Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 79, Ayat: 27-46)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الخطاب الظاهر أنه عام ، والمقصود الكفار منكر والبعث ، وقفهم على قدرته تعالى . { أشد خلقاً } : أي أصعب إنشاء ، { أم السماء } ، فالمسؤول عن هذا يجيب ولا بد السماء ، لما يرى من ديمومة بقائها وعدم تأثيرها . ثم بين تعالى كيفية خلقها . { رفع سمكها } : أي جعل مقدارها بها في العلوّ مديداً رفيعاً مقدار خمسمائة عام ، والسمك : الارتفاع الذي بين سطح السماء التي تليها وسطحها الأعلى الذي يلى ما فوقها ، { فسواها } : أي جعلها ملساء مستوية ، ليس فيها مرتفع ولا منخفض ، أو تممها وأتقن إنشاءها بحيث أنها محكمة الصنعة . { وأغطش } : أي أظلم ، { ليلها } . { وأخرج } : أبرز ضوء شمسها ، كقوله تعالى : { والشمس وضحاها } [ الشمس : 1 ] وقولهم : وقت الضحى : الوقت الذي تشرق فيه الشمس . وأضيف الليل والضحى إلى السماء ، لأن الليل ظلها ، والضحى هو نور سراجها . { والأرض بعد ذلك } : أي بعد خلق السماء وما فعل فيها ، { دحاها } : أي بسطها ، فخلق الأرض ثم السماء ثم دحا الأرض . وقرأ الجمهور : { والأرض } ، { والجبال } بنصبهما ؛ والحسن وأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال : برفعهما ؛ وعيسى : برفع الأرض . وأضيف الماء والمرعى إلى الأرض لأنهما يظهران منها . والجمهور : { متاعاً } بالنصب ، أي فعل ذلك تمتيعاً لكم ؛ وابن أبي عبلة : بالرفع ، أي ذلك متاع . وقال الزمخشري : فإن قلت : فهلا أدخل حرف العطف على أخرج ؟ قلت : فيه وجهان ، أحدهما : أن يكون معنى { دحاها } : بسطها ومهدها للسكنى ، ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار عليها . والثاني : أن يكون أخرج حالاً بإضمار قد ، كقوله : { أو جاءوكم حصرت صدورهم } [ النساء : 90 ] انتهى . وإضمار قد قول للبصريين ومذهب الكوفيين . والأخفش : أن الماضي يقع حالاً ، ولا يحتاج إلى إضمار قد ، وهو الصحيح . ففي كلام العرب وقع ذلك كثيراً . انتهى . { ومرعاها } : مفعل من الرعي ، فيكون مكاناً وزماناً ومصدراً ، وهو هنا مصدر يراد به اسم المفعول ، كأنه قيل : ومرعيها : أي النبات الذي يرعى . وقدم الماء على المرعى لأنه سبب في وجود المرعى ، وشمل { ومرعاها } ما يتقوت به الآدمي والحيوان وغيره ، فهو في حق الآدمي استعارة ، ولهذا قيل : دل الله سبحانه وتعالى بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرج من الأرض حتى الملح ، لأنه من الماء . { فإذا جاءت الطامة } ، قال ابن عباس والضحاك : القيامة . وقال ابن عباس أيضاً والحسن : النفخة الثانية . وقال القاسم : وقت سوق أهل الجنة إليها ، وأهل النار إليها ، وهو معنى قول مجاهد . { يوم يتذكر الإنسان ما سعى } : أي عمله الذي كان سعى فيه في الدنيا . وقرأ الجمهور : { وبُرِّزت } مبني للمفعول مشدد الراء ، { لمن يرى } بياء الغيبة : أي لكل أحد ، فيشكر المؤمن نعمة الله . وقيل : { لمن يرى } هو الكافر ؛ وعائشة وزيد بن علي وعكرمة ومالك بن دينار : مبنياً للفاعل مخففاً وبتاء ، يجوز أن يكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي لمن ترى من أهلها ، وأن يكون إخبار عن الجحيم ، فهي تاء التأنيث . قال تعالى : { إذا رأتهم من مكان بعيد } [ الفرقان : 12 ] وقال أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن أبي عمرو : وبرزت مبنياً ومخففاً ، و { يوم يتذكر } : بدل من { فإذا } ؛ وجواب إذا ، قال الزمخشري : فإن الأمر كذلك . وقيل : عاينوا وعلموا . ويحتمل أن يكون التقدير : انقسم الراؤون قسمين ، والأولى أن يكون الجواب : فأما وما بعده ، كما تقول : إذا جاءك بنو تميم ، فأما العاصي فأهنه ، وأما الطائع فأكرمه . { طغى } : تجاوز الحد في عصيانه ، { وآثر الحياة الدنيا } على الآخرة ، وهي مبتدأ أو فصل . والعائد على من من الخبر محذوف على رأي البصريين ، أي المأوى له ، وحسن حذفه وقوع المأوى فاصلة . وأما الكوفيون فمذهبهم أن أل عوض من الضمير . وقال الزمخشري : والمعنى فإن الجحيم مأواه ، كما تقول للرجل : غض الطرف ، تريد طرفك ؛ وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة ، ولكن لما علم أن الطاغي هو صاحب المأوى ، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره ، تركت الإضافة . ودخول حرف التعريف في المأوى ، والطرف للتحريف لأنهما معرفان . انتهى . وهو كلام لا يتحصل منه الرابط العائد على المبتدأ ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين ، ولم يقدر ضميراً محذوفاً ، كما قدره البصريون ، فرام حصول الربط بلا رابط . { وأما من خاف مقام ربه } : أي مقاماً بين يدي ربه يوم القيامة للجزاء ؛ وفي إضافة المقام إلى الرب تفخيم للمقام وتهويل عظيم واقع من النفوس موقعاً عظيماً . قال ابن عباس : خافه عندما هم بالمعصية فانتهى عنها . { ونهى النفس عن الهوى } : أي عن شهوات النفس ، وأكثر استعمال الهوى فيما ليس بمحمود . قال سهل : لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين . وقال بعض الحكماء : إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه . وقال عمران الميرتليّ : @ فخالف هواها واعصها إن من يطع هوى نفسه تنزع به كل منزع ومن يطع النفس اللجوجة ترده وترم به في مصرع أي مصرع @@ وقال الفضيل : أفضل الأعمال خلاف الهوى ، وهذا التفضيل هو عام في أهل الجنة وأهل النار . وعن ابن عباس : نزل ذلك في أبي جهل ومصعب بن عمير العبدري ، رضي الله تعالى عنه . وعنه أيضاً : { فأما من طغى } ، فهو أخ لمصعب بن عمير ، أسر فلم يشدوا وثاقه ، وأكرموه وبيتوه عندهم ؛ فلما أصبحوا حدثوا مصعباً ، فقال : ما هو لي بأخ ، شدوا أسيركم ، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً فأوثقوه . { وأما من خاف مقام ربه } فـ " مصعب بن عمير ، وقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يوم أُحد حين تفرّق الناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه ، وهي السهام . فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم متشحطاً في دمه قال : عند الله أحتسبك ، وقال لأصحابه : لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما ، وإن شراك نعله من ذهب " قيل : واسم أخيه عامر . وفي الكشاف ، وقيل : الآيتان نزلتا في أبي عزير بن عمير ومصعب بن عمير ، وقد قتل مصعب أخاه أبا عزير يوم أُحد ، ووقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه . انتهى . { يسألونك } : أي قريش ، وكانوا يلحون في البحث عن وقت الساعة ، إذ كان يتوعدهم بها ويكثر من ذلك ، فنزلت هذه الآية . { أيان مرساها } : متى إقامتها ؟ أي متى يقيهما الله ويثبتها ويكونها ؟ وقيل : أيان منتهاها ومستقرها ؟ كما أن مرسى السفينة ومستقرها حيث تنتهي إليه . { فيم أنت من ذكراها } ، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن الساعة كثيراً ، فلما نزلت هذه الآية . انتهى . والمعنى : في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها ؟ أي لست من ذلك في شيء ، { إنما أنت منذر } . { إلى ربك منتهاها } : أي انتهاء علم وقتها ، لم يؤت علم ذلك أحداً من خلقه . وقيل : { فيم } إنكار لسؤالهم ، أي فيم هذا السؤال ؟ ثم قال : { أنت من ذكراها } ، وعلامة من علاماتها ، فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها ، ولا معنى لسؤالهم عنها . { إنما أنت منذر من يخشاها } : أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه ، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكون إنذارك لطفاً به في الخشية منها . انتهى . وهذا القول حكاه الزمخشري وزمكه بكثرة ألفاظه ، وهو تفكيك للكلام وخروج عن الظاهر المتبادر إلى الفهم ، ولم يخله من دسيسة الاعتزال . وقرأ الجمهور : { منذر من } بالإضافة . وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبو جعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وأبو عمر في رواية وابن مقسم : منذر بالتنوين . وقال الزمخشري : وقرىء منذر بالتنوين ، وهو الأصل والإضافة تخفيف ، كلاهما يصلح للحال والاستقبال ؛ فإذا أريد الماضي ، فليس إلا الإضافة ، كقولك : هو منذر زيد أمس . انتهى . أما قوله : وهو الأصل ، يعني التنوين ، فهو قول قد قاله غيره ممن تقدم . وقد قررنا في هذا الكتاب ، وفيما كتبناه في هذا العلم أن الأصل الإضافة ، لأن العمل إنما هو بالشبه ، والإضافة هي أصل في الأسماء . وأما قوله : فإذا أريد الماضي ، فليس إلا الإضافة ، فهذا فيه تفصيل وخلاف مذكور في علم النحو . وخص { من يخشاها } لأنه هو المنتفع بالإنذار . { كأنهم يوم يرونها } : تقريب وتقرير لقصر مقامهم في الدنيا . { لم يلبثوا } : لم يقيموا في الدنيا ، { إلا عشية } : يوم أو بكرته ، وأضاف الضحى إلى العشية لكونها طرفي النهار . بدأ بذكر أحدهما ، فأضاف الآخر إليه تجوّزاً واتساعاً ، وحسن الإضافة كون الكلمة فاصلة ، والله سبحانه وتعالى أعلم .