Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 74, Ayat: 1-31)

Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قال الجمهور : لما فزع من رؤية جبريل على كرسي بين السماء والأرض ورعب منه ، رجع إلى خديجة فقال : زملوني دثروني ، نزلت { يا أيها المدثر } . قال النخعي وقتادة وعائشة : نودي وهو في حال تدثره ، فدعى بحال من أحواله . وروي أنه كان تدثر في قطيفة . قيل : وكان يسمع من قريش ما كرهه ، فاغتم وتغطى بثوبه مفكراً ، فأمر أن لا يدع إنذارهم وإن أسمعوه وآذوه . وقال عكرمة معناه : يا أيها المدثر للنبوة وأثقالها ، كما قال في المزمل . وقرأ الجمهور : { المدثر } بشد الدال . وأصله المتدثر فأدغم ، وكذا هو في حرف أبي على الأصل . وقرأ عكرمة : بتخفيف الدال ، كما قرىء بتخفيف الزاي في المزمل ، أي دثر نفسه . وعن عكرمة أيضاً : فتح التاء اسم مفعول ، وقال : دثرت هذا الأمر وعصب بك . { قم فأنذر } : أي قم من مضجعك ، أو قم بمعنى الأخذ في الشيء ، كما تقول : قام زيد يضرب عمراً ، أي أخذ ، وكما قال : @ عـلام قـام يشتمنـي لئيـم @@ أي أخذ ، والمعنى قم قيام تصميم وجد ، { فأنذر } : أي حذر عذاب الله ووقائعه ، والإنذار عام بجميع الناس وبعثه إلى الخلق . { وربك فكبر } : أي فعظم كبرياءه . وقال الزمخشري : واختص ربك بالتكبير ، وهو الوصف بالكبرياء ، وأن يقال : الله أكبر . انتهى . وهذا على مذهبه من أن تقديم المفعول على الفعل يدل على الاختصاص ، قال : ودخلت الفاء لمعنى الشرط ، كأنه قيل : وما كان فلا تدع تكبيره . انتهى . وهو قريب مما قدره النحاة في قولك : زيداً فاضرب ، قالوا تقديره : تنبه فاضرب زيداً ، فالفاء هي جواب الأمر ، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط ، وإما الشرط بعده محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة . { وثيابك فطهر } : الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات ، لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة ، ويقبح أن تكون ثياب المؤمن نجسة ، والقول بأنها الثياب حقيقة هو قول ابن سيرين وابن زيد والشافعي ، ومن هذه الآية ذهب الشافعي إلى وجوب غسل النجاسة من ثياب المصلي . وقيل : تطهيرها : تقصيرها ، ومخالفة العرب في تطويل الثياب وجرهم الذيول على سبيل الفخر والتكبر ، قال الشاعر : @ ثم راحوا عبق المسك بهم يلحفون الأرض هداب الأزر @@ ولا يؤمن من أصابتها النجاسة وفي الحديث : " أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين ، ما كان أسفل من ذلك ففي النار " وذهب الجمهور إلى أن الثياب هنا مجاز . فقال ابن عباس والضحاك : تطهيرها أن لا تكون تتلبس بالقذر . وقال ابن عباس وابن جبير أيضاً : كنى بالثياب عن القلب ، كما قال امرؤ القيس : @ فسلـي ثيابـي مـن ثيابـك تنسلـي @@ أي قلبي من قلبك وعلى الطهارة من القذر ، وأنشد قول غيلان بن سلمة الثقفي : @ إني بحمد الله لا ثوب غادر لبست ولا من خزية أتقنع @@ وقيل : كناية عن طهارة العمل ، المعنى : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد . وقال ابن زيد : إذا كان الرجل خبيث العمل قالوا : فلان خبيث الثياب ؛ وإذا كان حسن العمل قالوا : فلان طاهر الثياب ، ونحو هذا عن السدي ، ومنه قول الشاعر : @ لا هم إن عامر بن جهم أو ذم حجا في ثياب دسم @@ أي : دنسة بالمعاصي ، وقيل : كنى عن النفس بالثياب ، قاله ابن عباس . قال الشاعر : @ فشككـت بالـرمـح الطـويـل ثيـابـه @@ وقال آخر : @ ثياب بني عوف طهارى نقية وأوجههم بيض سافر غران @@ أي : أنفسهم . وقيل : كنى بها عن الجسم . قالت ليلى وقد ذكرت إبلاً : @ رموها بأثواب خفاف فلا نرى لها شبهاً إلا النعام المنفرا @@ أي : ركبوها فرموها بأنفسهم . وقيل : كناية عن الأهل ، قال تعالى : { هن لباس لكم } [ البقرة : 187 ] والتطهر فيهن اختيار المؤمنات العفائف . وقيل : وطئهن في القبل لا في الدبر ، في الطهر لا في الحيض ، حكاه ابن بحر . وقيل : كناية عن الخلق ، أي وخلقك فحسن ، قاله الحسن والقرطبي ، ومنه قوله : @ ويحيـى ما يلائم سوء خلق ويحيـى طاهر الأثواب حر @@ أي : حسن الأخلاق . وقرأ الجمهور : والرجز بكسر الراء ، وهي لغة قريش ؛ والحسن ومجاهد والسلمي وأبو جعفر وأبو شيبة وابن محيصن وابن وثاب وقتادة والنخعي وابن أبي إسحاق والأعرج وحفص : بضمها ، فقيل : هما بمعنى واحد ، يراد بهما الأصنام والأوثان . وقيل : الكسر للبين والنقائص والفجور ، والضم لصنمين أساف ونائلة . وقال عكرمة ومجاهد والزهري : للأصنام عموماً . وقال ابن عباس : الرجز : السخط ، أي اهجر ما يؤدي إليه . وقال الحسن : كل معصية ، والمعنى في الأمر : اثبت ودم على هجره ، لأنه صلى الله عليه وسلم كان بريئاً منه . وقال النخعي : الرجز : الإثم . وقال القتبي : العذاب ، أي اهجر ما يؤدي إليه . وقرأ الجمهور : { ولا تمنن } ، بفك التضعيف ؛ والحسن وأبو السمال : بشد النون . قال ابن عباس وغيره : لا تعط عطاء لتعطي أكثر منه ، كأنه من قولهم : منّ إذا أعطى . قال الضحاك : هذا خاص به صلى الله عليه وسلم ، ومباح ذلك لأمته ، لكنه لا أجر لهم . وعن ابن عباس أيضاً : لا تقل دعوت فلم أجب . وعن قتادة : لا تدل بعملك . وعن ابن زيد : لا تمنن بنبوتك ، تستكثر بأجر أو كسب تطلبه منهم . وقال الحسن : تمنن على الله بجدك ، تستكثر أعمالك ويقع لك بها إعجاب ، وهذه الأقوال كلها من المنّ تعداد اليد وذكرها . وقال مجاهد : { ولا تمنن تستكثر } ما حملناك من أعباء الرسالة ، أو تستكثر من الخير ، من قولهم : حبل متين : أي ضعيف . وقيل : ولا تعط مستكثراً رائياً لما تعطيه . وقرأ الجمهور : تستكثر برفع الراء ، والجملة حالية ، أي مستكثراً . قال الزمخشري : ويجوز في الرفع أن تحذف أن ويبطل عملها ، كما روي : أحضر الوغى بالرفع . انتهى ، وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه ، لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولنا مندوحة عنه مع صحة الحال ، أي مستكثراً . وقرأ الحسن وابن أبي عبلة : بجزم الراء ، ووجهه أنه بدل من تمنن ، أي لا تستكثر ، كقوله : { يضاعف له العذاب } [ الفرقان : 69 ] في قراءة من جزم ، بدلاً من قوله : { يلق } [ الفرقان : 68 ] وكقوله : @ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا تجد حطباً جزًلا وناراً تأججا @@ ويكون من المن الذي في قوله تعالى : { لا تبطلوا صدقـاتكم بالمنّ والأذى } [ البقرة : 264 ] لأن من شأن المان أن يستكثر ما يعطي أن يراه كثيراً ويعتد به ؛ وأجاز الزمخشري فيه وجهين ، أحدهما : أن تشبه ثرو بعضد فتسكن تخفيفاً ؛ والثاني : أن يعتبر حال الوقف ، يعني فيجري الوصل مجرى الوقف ، وهذان لا يجوز أن يحمل القرآن عليهما مع وجود ما هو راجح عليهما ، وهو المبدل . وقرأ الحسن أيضاً والأعمش : تستكثر بنصب الراء ، أي لن تحقرها . وقرأ ابن مسعود : أن تستكثر ، بإظهار أن . { ولربك فاصبر } : أي لوجه ربك أمره بالصبر ، فيتناول الصبر على تكاليف النبوة ، وعلى أداء طاعة الله ، وعلى أذى الكفار . قال ابن زيد : على حرب الأحمر والأسود ، فكل مصبور عليه ومصبور عنه يندرج في الصبر . وقال الزمخشري : والفاء في قوله : { فإذا نقر } للتسبب ، كأنه قيل : فاصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى عاقبة صبرك عليه . وقال الزمخشري : والفاء في { فذلك } للجزاء . فإن قلت : بم انتصب إذا ، وكيف صح أن يقع يومئذ ظرفاً ليوم عسير ؟ قلت : انتصب إذا بما دل عليه الجزاء ، لأن المعنى : { فإذا نقر في الناقور } ، عسر الأمر على الكافرين ؛ والذي أجاز وقوع يومئذ ظرفاً ليوم عسير أن المعنى : فذلك وقت النقر وقوع يوم عسير ، لأن يوم القيامة يأتي ويقع حين ينقر في الناقور . ويجوز أن يكون يومئذ مبنياً مرفوع المحل بدلاً من ذلك ، ويوم عسير خبر ، كأنه قيل : فيوم النقر يوم عسير . فإن قلت : فما فائدة قوله : { غير يسير } ، وعسير مغن عنه ؟ قلت : لما قال { على الكافرين } فقصر العسر عليهم ، قال { غير يسير } ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيراً هيناً ، فيجمع بين وعيد الكافرين وزيادة غيظهم وبشارة المؤمنين وتسليتهم . ويجوز أن يراد به عسير لا يرجى أن يرجع يسيراً ، كما يرجى بيسير العسير من أمور الدنيا . انتهى . وقال الحوفي : { فإذا } ، إذا متعلقة بأنذر ، أي فأنذرهم إذا نقر في الناقورة ، قال أبو البقاء : يجري على القول الأخفش أن تكون إذا مبتدأ والخبر فذلك والفاء زائدة . فأما يومئذ فظرف لذلك ، وأجاز أبو البقاء أن يتعلق على الكافرين بيسير ، أي غير يسير ، أي غير سهل على الكافرين ؛ وينبغي أن لا يجوز ، لأن فيه تقديم معمول العامل المضاف إليه غير على العامل ، وهو ممنوع على الصحيح ؛ وقد أجازه بعضهم فيقول : أنا بزيد غير راض . { ذرني ومن خلقت وحيداً } : لا خلاف أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي ، فروي أنه كان يلقب بالوحيد ، أي لأنه لا نظير له في ماله وشرفه في بيته . والظاهر انتصاب وحيداً على الحال من الضمير المحذوف العائد على من ، أي خلقته منفرداً ذليلاً قليلاً لا مال له ولا ولد ، فآتاه الله تعالى المال والولد ، فكفر نعمته وأشرك به واستهزأ بدينه . وقيل : حال من ضمير النصب في ذرني ، قاله مجاهد ، أي ذرني وحدي معه ، فأنا أجزيك في الانتقام منه ؛ أو حال من التاء في خلقت ، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقي أحد ، فأنا أهلكه لا أحتاج إلى ناصر في إهلاكه . وقيل : وحيداً لا يتبين أبوه . وكان الوليد معروفاً بأنه دعي ، كما تقدم في قوله تعالى : { عتل بعد ذلك زنيم } [ القلم : 13 ] وإذا كان يدعى وحيداً ، فلا يجوز أن ينتصب على الذم ، لأنه لا يجوز أن يصدقه الله تعالى في أنه وحيداً لا نظير له . ورد ذلك بأنه لما لقب بذلك صار علماً ، والعلم لا يفيد في المسمى صفة ، وأيضاً فيمكن حمله على أنه وحيد في الكفر والخبث والدناءة . { وجعلت له مالاً ممدوداً } ، قال ابن عباس : كان له بين مكة والطائف إبل وحجور ونعم وجنان وعبيد وجوار . وقيل : كان صاحب زرع وضرع وتجارة . وقال النعمان بن بشير : المال المدود هو الأرض لأنها مدت . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : هو الريع المستغل مشاهرة ، فهو مد في الزمان لا ينقطع . وقيل : هو مقدار معين واضطربوا في تعيينه . فما قيل : ألف دينار ، وقيل : ألف ألف دينار ، وكل هذا تحكم . { وبنين شهوداً } : أي حضوراً معه بمكة لا يظعنون عنه لغناهم فهو مستأنس بهم ، أو شهوداً : أي رجالاً يشهدون معه المجامع والمحافل ، أو تسمع شهادتهم فيما يتحاكم فيه ؛ واختلف في عددهم ، فذكر منهم : خالد وهشام وعمارة ، وقد أسلموا ؛ والوليد والعاصي وقيس وعبد شمس . قال مقاتل : فما زال الوليد بعد هذه الآية وبعد نزولها في نقص في ماله وولده حتى هلك . { ومهدت له تمهيداً } : أي وطأت وهيأت وبسطت له بساطاً حتى أقام ببلدته مطمئناً يرجع إلى رأيه . وقال ابن عباس : وسعت له ما بين اليمن إلى الشام . وقال مجاهد : مهدت له المال بعضه فوق بعض ، كما يمهد الفراش . { ثم يطمع أن أزيد } : أي على ما أعطيته من المال والولد . { كلا } : أي ليس يكون كذلك مع كفره بالنعم . وقال الحسن وغيره : ثم يطمع أن أدخله الجنة ، لأنه كان يقول : إن كان محمداً صادقاً فما خلقت الجنة إلا لي . { ثم يطمع } ، قال الزمخشري : استبعاد لطمعه واستنكار ، أي لا مزيد على ما أوتي كثرة وسعة ، { كلا } : قطع لرجائه وردع . انتهى . وطمعه في الزيادة دليل على مبشعه وحبه للدنيا . { إنه كان لآياتنا عنيداً } : تعليل للرّدع على وجه الاستئناف ، كأن قائلاً قال : لم لا يزاد ؟ فقال إنه كان يعاند آيات المنعم وكفر بذلك ، والكافر لا يستحق المزيد ؛ وإنما جعلت الآيات بالنسبة إلى الأنعام لمناسبة قوله : { وجعلت له مالاً ممدوداً } إلى آخر ما آتاه الله ، والأحسن أن يحمل على آيات القرآن لحديثه في القرآن وزعمه أنه سحر . { سأرهقه } : أي سأكلفه وأعنته بمشقة وعسر ، { صعوداً } : عقبة في جهنم ، كلما وضع عليها شيء من الإنسان ذاب ثم يعود ، والصعود في اللغة : العقبة الشاقة ، وتقدّم شرح عنيد في سورة إبراهيم عليه السلام . { إنه فكر وقدر } : روي أن الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال : إن له لحلاوة ، وإن أسفله لمغدق ، وإن فرعه لجناة ، وإنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى ، ونحو هذا من الكلام ، فخالفوه وقالوا : هو شعر ، فقال : والله ما هو بشعر ، قد عرفنا الشعر هزجه وبسيطه ، قالوا : فهو كاهن ، قال : والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، قالوا : هو مجنون ، قال : والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا المجنون وخنقه ، قالوا : هو سحر ، قال : أما هذا فيشبه أنه سحر ويقول أقوال نفسه . وروي هذا بألفاظ غير هذا ويقرب من حيث المعنى ، وفيه : وتزعمون أنه كذب ، فهل جربتم عليه شيئاً من الكذب ؟ فقالوا : في كل ذلك اللهم لا ، ثم قالوا : فما هو ؟ ففكر ثم قال : ما هو إلا ساحر . أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه ؟ وما الذي يقوله إلا سحر يؤثره عن مثل مسيلمة وعن أهل بابل ، فارتج النادي فرحاً وتفرّقوا متعجبين منه . وروي أن الوليد سمع من القرآن ما أعجبه ومدحه ، ثم سمع كذلك مراراً حتى كاد أن يقارب الإسلام . ودخل إلى أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه مراراً ، فجاءه أبو جهل فقال : يا وليد ، أشعرت أن قريشاً قد ذمّتك بدخولك إلى ابن أبي قحافة ، وزعمت أنك إنما تقصد أن تأكل طعامه ؟ وقد أبغضتك لمقاربتك أمر محمد ، وما يخلصك عندهم إلا أن تقول في هذا الكلام قولاً يرضيهم ، ففتنه أبو جهل فافتتن وقال : أفعل . { إنه فكر } : تعليل للوعيد في قوله : { سأرهقه صعوداً } . قيل : ويجوز أن يكون { إنه فكر } بدلاً من قوله : { إنه كان لآياتنا عنيداً } ، بياناً لكنه عناده وفكر ، أي في القرآن ومن أتى به ، { وقدر } : أي في نفسه ما يقول فيه . { فقتل كيف قدر } ، قتل : لعن ، وقيل : غلب وقهر ، وذلك من قوله : @ لسهميـك فـي أعـسار قـلب مقتـل @@ أي مذلل مقهور بالحب ، فلعن دعاء عليه بالطرد والإبعاد وغلب ، وذلك إخبار بقهره وذلته ، و { كيف قدر } معناه : كيف قدر ما لا يصح تقديره وما لا يسوغ أن يقدره عاقل ؟ وقيل : دعاء مقتضاه الاستحسان والتعجب . فقيل ذلك لمنزعه الأول في مدحه القرآن ، وفي نفيه الشعر والكهانة والجنون عنه ، فيجري مجرى قول عبد الملك بن مروان : قاتل الله كثيراً ، كأنه رآنا حين قال كذا . وقيل : ذلك لإصابته ما طلبت قريش منه . وقيل : ذلك ثناء عليه على جهة الاستهزاء . وقيل : ذلك حكاية لما كرروه من قولهم : قتل كيف قدّر ، تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله ، وهذا فيه بعد . وقولهم : { قاتلهم الله } [ المنافقون : 4 ] ، مشهور في كلام العرب أنه يقال عند استعظام الأمر والتعجب منه ، ومعناه : أنه قد بلغ المبلغ الذي يحسد عليه ويدعى عليه من حساده ، والاستفهام في { كيف قدر } في معنى : ما أعجب تقديره وما أغربه ، كقولهم : أي رجل زيد ؟ أي ما أعظمه . وجاء التكرار بثم ليدل على أن الثانية أبلغ من الأولى للتراخى الذي بينهما ، كأنه دعى عليه أولاً ورجى أن يقلع عن ما كان يرومه فلم يفعل ، فدعى عليه ثانياً ، { ثم نظر } : أي فكر ثانياً . وقيل : نظر إلى وجوه الناس ، { ثم عبس وبسر } : أي قطب وكلح لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول . وقيل : قطب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . { ثم أدبر } : رجع مدبراً ، وقيل : أدبر عن الحق ، { واستكبر } ، قيل : تشارس مستكبراً ، وقيل : استكبر عن الحق ، وصفه بالهيئات التي تشكل بها حين أراد أن يقول : ما قال كل ذلك على سبيل الاستهزاء ، وأن ما يقوله كذب وافتراء ، إذ لو كان ممكناً ، لكان له هيئات غير هذه من فرح القلب وظهور السرور والجذل والبشر في وجهه ، ولو كان حقاً لم يحتج إلى هذا الفكر لأن الحق أبلج يتضح بنفسه من غير إكداد فكر ولا إبطاء تأمّل . ألا ترى إلى ذلك الرجل وقوله حين رأي رسول صلى الله عليه وسلم ، فعلمت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، وأسلم من فوره . وقيل : ثم نظر فيما يحتج به للقرآن ، فرأى ما فيه من الإعجاز والإعلام بمرتبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ودام نظره في ذلك . { ثم عبس وبسر } ، دلالة على تأنيه وتمهله في تأمّله ، إذ بين ذلك تراخ وتباعد . وكان العطف في { وبسر } وفي { واستكبر } ، لأن البسور قريب من العبوس ، فهو كأنه على سبيل التوكيد والاستكبار يظهر أنه سبب للادبار ، إذ الاستكبار معنى في القلب ، والإدبار حقيقة من فعل الجسم ، فهما سبب ومسبب ، فلا يعطف بثم ؛ وقدّم المسبب على السبب لأنه الظاهر للعين ، وناسب العطف بالواو ؛ وكان العطف في فقال بالفاء دلالة على التعقيب ، لأنه لما خطر بباله هذا القول بعد تطلبه ، لم يتمالك أن نطق به من غير تمهل . ومعنى { يؤثر } : يروي وينقل ، قال الشاعر : @ لقلت من القول ما لا يزا ل يؤثر عني به المسند @@ وقيل : { يؤثر } أي يختار ويرجح على غيره من السحر فيكون من الإيثار ، ومعنى { إلا سحر } : أي شبيه بالسحر . { إن هذا إلا قول البشر } : تأكيد لما قبله ، أي يلتقط من أقوال الناس ، ويظهر أن كفر الوليد إنما هو عناد . ألا ترى ثناءه على القرآن ، ونفيه عنه جميع ما نسبوا إليه من الشعر والكهانة والجنون ، وقصته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ عليه أوائل سورة فصلت إلى قوله تعالى : { فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } [ فصلت : 13 ] وكيف ناشده الله بالرحم أن يسكت ؟ { سأصليه سقر } ، قال الزمخشري : بدل من { سأرهقه صعوداً } . انتهى . ويظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة ، منهما فتوعد على سبيل التوعد العصيان الذي قبل كل واحدة منهما ، فتوعد على كونه عنيداً لآيات الله بإرهاق صعود ، وعلى قوله بأن القرآن سحر يؤثر بإصلائه سقر ، وتقدّم الكلام على سقر في أواخر سورة القمر . { وما أدراك ما سقر } : تعظيم لهولها وشدتها ، { لا تبقي ولا تذر } : أي لا تبقي على من ألقي فيها ، ولا تذر غاية من العذاب إلا أوصلته إليه . { لوّاحة للبشر } ، قال ابن عباس ومجاهد وأبو رزين والجمهور : معناه مغيرة للبشرات محرقة للجلود مسوّدة لها ، والبشر جمع بشرة ، وتقول العرب : لاحت النار الشيء إذا أحرقته وسوّدته . وقال الحسن وابن كيسان : لوّاحة بناء مبالغة من لاح إذا ظهر ، والمعنى أنها تظهر للناس ، وهم البشر ، من مسيرة خمسمائة عام ، وذلك لعظمها وهولها وزجرها ، كقوله تعالى : { لترون الجحيم } [ التكاثر : 6 ] وقوله : { وبرزت الجحيم لمن يرى } [ النازعات : 36 ] وقرأ الجمهور : { لواحة } بالرفع ، أي هي لوّاحة . وقرأ العوفي وزيد بن عليّ والحسن وابن أبي عبلة : لواحة بالنصب على الحال المؤكدة ، لأن النار التي لا تبقي ولا تذر لا تكون إلا مغيرة للأبشار . وقال الزمخشري : نصباً على الاختصاص للتهويل . { عليها تسعة عشر } : التمييز محذوف ، والمتبادر إلى الذهن أنه ملك . ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك ؟ فقال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أمّهاتكم ، أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم ، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم ؟ فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان شديد البطش : أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين ، فأنزل الله تعالى : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } أي ما جعلناهم رجالاً من جنسكم يطاقون ، وأنزل الله تعالى في أبي جهل { أولى لك فأولى } [ القيامة : 34 ] وقيل : التمييز المحذوف صنفاً من الملائكة ، وقيل : نقيباً ، ومعنى عليها يتولون أمرها وإليهم جماع زبانيتها ، فالذي يظهر من العدد ومن الآية بعد ذلك ومن الحديث أن هؤلاء هم النقباء . ألا ترى إلى قوله تعالى : { وما يعلم جنود ربك إلا هو } ، وقوله عليه الصلاة والسلام : " يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها " ؟ وقد ذكر المفسرون من نعوت هؤلاء الملائكة وخلقهم وقوتهم ، وما أقدرهم الله تعالى عليه من الأفعال ما الله أعلم بصحته ، وكذلك ذكر أبو عبد الله الرازي حكماً على زعمه في كون هؤلاء الملائكة على هذا العدد المخصوص يوقف عليها في تفسيره . وقرأ الجمهور : { تسعة عشر } مبنيين على الفتح على مشهور اللغة في هذا العدد . وقرأ أبو جعفر وطلحة بن سليمان : بإسكان العين ، كراهة توالي الحركات . وقرأ أنس بن مالك وابن عباس وابن قطيب وإبراهيم بن قنة : بضم التاء ، وهي حركة بناء عدل إليها عن الفتح لتوالي خمس فتحات ، ولا يتوهم أنها حركة إعراب ، لأنها لو كانت حركة إعراب لأعرب عشر . وقرأ أنس أيضاً : تسعة بالضم ، أعشر بالفتح . وقال صاحب اللوامح : فيجوز أنه جمع العشرة على أعشر ثم أجراه مجرى تسعة عشر ، وعنه أيضاً تسعة وعشر بالضم ، وقلب الهمزة من أعشر واواً خالصة تخفيفاً ، والباء فيهما مضمومة ضمة بناء لأنها معاقبة للفتحة ، فراراً من الجمع بين خمس حركات على جهة واحدة . وعن سليمان بن قنة ، وهو أخو إبراهيم : أنه قرأ تسعة أعشر بضم التاء ضمة إعراب وإضافته إلى أعشر ، وأعشر مجرور منون وذلك على فك التركيب . قال صاحب اللوامح : ويجيء على هذه القراءة ، وهي قراءة من قرأ أعشر مبنياً أو معرباً من حيث هو جمع ، أن الملائكة الذين هم على النار تسعون ملكاً . انتهى ، وفيه بعض تلخيص . قال الزمخشري : وقرىء تسعة أعشر جمع عشير ، مثل يمين وأيمن . انتهى . وسليمان بن قنة هذا هو الذي مدح أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو القائل : @ مررت على أبيات آل محمد فلم أر أمثالاً لها يوم حلت وكانوا ثمالاً ثم عادوا رزية لقد عظمت تلك الرزايا وجلت @@ { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } : أي جعلناهم خلقاً لا قبل لأحد من الناس بهم ، { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } : أي سبب فتنة ، وفتنة مفعول ثان لجعلنا ، أي جعلنا تلك العدّة ، وهي تسعة عشر ، سبباً لفتنة الكفار ، فليس فتنة مفعولاً من أجله ، وفتنهم هي كونهم أظهروا مقاومتهم في مغالبتهم ، وذلك على سبيل الاستهزاء . فإنهم يكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها . { ليستيقن } : هذا مفعول من أجله ، وهو متعلق بجعلنا لا بفتنة . فليست الفتنة معلولة للاستيقان ، بل المعلول جعل العدّة سبباً لفتنة { الذين أوتوا الكتاب } ، وهم اليهود والنصارى . إنّ هذا القرآن هو من عند الله ، إذ هم يجدون هذه العدّة في كتبهم المنزلة ، ويعلمون أن الرسول لم يقرأها ولا قرأها عليه أحد ، ولكن كتابة يصدّق كتب الأنبياء ، إذ كل ذلك حق يتعاضد من عند الله تعالى . قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهد ، وبورود الحقائق من عند الله يزداد كل ذي إيمان إيماناً ، ويزول الريب عن المصدّقين من أهل الكتاب وعن المؤمنين . وقيل : إنما صار جعلها فتنة لأنهم يستهزئون ويقولون : لم لم يكونوا عشرين ؟ وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود ؟ ويقولون هذا العدد القليل ، يقوون بتعذيب أكثر العالم من الجن والإنس من أول ما خلق الله تعالى إلى قيام الساعة . وقال الزمخشري : فإن قلت : قد جعل افتتان الكافرين بعدّة الزبانية سبباً لاستيقان أهل الكتاب وزيادة إيمان المؤمنين واستهزاء الكافرين والمنافقين ، فما وجه صحة ذلك ؟ قلت : ما جعل افتتانهم بالعدّة سبباً لذلك ، وإنما العدّة نفسها هي التي جعلت سبباً ، وذلك أن المراد بقوله : { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } : وما جعلنا عدّتهم إلا تسعة عشر ؛ فوضع { فتنة للذين كفروا } موضع { تسعة عشر } ، لأن حال هذه العدّة الناقصة واحداً من عقد العشرين ، أن يفتتن بها من لا يؤمن بالله وبحكمته ويعترض ويستهزىء ولا يذعن إذعان المؤمن ، وإن خفي عليه وجه الحكمة ، كأنه قيل : ولقد جعلنا عدّتهم عدّة من شأنها أن يفتتن بها لأجل استيقان المؤمنين وحيرة الكافرين . انتهى ، وهو سؤال عجيب وجواب فيه تحريف كتاب الله تعالى ، إذ زعم أن معنى { إلا فتنة للذين كفروا } : إلا تسعة عشر ، وهذا لا يذهب إليه عاقل ولا من له أدنى ذكاء ؛ وكفى ردّاً عليه تحريف كتاب الله ووضع ألفاظ مخالفة لألفاظ ومعنى مخالف لمعنى . وقيل : { ليستيقن } متعلق بفعل مضمر ، أي فعلنا ذلك ليستيقن . { ولا يرتاب } : توكيد لقوله { ليستيقن } ، إذ إثبات اليقين ونفي الارتياب أبلغ وآكد في الوصف لسكون النفس السكون التام . و { الذين في قلوبهم مرض } ، قال الحسين بن الفضل : السورة مكية ، ولم يكن بمكة نفاق ، وإنما المرض في الآية : الاضطراب وضعف الإيمان . وقيل : هو إخبار بالغيب ، أي وليقول المنافقون الذين ينجمون في مستقبل الزمان بالمدينة بعد الهجرة : { ماذا أراد الله بهذا مثلاً } . لما سمعوا هذا العدد لم يهتدوا وحاروا ، فاستفهم بعضهم بعضاً عن ذلك استبعاداً أن يكون هذا من عند الله ، وسموه مثلاً استعارة من المثل المضروب استغراباً منهم لهذا العدد ، والمعنى : أي شيء أراد الله بهذا العدد العجيب ؟ ومرادهم إنكار أصله وأنه ليس من عند الله ، وتقدّم إعراب مثل هذه الجملة في أوائل البقرة . الكاف في محل نصب ، وذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدى ، أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدى ، يضل الكافرين فيشكون فيزيدهم كفراً وضلالاً ، ويهدي المؤمنين فيزيدهم إيماناً . { وما يعلم جنود ربك إلا هو } : إعلام بأن الأمر فوق ما يتوهم ، وأن الجزاء إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها ، والسماء عامرة بأنواع من الملائكة . وفي الحديث : " أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً " { وما هي } : أي النار ، قاله مجاهد ، أو المخاطبة والنذارة ، أو نار الدنيا ، أو الآيات التي ذكرت ، أو العدّة التسعة عشر ، أو الجنود ، أقوال راجحها الأول وهي سقر ، ذكر بها البشر ليخافوا ويطيعوا . وقد جرى ذكر النار أيضاً في قوله : { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } . { إلا ذكرى للبشر } : أي الذين أهلوا للتذكر والاعتبار .