Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 83, Ayat: 1-17)
Tafsir: al-Baḥr al-muḥīṭ
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
لما ذكر تعالى السعداء والأشقياء ويوم الجزاء وعظم شأن يومه ، ذكر ما أعد لبعض العصاة ، وذكرهم بأخس ما يقع من المعصية ، وهي التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئاً في تثمير المال وتنميته . { إذا اكتالوا على الناس } : قبضوا لهم ، { وإذا كالوهم أو وزنوهم } ، أقبضوهم . وقال الفراء : من وعلى يعتقبان هنا ، اكتلت على الناس ، واكتلت من الناس . فإذا قال : اكتلت منك ، فكأنه قال : استوفيت منك ؛ وإذا قال : اكتلت عليك ؛ فكأنه قال : أخذت ما عليك ، والظاهر أن على متعلق باكتالوا كما قررنا . وقال الزمخشري : لما كان اكتيالهم من الناس اكتيالاً يضرهم ويتحامل فيه عليهم ، أبدل على مكان من للدلالة على ذلك ؛ ويجوز أن يتعلق بيستوفون ، أي يستوفون على الناس خاصة ، فأما أنفسهم فيستوفون لها . انتهى . وكال ووزن مما يتعدى بحرف الجر ، فتقول : كلت لك ووزنت لك ، ويجوز حذف اللام ، كقولك : نصحت لك ونصحتك ، وشكرت لك وشكرتك ؛ والضمير ضمير نصب ، أي كالوا لهم أو وزنوا لهم ، فحذف حرف الجر ووصل الفعل بنفسه ، والمفعول محذوف وهو المكيل والموزون . وعن عيسى وحمزة : المكيل له والموزون له محذوف ، وهم ضمير مرفوع تأكيد للضمير المرفوع الذي هو الواو . وقال الزمخشري : ولا يصح أن يكون ضميراً مرفوعاً للمطففين ، لأن الكلام يخرج به إلى نظم فاسد ، وذلك أن المعنى : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا أعطوهم أخسروا . وإن جعلت الضمير للمطففين ، انقلب إلى قولك : إذا أخذوا من الناس استوفوا ، وإذا تولوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا ، وهو كلام متنافر ، لأن الحديث واقع في الفعل لا في المباشر . انتهى . ولا تنافر فيه بوجه ، ولا فرق بين أن يؤكد الضمير وأن لا يؤكد ، والحديث واقع في الفعل . غاية ما في هذا أن متعلق الاستيفاء ، وهو على الناس ، مذكور وهو في { كالوهم أو وزنوهم } ، محذوف للعلم به لأنه معلوم أنهم لا يخسرون الكيل والميزان إذا كان لأنفسهم ، إنما يخسرون ذلك لغيرهم . وقال الزمخشري : فإن قلت : هل لا . قيل أو اتزنوا ، كما قيل أو وزنوهم ؟ قلت : كأن المطففين كانوا لا يأخذون ما يكال ويوزن إلا بالمكاييل دون الموازين لتمكنهم بالاكتيال من الاستيفاء والسرقة ، لأنهم يدعدعون ويحتالون في الملء ، وإذا أعطوا كالوا أو وزنوا لتمكنهم من البخس في النوعين جميعاً . { يخسرون } : ينقصون . انتهى . ويخسرون معدّى بالهمزة ، يقال : خسر الرجل وأخسره غيره . { ألا يظن } : توقيف على أمر القيامة وإنكار عليهم في فعلهم ذلك ، أي { ليوم عظيم } ، وهو يوم القيامة ، ويوم ظرف ، العامل فيه مقدر ، أي يبعثون يوم يقوم الناس . ويجوز أن يعمل فيه مبعوثون ، ويكون معنى { ليوم } : أي لحساب يوم . وقال الفراء : هو بدل من يوم عظيم ، لكنه بني وقرىء { يوم يقوم } بالجر ، وهو بدل من { ليوم } ، حكاه أبو معاذ . وقرأ زيد بن عليّ : يوم بالرفع ، أي ذلك يوم ، ويظن بمعنى يوقن ، أو هو على وضعه من الترجيح . وفي هذا الإنكار والتعجب ، ووصف اليوم بالعظم ، وقيام الناس لله خاضعين ، ووصفه برب العالمين ، دليل على عظم هذا الذنب وهو التطفيف . { كلا } : ردع لما كانوا عليه من التطفيف ، وهذا القيام تختلف الناس فيه بحسب أحوالهم ، وفي هذا القيام إلجام العرق للناس ، وأحوالهم فيه مختلفة ، كما ورد في الحديث . والفجار : الكفار ، وكتابهم هو الذي فيه تحصيل أعمالهم . { وسجين } ، قال الجمهور : فعيل من السجن ، كسكير ، أو في موضع ساجن ، فجاء بناء مبالغة ، فسجين على هذا صفة لموضع المحذوف . قال ابن مقبل : @ ورفقة يضربون البيض ضاحية ضرباً تواصت به الأبطال سجينا @@ وقال الزمخشري : فإن قلت : { ما سجين } ، أصفة هو أم اسم ؟ قلت : بل هو اسم علم منقول من وصف كحاتم ، وهو منصرف لأنه ليس فيه إلا سبب واحد وهو التعريف . انتهى . وكان قد قدم أنه كتاب جامع ، وهو ديوان الشر ، دوّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفرة والفسقة من الجن والإنس ، وهو : { كتاب مرقوم } : مسطور بين الكتابة ، أو معلم يعلم من رآه أنه لا خير فيه ، والمعنى : أن ما كتب من أعمال الفجار مثبت في ذلك الديوان . انتهى . واختلفوا في سجين إذا كان مكاناً اختلافاً مضطرباً حذفنا ذكره . والظاهر أن سجيناً هو كتاب ، ولذلك أبدل منه { كتاب مرقوم } . وقال عكرمة : سجين عبارة عن الخسار والهوان ، كما تقول : بلغ فلان الحضيض إذا صار في غاية الجمود . وقال بعض اللغويين : سجين ، نونه بدل من لام ، وهو من السجيل ، فتلخص من أقوالهم أن سجين نونه أصلية ، أو بدل من لام . وإذا كانت أصلية ، فاشتقاقه من السجن . وقيل : هو مكان ، فيكون { كتاب مرقوم } خبر مبتدأ محذوف ، أي هو كتاب . وعني بالضمير عوده على { كتاب الفجار } ، أو على { سجين } على حذف ، أي هو محل { كتاب مرقوم } ، و { كتاب مرقوم } تفسير له على جهة البدل أو خبر مبتدأ . والضمير المقدر الذي هو عائد على { سجين } ، أو كناية عن الخسار والهوان ، هل هو صفة أو علم ؟ { وما أدراك ما سجين } : أي ليس ذلك مما كنت تعلم . مرقوم : أي مثبت كالرقم لا يبلى ولا يمحى . قال قتادة : رقم لهم : بشر ، لا يزاد فيهم أحد ولا ينقص منهم أحد . وقال ابن عباس والضحاك : مرقوم : مختوم بلغة حمير ، وأصل الرقم الكتابة ، ومنه قول الشاعر : @ سأرقم في الماء القراح إليكم على بعدكم إن كان للماء راقم @@ وتبين من الإعراب السابق أن { كتاب مرقوم } بدل أو خبر مبتدأ محذوف . وكان ابن عطية قد قال : إن سجيناً موضع ساجن على قول الجمهور ، وعبارة عن الخسار على قول عكرمة ، من قال : { كتاب مرقوم } . من قال بالقول الأول في سجين ، فكتاب مرتفع عنده على خبر إن ، والظرف الذي هو { لفي سجين } ملغى . ومن قال في سجين بالقول الثاني ، فكتاب مرقوم على خبر ابتداء مضمر التقدير هو { كتاب مرقوم } ، ويكون هذا الكتاب مفسراً لسجين ما هو . انتهى . فقوله : والظرف الذي هو { لفي سجين } ملغى قول لا يصح ، لأن اللام التي في { لَفِى سِجّينٍ } داخلة على الخبر ، وإذا كانت داخلة على الخبر ، فلا إلغاء في الجار والمجرور ، بل هو الخبر . ولا جائز أن تكون هذه اللام دخلت في { لفي سجين } على فضلة هي معمولة للخبر أو لصفة الخبر ، فيكون الجار والمجرور ملغى لا خبراً ، لأن كتاب موصوف بمرقوم فلا يعمل ، ولأن مرقوماً الذي هو صفة لكتاب لا يجوز أن تدخل اللام في معموله ، ولا يجوز أن يتقدم معموله على الموصوف ، فتعين بهذا أن قوله : { لفي سجين } هو خبر إن . { الذين يكذبون } : صفة ذم ، { كل معتد } : متجاوز الحد ، { أثيم } : صفة مبالغة . وقرأ الجمهور : { إذا } ؛ والحسن : أئذا بهمزة الاستفهام . والجمهور : { تتلى } بتاء التأنيث ؛ وأبو حيوة وابن مقسم : بالياء . قيل : ونزلت في النضر بن الحرث . { بل ران } ، قرىء بإدغام اللام في الراء ، وبالإظهار وقف حمزة على بل وقفاً خفيفاً يسير التبيين الإظهار . وقال أبو جعفر بن الباذش : وأجمعوا ، يعني القراء ، على إدغام اللام في الراء إلا ما كان من سكت حفص على بل ، ثم يقول : { ران } ، وهذا الذي ذكره ليس كما ذكر من الإجماع . ففي كتاب اللوامح عن قالون : من جميع طرقه إظهار اللام عند الراء ، نحو قوله : { بل رفعه الله إليه } [ النساء : 158 ] ، { بل ربكم } [ الأنبياء : 56 ] وفي كتاب ابن عطية ، وقرأ نافع : { بل ران } غير مدغم ، وفيه أيضاً : وقرأ نافع أيضاً بالإدغام والإمالة . وقال سيبويه : اللام مع الراء نحو : أسفل رحمه البيان والإدغام حسنان . وقال الزمخشري : وقرى بإدغام اللام في الراء ، وبالإظهار والإدغام أجود ، وأميلت الألف وفخمت . انتهى . وقال سيبويه : فإذا كانت ، يعني اللام ، غير لام المعرفة ، نحو لام هل وبل ، فإن الإدغام في بعضها أحسن ، وذلك نحو : هل رأيت ؟ فإن لم تدغم فقلت : هل رأيت ؟ فهي لغة لأهل الحجاز ، وهي غريبة جائزة . انتهى . وقال الحسن والسدي : هو الذنب على الذنب . وقال الحسن : حتى يموت قلبه . وقال السدي : حتى يسود القلب . وفي الحديث نحو من هذا . فقال الكلبي : طبع على قلوبهم . وقال ابن سلام : غطى . { ما كانوا يكسبون } ، قال ابن عطية : وعلق اللوم بهم فيما كسبوه ، وإن كان ذلك بخلق منه تعالى واختراع ، لأن الثواب والعقاب متعلقان بكسب العبد . والضمير في قوله : { أنهم } للكفار ، فمن قال بالرؤية ، وهو قول أهل السنة ، قال إن هؤلاء لا يرون ربهم ، فهم محجوبون عنه . واحتج بهذه الآية مالك على سبيله الرؤية من جهة دليل الخطاب ، وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص . وقال الشافعي : لما حجب قوماً بالسخط ، دل على أن قوماً يرونه بالرضا . ومن قال بأن لا رؤية ، وهو قول المعتزلة ، قال : إنهم يحجبون عن ربهم وغفرانه . انتهى . وقال أنس بن مالك : لما حجب أعداءه فلم يروه ، تجلى لأوليائه حتى رأوه ، وقال الزمخشري : { كلا } ردع عن الكسب الرائن على قلوبهم ، وكونهم محجوبين عنه تمثيل للاستخفاف بهم وإهانتهم ، لأنه لا يؤذن على الملوك إلا للوجهاء المكرمين لديهم ، ولا يحجب عنهم إلا الأدنياء المهانون عندهم . قال الشاعر : @ إذا اعتروا باب ذي عيبة رحبوا والناس ما بين مرحوب ومحجوب @@ وعن ابن عباس وقتادة وابن أبي مليكة : محجوبين عن رحمته . وعن ابن كيسان : عن كرامته . انتهى . وعن مجاهد : المعنى محجوبون عن كرامته ورحمته ، وعن ربهم متعلق بمحجوبون ، وهو العامل في يومئذ ، والتنوين تنوين العوض من الجملة المحذوفة ، ولم تتقدّم جملة قريبة يكون عوضاً منها ، لكنه تقدم { يقوم الناس لرب العالمين } ، فهو عوض من هذه الجملة ، كأنه قيل : يوم إذ يقوم الناس . ثم هم مع الحجاب عن الله هم صالوا النار ، وهذه ثمرة الحجاب . { ثم يقال } : أي تقول لهم خزنة النار . { هذا } ، أي العذاب وصلي النار وهذا اليوم ، { الذي كنتم به تكذبون } . قال ابن عطية : { هذا الذي } ، يعني الجملة مفعول لم يسم فاعله لأنه قول بني له الفعل الذي هو يقال . انتهى . وتقدم الكلام على نحو هذا في أول البقرة في قوله تعالى : { وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض } [ البقرة : 11 ] .