Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 286-286)
Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله تعالَىٰ : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا … } الآية : خبرُ جزمٍ نصَّ علَىٰ أنَّه لا يكلِّف اللَّه العبادَ مِنْ وقْتِ نزولِ الآيةِ عبادةً مِنْ أَعمالِ القَلْب والجوارحِ إِلاَّ وهِيَ في وُسْعِ المكلَّف ، وفي مقتضى إِدراكه وبنيته ، وبهذا ٱنكشفَتِ الكُرْبَةُ عن المسلِمِينَ في تأوُّلهم أمْر الخواطِرِ ، وهذا المعنَى الذي ذكَرْناه في هذه الآية يَجْرِي مع معنَىٰ قوله تعالى : { يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [ البقرة : 185 ] وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وقوله : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، قال العراقيُّ : { وُسْعَهَا } ، أي : طاقتها . اهـــ . قال : * ع * : واختلف النَّاسُ في جوازِ تكليفِ ما لا يُطَاقُ في الأحكامِ الَّتي هي في الدُّنْيا بعد ٱتفاقِهِمْ علَىٰ أنَّه ليس واقعًا الآنَ في الشَّرْعِ ، وأنَّ هذه الآية آذَنَتْ بعدمه ، وٱختلف القائلُونَ بجوازِهِ ، هل وَقَعَ في رسالةِ سَيِّدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم أمْ لاَ ؟ فقالَتْ فرقة : وقَعَ في نازلةِ أبِي لَهَبٍ ؛ لأنه حَكَم علَيْه بتَبِّ اليدَيْنِ ، وصَلْيِ النَّارِ ؛ وذلك مُؤْذِنٌ أنه لا يؤْمِنُ ، وتكليفُ الشرْعِ له الإِيمان راتب ، فكأنه كُلِّف أنْ يؤمِنَ ، وأنْ يكون في إيمانه أنَّه لا يؤمن ؛ لأنه إِذا آمَن ، فلا محالة أنْ يُدَيَّنَ بسورة : { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } . وقالتْ فرقةٌ : لم يقَعْ قطُّ ، وقوله تعالَىٰ : { سَيَصْلَىٰ نَاراً } [ المسد : 3 ] إِنما معناه : إِن وافَىٰ على كفره . * ع * : وما لا يطاقُ علَىٰ أقسامٍ : منه المُحَالُ عقْلاً ؛ كالجمْعِ بين الضِّدَّيْن ، ومنْه المُحَالُ عادَةً ؛ كرفع إِنسانٍ جبلاً ، ومنْه ما لا يطاقُ مِنْ حيث هو مُهْلِكٌ ؛ كالاِحتراقِ بالنارِ ، ونحوه ، ومنه ما لا يطاقُ لِلاِشتغالِ بغَيْره ، وهذا إِنما يقال فيه مَا لاَ يطاقُ عَلَىٰ تجوُّزٍ كثيرٍ . وقوله تعالى : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } ، يريدُ : من الحسناتِ ، { وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } ، يريد : من السِّيِّئاتِ ؛ قاله جماعة المفسِّرين ؛ لا خلاف في ذلك ، والخواطُر ونحوها ليس من كَسْب الإنسان ، وجاءت العَبَارةُ في الحَسَنَاتِ بـــ « لَهَا » ؛ من حيثُ هي مما يفرح الإِنسان بكسبه ، ويسر المرء بها ، فتضاف إِلى ملكه ، وجاءَتْ في السيئة بـــ « عَلَيْهَا » ؛ من حيث هي أوزارٌ ، وأثقال ، ومتحَملاَتٌ صعْبَةٌ ؛ وهذا كما تقول : لي مالٌ ، وعليَّ دَيْنٌ ، وكرَّر فعْلَ الكَسْب ، فخالف بين التصريفَيْن حسنًا لنمط الكلامِ ؛ كما قال : { فَمَهِّلِ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] هذا وجه . * ع * : والذي يظهر لِي في هذا أنَّ الحسناتِ ممَّا يكسب دُونَ تكلُّف ؛ إِذ كاسبُها علَىٰ جادَّة أمر اللَّه ، ورسْمِ شرعه ، والسيِّئَاتُ تُكْتَسَبُ ؛ ببناءِ المبالغة ؛ إِذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خَرْقَ حجابِ نَهْيِ اللَّه تعالَىٰ ، ويتخطَّاه إِلَيْها ، فيحسن في الآية مجيءُ التصريفَيْن لهذا المعنى . وقال المهدويُّ وغيره : معنى الآيةِ : لاَ يُؤَاخَذُ أحدٌ بذَنْبِ أحدٍ ؛ قال : * ع * : وهذا صحيحٌ في نفسه ، لكن من غير هذه الآية . وقوله تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا } : معناه : قُولُوا ، واختلف الناسُ في معنى قوله سبحانه : { إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } ، فذهب كثير من العلماء إلَىٰ أَنَّ هذا الدعاءَ في النسيانِ الغالبِ ، والخَطَإ غَيْر المقصودِ ، وهو الصحيحُ عندي ، قال قتادةُ في تفسير الآيةِ : بلغَنِي أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " إنَّ اللَّهِ تَعَالَىٰ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي عَنْ نِسْيَانِهَا وَخَطَئِهَا " ، وقال السُّدِّيُّ : لما نزلَتْ هذه الآية ، فقالوها ، قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم : « قَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ ، يَا مُحَمَّدُ » ، قال : * ع * : فظاهر قولَيْهما ما صحَّحته ؛ وذلك أن المؤمنين ، لما كُشِفَ عنهم ما خافوه في قوله تعالى : { يُحَاسِبْكُم بِهِ ٱللَّهُ } [ البقرة : 284 ] ، أمروا بالدعاء في ذلك النوْعِ الذي لَيْسَ من طاقة الإِنسان دفْعُهُ ، وذلك في النسيانِ ، والخطأ ، والإِصر الثقيلِ ، وما لا يطاقُ علَىٰ أتمِّ أنواعه ، وهذه الآية علَىٰ هذا القولِ تقضِي بجوازِ تكليفِ ما لا يطاقُ ؛ ولذلك أمر المؤمنون بالدعاءِ في ألاَّ يقع هذا الجائزُ الصَّعْبُ . ومذهب أبي الحَسَنِ الأشعريِّ وجماعةٍ من المتكلِّمين ؛ أنَّ تكليف ما لا يطاق جائزٌ عقلاً ، ولا يخرم ذلك شيئاً من عقائِد الشَّرْع . وذهب الطبريُّ وغيره إِلى أنَّ تكليفَ ما لا يطاقُ غيْر جائزٍ ، وأنَّ النسيان في الآية بمعنى التَّرْك أيْ : إِن تركنا شيئاً من طاعتك ، والخَطَأ هو المقصودُ من العَصْيَان ، والإِصْر هي العباداتُ الثقيلةُ ؛ كتكاليف بني إِسرائيل ، وما لا طاقة للمرءِ به هو عندهم علَىٰ تجوُّز ؛ كما تقولُ : لا طاقة لي علَىٰ خصومة فُلاَنٍ ، أو : لا طاقَةَ لَنَا به ؛ من حيث هو مهلكٌ ؛ كعذاب جهنَّم وغيره ، ثُمَّ قال تعالَىٰ فيما أمر المؤمنين بقوله : { وَٱعْفُ عَنَّا } ، أي : فيما واقعناه ، { وَٱغْفِرْ لَنَا } ، أيْ : ٱستُرْ علينا ما عَلِمْتَ منا { وَٱرْحَمْنَا } ، أيْ : تَفضَّلْ مبتدئاً برَحْمَةٍ منك لَنَا ، فهذه مناحٍ من الدعاء متباينةٌ ، و { أَنتَ مَوْلَـٰنَا } : مدحٌ في ضمنه تقرُّب إِلَيْه ، وشُكْر على نعمه ، ومَوْلَىٰ : هو من وَلِيَ ، وفي الحديث : أنَّ جبريلَ - عليه السلام - قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم : « قُلْ : رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا » فقالَهَا ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : قَدْ فَعَلَ ، قَالَ : قُلْ كَذَا وَكَذَا ، فَيَقُولُهَا فَيَقُولُ جِبْرِيلُ : قَدْ فَعَلَ إِلَىٰ آخِرِ السُّورةِ » . وتظاهرتْ بهذا المعنَىٰ أحاديثُ ، ورَوَىٰ أبو مسعودٍ عُقْبَةُ بن عمرٍو عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنَّهُ قَالَ : " مَنْ قَرَأَ الآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ ، كَفَتَاهُ " يَعْنِي مِنْ قِيَامِ الليلِ ، قال صاحب « سلاح المؤمن » : هذا الحديثُ رواه الجماعةُ ، يعني : الستةَ ، ومعنى : « كَفَتَاهُ » أجزتَاهُ عنْ قيامِ الليل ، وقيل : كَفَتَاهُ مِنْ كلِّ شيطانٍ ، فلا يقربه ليلَتَهُ ، وقيل : كفتاه ما يكُونُ مِنَ الآفاتِ تلك الليلةَ ، وقيل : معناه حَسْبُهُ بهما فضلاً وأجراً ، ويحتمل الجميع ، واللَّه أعلم . اهـ من « سلاح المؤمن » . وقال عليٌّ - رضي اللَّه عنه - : « ما أظنُّ أَحَداً عَقَلَ ، وأدْرَكَ الإِسْلاَمَ يَنَامُ ، حَتَّىٰ يَقْرَأَهُمَا » وفي الحديثِ ؛ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : " أُوتِيتُ هَؤُلاَءِ الآياتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ ، مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ العَرْشِ لَمْ يُؤْتَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي " كمل تفسير سورة البقرة ، والحمد للَّه .