Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 105-106)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله سبحانه : { مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ … } الآية : يتناول لفظُ الآيةِ كلَّ خير ، والرحمةُ في هذه الآية عامَّة لجميعِ أنواعها ، وقال قومٌ : الرحمة القرآن . وقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا … } الآية : النَّسْخُ ؛ في كلام العرب ، على وجهين : أحدهما : النَّقْل ؛ كنقل كتابٍ من آخر ، وهذا لا مدْخَل له في هذه الآية ، وورد في كتاب اللَّه تعالَىٰ في قوله : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] . الثاني : الإِزالةُ ، وهو الذي في هذه الآية ، وهو منقسمٌ في اللغة على ضَرْبَيْنِ : أحدهما : يثبت الناسخ بعد المنسوخ ؛ كقولهم : نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ . والآخر : لا يثبت ؛ كقولهم : نَسَخَتِ الرِّيحُ الأَثَرَ . وورد النسخ في الشَّرْع حسب هذَيْن الضربَيْن وحَدُّ « النَّاسِخ » عنْد حُذَّاق أهل السنة : الْخِطَابُ الدالُّ على ٱرتفاع الحُكْمِ الثَّابتِ بالخطابِ المتقدِّمِ على وجْهٍ لولاه لكان ثَابِتاً ، مع تراخيه عنه . * ت * : قال ابن الحاجِبِ : والنَسْخُ ؛ لغةً : الإِزالة ، وفي الاصطلاح : رفع الحُكْمِ الشرعيِّ ؛ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّر . انتهى من « مختصره الكبير » . والنسْخُ جائز على اللَّه تعالَىٰ عقلاً ؛ لأنه لا يلزم عنه محالٌ ، ولا تتغيرُ صفة من صفاته تعالَىٰ ، وليست الأوامر متعلِّقة بالإِرادة ، فيلزم من النسْخ أنَّ الإِرادة تغيَّرت ، ولا النسخ ؛ لطروء علْم ، بل اللَّه تعالَىٰ يعلم إلى أيِّ وقت ينتهي أمره بالحكم الأول ، ويعلم نسخه له بالثاني ، والبَدَاءُ لا يجوزُ على اللَّه تعالَىٰ ؛ لأنه لا يكون إلا لطروءِ علْمٍ أو لتغيُّر إِرادة ؛ وذلك محالٌ في جهة اللَّه تعالَىٰ ، وجعلت اليهود النسْخَ والبَدَاءَ واحداً ، فلم يجوِّزوه ، فضَلُّوا . والمنسوخُ ؛ عند أئمتنا : الحُكْم الثابتُ نفسُه ، لا ما ذهْبت إِلَيْه المعتزلةُ من أنه مثل الحُكْم الثَّابت فيما يستقبلُ ، والذي قادهم إلى ذلك مذهَبُهم في أنَّ الأوامر مرادةٌ ، وأن الحُسْن صفةٌ نفسيَّةٌ للحَسَنِ ، ومراد اللَّه تعالَىٰ حَسَنٌ ، وقد قامت الأدلَّة على أنَّ الأوامر لا ترتبطُ بالإِرادة ، وعلى أن الحُسْن والقُبْح في الأحكام ، إِنما هو من جهة الشرع ، لا بصفة نفسيَّة ، والتخصيصُ من العموم يوهم أنه نسْخ ، وليس به ؛ لأن المخصَّص لم يتناولْه العمومُ قطُّ ، ولو تناوله العموم ، لكان نسخاً ، والنسخ لا يجوز في الأخبار ، وإِنما هو مختصٌّ بالأوامر والنواهي ، ورد بعض المعترضين الأمر خبراً ؛ بأن قال : أليس معناه وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ أنْ تَفْعَلُوا كذا ، فهذا خبر ، والجوابُ أن يقال : إِن في ضمن المعنَى : إِلاَّ أنْ أنْسَخَهُ عنْكُم ، وأرفعه ، فكما تضمَّن لفظ الأمر ذلك الإِخبار ؛ كذلك تضمَّن هذا الاستثناءُ ، وصور النسخ تختلفُ ، فقد ينسخ الأثقل إِلى الأَخَفِّ ، وبالعكس ، وقد ينسخ المثلُ بمثلهِ ثِقَلاً وخِفَّةً ، وقد ينسخ الشيء لا إِلى بدل ، وقد تُنْسَخُ التلاوة دون الحُكْم ، وبالعكس ، والتلاوة والحكم حكمان ، فجائز نَسْخ أحدهما دون الآخر ، ونسْخُ القرآن بالقرآن ، وينسخ خبر الواحدِ بخبر الواحدِ ؛ وهذا كله مُتَّفَقٌ عليه ، وحُذَّاق الأئمَّة على أن القرآن ينسخ بالسنة ، وذلك موجودٌ في قوله - عليه السلام - " لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ " ، وهو ظاهر مسائل مالكٍ . * ت * : ويعني بالسنةِ الناسخة للقرآن الخَبَرَ المتواترَ القطعيَّ ، وقد أشار إلى أن هذا الحديث مُتَوَاتِرٌ ، ذكره عند تفسير قوله تعالَىٰ : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ } [ البقرة : 180 ] ، واختلف القُرَّاء في قراءة قوله تعالى : { أَوْ نُنسِهَا } فقرأ ابن كثير وأبو عمرو : « نَنْسَأْهَا » ؛ بنون مفتوحةٍ ، وأخرى ساكنة ، وسين مفتوحة ، وألف بعدها مهموزةٍ ، وهذا بمعنى التأخير ، وأما قراءة نافعٍ والجمهورِ : « نُنْسِهَا » ؛ من النسيان ، وقرأَتْ ذلك فرقةٌ إِلاَّ أنها همزت بعد السين ، فهذه بمعنى التأخير والنِّسْيَان في كلام العربِ يجــيء في الأغلب ضدَّ الذكر ، وقد يجـــيء بمعنى التَّرْك ، فالمعاني الثلاثة مقولَةٌ في هذه القراءات ، فما كان منها يترتَّب في لفظةَ النسيان الذي هو ضدُّ الذكْر ، فمعنى الآية به : ما ننسَخْ من آيةٍ أو نقدِّر نسيانَكَ لَهَا ، فإنَّا نأتي بخيرٍ منها لكُمْ أو مثلها في المنفعة ، وما كان على معنى الترك ، أو علَىٰ معنى التأخيرِ ، فيترتَّب فيه معانٍ ، ٱنْظُرْهَا ، إِنْ شئْتَ فإِنِّي آثرت الاختصار . * ع * : والصحيح أن نسيان النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا أراد اللَّه أن يَنْسَاهُ ، ولم يرد أن يثبته قرآناً - جائزٌ ، فأما النِّسْيَان الذي هو آفة في البشر ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم معصومٌ منْه قبل التبليغ ، وبعد التبليغ ، ما لم يحفظْه أحد من أصْحابه ، وأما بعد أن يحفظ ، فجائز علَيْه ما يجوز على البَشَر ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد بَلَّغَ ، وأدَّى الأمانة ؛ ومنه الحديثُ ، " حِينَ أَسْقَطَ آيَةً ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ : « أَفِي القَوْمِ أُبَيٌّ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : فَلِمَ لَمْ تُذَكِّرْنِي ؟ قَالَ : حَسِبْتُ أَنَّهَا رُفِعَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : لَمْ تُرْفَعْ ، وَلَكِنِّي نُسِّيتُهَا » " . وقوله تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ } : معناه : التقرير ، ومعنى الآية أن اللَّه تعالى ينسخ ما شاء ، ويثبت ما شاء ، ويفعل في أحكامه ما شاء ، هو قدير علَىٰ ذلك ، وعلى كلِّ شيء ، وهذا لإِنْكَارِ اليَهُودِ النَّسْخَ ، وقوله : { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } عمومٌ ، معناه الخصوصُ ، إِذ لا تدخل فيه الصفاتُ القديمةُ ؛ بدليل العقل ، ولا المحالاتُ ؛ لأنها ليستْ بأشياء ، والشيء في كلام العرب : الموجودُ ، و { قَدِيرٌ } : اسم فاعل على المبالغةِ ، قال القُشَيْرِيُّ : وإِن من علم أن مولاه قديرٌ علَىٰ ما يريد ، قَطَعَ رجاءه عن الأغيار ؛ كما قال تعالَىٰ عن إِبراهيم - عليه السلام - : { رَبَّنَا إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ } [ إبراهيم : 37 ] قال أهل الإِشارة : معناه : سهلت طريقهم إِليك ، وقطَعْت رجاءهم عن سواك ، ثم قال : { لِيُقِيمُواْ ٱلصَّلوٰةَ } [ إبراهيم : 37 ] أي : شغلتهم بخدمتك ، وأنت أولَىٰ بهم ، { فَٱجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] ، أي : إِذا احتاجوا شيئاً ، فذلل عبادك لهم ، وأوصل بكرمك رعايتهم إليهم ؛ فإِنك على ذلك قديرٌ ، وإِن من لزم بابه أوصل إليه محابَّه ، وكفاه أسبابه ، وذلل لهُ كلَّ صعب ، وأورده كلَّ سهل عذبٍ من غير قطعِ شُقَّة ، ولا تحمل مشقة انتهى من « التحبير » .