Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 278-281)
Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَوٰاْ … } الآية : سبَبُ هذه الآيةِ أنه لما افتتح النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكَّة ، قال في خُطْبَتِهِ اليَوْمَ الثانِيَ من الفَتْح : " ألا كُلُّ رِباً فِي الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ ، وَأَوَّلُ رِباً أَضَعُهُ رِبَا العَبَّاسِ " فبدأ صلى الله عليه وسلم بعَمِّه ، وأخَصِّ الناسِ به ، وهذه من سنن العَدْلِ للإِمام أنْ يفيض العَدْل على نَفْسه وخاصَّته ، فيستفيض في النَّاس ، ثم رجع رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِلى المدينةِ ، وٱستعملَ علَىٰ مكَّة عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ ، فلمَّا ٱستنزل صلى الله عليه وسلم أهْلَ الطائِفِ بَعْد ذلك إِلى الإِسْلامِ ، ٱشترطوا شُرُوطاً ، وكان في شروطهم : أنَّ كُلَّ رباً لهم على النَّاسِ ؛ فإِنهم يأخذونه ، وكُلُّ رباً علَيْهم ، فهو موضُوعٌ ، فيروَىٰ ؛ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَّر لهم هذه ، ثم ردَّها اللَّه بهذه الآية ؛ كما ردَّ صُلْحَه لكُفَّار قُرَيْش في ردِّ النِّسَاءِ إِليهم عامَ الحُدَيْبِية ، وذكَرَ النَّقَّاش روايةً ؛ " أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ فِي أَسْفَلِ الكِتَابِ لِثَقِيفٍ : « لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيهِمْ » " ، فلما جاءَتْ آجال رِبَاهُمْ ، بعثوا إِلى مكَّة لِلاقتضاءِ ، وكانَتْ علَىٰ بني المُغِيرَةِ للمَخْزُومِيِّينَ ، فقال بنو المُغِيرَةِ : لا نُعْطِي شَيئاً ؛ فإِن الربَا قد وُضِعَ ، ورفعوا أمرهم إِلى عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ بمكَّة ، فَكَتَب به إِلَىٰ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتِ الآية ، وكتَبَ بها رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم إِلَىٰ عتَّابٍ ، فعلمتْ بها ثقيفٌ ، فكَفَّت : هذا سببُ الآية على اختصارٍ ممَّا روى ابْنُ إِسحاق ، وابْنُ جُرَيْجٍ ، والسُّدِّيُّ وغيرهم . فمعنى الآية : اجعلوا بينكم وبيْنَ عذابِ اللَّهِ وقايةً بترككمْ ما بَقِيَ لكُمْ من رباً ، وصَفْحِكُمْ عنه ، ثم توعَّدَهُمْ تعالَى ، إِن لم يذروا الربَا بحَرْبٍ منه ، ومِنْ رسوله ، وأمَّته ، والحَرّب داعية القَتْلِ . وقوله تعالى : { فَأْذَنُواْ } قال سِيبَوَيْهِ : آذَنْتُ : أعْلَمْتُ . * ت * : وهكذا فسره البخاريُّ ، فقال : قال أبو عبد اللَّهِ : فَأذَنُوا ، فَٱعلَمُوا ، وقال : * ع * : هي عنْدِي من الأَذَنِ ، وقال ابن عَبَّاس وغيره : معناه فٱستيقِنُوا بحَرْبٍ . ثم ردَّهم سبحانه مع التوبة إِلى رءوس أموالهم ، وقال لهم : لا تَظْلِمُونَ في أخذِ الزائِدِ ، ولا تُظْلَمُونَ في أنْ يتمسَّك بشيء من رءوس أموالكُمْ ، ويحتمل لا تَظْلِمُونَ في مَطْلٍ ، لأن مَطْل الغنيِّ ظُلْمٌ ؛ كما قال - عليه الصلاة والسلام - فالمعنَىٰ أنه يكون القضاءُ ، مع وضْعِ الربا ؛ وهكذا سنة الصُّلْح ، وهذا أشبه شيء بالصُّلْح ؛ ألا ترَىٰ " أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أشارَ علَىٰ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ في دَيْنِ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ بِوَضْعِ الشَّطْرِ ، فقال كَعْبٌ : نَعَمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلآخَرِ : « قُمْ ، فَٱقْضِهِ » " ، فَتلقَّى العلماءُ أمره بالقَضَاء سُنَّةً في المصالَحَاتِ . وقوله سبحانه : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ } حكم اللَّه تعالَىٰ لأرباب الربَا برُءُوس أموالهم عنْدَ الواجدين للمال ، ثم حكم في ذِي العُسْرَةِ بالنَّظَرَةِ إِلى حال اليُسْرِ ، والعُسْرُ : ضيقُ الحالِ من جهة عدمِ المالِ ، والنَّظِرَةُ التأخيرُ . * ت * : وفي « الصحيحين » عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : " كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ : إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِراً ، فَتَجَاوَزْ عَنْهُ ، لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا ، قَالَ : فَلَقِيَ اللَّهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ " ، وفي « صحيح مسلمٍ » : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ القِيَامَةِ ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ " ، وفي روايةٍ : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً ، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ ، أنْجَاهُ اللَّهُ مِنْ كَرْبِ يَوْمِ القِيَامَةِ " ، وفي رواية : " مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَوْ وَضَعَ عَنْهُ ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ " انتهى . والمَيْسَرَةُ : مصدرٌ بمعنى اليُسْرِ ، وٱرتفع : « ذُو عُسْرَةٍ » بـــ « كان » التامة الَّتي هي بمعنى : « وُجِدَ ، وَحَدَثَ » ، وارتفعَ قَوْلِه : « فَنَظِرَةٌ » ؛ علَى خبر ابتداءٍ مقدَّر ، تقديره فالواجبُ نَظِرَةٌ . واختلف أهْلُ العلْمِ هلْ هذا الحُكْم بالنَّظِرَةِ إِلى الميسرةِ واقفٌ علَىٰ أهل الربا خاصَّة ، وهو قول ابن عبَّاس ، وشُرَيْح ، أو هو منسحبٌ علَىٰ كلِّ دَيْنٍ حلالٍ ، وهو قولُ جمهور العلماء ؟ * ع * : وما قاله ابن عبَّاس إِنما يترتَّب ، إِذا لم يكُنْ فقر مُدْقِعٌ ، وأما مع الفقر والعُدْمِ الصريحِ ، فالحُكْمُ هي النَّظِرة ضرورةً . * ت * : ولا يخالف ابن عبَّاس في ذلك . وقوله تعالى : { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } : نَدَبَ اللَّه بهذه الألفاظ إِلى الصدَقَة على المُعْسِر ، وجعل ذلك خيراً من إنظاره ، قاله جمهور العلماء . وروى سعيدُ بْنُ المُسَيَّبِ ، عن عمر بن الخَطَّاب ؛ أنه قَالَ : كان آخر ما نَزَلَ من القُرآن آية الربا ، وقُبِضَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ولَمْ يفسِّرْها لَنَا ، فدَعُوا الرِّبَا والرِّيبَةَ . وقال ابن عباس : آخر ما نزل آية الربا . قال : * ع * : ومعنى هذا عنْدي ، أنها من آخر ما نَزَلَ ؛ لأن جمهور النَّاس ؛ ابنُ عبَّاس ، والسُّدِّيُّ ، والضَّحَّاك ، وابنُ جْرَيجٍ ، وغيرهم ، قالوا : آخر آية نزلَتْ قوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ } ، ورُوِيَ أَنَّ قوله : { وَٱتَّقَواْ } نزلَتْ قبل موْتِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بِتِسْعِ ليالٍ ، ثم لم ينزلْ بعدها شيْءٌ ، ورُوِيَ بثلاثِ ليالٍ ، وروي أنَّها نزلَتْ قبل موتِهِ بثَلاَثِ ساعَاتٍ ، وأنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ : " ٱجْعَلُوهَا بَيْنَ آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الدَّيْنِ " ، وحكَىٰ مَكِّيٌّ ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " جَاءَنِي جِبْرِيلُ ، فَقَالَ : ٱجْعَلْهَا عَلَىٰ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنَ البَقَرةِ " . وقوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ … } الآية ، وعْظٌ لجميعِ الناسِ ، وأمْرٌ يخصُّ كلَّ إِنسان . * ت * : حدَّثني من أثقُ به ؛ أنه جَلَسَ عند شَيْخٍ من الأفاضلِ يُجَوَّدُ علَيْه القُرآن ، فقرئَتْ عليه هذه الآيةُ ، فَبَكَىٰ عندها ، ثم بَكَىٰ ، إِلَىٰ أَنْ فاضتْ نفْسُه ، ومَالَ ، فحَرَّكُوه ، فإِذا هو مَيِّتٌ ـــ رَحِمَهُ اللَّهُ ـــ ونَفَعَ بِهِ ، يَا هَذَا ، مَنْ صَحَا عَقْلُه مِنْ سُكْر هواه ، وجَهْلِهِ ، ٱحْتَرَقَ بنَارِ النَّدَمِ والخَجَلِ مِنْ مهابة نَظَرِ ربِّه ، وتنكَّرت صُورةُ حالِهِ في عَيْنِهِ نفوسَ الأغبياءِ الجُهَّال ، غَافِلَةً عن العظمة والجَلاَل ، ولاَهِيَةً عن أهْوَال المَعَاد والمَآل ، مَشْغُولَةً برذائلِ الأفْعَال ، وفُضُولِ القِيلِ والقَال ، والاِستنباطِ والاِحْتِيَالِ ؛ لاِزدياد الأمْوَال ، ولا يَعْلَمُون أنَّها فِتْنَةٌ وَوَبَال ، وطُولُ حِسَابٍ وبَلاَء وبَلْبَالَ ، ٱغتَنِمُوا ، يا ذوِي البَصَائر نعْمَةَ الإِمهال ، وٱطَّرِحُوا خَوَادِع الأمانِي ، وكَوَاذِب الآمال ، فكأنْ قد فجأتْكُم هواجمُ الآجال . انتهى من « الكَلِمِ الفارقيَّة ، فِي الحِكَمِ الحقيقيَّة » . و { يَوْماً } : نصب على المفعول ، لا على الظرف ، وجمهور العلماء على أنَّ هذا اليوم المحذَّر منه هو يومُ القيامةِ ، والحِسَابِ والتوفيةِ ، وقال قومٌ : هو يوم المَوْت ، والأول أصَحُّ ، وهو يومٌ تنفطرُ لذكْره القُلُوب ، وفي هذه الآيةِ نصٌّ علَىٰ أنَّ الثواب والعقابَ متعلِّق بكَسْب الإِنْسَان ، وهذا ردٌّ على الجبريَّة .