Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 261-264)
Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله تعالى : { مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَٰلَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَـٰعِفُ لِمَنْ يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ } في الآية بيانُ شرفِ النفقة في سبيلِ اللَّه ، وتحسينها ، وضمنها التحريض علَىٰ ذلك ، وهذه الآيةُ في نفقة التطوُّع ، وسبلُ اللَّهِ كثيرةٌ ، وهي جميعُ ما هو طاعةٌ ، وعائدٌ بمنفعةٍ على المسلمين ، وعلى الملَّة وأشهرها وأعظمها غَنَاءُ الجهَاد ؛ لتكون كَلمةُ اللَّه هي العليا ، والحبَّة : ٱسْمُ جنْسٍ لكلِّ ما يزرعه ابن آدم ، وأشهر ذلك البُرُّ ، وقد يوجد في سنبل القمحِ ما فيه مائةُ حبَّة ، وأما في سائر الحبوب ، فأكثر ، وقد ورد القُرآن ؛ بأن الحسنة بعَشْر أمثالها ؛ واقتضت الآية أنَّ نفقة الجهَادِ حسنتها بِسَبْعِمِائَةِ ضعفٍ ، وبيَّن ذلك الحديث الصحيحُ ، واختلف في معنى قوله سبحانه : { وَٱللَّهُ يُضَـٰعِفُ لِمَن يَشَاءُ } ، فقيل : هي مبينة ، ومؤكِّدة لما تقدَّم من ذكْر السَّبْعمائَةِ ، وقالت طائفة من العلماء : بل هو إِعلام من اللَّه تعالَىٰ ؛ بأنه يضاعف لِمَنْ يشاء أكْثَر من سبْعمائة ضعْفٍ . * ت * : وأرجحُ الأقوالِ عنْدِي قولُ هذه الطائفة ، وفي الحديثِ الصحيحِ عن ابن عبَّاس ، عن رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عن ربِّه تبارَكَ وتعالى ، قال : " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَىٰ كَتَبَ الحَسَناتِ والسَّيِّئَاتِ ، ثمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ ، فَلَمْ يَعْمَلْهَا ، كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، وإِنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا ، كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَىٰ سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَىٰ أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ … " الحديثَ ، رواه مسلمٌ والبخاريُّ بهذه الحروفِ . انتهى . وقال ابن عمر : لمَّا نزلَتْ هذه الآيةُ ، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " « رَبِّ ، زِدْ أُمَّتِي » ، فَنَزَلَتْ : { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً … } ، [ البقرة : 245 ] الآية ، فَقَالَ : « رَبِّ ، زِدْ أُمَّتِي » ، فَنَزَلَتْ : { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] " . وفي الآية حذفُ مضافٍ ، تقديره مَثَلُ إِنفاقِ الذين ، وَكَمَثَلِ ذِي حَبَّة ، وقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، لَمَّا تقدَّم في الآية التي قَبْلَها ذِكْرُ فَضْلِ الإِنفاقِ في سبيلِ اللَّهِ علَى العُمُوم ، بيَّن أنَّ ذلك إِنما هو لِمَنْ لم يُتْبِعْ إِنفاقَهُ منًّا ولا أذًى ، وذلك أنَّ المنفِقَ في سبيلِ اللَّهِ ، إنما يريد وجه اللَّه تعالى ، ورجاء ثوابه ، وأمَّا من أراد من المُنْفِقِ علَيْه جزاءً بوَجْهٍ من الوجوه ، فهذا لم يُرِدْ وجْهَ اللَّهِ تعالَىٰ ، وهذا هو الذي مَتَىٰ أخلفه ظنه ، مَنَّ بالإِنفاق وآذَىٰ ، إِذ لم يكُنْ إِنفاقه مخلصاً لوجه اللَّه ، فالمَنُّ والأَذَىٰ مُبْطِلانِ للصَّدقة ، وهما كاشفان لمقاصد المُنْفِقينَ ، والمَنُّ : ذِكْرُ النِّعمة ؛ علَىٰ معنى التعديدِ لها ، والتقْريعِ بها ، والأَذَى : السَّبُّ والتشكِّي ، وهو أعمُّ من المَنِّ ، لأن المَنَّ جزء من الأذَىٰ ، ولكنَّه نصَّ عليه ؛ لكثرة وقوعه ، وقال زيدُ بْنُ أسْلَم : لَئِنْ ظَنَنْتَ أنَّ سلاَمَكَ يَثْقُلُ علَىٰ من أنفقْتَ علَيْه ، تريدُ وجْهَ اللَّه ، فلا تسلِّم علَيْه ، وقالَتْ له امرأةٌ : « يا أبا أُسَامَة ، دُلَّنِي علَىٰ رجُلٍ يخرج في سَبِيلِ اللَّهِ حقًّا ؛ فإِنهم إِنما يخرجُون ؛ ليأْكُلُوا الفواكه ، فإِنَّ عندي أَسْهُماً وجَعْبَةً ، فقالَ لَهَا : لاَ بَارَكَ اللَّه فِي أَسْهُمِكِ وَجَعْبَتِكِ ، فَقَدْ آذيتِهِمْ قَبْلَ أَنْ تُعْطِيَهُمْ » . وتضمَّن اللَّه الأَجْرَ للمُنْفِقِ في سبيلِ اللَّه ، والأجْرُ : الجَنَّة ، ونفى عنه الخوْفَ لما يستقبلُ ، والحُزْنَ علَىٰ ما سَلَف من دنْياه ؛ لأنه يغتبط بآخِرَتِهِ . * ت * : وممَّا جاء من صحيح الآثار في هذا البابِ ما رواه مالِك في « الموطَّإ » ، عن ابن شِهَابٍ ، عن حُمَيْد بن عَبْد الرحمنِ بْن عَوْف ، عن أبي هريرة ؛ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ ، يَا عَبْدَ اللَّهِ ، هَذَا خَيْرٌ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الجِهَادِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا عَلَىٰ مَنْ يُدْعَىٰ مِنْ هَذِهِ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ ، فَهَلْ يُدْعَىٰ أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأَبْوَابِ كُلِّهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ " ، قال أبو عمر بن عبد البَرِّ في « التمهيد » : في هذا الحديثِ من الفقْه : [ والفضائل ] الحضُّ على الإِنفاقِ في سبل الخير ، ومعنى زوجَيْنِ ، أي : شيئين من نوعٍ واحدٍ ؛ نحو درهمَيْن ، أو دينارَيْن ، أو فرسَيْن ، أو قميصَيْن ، هكذا قال أهل العلْمِ ، وفيه : أَنَّ من أكثر مِنْ شيء ، عُرِفَ به ، ونُسِبَ إِلَيْه ؛ ألا تَرَىٰ إِلى قوله : « فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ » ، يريد : مَنْ أكثر منها ، فنُسِبَ إِلَيْها ؛ لأن الجميع من أهل الصلاة ؛ وكذلك : مَنْ أكثر من الجهادِ ، ومِنَ الصيامِ علَىٰ هذا المعنَىٰ ، والرَّيَّانُ : فَعْلاَن من الرِّيِّ ، ومعنى الدعاء من تلك الأبواب : إِعطاؤه ثوابَ العامِلِينَ تلْكَ الأعمال ، ونَيْلُه ذلك ، واللَّه أعلم ، وفيه : أنَّ للجنَّة أبواباً ، يعني : متعدِّدة بحَسَب الأعمال . انتهى . وروى ابن أبي شَيْبَة في « مُسْنَدِهِ » ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " أنَّ لِكُلِّ أَهْلِ عَمَلٍ بَابَاً مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ يُدْعَوْنَ فِيهِ بِذَلِكَ العَمَلِ " هذا لفظه علَىٰ ما نقله صاحب « الكوكب الدري » . انتهى . قوله تعالى : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى } : هذا إِخبارٌ ، جزم من اللَّه تعالى أنَّ القول المعروفَ ؛ وهو الدعاءُ والتأنيسُ والترجيةُ بما عند اللَّه - خير من صدقة ، هي في ظاهرِهَا صدَقَةٌ ، وفي باطنها لا شَيْء ؛ لأن ذلك القوْلَ المعروفَ فيه أجْر ، وهذه لا أجْر فيها ، والمَغْفِرَة : السَّتْر للخَلَّة ، وسوءِ حالة المُحْتَاجِ ؛ ومِنْ هذا قولُ الأعرابيِّ ، وقد سأل قوماً بكلامٍ فصيحٍ ، فقال له قائلٌ : مِمَّنِ الرجُل ؟ فَقَالَ : « اللَّهُمَّ غَفْراً ، سُوءُ الاِكْتِسَابِ يَمْنَعُ مِنَ الاِنْتِسَابِ » . وقال النَّقَّاشُ يقال : معناه : ومغفرةٌ للسائلِ إِنْ أغلظ أو جفا ، إِذا حُرِم . ثم أخبر تعالى بغنَاهُ عن صدَقَةِ مَنْ هذه حالُهُ ، وحلْمِهِ عَمَّن يقع منه هذا وإِمهالِهِ . وحدَّث [ ابن ] الجَوْزِيِّ في « صَفْوة الصَّفْوَة » بسنده إِلى حارثَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الصحابيِّ - رضي اللَّه عنه - قال ، لَمَّا كُفَّ بصره ، جعل خيطاً في مُصَلاَّه إِلى بابِ حُجْرته ، ووضع عنده مِكْتَلاً فيه تَمْرٌ وغير ذلك ، فكان إِذا سأل المِسْكِين أخذ من ذلك التَّمْر ، ثم أخذ من ذلك الخَيْط ؛ حتَّىٰ يأخذ إِلى باب الحُجْرة ، فيناوله المِسْكِين ، فكان أهله يقولُونَ : نَحْنُ نَكْفِيكَ ، فيقولُ : سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : " إِنَّ مُنَاوَلَةَ المِسْكِينِ تَقِي مِيتَةَ السُّوءِ " انتهى . وقوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَـٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ … } الآية . العقيدةُ أنَّ السيئات لا تبطل الحسنَاتِ ، فقال جُمْهُورُ العلماء في هذه الآية : إِن الصدقة التي يعلم اللَّه من صاحبها أنه يمنُّ بها أو يؤذِي ؛ فإنها لا تُتقبَّلُ صدَقَةً ، وقيل : بل يجعل اللَّه للمَلَكِ علَيْها أمارةً ، فهو لا يكتبها ، قال : * ع * : وهذا حسنٌ ؛ لأن المانَّ المُؤْذِيَ لم تكُنْ نيَّته خالصةً للَّه سبحانه ، فلم تترتَّب له صدقةٌ ، فهذا هو البطلانُ بالمَنِّ والأذَىٰ ، وهما لا يبطلان صدَقَةً غيرها سالمةَ النية . ثم مثَّل اللَّه سبحانه هذا الَّذي يَمُنُّ ويؤذي بحَسَب مقدِّمه نيته ؛ بالذي ينفقُ رياءً ، لا لوجْه اللَّه ، والرِّيَاءُ : مصدرٌ من « فَاعَلَ » من الرؤية : كأنّ الرياءَ تظاهُر ، وتفاخُر بيْن من لا خير فيه من الناس . قال المَهْدَوِيُّ : والتقدير : كإِبطال الذي ينفقُ ريَاءً . وقوله تعالى : { وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلأَخِرِ } يحتمل أنْ يريد الكافر أو المنافق ؛ إِذْ كلٌّ منهما ينفق ؛ ليقال : جَوَاد ، ثم مثَّل سبحانه هذا المُنْفِقَ رياءً بِصَفْوَانٍ عليه ترابٌ ، فيظنه الظانُّ أرضاً منْبِتَةً طيِّبةً ؛ كما يظنُّ قومٌ أنَّ صدقة هذا المرائي لها قَدْر ، أو معنًى ، فإِذا أصاب الصَّفْوَانَ وابلٌ من المَطَر ، ٱنْكَشَف ذلك التُّرَاب ، وبقي صَلْداً ، فكذلك هذا المرائي ، إِذا كان يوم القيامة ، وحضرت الأعمال ، انكشَفَ سرُّه ، وظهر أنه لا قَدْر لصدَقَاته ، ولا مَعْنَى ، والصَّفْوَانُ : الحَجَر الكبيرُ الأملَسُ ، والوَابِلُ : الكثير القَوِيُّ من المَطَر وهو الذي يُسَيِّلُ وجْهَ الأرْضِ ، والصَّلْدُ من الحجارة : الأملَسُ الصُّلْب الذي لا شيْء فيه ، ويستعار للرأسِ الذي لا شَعْرَ فيه . وقوله تعالى : { لاَّ يَقْدِرُونَ } يريد : الذين يتفقُونَ رياءً ، أي لا يقدرون على الاِنتفاع بشيء من إنفاقهم ذلك ، وهو كَسْبهم . وقوله تعالى : { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَـٰفِرِينَ } إِما عمومٌ يراد به الخصوصُ ، ويحتمل لا يهْدِيهِمْ في كفرهم ؛ إِذ هو ضلالٌ محضٌ ، ويحتمل : لا يهديهم في صدَقَاتِهِم ، وأعمالِهِم ، وهم على الكُفْر .