Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 39-41)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله تعالى : { فَنَادَتْهُ } عبارةٌ تستعملُ في التبشيرِ ، وفي ما ينبغي أنْ يسرع به ، ويُنهَىٰ إِلى نفس السامعِ ليسرَّ به ، فلم يكُنْ هذا في الملائكةِ إِخباراً علَىٰ عرف الوحْيِ ، بل نداء كما نادَى الرَّجُلُ الأنصاريُّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ مِنْ أعلى الجَبَلِ . وقوله تعالى : { وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ } ، يعني : بـ « المِحْرَابِ » ؛ في هذا الموضعِ : موقفَ الإِمامِ من المسجدِ ، ويَحْيَـى : ٱسمٌ سمَّاه اللَّه به قَبْلَ أنْ يولَدَ ، و { مُصَدِّقًا } نصْبٌ على الحال ، قال ابنُ عَبَّاس وغيره : الكلمةُ هنا يرادُ بها عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ . قال * ع * : وسَمَّى اللَّه تعالَىٰ عِيسَىٰ كلمةً ، إِذْ صدر عن كَلِمةٍ منه تعالَىٰ ، وهي « كُنْ » ، لا بسبب إِنسان . وقوله تعالى : { وَسَيِّداً } : قال قتادة : أيْ : واللَّهِ سَيِّدٌ في الحِلْمِ والعبادةِ والوَرَعِ . قال * ع * : مَنْ فَسَّر السؤدد بالحِلْمِ ، فقَدْ أحرز أكْثَر معنى السؤددِ ، ومَنْ جَرَّد تفسيره بالعِلْمِ والتقى ونحوه ، فلم يفسِّره بحَسَب كلامِ العربِ ، وقد تحصَّل العلْم ليحيـى عليه السلام بقوله : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ } ، وتحصَّل التقَىٰ بباقِي الآية ، وخصَّه اللَّه بذكْرِ السؤددِ الذي هو الاِعتمالُ في رِضَا النَّاس على أشْرَفِ الوجوهِ ، دون أنْ يوقعِ في باطِل هذا اللفظ يعمُّ السؤددَ ، وتفصيلُهُ أن يقالَ : بذل الندى ، وهذا هو الكَرَمُ ، وكَفُّ الأَذَىٰ ، وهنا هي العفةُ بالفَرْج ، واليَدِ ، وَاللِّسان ، وٱحتمالُ العظائم ، وهنا هو الحِلْمُ وغيرُهُ مِنْ تحمُّلِ الغراماتِ والإِنقاذِ من الهَلَكَاتِ ، وجَبْرِ الكَسِيرِ ، والإفضالِ على المُسْتَرْفد ، وٱنْظُرْ قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ، وَلاَ فَخْرَ " ، وذكر حديثَ الشفاعةِ في إِطلاق الموقِفِ ، وذلك منه ٱعتمالٌ في رِضَا ولد آدم ، ثم : قال * ع * : أما أنه يحسن بالتقيِّ العَالِمِ أنْ يأخُذَ من السؤدد بكلِّ ما لا يخلُّ بعلمه وتقاه ، وهكذا كان يَحْيَـىٰ عليه السلام ـ . وقوله تعالى : { وَحَصُوراً } أصل هذه اللفظة : الحَبْسُ والمَنْعُ ، ومنه : حصر العدو . قال * ع * : وأجمعَ مَنْ يعتدُّ بقوله من المفسِّرين علَىٰ أنَّ هذه الصفة ليَحْيَـىٰ عليه السلام إِنما هي الاِمتناعُ من وطْءِ النِّسَاءِ إِلاَّ ما حكَىٰ مكِّيٌّ من قول من قَالَ : إِنه الحُصُور عن الذنوب ، وذهب بَعْضُ العلماءِ إِلَىٰ أنَّ حَصْرَهُ كان بأنه يُمْسِكُ نفسه ؛ تُقًى وجَلَداً في طاعة اللَّه سبحانه ، وكانتْ به القُدْرة على جِمَاعِ النساءِ ، قالوا : وهذه أمْدَحُ له ، قال الإِمام الفَخْر : وهذا القولُ هو ٱختيارُ المحقِّقين ؛ أنه لا يأتِي النِّساء ، لا للعَجْز ، بل للعِصْمَةِ والزُّهْد . قلْتُ : قال عِيَاضٌ : ٱعْلَمْ أنَّ ثناء اللَّه تعالَىٰ علَىٰ يَحْيَـىٰ عليه السلام ـ ؛ بأنه حَصُورٌ ، ليس كما قال بعضْهم : إِنه كان هَيُوباً أو لا ذَكَرَ لَهُ ، بل قد أنكر هذا حُذَّاق المفسِّرِين ، ونُقَّادُ العلماء ، وقالوا : هذه نقيصةٌ وعَيْب ، ولا تليقُ بالأنبياء عليهم السلام ـ ، وإِنما معناه : معصومٌ من الذُّنُوب ، أي : لا يأتيها ؛ كأنه حُصِرَ عنها ، وقيل : مانعاً نفسه من الشهوات ، وقيل : ليستْ له شهوةٌ في النساءِ ؛ كفَايَةً من اللَّه له ؛ لكونها مَشْغَلَةً في كثير من الأوقات ، حاطَّة إِلى الدنيا ، ثم هي ؛ في حَقِّ مَنْ أُقْدِرَ عَلَيْها ، وقام بالواجب فيها ، ولم تَشْغَلْهُ عن ربِّهِ درجةٌ عُلْيَا ، وهي درجةُ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم ، أيْ : وسائرِ النبيِّين . اهـ من « الشِّفَا » . وباقي الآية بيِّن . ورُوِيَ مِنْ صلاحه - عليه السلام - ؛ أنَّهُ كان يعيشُ من العُشْب ، وأنه كان كثير البُكَاء من خَشْية اللَّه ؛ حتى ٱتخذ الدمْعُ في وَجْهه أخدودًا . * ص * : و { مِّنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ } ، أي : من أصلاب الأنبياء ، أو صالحاً من الصَّالحين ، فيكون صفةً لموصوفٍ محذوفٍ . اهـ . قلت : والثاني أحْسَنُ ، والأولُ تحصيلُ الحاصلِ ، فتأمَّله . وقوله تعالى : { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَٰمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ … } الآية : ذهب الطَّبَرِيُّ وغيره إِلي أنَّ زكريَّا لَمَّا رأَىٰ حال نَفْسه ، وحال امرأته ، وأنها ليستْ بحالِ نسلٍ ، سأل عن الوَجْه الذي به يكونُ الغلامُ ، أتبدلُ المرأةُ خِلْقَتَهَا أمْ كيْفَ يكُون ؟ قال * ع * : وهذا تأويلٌ حسن لائقٌ بزكريَّا عليه السلام ـ . وَ { أَنَّىٰ } : معناها : كَيْفَ ، ومِنْ أَيْنَ ، وحسن في الآية { بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ } ؛ من حيثُ هي عبارةُ وَاهِنٍ منفعلٍ . وقوله : { كَذٰلِكَ } ، أي : كهذه القُدْرةِ المستغْرَبَةِ قُدْرَةُ اللَّهِ ، ويحتمل أن تكون الإِشارة بذلك إِلَىٰ حال زكريَّا ، وحالِ امرأتِهِ ؛ كأنه قال : رَبِّ ، علَىٰ أيِّ وجه يكونُ لنا غلامٌ ، ونحن بحالِ كذا ، فقال له : كما أَنْتُمَا يكونُ لكُمَا الغلامُ ، والكلامُ تامٌّ ؛ علَىٰ هذا التأويل في قوله : { كَذَٰلِكَ } . وقوله : { ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } : جملةٌ مبيّنة مقرِّرة في النفْسِ وقوعَ هذا الأمْر المستغْرَبِ . وقوله : { قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِّي ءَايَةً } ، أي : علامة ، قالَتْ فرقة من المفسِّرين لم يكنْ هذا من زكريَّا علَىٰ جهة الشكِّ ، وإِنما سأل علامةً علَىٰ وَقْت الحَمْلِ . وقوله تعالى : { ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ … } الآية : قال الطبريُّ وغيره : لم يكُنْ منعه الكلامَ لآفة ، ولكنه مُنِعَ محاورةَ النَّاس ، وكان يَقْدِرُ علَىٰ ذكر اللَّه ، ثم ٱستثنى الرَّمْز ، وهو استثناءٌ مُنْقَطِعٌ ، والكلام المرادُ في الآية : إِنما هو النطْقُ باللِّسَان ، لا الإِعلام بما في النَّفْس ، والرَّمْزُ في اللغة : حركةٌ تُعْلِمُ بما في نَفْسِ الرَّامِزِ ؛ كانت الحركةُ من عَيْنٍ ، أو حاجبٍ ، أو شَفَةٍ ، أو يدٍ ، أو عُودٍ ، أو غيرِ ذلك ، وقد قيل للكَلاَمِ المحرَّف عن ظاهره : رُمُوز . وأَمَرَهُ تعالَىٰ بالذِّكْر لربه كثيراً ؛ لأنه لم يَحُلْ بينه وبين ذكْر اللَّه ، وهذا قاضٍ بأنه لم تدركْهُ آفَةٌ ولا علَّة في لسانِهِ ، قال محمَّد بن كَعْبٍ القُرَظِيّ : لو كان اللَّه رخَّصَ لأحدٍ في ترك الذِّكْر ، لرخَّص لزكريَّاء عليه السلام ـ ؛ حيث قال : { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } ، لكنه قال له : { ٱذْكُرْ رَّبَّكَ كَثِيراً } قال الإِمام الفَخْر : وفي الآية تأويلان : أحدهما : أنَّ اللَّه تعالَىٰ حبس لسانه عن أمور الدنيا ، وأقدره علَى الذِّكْر والتَّسْبيحِ والتهليلِ ؛ ليكون في تلك المدَّة مشتغلاً بذكْرِ اللَّه وطاعته ؛ شُكْراً للَّه علَىٰ هذه النِّعْمة ، ثم أعلم أنَّ هذه الواقعة كانَتْ مشتملةً علَى المُعْجِزِ من وجوه : أحدها : أنَّ قدرته على الذكْرِ والتَّسبيحِ ، وعَجْزَه عن التكلُّم بأمور الدنْيَا من المُعْجِزَات . وثانيها : أنَّ حصولَ ذلك العَجْز مع صِحَّة البِيْنَةِ من المعجزاتِ . وثالثها : أن إِخباره بأنه متَىٰ حصلَتْ تلْكَ الحالةُ ، فقَدْ حصل الولد ، ثم إِنَّ الأمر خرج علَىٰ وفَقْ هذا الخبرِ يكون أيضاً من المعجزات . والتأويل الثَّاني : أن المراد منه الذكْر بالقَلْب ؛ وذلك لأن المستغْرِقِينَ في بِحَارِ معرفة اللَّه تعالَىٰ عادتهم في أوَّل الأمر أنْ يواظِبُوا على الذكْرِ اللِّسَانِيِّ مدةً ، فإِذا ٱمتلأ القَلْبُ من نُور ذِكْرِ اللَّه تعالَىٰ ، سكَتُوا باللِّسَان ، وبقي الذِّكْرُ في القَلْب ؛ ولذلك قالوا : « مَنْ عَرَفَ اللَّه ، كَلَّ لِسَانُهُ » ، فكان زكريَّاء عليه السلام أمر بالسُّكُوت باللِّسَان وٱستحضارِ معانِي الذكْرِ والمعرفةِ ، وٱستدامتها بالقَلْب . اهـ . وقوله تعالى : { وَسَبِّحْ } : معناه : قلْ سُبْحَانَ اللَّهِ ، وقال قومٌ : معناه صَلِّ ، والأول أصوبُ ؛ لأنه يناسب الذكْرَ ، ويستغربُ مع ٱمتناعِ الكلام مع النَّاسِ ، والعَشِيُّ ، في اللغة : من زوالِ الشَّمْسِ إِلى مغيبها ، والإِبْكَارُ : مصدرُ أَبْكَرَ الرَّجُلُ ، إِذا بادر أمْرَهُ من لَدُنْ طلوع الفجر إِلى طلوع الشمْسِ ، وتتمادَى البُكْرَة شَيْئاً بعد طلوع الشمس ، يقال : أَبْكَرَ الرجُلُ وَبَكَّرَ .