Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 2-2)
Tafsir: al-Kaššāf ʿan ḥaqāʾiq ġawāmiḍ at-tanzīl wa-ʿuyūn al-aqāwīl fī wuǧūh at-taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فإن قلت لم صحت الإشارة بذلك إلى ما ليس ببعيد ؟ قلت وقعت الإشارة إلى الم بعد ما سبق التكلم به وتقضى ، والمقضى في حكم المتباعد ، وهذا في كل كلام . يحدّث الرجل بحديث ثم يقول وذلك ما لا شك فيه . ويحسب الحاسب ثم يقول فذلك كذا وكذا . وقال الله تعالى { لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ } البقرة 68 . وقال { ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى } يوسف 37 ، ولأنه لما وصل من المرسل إلى المرسل إليه ، وقع في حد البعد ، كما تقول لصاحبك وقد أعطيته شيئاً احتفظ بذلك . وقيل معناه ذلك الكتاب الذي وعدوا به . فإن قلت لم ذكر اسم الإشارة ـــ والمشار إليه مؤنث وهو السورة ـــ ؟ قلت لا أخلو من أن أجعل الكتاب خبره أو صفته . فإن جعلته خبره ، كان ذلك في معناه ومسماه مسماه ، فجاز إجراء حكمه عليه في التذكير ، كما أجرى عليه في التأنيث في قولهم من كانت أمّك . وإن جعلته صفته ، فإنما أشير به إلى الكتاب صريحاً لأنّ اسم الإشارة مشار به إلى الجنس الواقع صفة له . تقول هند ذلك الإنسان ، أو ذلك الشخص فعل كذا . وقال الذبياني @ نُبِّئْتُ نُعْمَى على الهِجْرَانِ عاتِبةً سُقْيَا ورُعْيَا لِذَاكَ العاتِبِ الزَّارِي @@ فإن قلت أخبرني عن تأليف { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } مع { الم } . قلت إن جعلت { الۤمۤ } اسماً للسورة ففي التأليف وجوه أن يكون { الۤمۤ } مبتدأ ، و { ذٰلِكَ } . مبتدأ ثانياً ، و { ٱلْكِتَـٰبِ } خبره ، والجملة خبر المبتدأ الأوّل . ومعناه أنّ ذلك الكتاب هو الكتاب الكامل ، كأن ما عداه من الكتب في مقابلته ناقص ، وأنه الذي يستأهل أن يسمى كتاباً ، كما تقول هو الرجل ، أي الكامل في الرجولية ، الجامع لما يكون في الرجال من مرضيات الخصال . وكما قال @ هُمُ الْقَوْمُ كلُّ الْقَوْمِ يا أُمَّ خَالِدِ @@ وأن يكون الكتاب صفة . ومعناه هو ذلك الكتاب الموعود ، وأن يكون { الۤمۤ } خبر مبتدأ محذوف ، أي هذه الۤمۤ ، ويكون ذلك خبراً ثانياً أو بدلاً ، على أن الكتاب صفة ، وأن يكون هذه الۤمۤ جملة ، وذلك الكتاب جملة أخرى . وإن جعلت الۤمۤ بمنزلة الصوت ، كان ذلك مبتدأ خبره الكتاب ، أي ذلك الكتاب المنزل هو الكتاب الكامل . أو الكتاب صفة والخبر ما بعده ، أو قدّر مبتدأ محذوف ، أي هو ـــ يعني المؤلف من هذه الحروف ـــ ذلك الكتاب . وقرأ عبد الله { آلم ، تَنزِيلُ ٱلْكِتَـٰبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ } . وتأليف هذا ظاهر . والريب مصدر رابني ، إذا حصل فيك الريبة . وحقيقة الريبة قلق النفس واضطرابها . ومنه ما روى الحسن بن علي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول 10 " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، فإن الشك ريبة ، وإنّ الصدق طمأنينة " أي فإن كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق له النفس ولا تستقرّ . وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له وتسكن . ومنه ريب الزمان ، وهو ما يقلق النفوس ويشخص بالقلوب من نوائبه . ومنه 11 أنه مر بظبي حاقف فقال " « لا يربه أحد بشيء " . فإن قلت كيف نفى الريب على سبيل الاستغراق ؟ وكم من مرتاب فيه ؟ قلت ما نفى أنّ أحد لا يرتاب فيه وإنما المنفي كونه متعلقاً للريب ومظنة له لأنه من وضوح الدلالة وسطوع البرهان بحيث لا ينبغي لمرتاب أن يقع فيه . ألا ترى إلى قوله تعالى { وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ } البقرة 23 ، فما أبعد وجود الريب منهم ؟ وإنما عرفهم الطريق إلى مزيل الريب ، وهو أن يحزروا أنفسهم ويروزوا قواهم في البلاغة ، هل تتم للمعارضة أم تتضاءل دونها ؟ فيتحققوا عند عجزهم أن ليس فيه مجال للشبهة ولا مدخل للريبة . فإن قلت فهلا قدّم الظرف على الريب ، كما قدّم على الغَوْل في قوله تعالى { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } الصافات 47 ؟ قلت لأنّ القصد في إيلاء الريب حرف النفي ، نفي الريب عنه ، وإثبات أنه حق وصدق لا باطل وكذب ، كما كان المشركون يدّعونه ، ولو أولى الظرف لقصد إلى ما يبعد عن المراد ، وهو أنّ كتاباً آخر فيه الريب فيه ، كما قصد في قوله { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي ، كأنه قيل ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة ، وقرأ أبو الشعثاء { لاَ رَيْبَ فِيهِ } بالرفع والفرق بينها وبين المشهورة ، أنّ المشهورة توجب الاستغراق ، وهذه تجوّزه . والوقف على { فِيهِ } هو المشهور . وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على { لاَ رَيْبَ } ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً . ونظيره قوله تعالى { قَالُواْ لاَ ضَيْرَ } الشعراء 50 ، وقول العرب لا بأس ، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز . والتقدير { لاَ رَيْبَ فِيهِ } . { فِيهِ هُدًى } الهدى مصدر على فعل ، كالسرى والبكى ، وهو الدلالة الموصلة إلى البغية ، بدليل وقوع الضلالة في مقابلته . قال الله تعالى { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } البقرة 16 . وقال تعالى { لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ } سبأ 24 . ويقال مهدي ، في موضع المدح كمهتد ولأن اهتدى مطاوع هدى ـــ ولن يكون المطاوع في خلاف معنى أصله ـــ ألا ترى إلى نحو غمه فاغتم ، وكسره فانكسر ، وأشباه ذلك فإن قلت فلم قيل { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } والمتقون مهتدون ؟ قلت هو كقولك للعزيز المكرم أعزك الله وأكرمك ، تريد طلب الزيادة إلى ما هو ثابت فيه واستدامته ، كقوله { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } . ووجه آخر ، وهو أنه سماهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى متقين ، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم 12 " من قتل قتيلاً فله سلبه " وعن ابن عباس 13 « إذا أراد أحدكم الحج فليعجل فإنه يمرض المريض وتضل الضالة ، وتكون الحاجة » فسمى المشارف للقتل والمرض والضلال قتيلاً ومريضاً وضالاً . ومنه قوله تعالى { وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } نوح 27 ، أي صائراً إلى الفجور والكفر . فإن قلت فهلا قيل هدى للضالين ؟ قلت لأن الضالين فريقان فريق علم بقاؤهم على الضلالة وهم المطبوع على قلوبهم ، وفريق علم أنّ مصيرهم إلى الهدى فلا يكون هدى للفريق الباقين على الضلالة ، فبقى أن يكون هدى لهؤلاء ، فلو جيء بالعبارة المفصحة عن ذلك لقيل هدى للصائرين إلى الهدى بعد الضلال ، فاختصر الكلام بإجرائه على الطريقة التي ذكرنا ، فقيل هدى للمتقين . وأيضاً فقد جعل ذلك سلماً إلى تصدير السورة التي هي أولى الزهراوين وسنام القرآن وأول المثاني ، بذكر أولياء الله والمرتضين من عباده . والمتقي في اللغة اسم فاعل ، من قولهم وقاه فاتقى . والوقاية فرط الصيانة . ومنه فرس واق ، وهذه الدابة تقي من وجاها ، إذا أصابه ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر ، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه . وهو في الشريعة الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك . واختلف في الصغائر وقيل الصحيح أنه لا يتناولها ، لأنها تقع مكفرة عن مجتنب الكبائر . وقيل يطلق على الرجل اسم المؤمن لظاهر الحال ، والمتقي لا يطلق إلا عن خبرة ، كما لا يجوز إطلاق لعدل إلا على المختبر . ومحل { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } الرفع ، لأنه خبر مبتدإ محذوف ، أو خبر مع { لاَ رَيْبَ فِيهِ } لذلك ، أو مبتدأ إذا جعل الظرف المقدّم خبراً عنه . ويجوز أن ينصب على الحال ، والعامل فيه معنى الإشارة أو الظرف . والذي هو أرسخ عرقاً في البلاغة أن يضرب عن هذه المحال صفحاً . وأن يقال إن قوله { الۤمۤ } جملة برأسها ، أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها . و { ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } جملة ثانية . و { لاَ رَيْبَ فِيهِ } ثالثة . و { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } رابعة . وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة وموجب حسن النظم ، حيث جيء بها متناسقة هكذا من غير حرف نسق ، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض . فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها ، وهلم جراً إلى الثالثة والرابعة . بيان ذلك أنه نبه أولاً على أنه الكلام المتحدّى به ، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المنعوت بغاية الكمال . فكان تقريراً لجهة التحدي ، وشدّاً من أعضاده . ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب ، فكان شهادة وتسجيلاً بكماله ، لأنه لا كمال أكمل مما للحق واليقين ، ولا نقص أنقص مما للباطل والشبهة . وقيل لبعض العلماء فيم لذتك ؟ فقال في حجة تتبختر اتضاحاً ، وفي شبهة تتضاءل افتضاحاً . ثم أخبر عنه بأنه هدى للمتقين ، فقرّر بذلك كونه يقيناً لا يحوم الشك حوله ، وحقاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . ثم لم تخل كل واحدة من الأربع ، بعد أن رتبت هذا الترتيب الأنيق ، ونظمت هذا النظم السري ، من نكتة ذات جزالة . ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه . وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة . وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف . وفي الرابعة الحذف . ووضع المصدر الذي هو { هُدًى } موضع الوصف الذي هو « هاد » وإيراده منكراً . والإيجاز في ذكر المتقين . زادنا الله إطلاعاً على أسرار كلامه ، وتبييناً لنكت تنزيله ، وتوفيقاً للعمل بما فيه .