Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 36-38)
Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وقوله تعالى : { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } : الوضْعُ : الولادةُ ، وقولها : { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ } : لفظ خبر في ضِمْنِهِ التحسُّر والتلهُّف ، وبيَّن اللَّه ذلك بقوله : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } ، وقولها : { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ } ، تريد في ٱمتناعِ نَذْرها ؛ إِذ الأنثَىٰ تحيضُ ولا تصلُحُ لِصُحْبَة الرُّهْبَان ، قاله قتادة وغيره ، وبدأَتْ بذكْرِ الأَهَمِّ في نفْسها ، وإِلاَّ فسياق قصَّتها يقتضي أنْ تقول : وليس الأنثَىٰ كالذَّكَر ، وفي قولها : { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } : سنةُ تسميةِ الأطفالِ قُرْبَ الولادةِ ؛ ونحوُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : " وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ ، فَسَمَّيْتُهُ بِٱسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ " ، وباقي الآيةِ إعاذةٌ ، قال النووي : ورُوِّينَا فِي سُنَن أبِي دَاوُدَ ؛ بإسناد جيِّدٍ ، عن أبي الدرداء ، عن النبِيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنَّهُ قَالَ : " إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ ، فأحْسِنُوا أسْمَاءَكُمْ " وفي صحيح مُسْلِمٍ ، عن ٱبْنِ عُمَرَ ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنَّهُ قَالَ : " إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدُ اللَّهِ ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ " وفي سنن أبِي دَاوُدَ والنَّسَائِيّ ، وغيرِهِمَا ، عن أبِي وَهْب الجُشَمِيِّ ، قال : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَىٰ عبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ ومُرَّة " اهـ . وفي الحديثِ ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، مِنْ روايةِ أبي هُرَيْرة ، قَالَ : " كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ لَهُ طَعْنَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَبِهَا يَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ ٱبْنَةِ عِمْرَانَ ، وٱبْنِهَا ؛ فَإِنَّ أُمَّهَا قَالَتْ حِينَ وَضَعْتَها : { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ } ، فَضُرِبَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ ، فَطَعَنَ الشَّيْطَانُ فِي الحَجابِ " ، وَقَدِ ٱخْتلفت ألفاظُ هذا الحديثِ ، والمعنىٰ واحد ؛ كما ذكرته ، قال النوويُّ : بَاب مَا يُقَالُ عنْد الولادةِ : رُوِّينَا في كتاب ابْنِ السُّنِّيِّ ، عن فاطمة ( رضي اللَّه عنها ) ؛ " أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، لمَّا دَنَا ولاَدَهَا ، أَمَر أُمَّ سَلْمَة ، وَزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ ؛ أنْ تَأْتِيَاهَا ، فَتَقْرَآ عِنْدَهَا آيَةَ الكُرْسيِّ ، و { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ … } إلى آخر الآيَةِ ، وتُعَوِّذَانِهَا بِالمُعَوِّذَتَيْنِ « . انتهى . وقوله تعالى : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ } : إخبار منه سبحانه لمحمَّد صلى الله عليه وسلم ؛ بأنه رَضِيَ مَرْيَمَ لخدمة المَسْجد ؛ كما نذَرَتْ أُمُّهَا وسَنَّىٰ لها الأمَلَ في ذلك . وقوله سبحانه : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } : عبارةٌ عن حُسْن النشأة في خِلْقَةٍ وخُلُقٍ . * ص * : { بِقَبُولٍ } مصدر علَىٰ غير الصَّدْرِ ، والجاري علَىٰ : تَقَبَّلَ تَقَبُّلاً ، وعلى قَبِلَ قَبُولاً ، و { نَبَاتاً } : مصدرٌ منصوبٌ بـــ « أَنْبَتَهَا » ؛ علَىٰ غير الصَّدْر . انتهى . وقوله تعالى : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } معناه : ضمَّها إِلى إِنفاقه وحِضْنِهِ ، والكَافِلُ : هو المربِّي ، قال السُّدِّيُّ وغيره : إِنَّ زكريَّا كان زَوْجَ أختها ؛ وَيَعْضُدُ هذا القوْلَ قولُهُ صلى الله عليه وسلم في يَحْيَـىٰ وعِيسَىٰ : « ٱبْنَا الخَالَةِ » ، والذي عليه النَّاس : أنَّ زكريَّا إنما كفَّلها بالاِستهامِ ؛ لتشاحِّهم حينئذٍ فيمَنْ يكفُلُ المحرَّر . وقوله تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا } : المِحْرَابُ : المَبْنَى الحَسَنُ ، ومِحْرَابُ القَصْر : أشرف ما فيه ؛ ولذلك قيل لأَشْرَفِ مَا في المُصَلَّىٰ ؛ وهو موقِفُ الإِمامِ : مِحْرَاب ، ومعنى { رِزْقاً } ، أيْ : طعاماً يتعذَّى به ، لم يَعْهَدْهُ ، ولا عَرفَ كيف جُلِبَ إليها ، قال مجاهد وغيره : كان يجدُ عندها فاكهةَ الشِّتاءِ في الصَّيْفِ ، وفاكهةَ الصَّيْفِ في الشتاءِ ، ونحوه عن ابن عَبَّاس إِلاَّ أنه قال : ثِمَار الجَنَّة ، وقوله : { أَنَّىٰ } : معناه : كَيْفَ ، ومِنْ أَيْنَ ، وقولها : { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } دليلٌ علَىٰ أنه ليس مِنْ جَلْب بَشَرٍ ، قال الزَّجَّاج . وهذا من الآية الَّتي قال اللَّه تعالَىٰ : { وَجَعَلْنَـٰهَا وَٱبْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَـٰلَمِينَ } [ الأنبياء : 91 ] وقولها : { إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } : تقرير لكون ذلك الرزْقِ من عند اللَّه ، وذهب الطَّبَرِيُّ إِلى أنَّ ذلك ليس من قولِ مرْيَمَ ، وأنَّه خبر من اللَّه تعالَىٰ لمحمَّد صلى الله عليه وسلم ، واللَّه سبحانه لا تنتقصُ خزائنه ، فليس يَحْسُبُ ما خرج منها ، وقد يُعَبَّر بهذه العبارة عن المُكْثِرِينَ مِنَ النَّاسِ ؛ أنهم ينفقون بغَيْرِ حِسَابٍ ، وذلك مجازٌ وتشبيهٌ ، والحقيقةُ هي فيما ينتفقُ من خزائنِ اللَّه سبحانه ، قال الشيخُ ابْنُ أبي جَمْرَةَ ( رضي اللَّه عنه ) ، وقد قال العلماءُ في معنَىٰ قوله عزَّ وجلَّ : { إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } : إِنه الفتوحُ ، إِذا كان علَىٰ وجهه . اهـ ، ذكر هذا عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم : " لَوْ دُعِيْتُ إِلَىٰ ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ ، لأَجَبْتُ " . وقوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } هُنَالِكَ ؛ في كلامِ العربِ : إِشارةٌ إِلى مكانٍ أو زمانٍ فيه بُعْدٌ ، ومعنَىٰ هذه الآية : إِنَّ في الوقْتِ الذي رأَىٰ زكريَّاء رزْقَ اللَّهِ لمَرْيَمَ ومكانَتَها مِنَ اللَّه ، وفَكَّر في أنَّها جاءَتْ أُمَّها بَعْدَ أَنْ أَسَنَّتْ ، وأن اللَّه تعالَىٰ تقَبَّلها ، وجعَلَها من الصالحاتِ ، تحرَّك أملُهُ لطَلَبِ الولدِ ، وقَوِيَ رجاؤه ، وذلك منْه علَىٰ حالِ سِنٍّ وَوَهْنِ عَظْمٍ ، وٱشتعالِ شَيْب ، فدعا ربَّه أنْ يَهَبَ له ذريَّةً طيِّبَةً يرثه ، والذُّرِّيَّةُ : اسم جنسٍ ، يقع علَىٰ واحد فصاعدًا ؛ كما أن الوَلَدَ : اسمُ جنسٍ كذلك ، وطَيِّبة : معناه : سَلِيمَة في الخَلْق والدِّين ، تَقِيَّة ، ثم قال تعالَىٰ : { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } [ آل عمران : 39 ] ، وتُرِكَ محذوفٌ كثيرٌ دَلَّ علَيْه ما ذُكِرَ ، تقديره : فَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَهُ ، وبَعَثَ المَلَكَ ، أو الملائكة ، فنادتْهُ ، وذكر جمهورُ المفسِّرين ؛ أنَّ المنادِي إِنما هو جبريلُ ، وقال قومٌ : بل نادته ملائكةٌ كثيرةٌ ؛ حسْبما تقتضيه ألفاظ الآيةِ ، قلت : وهذا هو الظاهرُ ، ولا يعدل عنه إِلا أن يصحَّ في ذلك حديثٌ عنه صلى الله عليه وسلم ، فيتَّبَع .