Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 102-104)
Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } ، قال ابن مسعود : « حَقَّ تُقَاتِهِ » : هو أنْ يُطَاع فلا يعصَىٰ ، وأنْ يُذْكَر فلا يُنْسَىٰ ، وأنْ يُشْكَر فلا يُكْفَر ، وكذلك عَبَّر الرَّبِيعُ بْنُ خَيْثَم ، وقتادةُ ، والحَسَنُ ، قالتْ فرقة : نزلَتِ الآيةُ علَىٰ عمومِ لفظها ؛ مِنْ لزومِ غاية التقْوَىٰ ؛ حتَّىٰ لا يقع الإخْلاَلُ في شَيْء من الأشياءِ ، ثم نُسِخَ ذلك ؛ بقوله تعالَىٰ : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] ، وبقوله : { لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] وقالت جماعة : لاَ نَسْخَ هنا ، وإنَّما المعنَىٰ : ٱتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تقاته فِي ما ٱستطعتمْ ، وهذا هو الصحيحُ ، وخرَّج الترمذيُّ ، عن ٱبْنِ عَبَّاس ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ ، وهي : { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } ، قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنَ الزَّقُّومِ قُطِرَتْ فِي الدُّنْيَا ، لأفْسَدَتْ عَلَىٰ أَهْلِ الدُّنْيَا مَعَايِشَهُمْ ، فَكيْفَ بِمَنْ يَكُونُ طَعَامَهُ ؟ " قال أبو عيسَىٰ : هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ ، وخرَّجه ابنُ ماجة أيضاً اهـــ . وقوله تعالى : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } : معناه : دُومُوا على الإسلام ؛ حتَّىٰ يوافيكم المَوْتُ ، وأنتم علَيْه ، والحَبْلُ في هذه الآيةِ مستعارٌ ، قال ابنُ مسعودٍ : حبْلُ اللَّهِ الجماعةُ ، وروى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قَالَ : " إنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ ٱفْتَرَقُوا عَلَىٰ إحْدَىٰ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وإنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى ٱثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، كُلُّهَا فِي النَّارِ إلاَّ وَاحِدَةٌ ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا هَذِهِ الوَاحِدَةُ ؟ قَالَ : فَقَبَضَ يَدَهُ ، وَقَالَ : الجَمَاعَةُ ، وقرأ : { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً } " ، وقال قتادةُ وغيره : حبْلُ اللَّهِ الَّذي أمر بالاعتصام به : هو القُرآن ، ورواه أبو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقال ابنُ زَيْدٍ : هو الإسلام ، وقيل غير هذا ممَّا هو كلُّه قريبٌ بعضُهُ مِنْ بعض . وقوله تعالى : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } : يريد : التفرُّقَ الَّذي لا يتأتَّىٰ معه الائُتلافُ ، كالتفرُّقِ بالفتن ، والافتراقِ في العقائد ، وأما الافتراقُ في مسائل الفروعِ والفِقْه ، فلَيْسَ بداخلٍ في هذه الآيةِ ، بل ذلك هو الذي قَالَ فيه صلى الله عليه وسلم : " خَلاَفُ أُمَّتِي رَحْمَةً " ، وقد اختلفتِ الصَّحابةُ في الفُرُوع أشَدَّ اختلافٍ ، وهم يَدٌ واحدةٌ علَىٰ كُلِّ كافرٍ . وقوله سبحانه : { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ … } الآية : هذه الآيةُ تدُلُّ علَىٰ أنَّ الخطاب إنما هو للأوس والخَزْرَج ؛ كما تقدَّم ، وكانَتِ العداوةُ قد دامَتْ بين الحَيَّيْنِ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً ؛ حتى رفَعَها اللَّه بالإسلام ، فجاء النَّفَر الستَّةُ من الأنْصَارِ إلى مكَّة حُجَّاجاً ، فعرض النبيُّ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ علَيْهم ، وتَلاَ عَلَيْهِمْ شَيْئاً مِنَ القُرآنِ ؛ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ مَعَ قَبَائِلِ العَرَبِ ، فَآمَنُوا بِهِ ، وَأَرَادَ الخُرُوجَ مَعَهُمْ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إنْ قَدِمْتَ بَلَدَنَا عَلَىٰ مَا بَيْنَنَا مِنَ العَدَاوَةِ وَالحَرْبِ ، خِفْنَا أَلاَّ يَتِمَّ مَا نُرِيدُهُ بِكَ ، وَلَكِنْ نَمْضِي نَحُنُ ، وَنُشِيعُ أَمْرَكَ ، وَنُدَاخِلُ النَّاسَ ، وَمَوْعِدُنَا وَإيَّاكَ العَامُ القَابِلُ ، فَمَضَوْا ، وَفَعَلُوا ، وَجَاءَتِ الأَنْصَارُ فِي العَامِ القَابِلِ ، فَكَانَتِ العَقَبَةُ الثَّانِيَةُ ، وَكَانُوا ٱثْنَيْ عَشَرَ رَجُلاً فِيهِمْ خَمْسَةٌ مِنَ السِّتَّةِ الأَوَّلِينَ ، ثُمَّ جَاءُوا مِنَ العَامِ الثَّالِثِ ، فَكَانَتْ بَيْعَةُ العَقَبة الكُبْرَىٰ ، حَضَرَهَا سَبْعُونَ ، وَفِيهِمُ ٱثْنَا عَشَرَ نَقِيباً . ووصْفُ القصَّة مستوعبٌ في السِّيرِ ، ويسَّر اللَّه تعالَىٰ الأنصار للإسلام بوجْهَيْن : أحدهما : أنَّ بني إسرائيل كانُوا مجاوِرِينَ لهم ، وكانوا يقولُونَ لِمَنْ يتوعَّدونه من العَرَبِ : يُبْعَثُ لَنَا الآنَ نَبِيٌّ نَقْتُلُكُمْ معه قَتْلَ عَادٍ وإرَمَ ، فلمَّا رأَى النَّفَر من الأنْصَارِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال بعضُهم لبعضٍ : هذا ، واللَّهِ ، النَّبيُّ الَّذِي تَذْكُرُه بَنُو إسرائيل ، فلا تُسْبَقَنَّ إلَيْهِ . والوجْهُ الآخرُ : الحَرْبُ الَّتي كَانَتْ ضرَّسَتْهم ، وأفْنَتْ سراتهم ، فَرَجوْا أنْ يجمع اللَّه به كلمتهم ، فكان الأمر كما رَجَوْا ، فعدَّد اللَّه سبحانَهُ علَيْهم نعمَتَهُ في تأليفهم بعد العَدَاوة ، وذَكَّرهم بها قال الفَخْر : كانَتِ الأنصارُ قَبْلَ الإسلام أعداءً ، فلما أكرمهم اللَّه [ سبحانه ] بالإسلام ، صاروا إخواناً في اللَّه متراحِمِينَ . وٱعْلَمْ أنَّ كلَّ مَنْ كان وجهه إلى الدنيا ، كان معادياً لأكثر الخَلْق ، ومَنْ كان وجهه إلى خدمة المَوْلَىٰ سبحانه ، لَمْ يكُنْ معادِياً لأحدٍ ؛ لأنه يَرَى الكُلَّ أسيراً في قبضة القَضَاء والقَدَر ، ولهذا قيل : إن العارف ، إذا أَمَرَ ، أَمَرَ برفْقٍ ، ونَصَحَ لاَ بِعُنْفٍ وعُسْر ، وكيف ، وهو مُسْتَبْصِرٌ باللَّه في القَدَر . اهـــ . وقوله تعالى : { فَأَصْبَحْتُم } عبارةٌ عن الاستمرار . قال * ص * : « أصْبَحَ » : يستعملُ لاتصافِ الموصوفِ بصفَتِهِ وقْتَ الصَّباحِ ، وبمعنى « صَارَ » ، فلا يلحظ فيها وقْت الصباح ، بل مطْلَق الانتقال والصيرورةِ مِنْ حالٍ إلى حالٍ ، وأَصْبَحَ : هنا بمعنَىٰ صَارَ ، وما ذكره ابنُ عطية مِنْ أنَّ « أَصْبَحَ » لِلاستمرارِ ، لم يذهَبْ إليه أحَدٌ من النَّحْوِيِّين . اهـــ . قلْتُ : وفيما ادَّعاه نَظَرٌ ، وهي شهادةٌ علَىٰ نَفْيٍ وكلامٍ . * ع * : واضحٍ من جهة المعنَىٰ ، والشَّفَا : حَرْفُ كلِّ جِرْمٍ له مَهْوَىٰ ؛ كالحفرة ، والبِئْر ، والجُرُفِ ، والسَّقْفِ ، والجِدَار ، ونحوه ، ويضافُ في الاستعمالِ إلى الأعلَىٰ ؛ كقوله : { شَفَا جُرُفٍ } [ التوبة : 109 ] ، وإلى الأسفلِ ؛ كقوله : { شَفَا حُفْرَةٍ } فشبَّه اللَّه كفرهم الذي كانوا عليه بالشَّفَا ، لأنهم كانوا يَسْقُطُون في جهنَّم دَأَباً ، فأنقدهم اللَّه منها بالإسلام . وقوله تعالى : { فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا } ، أي : مِنَ النَّار ، ويحتمل من الحُفْرة ، والأول أحسنُ ، قال العِرَاقِيُّ : أَنْقَذَكُمْ ، أي : خلَّصكم . اهـــ . وقوله تعالَىٰ : { وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ } : أَمْرَ اللَّه سبحانه الأمَّةَ ؛ بأنْ يكونَ منْها علماءُ يَفْعَلُونَ هذه الأفعالَ علَىٰ وجوهها ، ويحْفَظُونَ قوانينَها ، ويكون سائِرُ الأمَّة مُتَّبِعِينَ لأولئك ، إذ هذه الأفعالُ لا تكُونُ إلاَّ بعلْمٍ واسعٍ ، وقد عَلِمَ اللَّه سبحانه ؛ أنَّ الكُلَّ لا يكُونونَ علماء ، فـــ « مِنْ » هنا : للتبعيضِ ، وهو تأويلُ الطبريِّ وغيره . وذهب الزَّجَّاج وغيرُ واحدٍ ؛ إلى أنَّ المعنَىٰ : ولتكونوا كلُّكم أمةً يدْعُونَ ، و « مِنْ » : لبيانِ الجنْس ، ومعنى الآية علَىٰ هذا : أمر الأمة بأنْ يَدْعُوا جميعَ العَالَمِ إلى الخَيْر ، فيَدْعُون الكُفَّار إلى الإسلامِ ، والعُصَاةَ إلى الطاعةِ ، ويكونُ كلُّ واحدٍ في هذه الأمور علَىٰ منزلته من العلْمِ والقدرةِ ، وروى الليثُ بْنُ سَعْدٍ ، قال : حدَّثني محمَّدُ بْنُ عَجْلاَن ، أنَّ وَافِداً النَّضْرِيَّ أَخْبَرَهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؛ أنَّهُ قَالَ : " لَيُؤْتَيَنَّ بِرِجَالٍ يَوْمَ القِيَامَةِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ ، وَلاَ شُهَدَاءَ ، يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ ؛ لِمَنَازِلِهِمْ مِنَ اللَّهِ ؛ يَكُونُونَ عَلَىٰ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ ، قَالُوا : وَمَنْ هُمْ ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : هُمُ الَّذِينَ يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إلَى النَّاسِ ، وَيُحَبِّبُونَ النَّاسَ إلَى اللَّهِ ، وَيَمْشُونَ فِي الأَرْضِ نُصْحاً ، قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا يُحَبِّبُونَ اللَّهَ إلَى النَّاسِ ، فَكَيْفَ يُحَبِّبُونَ النَّاسَ إلَى اللَّهِ ؟ ! قَالَ : يَأْمُرُونَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنِ المُنْكَرِ ، فَإذَا أَطَاعُوهُمْ ، أَحَبَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَىٰ " اهـــ من « التذكرة » للقرطبيِّ . قال * ع * : قال أهْلُ العلْمِ : وفَرَضَ اللَّه سبحانه بهذه الآية الأَمْرَ بالمَعْرُوفِ ، والنَّهْيَ عن المُنْكَر ، وهو مِنْ فروضِ الكفاية ، إذا قام به قائمٌ ، سقَطَ عن الغَيْر ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ رَأَىٰ مِنْكُمْ مُنْكَراً ، فَلْيُغَيِّرهُ بِيَدِهِ ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ ، فَإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ، فَبِقَلْبِهِ ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَان " والناسُ في الأمر بالمعروفِ وتغْييرِ المُنْكَرِ علَىٰ مراتِبَ ، فَفَرْضُ العلماءِ فيه تنبيهُ الولاةِ ، وحَمْلُهُمْ على جَادَّة العلْمِ ، وفرضُ الولاةِ تَغْييره بقوَّتهم وسلطانِهِمْ ، ولهم هي اليَدُ ، وفَرْضُ سائر الناسِ رَفْعُهُ إلى الولاةِ والحُكَّام بعد النَّهْيِ عنه قولاً ، وهذا في المُنْكَرِ الذي له دَوَامٌ ، وأما إنْ رَأَىٰ أحَدٌ نازلةٌ بديهيَّةً مِنَ المُنْكَرِ كالسَّلْبِ والزِّنَا ونحوه ، فيغيِّرها بنَفْسِهِ ، بحَسَب الحالِ والقدرةِ ، ويَحْسُنُ لكلِّ مؤمن أنْ يعتمل في تَغْيِيرِ المُنْكَرِ ، وإنْ ناله بَعْضُ الأذَىٰ ؛ ويؤيِّد هذا المَنْزَعَ أنَّ في قراءة عثمانَ وابْنِ مسْعودٍ ، وابنِ الزُّبَيْرِ : « يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ ، وَيَسْتَعِينونَ اللَّهَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ » ، فهذا وإنْ لم يثبتْ في المُصْحَفِ ، ففيه إشارةٌ إلى التعرُّض لما يصيبِ عَقِيبَ الأمْر والنهْيِ ؛ كما هو في قوله : { وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ } [ لقمان : 17 ] .