرو ، ويعقوب بن صيان ، وزيد ، ورويس عنه : بضمها . قال الحسن : الروح : الرحمة ، لأنها كالحياة للمرحوم . وقال أيضاً : روحه تخرج في ريحان . وقيل : الروح : البقاء ، أي فهذان له معاً ، وهو الخلود مع الرزق . وقال مجاهد : الريحان : الرزق . وقال الضحاك : الاستراحة . وقال أبو العالية وقتادة والحسن أيضاً : الريحان ، هذا الشجر المعروف في الدنيا ، يلقى المقرب ريحاناً من الجنة . وقال الخليل : هو ظرف كل بقلة طيبة فيها أوائل النور . وقال صلى الله عليه وسلم ، في الحسن والحسين ، رضي الله تعالى عنهما : " هما ريحانتاي من الدنيا " وقال ابن عطية : الريحان : مما تنبسط به النفوس ، { فروح } : فسلام ، فنزل الفاء جواب أما تقدم . أما وهي في تقدير الشرط ، وإن كان من المقربين ، وإن كان من أصحاب اليمين ، وإن كان من المكذبين الضالين شرط ؛ وإذا اجتمع شرطان ، كان الجواب للسابق منهما . وجواب الثاني محذوف ، ولذلك كان فعل الشرط ماضي اللفظ ، أو مصحوباً بلم ، وأغنى عنه جواب أما ، هذا مذهب سيبويه . وذهب أبو عليّ الفارسي إلى أن الفاء جواب إن ، وجواب أما محذوف ، وله قول موافق لمذهب سيبويه . وذهب الأخفش إلى أن الفاء جواب لأمّا ، والشرط معاً ، وقد أبطلنا هذين المذهبين في كتابنا المسمى بالتذييل والتكميل في شرح التسهيل ، والخطاب في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي لا ترى فيهم يا محمد إلا السلامة من العذاب . ثم لكل معتبر من أمّته صلى الله عليه وسلم قبل لمن يخاطبه : { من أصحاب اليمين } . فقال الطبري : المعنى : فسلام لك أنت من أصحاب اليمين . وقال قوم : المعنى : فيقال لهم : مسلم لك إنك من أصحاب اليمين . وقيل : فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين ، أي يسلمون عليك ، كقوله : { إلا قيلاً سلاماً سلاماً } . والمكذبون الضالون هم أصحاب المشأمة ، أصحاب الشمال . وقرأ الجمهور : وتصلية رفعاً ، عطفاً على { فنزل } ؛ وأحمد بن موسى والمقري واللؤلؤي عن أبي عمرو : بجر التاء عطفاً على { من حميم } . ولما انقضى الإخبار بتقسيم أحوالهم وما آل إليه كل قسم منهم ، أكد ذلك بقوله : { إن هذا } : أي إن هذا الخبر المذكور في هذه السورة { هو حق اليقين } ، فقيل : هو من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة ، كما تقول : هذا يقين اليقين وصواب الصواب ، بمعنى أنها نهاية في ذلك ، فهما بمعنى واحد أضيف على سبيل المبالغة . وقيل : هو من إضافة الموصوف إلى صفته جعل الحق مبايناً لليقين ، أي الثابت المتيقن . ولما تقدم ذكر الأقسام الثلاثة مسهباً الكلام فيهم ، أمره تعالى بتنزيهه عن ما لا يليق به من الصفات . ولما أعاد التقسيم موجزاً الكلام فيه ، أمره أيضاً بتنزيهه وتسبيحه ، والإقبال على عبادة ربه ، والإعراض عن أقوال الكفرة المنكرين للبعث والحساب والجزاء . ويظهر أن سبح يتعدى تارة بنفسه ، كقوله : { سبح اسم ربك الأعلى } [ الأعلى : 1 ] ويسبحوه ؛ وتارة بحرف الجر ، كقوله : { فسبح باسم ربك العظيم } ، والعظيم يجوز أن يكون صفة لاسم ، ويجوز أن يكون صفة لربك .