Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 191-192)
Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله سبحانه : { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ قِيَـٰماً وَقُعُوداً } : الَّذِينَ : في موضع خفضٍ صفَة لـ { أُوْلِي ٱلألْبَـٰبِ } ، وهذا وصف ظاهره استعمالُ التحميدِ والتَّهْليلِ والتَّكْبير ونَحْوه مِنْ ذكر اللَّه ، وأنْ يحضر القلب اللسان ؛ وذلك من أعْظَمِ وجوه العبادَاتِ ، والأحاديثُ الصحيحةُ في ذلك كثيرةٌ ، وابنُ آدم متنقِّلٌ في هذه الثلاثِ الهيئاتِ ، لا يَخْلُو في غالب أمْرِه مِنْها فكأنها تحصرُ زمنه ، وكذلك جَرَّتْ عائشةُ ( رضي اللَّه عنها ) إلى حصر الزَّمَن في قَوْلها : « كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ أَحْيَانِهِ » . قلت : خرَّجه أبو داود ، فدخَلَ في ذلك كونه على الخَلاَءِ وغيره . وذهَبَ جماعةٌ إلى أنَّ قوله تعالى : { ٱلَّذِينَ يَذْكُرُونَ ٱللَّهَ } إنما هو عبارةٌ عن الصَّلاة ، أي : لا يضيِّعونها ، ففي حال العُذْر يصلُّونها قعوداً ، وعلى جُنُوبهم ، ثم عَطَف علَىٰ هذه العبادةِ التي هِيَ ذكُرْ اللَّه باللسان ، أو الصَّلاة فرضها وندبها بعبادة أخرَىٰ عظيمةٍ ، وهي الفِكْرَةُ في قُدْرة اللَّه تعالَىٰ ومخلوقاتِهِ ، والعِبَرُ التي بَثَّ . [ المتقارب ] @ وَفِــي كُــلِّ شَــيْءٍ لَــهُ آيَــةٌ تَــدُلُّ عَــلَــىٰ أَنَّــهُ وَاحِــدُ @@ قال الغَزَّالِيُّ : ونهايةُ ثمرة الدِّين في الدُّنيا تَحْصيلُ معرفة اللَّه ، وتحصيلُ الأُنُس بذكْرِ اللَّهِ تعالَىٰ ، والأنسُ يَحْصُلُ بدوامِ الذِّكْر ، والمعرفَةُ تحصُلُ بدوامِ الفِكْرِ . انتهى من « الإحياء » . ومَرَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم علَىٰ قومٍ يتفكَّرون في اللَّه ، فَقَالَ : " تَفَكَّرُوا فِي الخَلْقِ ، وَلاَ تَتَفَكَّرُوا فِي الخَالِقِ ؛ فَإنَّكُمْ لاَ تَقْدُرُونَ قَدْرَهُ " . قال * ع * : وهذا هو قَصْدُ الآية في قوله : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } . وقال بعض العلماء : المتفكِّر في ذاتِ اللَّهِ كَالنَّاظر في عَيْنِ الشمْسِ ؛ لأنه سبحانه لَيْسَ كمثله شيء ، وإنما التفكُّر وٱنبساطُ الذِّهْن في المخلوقاتِ ، وفي أحوالِ الآخِرَةِ ، قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ عِبَادَةَ كَتَفَكُّرٍ " وقال ابن عبَّاس ، وأبو الدَّرْدَاء : فكْرَةُ ساعَةٍ خيُرٌ من قيامِ لَيْلَةٍ ، وقال سَرِيٌّ السَّقطِيُّ : فكرةُ ساعةٍ خَيْرٌ من عبادة سَنَةٍ ، ما هو إلاَّ أنْ تحلَّ أطناب خَيْمَتِكَ ، فَتَجْعَلها في الآخِرَةِ ، وقال الحَسَنُ بْنُ أَبي الحَسَن : الفكْرةُ مِرآةُ المُؤْمنِ ، ينظر فيها إلَىٰ حسنَاتهِ وسيِّئاته ، وأخذ أبو سليمان الدَّارانِيُّ قَدَح الماء ؛ ليتوضَّأ لصلاة الليلِ ، وعنده ضيْفٌ ، فرآه لما أدخَلَ أصبعه في أُذُنِ القَدَح ، أقام كذلك مفكِّراً حتى طلع الفَجْر ، فقال له : ما هذا يَا أبا سليمان ؟ فَقَالَ : إني لما طَرَحْتُ أصبعي في أُذُنِ القَدَحِ ، تذكَّرت قول اللَّه سُبْحَانه : { إِذِ ٱلأَغْلَـٰلُ فِي أَعْنَـٰقِهِمْ وٱلسَّلَـٰسِلُ } [ غافر : 71 ] ، فتفكَّرت في حالِي ، وكيف أتلَقَّى الغُلَّ ، إنْ طُرِحَ في عُنُقِي يوم القيامة ، فما زلْتُ في ذلك حتى أُصْبِحَ . قال * ع * : وهذه نهايةُ الخَوْف ، وخَيْرُ الأمور أوساطها ، وليس علماء الأمَّة الذين هم الحُجَّة علَىٰ هذا المنهاج ، وقراءةُ علْمِ كتابِ اللَّه ومَعَانِي سُنَّة رسُوله لِمَنْ يفهم ويُرْجَىٰ نَفْعُه أفضَلُ من هذا ، لكنْ يَحْسُنُ ألاَّ تخلُوَ البلاد مِنْ مثل هذا . قال * ع * : وحدثني أبي ( رحمه اللَّه ) ، عَنْ بعضِ علماءِ المَشْرق ، قال : كنتُ بائتًا في مسجد الإقدامُ بـــ « مَصْرَ » فصلَّيْتُ العَتَمَةَ ، فرأَيْتُ رجلاً قد ٱضْطَجَعَ في كساءٍ له ، حتى أصبح ، وصلَّينا نَحْنُ تلك اللَّيْلَة ، وسَهِرْنَا ، فلَمَّا أُقِيمَتْ صلاةُ الصُّبْح ، قام ذلك الرجُلُ ، فٱستقْبَلَ القبْلَةَ ، وصلَّىٰ مع النَّاس ، فٱستعظَمْتُ جرأته في الصلاة بغير وضوء ، فلَمَّا فرغَتِ الصلاةُ ، خرَجَ ، فتبعْتُهُ لأعظَهُ ، فلَمَّا دنوْتُ منه ، سَمِعْتُهُ ، وهو يُنْشِدُ : [ المنسرح ] @ مُنْسَجِنُ الْجِسْمِ غَائِبٌ حَاضِر مُنْتَبِهُ القَلْبِ صَامِتٌ ذَاكِرْ مُنْبَسِطٌ فِي الغُيُوبِ مُنْقَبُض كَذَاكَ مَنْ كَانَ عَارِفاً ناكِرْ يَبِيتُ فِي لَيْلِهِ أَخَا فِكَر فَهْوَ مَدَى اللَّيْلِ نَائِمٌ سَاهِرْ @@ قال : فعلمتُ أنه مِمَّن يعبدُ اللَّهَ بالفِكْرة ، فٱنصرفْتُ عنه . قال الفَخْر : ودلَّتِ الآية علَىٰ أنَّ أعلَىٰ مراتب الصِّدِّيقين التفكُّر . انتهى . وفي « العتبية » : قال مالكٌ : قيلَ لأمِّ الدَّرْداء : ما كان أَكْثَر شأن أبي الدَّرْداء ؟ قَالَتْ : كان أَكْثَرُ شَأْنِهِ التفكُّرَ . قال مالكٌ : وهو مِنَ الأعمال ، وهو اليَقِينُ ؛ قال اللَّه عزَّ وجلَّ : { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ } ، قال ابنُ رُشْدٍ : والتفكُّر مِنَ الأعمال ؛ كما قاله مالك ( رحمه اللَّه ) ، وهو مِنْ أشرف الأعمال ؛ لأنه مِنْ أعمال القُلُوب التي هي أشْرَفُ الجوارحِ ؛ أَلاَ تَرَىٰ أنه لا يُثَابُ أحدٌ علَىٰ عملٍ مِنْ أعمال الجَوَارح مِنْ سائر الطَّاعات ، إلاَّ مع مشارَكَةِ القُلُوبِ لها بإخلاص النِّيَّة للَّه ( عَزَّ وجَلَّ ) في فعلها . انتهى من « الَبَيانِ والتحصيل » . قال ابنُ بَطَّال : إن الإنسان إذا كَمُل إيمانه ، وكَثُر تفكُّره ، كان الغالِبُ علَيْه الإشفاقَ والخَوْف . انتهى . قال ابنُ عطاءِ اللَّهِ : الفِكْرَةُ سَيْر القَلْب في ميادين الاعتبارِ ، والفَكْرَةِ سِرَاجُ القَلْب ، فإذا ذَهَبَتْ ، فلا إضاءة له . قُلْتُ : قال بعض المحقِّقين : وذلك أن الإنسان إذا تفكَّر ، عَلِم ، وإذا عَلِمَ ، عَمِلَ . قال ابنُ عَبَّاد : قال الإمام أبو القاسم القُشَيْريُّ ( رحمه اللَّه ) : التفكُّر نعتُ كلِّ طالب ، وثمرتُهُ الوصولُ بشرط العِلْمِ ، ثم فِكْرُ الزاهدين : في فناءِ الدنيا ، وقلَّةِ وفائها لطلاَّبها ؛ فيزدادُونَ بالفِكْرِ زهْداً ، وفِكْرُ العابدين : في جَميلِ الثوابِ ، فيزدادُونَ نَشَاطاً ورغبةً فيه ، وفِكْرُ العارفين : في الآلاء والنعماء ؛ فيزدادُونَ محبَّةً للحَقِّ سبحانه . انتهى . وقوله تعالى : { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً } ، أي : يقولُونَ : يا ربَّنا ؛ على النداء ، ما خلَقْتَ هذا باطلاً ، يريد : لغير غايةٍ منصوبةٍ ، بل خلقْتَهُ ، وخلَقْتَ البشر ؛ لينظروا فيه ؛ فيوحِّدوك ، ويعبدوك ؛ فَمَنْ فعل ذلك نَعَّمْتَهُ ، ومَنْ ضَلَّ عن ذلك ، عَذَّبته ، وقولهم : { سُبْحَـٰنَكَ } ، أي : تنزيهاً لك عمَّا يقول المُبْطِلُون ، وقولهم : { رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } ، أي : فلا تفعلْ ذلك بِنَا ، والخِزْيُ : الفضيحةُ المُخْجِلَةُ الهادِمَة لقَدْرِ المرء . قال أنَسُ بنُ مالكٍ ، والحَسَنُ بنُ أبي الحَسَن ، وابنُ جُرَيْج ، وغيرهم : هذه إشارة إلَىٰ من يَخْلُدُ في النَّار ، وأمَّا مَنْ يخرج منها بالشفاعةِ والأَمان ، فليس بمُخْزًى ، أي : وما أصابه من عذابِهَا ، إنما هو تمحيصٌ لذنوبه . وقوله سبحانه : { وَمَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } : هو من قول الدَّاعِينَ .