Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 144-146)
Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ … } الآية : هذا ٱستمرارٌ في عتبهم ، وإقامةُ الحُجَّة علَيْهم : المَعْنَىٰ أنَّ محمدًا ـــ عليه السلام ـــ رسُولٌ كسائرِ الرُّسُلِ قد بَلَّغ كما بلَّغوا ، ولزمكم أيُّها المؤمنُونَ العَمَلُ بمُضَمَّن الرسالة ، وليسَتْ حياته وبَقَاؤه بَيْنَ أظهركم شَرْطاً في ذلك ؛ لأنه يَمُوتُ ؛ كما مَاتَتِ الرُّسُل قبله ، ثم توعَّد سبحانه المُنْقَلِبَ علَىٰ عَقِبَيْهِ بقوله : { فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً } ؛ لأن المعنَىٰ : فإنما يضرُّ نفسه ، وإياها يوبق ، ثم وعد الشاكِرِينَ ، وهم الذين صدَقُوا ، وصَبَرُوا ، ومَضَوْا في دينهم ، ووَفَّوْا للَّه بعَهْدهم ؛ كسعدِ بْنِ الرَّبيع ، ووصيته يومئذٍ للأنصار ، وأَنَسِ بْنِ النَّضرِ ، وغيرهما ، ثم يَدْخُلُ في الآية الشاكرون إلى يوم القيامةِ ، وقال عليٌّ ( رضي اللَّه عنه ) في تفسير هذه الآية : الشاكِرُونَ الثَّابِتُونَ على دِينِهِمْ ؛ أبو بَكْر ، وأصحابه ، وكان يقولُ : أبُو بَكْرٍ أَمِيرُ الشَّاكِرِينَ ؛ إشارة منه إلى صَدْعِ أبي بَكْر بهذه الآيةِ يوم مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وثبوتِهِ في ذلك المَوْطِن ، وثبوتِهِ في أمْرِ الرِّدَّة ، وسائرِ المواطنِ التي ظَهَرَ فيها شُكْرُهُ ، وشُكْرُ الناس بسببه ، ثم أخبر عزَّ وجلَّ عن النفوسِ ؛ أنها إنما تَمُوتُ بَأجَلٍ مَكْتُوبٍ محتومٍ عند اللَّه تعالَىٰ ، أي : فالجُبْنُ والخَوَرُ لا يزيدُ في الأجَلِ ، والشَّجَاعَةُ والإقدامُ لا ينقصُ منه ، وفي هذه الآية تقويةٌ للنفوس في الجهادِ ، وفيها ردٌّ على المعتزلة في قَوْلِهِمْ بِالأَجَلَيْنِ . وقوله سبحانه : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا … } الآية ، أي : نؤت من شئْنا منها ما قُدِّرَ له ؛ يبيِّن ذلك قولُهُ تعالَىٰ : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعَـاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ } [ الإسراء : 18 ] ، وقرينةُ الكلامِ تقتضي أنه لا يؤتَىٰ شيْئاً من الآخرة ؛ لأنَّ مَنْ كانَتْ نيَّته من عمله مقصورةً على طَلَب الدُّنْيا ، فلا نَصِيبَ له في الآخرة ، والأعمال بالنيَّات ، وقرينةُ الكلامِ مِنْ قوله : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ ٱلآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا } لا تمنع أنْ يؤتَىٰ نصيباً من الدنيا ، قال ابنُ فُورَكَ في قوله تعالى : { وَسَنَجْزِي ٱلشَّـٰكِرِينَ } : إشارة إلى أنه ينعِّمهم بِنعَمِ الدُّنْيا ، لا أنهم يقصرون عَلَى الآخرة . ثم ضَرَب سبحانه المثل للمؤمنينَ بمَنْ سَلَف مِنْ صالح الأمم الذين لم يَثْنِهِمْ عن دينهم قَتْلُ الكُفَّار لأنبيائِهِمْ ، فقال : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَٰتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ … } الآية : وفي « كَأَيِّنْ » لغاتٌ ، فهذه اللغة أصلها ؛ لأنها كافُ التشبيه دخلَتْ علَىٰ « أيٍّ » ، و « كَأَيِّنْ » في هذه الآية في موضِعِ رَفْعٍ بالابتداء ، وهي بمنزلة « كَمْ » ، وبمعناها تعطَىٰ في الأغلب التكثيرَ ، وقرأ نافعٌ ، وابنُ كثيرٍ ، وأبو عمرو : « قُتِلَ » مَبْنياً لما لم يسمَّ فاعله ، وقرأ الباقُونَ « قَاتَلَ » ، فقوله : « قُتِلَ » ، قال فيه جماعةٌ من المفسِّرين ، منهم الطَّبريُّ : إنه مستند إلى ضميرِ « نَبِيٍّ » ، والمعنى عندهم أنَّ النبيَّ قُتِلَ ، ونحا إليه ابنُ عَبَّاس ، وإذا كان هذا ، فـ « رِبِّيُّونَ » مرتفعٌ بالظرف بلا خلاف ، وهو متعلِّق بمحذوفٍ ، وليس متعلِّقاً بـ « قُتِلَ » ، وقال الحَسَن بْنُ أبي الحَسَن وجماعة : إنَّ « قُتِلَ » إنما هو مستندٌ إلى قوله : « رِبِّيُّون » ، وهم المقتولُونَ ، قال الحَسَن ، وابنُ جُبَيْر : لم يقتل نبيٌّ في حَرْبٍ قطُّ . قال * ع * : فعلَىٰ هذا القول يتعلَّق قوله : « مَعَهُ » بـ « قُتِلَ » ورجح الطبريُّ القَوْلَ الأوَّل ؛ بدلالة نازِلة النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنَّ المؤمنين إنما تخاذلوا يَوْم أحد ، لما قِيلَ : قُتِلَ مُحَمَّد ، فضرب المَثَل بنَبِيٍّ قُتِلَ ، وترجيحُ الطبريِّ حسن ؛ ويؤيِّد ذلك ما تقدَّم من قوله : { أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ } [ آل عمران : 144 ] وحجة من قَرَأَ « قَاتَلَ » : أنها أعمُّ في المدح ؛ لأنه يدخل فيها مَنْ قُتِلَ ، ومن بقي . قال * ع * : ويحسُنُ عندي علَىٰ هذه القراءةِ ٱستنادُ الفعْلِ إلى الربِّيِّين ، وقوله : { رِبِّيُّونَ } ، قال ابن عباس وغيره : معناه : جموعٌ كثيرةٌ ، وهو من الرِّبَّة ( بكسر الراء ) ، وهي الجماعة الكثيرة ، وروي عنِ ٱبْنِ عَبَّاس والحسنِ بْنِ أبي الحَسَن وغيرهما : أنهم قالوا : ربِّيونَ : معناه : علماء ؛ ويقوِّي هذا القولَ قراءةُ مَنْ قرأَ : رَبِّيُّونَ ( بفتح الراء ) ، منسوبون إلى الرَّبِّ ؛ إما لأنهم مطيعُونَ له ، أوْ مِنْ حيث إنهم علماء بما شَرَع . وقوله سبحانه : { وَمَا ٱسْتَكَانُواْ } ، ذهبتْ طائفةٌ من النحاة إلى أنَّه من السُّكُون ، وذهَبَتْ طائفة إلى أنه مأخوذٌ مِنْ : « كَانَ ، يَكُونُ » ، وأصلُهُ : ٱسْتَكْوَنُوا ، والمعنَىٰ : أنهم لم يَضْعُفوا ، ولا كانوا قريباً من ذلكَ ، قلْتُ : وٱعلم ( رحمك اللَّه ) أنَّ أصْلَ الوَهَنِ والضَّعْفِ عن الجِهَادِ ، ومكافحةِ العَدُوِّ هو حُبُّ الدنيا ، وكراهيةُ بَذْلِ النفُوسِ للَّه ، وبَذْلِ مُهَجِهَا لِلقَتْلِ في سَبيلِ اللَّهِ ؛ ألا تَرَىٰ إلَىٰ حال الصَّحابة ( رضي اللَّه عنهم ) ، وقلَّتِهِمْ في صَدْرِ الإسلامِ ، وكيف فتح اللَّه بهم البلاد ، ودان لدِينِهِمُ العباد ، لما بَذَلُوا للَّه أنفسَهُمْ في الجهاد ، وحالِنا اليَوْمَ ، كما تَرَىٰ ؛ عددُ أهْل الإسلام كثيرٌ ، ونكايتهم في الكُفَّار نَزْرٌ يسيرٌ ، وقد رَوَىٰ أبو داود في « سننه » عن ثَوْبَانَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَتَدَاعَىٰ عَلَيْكُمْ ؛ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إلَىٰ قَصْعَتِهَا ، فَقَالَ قَائِلٌ : ومِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ ، ولَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ المَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهَنَ ، فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الوَهَنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا ، وَكَرَاهِيَةُ المَوْتِ " اهـــ ، فانظر ( رحمك اللَّه ) ، فهل هذا الزمانُ إلا زماننا بعَيْنه ، وتأمَّل حال ملوكنا ، إنما هِمَّتهم جمْعُ المالِ مِنْ حرامٍ وحلالٍ ، وإعراضُهم عَنْ أمْر الجهاد ، فإنا للَّه وإنا إليه راجعُونَ علَىٰ مُصَاب الإسلام .