Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 5-5)
Tafsir: al-Kaššāf ʿan ḥaqāʾiq ġawāmiḍ at-tanzīl wa-ʿuyūn al-aqāwīl fī wuǧūh at-taʾwīl
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى } الجملة في محل الرفع إن كان الذين يؤمنون بالغيب مبتدأ وإلا فلا محلّ لها . ونظم الكلام على الوجهين أنك إذا نويت الابتداء بالذين يؤمنون بالغيب . فقد ذهبت به مذهب الاستئناف . وذلك أنه لما قيل { هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } واختصّ المتقون بأنّ الكتاب لهم هدى ، اتجه لسائل أن يسأل فيقول ما بال المتقين مخصوصين بذلك ؟ فوقع قوله { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } إلى ساقته كأنه جواب لهذا السؤال المقدّر . وجيء بصفة المتقين المنطوية تحتها خصائصهم التي استوجبوا بها من الله أن يلطف بهم ، ويفعل بهم ما لا يفعل بمن ليسوا على صفتهم ، أي الذين هؤلاء عقائدهم وأعمالهم ، أحقاء بأن يهديهم الله ويعطيهم الفلاح . ونظيره قولك أحبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار الذين قارعوا دونه ، وكشفوا الكرب عن وجهه ، أولئك أهل للمحبة . وإن جعلته تابعاً للمتقين ، وقع الاستئناف على أولئك كأنه قيل ما للمستقلين بهذه الصفات قد اختصوا بالهدى ؟ فأجيب بأنّ أولئك الموصوفين ، غير مستبعد أن يفوزوا دون الناس بالهدى عاجلاً ، وبالفلاح آجلاً . واعلم أنّ هذا النوع من الاستئناف يجيء تارة بإعادة اسم من استؤنف عنه الحديث ، كقولك قد أحسنت إلى زيد ، زيد حقيق بالإحسان . وتارة بإعادة صفته ، كقولك أحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك منك فيكون الاستئناف بإعادة الصفة أحسن وأبلغ ، لانطوائها على بيان الموجب وتلخيصه . فإن قلت هل يجوز أن يجري الموصول الأوّل على المتقين ، وأن يرتفع الثاني على الابتداء وأولئك خبره ؟ قلت نعم على أن يجعل اختصاصهم بالهدى والفلاح تعريضاً بأهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بنبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم ظانون أنهم على الهدى وطامعون أنهم ينالون الفلاح عند الله . وفي اسم الإشارة الذي هو { أُوْلَـٰئِكَ } إيذان بأنّ ما يرد عقيبه فالمذكورون قبله أهل لاكتسابه من أجل الخصال التي عدّدت لهم ، كما قال حاتم ولله صعلوك ثم عدّد له خصالاً فاضلة ، ثم عقب تعديدها بقوله @ فَذَلِكَ إنْ يَهْلِكْ فحَسْبي ثَنَاؤُهُ وَإنْ عاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَا @@ ومعنى الاستعلاء في قوله على هدى مثل لتمكنهم من الهدى ، واستقرارهم عليه ، وتمسكهم به . شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه . ونحوه هو على الحق وعلى الباطل . وقد صرّحوا بذلك في قولهم جعل الغواية مركباً ، وامتطى الجهل واقتعد غارب الهوى . ومعنى { هُدًى مّن رَّبّهِمْ } أي منحوه من عنده وأوتوه من قبله ، وهو اللطف والتوفيق الذي اعتضدوا به على أعمال الخير ، والترقي إلى الأفضل فالأفضل . ونكر { هُدًى } ليفيد ضرباً مبهماً لا يبلغ كنهه ، ولا يقادر قدره كأنه قيل على أي هدى ، كما تقول لو أبصرت فلاناً لأبصرت رجلاً . وقال الهذلي @ فَلاَ وَأَبِي الطَّيْرِ المُرِبَّةِ بالضُّحَى عَلى خالِدٍ لَقدْ وَقَعتِ على لَحَم @@ والنون في { مِّن رَّبِّهِمْ } أدغمت بغنة وبغير غنة ، فالكسائي ، وحمزة ، ويزيد ، وورش في رواية والهاشمي عن ابن كثير لم يغنوها . وقد أغنها الباقون إلا أبا عمرو . فقد روى عنه فيها روايتان . وفي تكرير { أُوْلَـٰئِكَ } تنبيه على أنهم كما ثبتت لهم الأثرة بالهدى ، فهي ثابتة لهم بالفلاح فجعلتْ كلّ واحدة من الأثرتين في تمييزهم بالمثابة التي لو انفردت كفت مميزة على حيالها . فإن قلت لم جاء مع العاطف ؟ وما الفرق بينه وبين قوله { أُوْلَـٰئِكَ كَٱلانْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ } الأعراف 179 ؟ قلت قد اختلف الخبران ههنا فلذلك دخل العاطف ، بخلاف الخبرين ثمة فإنهما متفقان لأن التسجيل عليهم بالغفلة وتشبيههم بالبهائم شيء واحد ، فكانت الجملة الثانية مقرّرة لما في الأولى فهي من العطف بمعزل . و { هُمْ } فصل وفائدته الدلالة على أن الوارد بعده خبر لا صفة ، والتوكيد ، وإيجاب أن فائدة المسند ثابتة للمسند إليه دون غيره . أو هو مبتدأ والمفلحون خبره ، والجملة خبر أولئك . ومعنى التعريف في { ٱلْمُفْلِحُونَ } الدلالة على أن المتقين هم الناس الذين عنهم بلغك أنهم يفلحون في الآخرة كما إذا بلغك أن إنساناً قد تاب من أهل بلدك ، فاستخبرت من هو ؟ فقيل زيد التائب ، أي هو الذي أخبرت بتوبته . أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم ، وتصوّروا بصورتهم الحقيقة ، فهم هم لا يعدون تلك الحقيقة . كما تقول لصاحبك هل عرفت الأسد وما جبل عليه من فرط الإقدام ؟ إن زيداً هو هو . فانظر كيف كرّر الله عزّ وجلّ التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى ، وهي ذكر اسم الإشارة ، وتكريره ، وتعريف المفلحين ، وتوسيط الفصل بينه وبين أولئك ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا ، وينشطك لتقديم ما قدموا ، ويثبطك عن الطمع الفارغ والرجاء الكاذب والتمني على الله ما لا تقتضيه حكمته ولم تسبق به كلمته . اللهمّ زينا بلباس التقوى ، واحشرنا في زمرة من صدرت بذكرهم سورة البقرة . والمفلح الفائز بالبغية كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه . والمفلج ـــ بالجيم ـــ مثله . ومنه قولهم للمطلقة استفلحي بأمرك بالحاء والجيم . والتركيب دال على معنى الشق والفتح ، وكذلك أخواته في الفاء والعين ، نحو فلق ، وفلذ ، وفلى .