Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 283-285)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله تعالى : { وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ … } الآية : لما ذكر اللَّه تعالى الندْبَ إِلى الإِشهاد ، والكتْبِ ؛ لمصلحة حفظ الأموال والأديان ـــ عقَّب ذلك بذكْر حال الأعذار المانعة من الكتب ، وجعل بدلها الرهْنَ ، ونصَّ على السفر ؛ إِذ هو الغالب من الأعذار ، ويدخل في ذلك بالمعنَىٰ كلُّ عذر . قال : * ع * : رَهَنَ الشَّيْءَ ؛ في كلام العرب معناه : دَامَ ، وٱستمرَّ ، قيل : ولما كان الرهنُ بمعنى الثبوتِ ، والدوامِ ، فمِنْ ثَمَّ بطَل الرهْنُ ؛ عند الفقهاء : إِذا خرج مِنْ يد المرتَهِن إِلى يد الراهِنِ ؛ لأنه فَارَقَ ما جُعِلَ له . وقوله تعالى : { مَّقْبُوضَةٌ } : هي بينونةُ المرتَهَنِ بالرَّهْن . وأجمع الناس علَىٰ صحَّة قَبْض المرتَهَن ؛ وكذلك علَىٰ قبض وكيله ؛ فيما علمتُ . واختلفوا في قَبْض عدلٍ يوضَعُ الرهْنُ على يدَيْه . فقال مالك ، وجميعُ أصحابه ، وجمهور العلماء : قَبْض العَدْل قبضٌ . وقال الحَكَم بن عُتَيْبَةَ ، وغيره : ليس بقَبْض . وقولُ الجمهورِ أصحُّ ؛ من جهة المعنى في الرهن . وقوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } : شرطٌ ربَطَ به وصيَّةَ الذي علَيْه الحقُّ بالأداء . قال ابن العربيِّ في « أحكامه » : قوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا } : معناه : إن أسقط الكَتْبَ ، والإِشهادَ ، والرَّهْنَ ، وعوَّل على أمانة المعامَلِ ، فليؤدِّ الأمانةَ ، وليتَّقِ اللَّه ربَّه ؛ وهذا يبيِّن أنَّ الإِشهاد ليس بواجبٍ ؛ إِذ لو كان واجباً ، لما جاز إِسقاطه ، ثم قال : وجملة الأمر أنَّ الإِشهاد حزْم ، والاِئتمانَ ثقةٌ باللَّه تعالَىٰ من الدائنِ ، ومروءةٌ من المِدْيَان ، ثم ذكر الحديثَ الصحيحَ في قصَّة الرَّجُل من بني إِسرائيل الذي استسْلَفَ ألْفَ دينارٍ ، وكيف تَعَامَلاَ علَىٰ الٱئتمانِ ، ثم قال ابنُ العربيِّ : وقد رُوِيَ عن أبي سعيد الخدريِّ ؛ أنه قرأ هذه الآية ، فقال : هذا نسخ لكلِّ ما تقدَّم ، يعني : من الأمر بالكَتْب ، والإِشهاد ، والرهن . اهـــ . وقوله : { فَلْيُؤَدِّ } : أمر بمعنى الوجوبِ ، وقوله : { أَمَـٰنَتَهُ } : مصْدَرٌ سُمِّيَ به الشيْء الذي في الذمَّة . وقوله تعالى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ … } الآية : نهي فيه تهديدٌ ووعيدٌ ، وخص تعالَىٰ ذكْر القَلْب ؛ إذ الكَتْم من أفعاله ، وإِذ هو البُضْعَةُ التي بصلاحها يصْلُحُ الجَسَدُ كُلُّه ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم ، وفي قوله تعالى : { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } توعُّدٌ ، وإِنْ كَانَ لفظُها يعمُّ الوعيدَ والوَعْدَ . وروى البَزَّارُ في « مسنده » ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنَّهُ قَالَ : " مَنْ مَشَىٰ إِلَىٰ غَرِيمِهِ بِحَقِّهِ ، صَلَّتْ عَلَيْهِ دَوَابُّ الأَرْضِ ، وَنُونُ المَاءِ ، ونَبَتَتْ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ شَجَرَةٌ ، تُغْرَسُ فِي الجَنَّةِ ، وَذَنْبُهُ يُغْفَرُ " اهـــ من « الكوكب الدري » . قوله تعالى : { للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } الآية : المعنَىٰ : جميعُ ما في السمواتِ ، وما في الأرض مِلْكٌ له سُبْحَانَهُ . وقوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ … } الآية : قوله : { مَا فِي أَنفُسِكُمْ } يقتضي قوَّةُ اللفظ أنَّه ما تقرَّر في النفْسِ ، وٱستصحبتِ الفكْرةَ فيه ، وأما الخواطر التي لا يُمْكِنُ دفْعُها ، فليسَتْ في النفْسِ ، إِلا علَىٰ تجوُّز . وٱختلف في معنى هذه الآية . فقال عِكْرِمَةُ وغيره : هي في معنى الشهادةِ التي نُهِيَ عن كتمها ، فلفظ الآية ؛ علَىٰ هذا التأويل : العمومُ ، ومعناه الخصوصُ ؛ وكذا نقل الثعلبيُّ . وقال ابن عبَّاس : وأبو هريرة ، وجماعةٌ من الصَّحابة والتابعين : إِن هذه الآية ، لَمَّا نزلَتْ ، شَقَّ ذلك على الصَّحابة ، وقالوا : هَلَكْنَا ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ حُوسِبْنَا بِخَوَاطِرِ نُفُوسِنَا ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لكِنَّهُ قَالَ لَهُمْ : " أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا ، كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فَقَالُوهَا : فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ؛ ونَسَخ بِهَذِهِ تِلْكَ " هذا معنى الحديثِ الصحيحِ ، وله طرقٌ من جهاتٍ ، واختلفتْ عباراته ، وتعاضَدَتْ عبارةُ هؤلاء القائلين بلفظة النَّسْخِ في هذه النازلةِ . وقال ابن عبَّاس : لما شقَّ ذلك علَيْهم ، فأنزل اللَّه تعالَىٰ : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا … } الآية ، فنسختِ الوسوسةُ ، وثَبَتَ القوْلُ ، والفعْلُ . وقال آخرون : هذه الآيةُ محكمةٌ غير منْسُوخةٍ ، واللَّه محاسِبٌ خلقه علَىٰ ما عملوه ، وأضمروه ، وأرادوه ، ويَغْفِرُ للمؤمنين ، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ؛ ورجَّح الطبريُّ أنَّ الآية محكَمَةٌ غير منْسُوخة . * ع * : وهذا هو الصوابُ ، وإِنَّما هي مخصَّصة ، وذلك أنَّ قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ } : معناه : بما هو في وُسْعكم ، وتحْتَ كَسْبِكُم ، وذلك استصحابُ المعتقد ، والفِكْر فيه ، فلما كان اللفظ ممَّا يمكنُ أنْ تدخل فيه الخواطرُ ، أشفَقَ الصحابةُ ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم فبيَّن اللَّه تعالَىٰ لهم ما أراد بالآيةِ الأولَىٰ ، وخصَّصَها ، ونصَّ على حُكْمِهِ ؛ أنه لا يكلِّف نفْساً إِلا وسْعَهَا ، والخواطرُ ليْسَتْ هي ، ولا دفعُهَا في الوُسْع ، بل هي أمر غالبٌ ، وليست مما يُكْسَبُ ، ولا يُكْتَسَبُ ، وكان في هذا البيان فَرَحُهُمْ ، وكَشْفُ كربهم ، وتأتي الآية محكمةً لا نَسْخَ فيها ، وممَّا يدفع أمر النَّسْخ ؛ أن الآية خَبَرٌ ، والأخبار يدخُلُها النَّسْخُ ، فإن ذهب ذاهبٌ إِلى تقرير النَّسْخِ ، فإِنما يترتَّب له في الحُكْم الذي لَحِقَ الصحابة ، حِينَ فزعوا من الآية ، وذلك أن قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم : « قولُوا سَمِعْنَا وأطعنا » ، يجيء منْه : الأمر بأن يبنُوا علَىٰ هذا ، ويلتزموه ، وينتظروا لُطْفَ اللَّه في الغُفْران ، فإِذا قرّر هذا الحكم ، فصحيحٌ وقوعُ النَّسْخ فيه ، وتشبه الآية حينئذٍ قوله تعالَى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَـٰبِرُونَ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] ، فهذا لفظه الخَبَرُ ، ولكنَّ معناه : ٱلتزموا هذا ، وٱبنُوا عليه ، واصبروا بحَسَبِهِ ، ثم نسخ ذلك بَعْد ذلك ، فهذه الآية في البقرة أشبهُ شَيْء بها . وقوله تعالى : { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } ، يعني : من العصاةِ ، وتعلَّق قومٌ بهذه الآية ممَّن قال بجوازِ تكْليفِ ما لا يُطَاقُ ، وقالوا : إِن اللَّه قد كلَّفهم أمْرَ الخواطرِ ، وذلك مما لا يِطَاق ، قال : * ع * : وهذا غير بيِّن ، وإِنما كان أمر الخواطر تأويلاً أوَّله أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولم يثبتْ تكليفاً إِلا على الوَجْه الذي ذكَرْناه من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم ، إِنَّهُ علَىٰ ذلك ، قال الشيخ الوليُّ العارفُ باللَّه ٱبْنُ أبي جَمْرَةَ : والخواطرُ عندهم ستَّةٌ يعني عند العلماءِ العارفينَ باللَّه : أولُها الهَمَّة ، ثم اللَّمَّة ، ثم الخَطْرة ؛ وهذه الثلاثُ عندهم غَيرْ مُؤاخذٍ بها ، ثم نِيَّة ، ثمَّ إرادَةٌ ، ثم عَزِيمَةٌ ، وهذه الثلاثُ مؤَاخذ بها . اهـ . وقوله تعالى : { آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ … } الآية : سببُ هذه الآية أنَّه لما نزلَتْ : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } ، وأشفق منها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، ثم تقرَّر الأمر على أنْ قالوا : « سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا » ، ورجعوا إِلى التضرُّع والاِستكانةِ ، مدَحَهم اللَّه تعالَىٰ ، وأثنَىٰ عليهم في هذه الآيةِ ، وقدَّم ذلك بين يدَيْ رِفْقِهِ بهم ، فجمع لهم تعالَى التشْريفِ بالمَدْحِ ، والثناءِ ، ورفع المشقَّة في أمر الخواطرِ ، وهذه ثمرة الطَّاعَة والانقطاعِ إِلى اللَّه تعالَىٰ ، لا كما قالتْ بنو إِسرائيل : { سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } [ البقرة : 93 ] ؛ فأعقبهم ضدَّ ذلك ، وهذه ثمرة العصيان ، أعاذنا اللَّه من نِقَمِهِ . و { آمَنَ } معناه : صدَّق ، والرسولُ : محمَّد صلى الله عليه وسلم ، و { مَآ أُنزِلَ إِلَيْهِ } : القُرآن ، وسائرُ ما أوحى اللَّه إِلَيْه من جملة ذلك ، وكُلُّ لفظة تصلح للإِحاطة ، وهي كذلك هُنَا ، والإِيمانُ باللَّه : هو التصديقُ به ، أي : بوجودِهِ وصفاتِهِ ، ورفْضُ كلِّ معبود سواه ، والإِيمان بملائكته : هو اعتقادُهم أنهم عبادُ لِلَّهِ مكْرَمُون ، لا يعصُون اللَّه ما أمرهم ، ويَفْعَلُون ما يُؤْمَرون ، والإِيمان بكتبه : هو التصديقُ بكلِّ ما أَنْزَلَ سبحانه علَىٰ أنبيائه . وقرأ الجمهور : { لاَ نُفَرِّقُ } ؛ بالنون . والمعنَىٰ : يقولون : لا نفرِّق . ومعنَىٰ هذه الآية : أن المؤمنين ليسوا كاليَهُودِ والنصارَىٰ ؛ في أنَّهم يؤمنون ببَعْضٍ ، ويكفرون ببعض . وقوله تعالى : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } : مدح يقتضي الحضَّ على هذه المقالة ، وأنْ يكون المؤمنُ يمتثلُها غَابِرَ الدَّهْر ، والطاعةُ : قبولُ الأوامرِ ، و { غُفْرَانَكَ } : مصدرٌ ، والعاملُ فيه فَعْلٌ ، تقديره : نَطْلُبُ أوْ نَسْأَلُ غُفْرَانَكَ . * ت * : وزاد أبو حَيَّان ، قال : وجوَّز بعضُهم الرفْعَ فيه ، علَىٰ أنْ يكون مبتدأً ، أيْ : غفرانُكَ بُغْيَتُنَا . اهـــ . { وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } : إِقرار بالبعثِ ، والوقوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ سبحانه ، وروي أنَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، لما أنزلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ ، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَجَّلَ الثَّنَاءَ عَلَيْكَ ، وَعَلَىٰ أُمَّتِكَ ، فَسَلْ تُعْطَهْ ، فَسَأَلَ إِلَىٰ آخِرِ السُّورَةِ .