Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 177-179)

Tafsir: al-Kaššāf ʿan ḥaqāʾiq ġawāmiḍ at-tanzīl wa-ʿuyūn al-aqāwīl fī wuǧūh at-taʾwīl

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ٱلْبِرَّ اسم للخير ولكل فعل مرضيّ { أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } الخطاب لأهل الكتاب لأن اليهود تصلي قبل المغرب إلى بيت المقدس ، والنصارى قِبل المشرق . وذلك أنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حوّل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة ، وزعم كل واحد من الفريقين أنّ البرّ التوجه إلى قبلته ، فردّ عليهم . وقيل ليس البرّ فيما أنتم عليه فإنه منسوخ خارج من البرّ ، ولكن البرّ ما نبينه . وقيل كثر خوض المسلمين وأهل الكتاب في أمر القبلة ، فقيل ليس البرّ العظيم الذي يجب أن تذهلوا بشأنه عن سائر صنوف البرّ أمر القبلة ، ولكن البرّ الذي يجب الاهتمام به وصرف الهمة برّ من آمن وقام بهذه الأعمال . وقرىء « وليس البرّ » - بالنصب على أنه خبر مقدم - وقرأ عبد الله « بأن تولوا » ، على إدخال الباء على الخبر للتأكيد كقولك ليس المنطلق بزيد { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ ءامَنَ بِٱللَّهِ } على تأويل حذف المضاف ، أي برّ من آمن ، أو بتأول البرّ بمعنى ذي البرّ ، أو كما قالت . @ فَإنمَا هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ @@ وعن المبرّد لو كنت ممن يقرأ القرآن لقرأت ولكنّ البرّ ، بفتح الباء . وقرىء « ولكن البارّ » . وقرأ ابن عامر ونافع ولكنّ البر بالتخفيف { وَٱلْكِتَـٰبِ } جنس كتب الله ، أو القرآن { عَلَىٰ حُبّهِ } مع حب المال والشح به ، كما قال ابن مسعود أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل العيش وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا . وقيل على حب الله . وقيل على حب الإيتاء ، يريد أن يعطيه وهو طيب النفس بإعطائه . وقدم ذوي القربى لأنهم أحق . قال عليه الصلاة والسلام 78 " صدقتك على المسكين صدقة ، وعلى ذي رحمك اثنتان لأنها صدقة وصلة " وقال عليه الصلاة والسلام 79 " أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح " . وأطلق { ذَوِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَـٰمَىٰ } والمراد الفقراء منهم لعدم الإلباس . والمسكين الدائم السكون إلى الناس ، لأنه لا شيء له كالمسكير للدائم السكر و { ٱبْنُ * ٱلسَّبِيلِ } المسافر المنقطع . وجُعل ابناً للسبيل لملازمته له ، كما يقال للص القاطع ابن الطريق . وقيل هو الضيف ، لأنّ السبيل يرعف به { وَٱلسَّائِلِينَ } المستطعمين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم 80 " للسائل حق وإن جاء على ظهر فرسه " { وَفِي ٱلرّقَابِ } وفي معاونة المكاتبين حتى يفكوا رقابهم . وقيل في ابتياع الرقاب وإعتاقها . وقيل في فك الأسارى . فإن قلت قد ذكر إيتاء المال في هذه الوجوه ثم قفاه بإيتاء الزكاة فهل دلّ ذلك على أنّ في المال حقاً سوى الزكاة ؟ قلت يحتمل ذلك . وعن الشعبي أنّ في المال حقاً سوى الزكاة ، وتلا هذه الآية . ويحتمل أن يكون ذلك بيان مصارف الزكاة ، أو يكون حثاً على نوافل الصدقات والمبارّ . وفي الحديث 81 " نسخت الزكاة كلَّ صدقة " يعني وجوبها . وروي 82 « ليس في المال حق سوى الزكاة » { وَٱلْمُوفُونَ } عطف على من آمن . وأخرج { وَٱلصَّـٰبِرِينَ } منصوباً على الاختصاص والمدح ، وإظهاراً لفضل الصبر في الشدائد ومواطن القتال على سائر الأعمال . وقرىء « والصابرون » . وقرىء « والموفين » ، « والصابرين » . و { ٱلْبَأْسَاء } الفقر والشدة { وَٱلضَّرَّاء } المرض والزمانة { صَدَقُواْ } كانوا صادقين جادّين في الدين . عن عمر بن عبد العزيز ، والحسن البصري ، وعطاء ، وعكرمة ، وهو مذهب مالك والشافعي رحمة الله عليهم أنّ الحر لا يقتل بالعبد ، والذكر لا يقتل بالأنثى ، أخذاً بهذه الآية . ويقولون هي مفسرة لما أبهم في قوله { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } المائدة 55 ولأنّ تلك واردة لحكاية ما كتب في التوراة على أهلها ، وهذه خوطب بها المسلمون وكتب عليهم ما فيها . وعن سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والنخعي ، وقتادة ، والثوري ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه أنها منسوخة بقوله { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } المائدة 55 والقصاص ثابت بين العبد والحرِّ ، والذَّكر والأنثى . ويستدلون بقوله صلى الله عليه وسلم 83 " المسلمون تتكافأ دماؤهم " وبأنَّ التفاضل غير معتبر في الأنفس ، بدليل أنّ جماعة لو قتلوا واحداً قتلوا به . وروي 84 « أنه كان بين حيين من أحياء العرب دماء في الجاهلية ، وكان لأحدهما طَوْلٌ على الآخر ، فأقسموا لنقتلنّ الحرّ منكم بالعبد منا ، والذكر بالأنثى ، والاثنين بالواحد ، فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاء الله بالإسلام فنزلت ، وأمرهم أن يتباوؤا » { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء } معناه فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو . على أنه كقولك سير بزيد بعض السير ، وطائفة من السير . ولا يصحّ أن يكون شيء في معنى المفعول به ، لأنّ عفا لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة وأخوه هو وليّ المقتول ، وقيل له أخوه ، لأنه لابسه ، من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به ، كما تقول للرجل قل لصاحبك كذا ، لمن بينه وبينه أدنى ملابسة أو ذكره بلفظ الأخوة ، ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام فإن قلت إن عفى يتعدّى بعن لا باللام ، فما وجه قوله { فَمَنْ عُفِىَ لَهُ } ؟ قلت يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب ، فيقال عفوت عن فلان وعن ذنبه . قال الله تعالى { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ } التوبة 43 وقال { عَفَا ٱللَّهُ عَنْهَا } المائدة 101 فإذا تعدى إلى الذنب والجاني معاً قيل عفوت لفلان عما جنى ، كما تقول غفرت له ذنبه وتجاوزت له عنه . وعلى هذا ما في الآية ، كأنه قيل فمن عفى له عند جنايته ، فاستغنى عن ذكر الجناية ، فإن قلت هلا فسرت عفى بترك حتى يكون شيء في معنى المفعول به ؟ قلت لأن عفا الشيء بمعنى تركه ليس بثبت . ولكن أعفاه . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام 85 " واعفوا اللحى " فإن قلت فقد ثبت قولهم عفا أثره إذا محاه وأزاله ، فهلا جعلت معناه فمن محي له من أخيه شيء ؟ قلت عبارة قلقة في مكانها ، والعفو في باب الجنايات عبارة متداولة مشهورة في الكتاب والسنة واستعمال الناس ، فلا يعدل عنها إلى أخرى قلقة نابية عن مكانها ، وترى كثيراً ممن يتعاطى هذا العلم يجترىء - إذا أعضل عليه تخريج وجه للمشكل من كلام الله - على اختراع لغة وادعاء على العرب ما لا تعرفه ، وهذه جرأة يستعاذ بالله منها . فإن قلت ؟ لم قيل شيء من العفو ؟ قلت للإشعار بأنه إذا عفى له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم . أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم تجب إلا الدية { فَٱتِبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ } فليكن اتباع ، أو فالأمر اتباع . وهذه توصية للمعفو عنه والعافي جميعاً . يعني فليتبع الولي القاتل بالمعروف بأن لا يعنف به ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة . وليؤدّ إليه القاتل بدل الدم أداء بإحسان ، بأن لا يمطله ولا يبخسه { ذٰلِكَ } ْالحكم المذكور من العفو والدية { تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ } لأن أهل التوراة كتب عليهم القصاص البتة وحرّم العفو وأخذ الدية ، وعلى أهل الإنجيل العفو وحرّم القصاص والدية . وخيرت هذه الأمّة بين الثلاث القصاص والدية والعفو ، توسعة عليهم وتيسيراً { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ } التخفيف ، فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل ، أو القتل بعد أخذ الدية . فقد كان الولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية ، ثم يظفر به فيقتله { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة . وعن قتادة العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل منه دية ، لقوله عليه السلام 86 " لا أعافي أحداً قتل بعد أخذه الدية " { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَوٰةٌ } كلام فصيح لما فيه من الغرابة ، وهو أنّ القصاص قتل وتفويت للحياة ، وقد جعل مكاناً وظرفاً للحياة ، ومن إصابة محز البلاغة بتعريف القصاص وتنكير الحياة لأن المعنى ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة ، وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة ، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل ، وكان يُقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة ويقع بينهم التناحر ، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة أيّ حياة ، أو نوع من الحياة ، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل ، لأنّه إذا همّ بالقتل فعلم أنه يقتصّ فارتدع منه سلم صاحبه من القتل ، وسلم هو من القود ، فكان القصاص سبب حياة نفسين . وقرأ أبو الجوزاء ولكم في القصص حياة أي فيما قص عليكم من حكم القتل القصاص وقيل القصص القرآن أي « ولكم في القرآن حياة للقلوب » كقوله تعالى { رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا } الشورى 52 ، { وَيُحْىِ مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ } الأنفال 42 . { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص والحكم به . وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة .