Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 32-56)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ كلا } ، قال الزمخشري : كلا إنكار بعد أن جعلها ذكرى ، أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون . انتهى . ولا يسوغ هذا في حق الله تعالى أن يخبر أنها ذكرى للبشر ، ثم ينكر أن تكون لهم ذكرى ، وإنما قوله : { للبشر } عام مخصوص . وقال الزمخشري : أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذير . وقيل : ردع لقول أبي جهل وأصحابه أنهم يقدرون على مقاومة خزنة جهنم . وقيل : ردع عن الاستهزاء بالعدة المخصوصة . وقال الفراء : هي صلة للقسم ، وقدرها بعضهم بحقاً ، وبعضهم بألا الاستفتاحية ، وقد تقدم الكلام عليها في آخر سورة مريم عليها السلام . { والقمر والليل إذ أدبر } : أي ولى ، ويقال دبر وأدبر بمعنى واحد . أقسم تعالى بهذه الأشياء تشريفاً لها وتنبيهاً على ما يظهر بها وفيها من عجائب الله وقدرته ، وقوام الوجود بإيجادها . وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وعطاء وابن يعمر وأبو جعفر وشيبة وأبو الزناد وقتادة وعمر بن العزيز والحسن وطلحة والنحويان والابنان وأبو بكر : إذا ظرف زمان مستقبل دبر بفتح الدال ؛ وابن جبير والسلمي والحسن : بخلاف عنهم ؛ وابن سيرين والأعرج وزيد بن علي وأبو شيخ وابن محيصن ونافع وحمزة وحفص : إذ ظرف زمان ماض ، أدبر رباعياً ؛ والحسن أيضاً وأبو رزين وأبو رجاء وابن يعمر أيضاً والسلمي أيضاً وطلحة أيضاً والأعمش ويونس بن عبيد ومطر : إذا بالألف ، أدبر بالهمز ، وكذا هو في مصحف عبد الله وأبيّ ، وهو مناسب لقوله : { إذا أسفر } ، ويقال : كأمس الدابر وأمس المدبر بمعنى واحد . وقال يونس بن حبيب : دبر : انقضى ، وأدبر : تولى . وقال قتادة : دبر الليل : ولى . وقال الزمخشري : ودبر بمعنى أدبر ، كقبل بمعنى أقبل . وقيل : هو من دبر الليل النهار : أخلفه . وقرأ الجمهور : أسفر رباعياً ؛ وابن السميفع وعيسى بن الفضل : سفر ثلاثياً ، والمعنى : طرح الظلمة عن وجهه . { إنها لإحدى الكبر } : الظاهر أن الضمير في إنها عائد على النار . قيل : ويحتمل أن يكون للنذارة ، وأمر الآخرة فهو للحال والقصة . وقيل : إن قيام الساعة لإحدى الكبر ، فعاد الضمير إلى غير مذكور ، ومعنى إحدى الكبر : الدواهي الكبر ، أي لا نظير لها ، كما تقول : هو أحد الرجال ، وهي إحدى النساء ، والكبر : العظائم من العقوبات . وقال الراجز : @ يا ابن المعلى نزلت إحدى الكبر داهية الدهر وصماء الغير @@ والكبر جمع الكبرى ، طرحت ألف التأنيث في الجمع ، كما طرحت همزته في قاصعاء فقالوا قواصع . وفي كتاب ابن عطية : والكبر جمع كبيرة ، ولعله من وهم الناسخ . وقرأ الجمهور : لإحدى بالهمز ، وهي منقلبة عن واو أصله لوحدى ، وهو بدل لازم . وقرأ نصر بن عاصم وابن محيصن ووهب بن جرير عن ابن كثير : بحذف الهمزة ، وهو حذف لا ينقاس ، وتخفيف مثل هذه الهمزة أن تجعل بين بين . والظاهر أن هذه الجملة جواب للقسم . وقال الزمخشري : أو تعليل لكلا ، والقسم معترض للتوكيد . انتهى . وقرأ الجمهور : { نذيراً } ، واحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار ، كالنكير بمعنى الإنكار ، فيكون تمييزاً : أي لإحدى الكبر إنذاراً ، كما تقول : هي إحدى النساء عفافاً . كما ضمن إحدى معنى أعظم ، جاء عنه التمييز . وقال الفراء : هو مصدر نصب بإضمار فعل ، أي أنذر إنذاراً . واحتمل أن يكون اسم فاعل بمعنى منذر . فقال الزجاج : حال من الضمير في إنها . وقيل : حال من الضمير في إحدى ، ومن جعله متصلاً بقم في أول السورة ، أو بـفأنذر في أول السورة ، أو حالاً من الكبر ، أو حالاً من ضمير الكبر ، فهو بمعزل عن الصواب . قال أبو البقاء : والمختار أن يكون حالاً مما دلت عليه الجملة تقديره : عظمت نذيراً . انتهى ، وهو قول لا بأس به . قال النحاس : وحذفت الهاء من نذيراً ، وإن كان للنار على معنى النسب ، يعني ذات الإنذار . وقال علي بن سليمان : أعني نذيراً . وقال الحسن : لأنذر ، إذ هي من النار . قال ابن عطية : وهذا القول يقتضي أن نذيراً حال من الضمير في إنها ، أو من قوله : { لإحدى } . قال أبو رزين : نذير هنا هو الله تعالى ، فهو منصوب بإضمار فعل ، أي ادعوا نذيراً . وقال ابن زيد : نذير هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو منصوب بفعل مضمر ، أي ناد ، أو بلغ ، أو أعلن . وقرأ أبيّ وابن أبي عبلة : نذير بالرفع . فإن كان من وصف النار ، جاز أن يكون خبراً وخبر مبتدأ محذوف ، أي هي نذير . وإن كان من وصف الله أو الرسول ، فهو على إضمار هو . والظاهر أن لمن بدل من البشر بإعادة الجار ، وأن يتقدم منصوب بشاء ضمير يعود على من . وقيل : الفاعل ضمير يعود على الله تعالى ، أي لمن شاء هو ، أي الله تعالى . وقال الحسن : هو وعيد ، نحو قوله تعالى : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف : 29 ] قال ابن عطية : هو بيان في النذارة وإعلام بأن كل أحد يسلك طريق الهدى والحق إذا حقق النظر ، إذ هو بعينه يتأخر عن هذه الرتبة بغفلته وسوء نظره . ثم قوى هذا المعنى بقوله تعالى : { كل نفس بما كسبت رهينة } . وقال الزمخشري : { أن يتقدم } في موضع الرفع بالابتداء ، و { لمن شاء } خبر مقدم عليه ، كقولك لمن توضأ : أن يصلي ، ومعناه مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر . والمراد بالتقدم والتأخر : السبق إلى الخير والتخلف عنه ، وهو كقوله : { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ الكهف : 29 ] . انتهى ، وهو معنى لا يتبادر إلى الذهن وفيه حذف . قيل : والتقدم : الإيمان ، والتأخر : الكفر . وقال السدي : أن يتقدم إلى النار المتقدم ذكرها ، أو يتأخر عنها إلى الجنة . وقال الزجاج : أن يتقدم إلى المأمورات ، أو يتأخر عن المنهيات ، والظاهر العموم في كل نفس . وقال الضحاك : كل نفس حقيق عليها العذاب ، ولا يرتهن الله تعالى أحداً من أهل الجنة ، ورهينة بمعنى رهن ، كالشتيمة بمعنى الشتم ، وليست بمعنى مفعول لأنها بغير تاء للمذكر والمؤنث ، نحو : رجل قتيل وامرأة قتيل ، فالمعنى : كل نفس بما كسبت رهن ، ومنه قول الشاعر : @ أبعد الذي بالنعف نعف كويكب رهينة رمس ذي تراب وجندل @@ أي : رمس رهن ، والمعنى : أن كل نفس رهن عند الله غير مفكوك . وقيل : الهاء في رهينة للمبالغة . وقيل : على تأنيث اللفظ لا على الإنسان ، والذي أختاره أنها مما دخلت فيه التاء ، وإن كان بمعنى مفعول في الأصل كالنطيحة ، ويدل على ذلك أنه لما كان خبر عن المذكر كان بغير هاء ، قال تعالى : { كل امرىء بما كسب رهين } [ الطور : 21 ] فأنت ترى حيث كان خبراً عن المذكر أتى بغير تاء ، وحيث كان خبراً عن المؤنث أتى بالتاء ، كما في هذه الآية . فأما الذي في البيت فأنث على معنى النفس . { إلا أصحاب اليمين } ، قال ابن عباس : هم الملائكة . وقال عليّ : هم أطفال المسلمين . فعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً ، أي لكن أصحاب اليمين في جنات . وقال الحسن وابن كيسان : هم المسلمون المخلصون ، ليسوا بمرتهنين لأنهم أدوا ما كان عليهم ، وهذا كقول الضحاك الذي تقدم . وقال الزمخشري : { إلا أصحاب اليمين } ، فإنهم فكوا عنه رقابهم بما أطابوه من كسبهم ، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق . انتهى . وظاهر هذا أنه استثناء متصل في جنات ، أي هم { في جنات يتساءلون } : أي يسأل بعضهم بعضاً ، أو يكون يتساءل بمعنى يسأل ، أي يسألون عنهم غيرهم ، كما يقال : دعوته وتداعوته بمعناه . وعلى هذين التقديرين كيف جاء { ما سلككم في سقر } بالخطاب للمجرمين ، وفي الكلام حذف ، المعنى : أن أصحاب اليمين يسأل بعضهم بعضاً ، أو يسألون غيرهم عن من غاب من معارفهم ، فإذا عرفوا أنهم مجرمون في النار قالوا لهم ، أو قالت لهم الملائكة : هكذا قدره بعضهم ، والأقرب أن يكون التقدير : يتساءلون عن المجرمين قائلين لهم بعد التساؤل : { ما سلككم في سقر } . وقال الزمخشري : فإن قلت : كيف طابق قوله : { ما سلككم } ؟ وهو سؤال للمجرمين ، قوله : { يتساءلون عن المجرمين } ؟ وهو سؤال عنهم ، وإنما كان يطابق ذلك لو قيل يتساءلون عن المجرمين ما سلككم ؟ قلت : { ما سلككم } ليس ببيان للتساؤل عنهم ، وإنما هو حكاية قول المسؤولين عنهم ، لأن المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم وبين المجرمين فيقولون : قلنا لهم { ما سلككم في سقر } ، { قالوا لم نك من المصلين } ، إلا أن الكلام جيء به على الحذف والاختصار ، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه . انتهى ، وفيه تعسف . والأظهر أن السائلين هم المتسائلون ، وما سلككم على إضمار القول كما ذكرنا ، وسؤالهم سؤال توبيخ لهم وتحقير ، وإلا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار . والجواب أنهم لم يكونوا متصفين بخصائل الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم ارتقوا من ذلك إلى الأعظم وهو الكفر والتكذيب بيوم الجزاء ، كقولهم : { فلا اقتحم العقبة } [ البلد : 11 ] ثم قال : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] واليقين : أي يقيناً على إنكار يوم الجزاء ، أي وقت الموت . وقال ابن عطية : واليقين عندي صحة ما كانوا يكذبون من الرجوع إلى الله تعالى والدار الآخر . وقال المفسرون : اليقين : الموت ، وذلك عندي هنا متعقب ، لأن نفس الموت يقين عند الكافر وهو حي . وإنما اليقين الذي عنوا في هذه الآية الشيء الذي كانوا يكذبون به وهم أحياء في الدنيا فتيقنوه بعد الموت ، وإنما يتفسر اليقين بالموت في قوله تعالى : { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } : ليس المعنى أنهم يشفع لهم فلا تنفع شفاعة من يشفع لهم ، وإنما المعنى نفي الشفاعة فانتفى النفع ، أي لا شفاعة شافعين لهم فتنفعهم من باب : @ عـلى لاحـب لا يهتـدي بمنـاره @@ أي : لا منار له فيهتدي به . وتخصيصهم بانتفاء شفاعة الشافعين يدل على أنه قد تكون شفاعات وينتفع بها ، ووردت أحاديث في صحة ذلك . { فما لهم عن التذكرة } : وهي مواعظ القرآن التي تذكر الآخرة ، { معرضين } : أي والحال المنتظرة هذه الموصوفة . ثم شبههم بالحمر المستنفرة في شدة إعراضهم ونفارهم عن الإيمان وآيات الله تعالى . وقرأ الجمهور : { حمر } بضم الميم ؛ والأعمش : بإسكانها . قال ابن عباس : المراد الحمر الوحشية ، شبههم تعالى بالحمر مذمة وتهجيناً لهم . وقرأ نافع وابن عامر والمفضل عن عاصم : { مستنفرة } بفتح الفاء ، والمعنى : استنفرها : فزعها من القسورة ؛ وباقي السبعة : بكسرها ، أي نافرة نفر ، واستنفر بمعنى عجب واستعجب وسر واستسخر ، ومنه قول الشاعر : @ أمسك حمارك إنه مستنفر في إصر أحمرة عهدن لعرّب @@ ويناسب الكسر قوله : { فرّت } . وقال محمد بن سلام : سألت أبا سرار العتوي ، وكان أعرابياً فصيحاً ، فقلت : كأنهم حمر ماذا مستنفرة طردها قسورة ؟ فقلت : إنما هو { فرّت من قسورة } ، قال : أفرّت ؟ قلت : نعم ، قال : فمستنفرة إذن . قال ابن عباس وأبو موسى الأشعري وقتادة وعكرمة : القسورة : الرماة . وقال ابن عباس أيضاً وأبو هريرة وجمهور من اللغويين : الأسد . وقال ابن جبير : رجال القنص ، وهو قريب من القول الأول ، وقاله ابن عباس أيضاً . وقال ابن الأعرابي : القسورة أول الليل ، والمعنى : فرّت من ظلمة الليل ، ولا شيء أشدّ نفاراً من حمر الوحش ، ولذلك شبهت بها العرب الإبل في سرعة سيرها وخفتها . { بل يريد كل امرىء منهم } : أي من المعرضين عن عظات الله وآياته ، { أن يؤتى صحفاً منشرةً } : أي منشورة غير مطوية تقرأ كالكتب التي يتكاتب بها ، أو كتبت في السماء نزلت بها الملائكة ساعة كتبت رطبة لم تطو بعد ، وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لن نتبعك حتى يؤتى كل واحد منا بكتاب من السماء عنوانه : من رب العالمين إلى فلان بن فلان ، يؤمر فيها باتباعك ، ونحوه { ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه } [ الإسراء : 93 ] وروي أن بعضهم قال : إن كان يكتب في صحف ما يعمل كل إنسان ، فلتعرض تلك الصحف علينا ، فنزلت هذه الآية . وقرأ الجمهور : { صحفاً } بضم الصاد والحاء ، { منشرةً } مشدّداً ؛ وابن جبير : بإسكانها منشرة مخففاً ، ونشر وأنشر مثل نزل وأنزل . شبه نشر الصحيفة بإنشار الله الموتى ، فعبر عنه بمنشرة من أنشرت ، والمحفوظ في الصحيفة والثوب نشر مخففاً ثلاثياً ، ويقال في الميت : أنشره الله فنشر هو ، أي أحياه فحيـي . { كلا } : ردع عن إرادتهم تلك وزجر لهم عن اقتراح الآيات ، { بل لا يخافون الآخرة } ، ولذلك أعرضوا عن التذكرة لا لامتناع إيتاء الصحف . وقرأ الجمهور : { يخافون } بياء الغيبة ؛ وأبو حيوة : بتاء الخطاب التفاتاً . { كلا } : ردع عن إعراضهم عن التذكرة ، { إنه تذكرة فمن شاء ذكره } : ذكر في إنه وفي ذكره ، لأن التذكرة ذكر . وقرأ نافع وسلام ويعقوب : تذكرة بتاء الخطاب ساكنة الذال ؛ وباقي السبعة وأبو جعفر والأعمش وطلحة وعيسى والأعرج : بالياء . وروي عن أبي حيوة : يذكرون بياء الغيبة وشد الذال . وروي عن أبي جعفر : تذكرون بالتاء وإدغام التاء في الذال . { هو أهل التقوى } : أي أهل أن يتقي ويخاف ، وأهل أن يغفر . وروى أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر هذه الآية فقال : " يقول لكم ربكم جلت قدرته وعظمته : أنا أهل أن أتقى ، فلا يجعل يتقى إله غيري ، ومن اتقى أن يجعل معي إلهاً غيري فأنا أغفر له " وقال الزمخشري : في قوله تعالى { وما يذكرون إلا أن يشاء الله } ، يعني : إلا أن يقسرهم على الذكر ويلجئهم إليه ، لأنهم مطبوع على قلوبهم معلوم أنهم لا يؤمنون إختياراً .