Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 94-97)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله سبحانه : { فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ } ، أي : مِنْ بعد ما تبيَّن له الحَقُّ ، وقيامُ الحُجَّة ، فهو الظَّالِمُ . وقوله : { قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ } ، أي : الأمر كما وصَفَ سبحانه ، لا كما تَكْذُبونَ ، فإن كنتم تَعْتزونَ إلى إبراهيم ، فٱتبعوا ملَّته ؛ علَىٰ ما ذكر اللَّه . وقوله سبحانه : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ … } الآية : لا مِرْيَة أنَّ إبراهيم ـــ عليه السلام ـــ وضع بيْتَ مكة ، وإنما الخلافُ ، هَلْ هو وضع بَدْأَةً أوْ وُضِعَ تجديداً ؟ وقال الفَخْر : يحتمل أولاً في الوضْعِ والبناءِ ، ويحتملُ أنْ يريد أولاً في كونه مباركاً ، وهذا تحصيلُ المفسِّرين في الآية . اهـــ . قال ابن العربيِّ في « أحكامِهِ » وكونُ البَيْتِ الحَرَامِ مُبَارَكاً ، قيل : بركَتُهُ ثوابُ الأعمال هناك ، وقيل : ثوابُ قاصِدِيهِ ، وقيل : أمْنُ الوَحْش فيه ، وقيل : عُزُوفُ النفْسِ عن الدنيا عِنْدَ رؤيته ، قال ابنُ العربيِّ : والصحيحُ عِنْدَي أنَّهُ مُبَارَكٌ مِنْ كلِّ وجْهٍ مِنْ وجوه الدنْيَا والآخرة ؛ وذلك بجميعه موجودٌ فيه . اهـــ . قال مالكٌ في سماعِ ٱبْنِ القاسِمِ من « العتبية » : بَكَّة موضعُ البَيْت ، ومَكَّة غيره مِنَ المواضعِ ، قال ابن القاسِمِ : يريد القَرْيَةَ ، قلتُ : قال ابنُ رُشْدٍ في « البيان » : أُرَىٰ مالكاً أخَذَ ذلك مِنْ قول اللَّه عزَّ وَجَلَّ ؛ لأنه قال تعالَىٰ في بَكَّة : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } ، وهو إنما وضع بموضعه الَّذي وُضِعَ فيه لا فيما سواه من القرية ، وقال في « مَكَّة » ؛ { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ } [ الفتح : 24 ] وذلك إنما كان في القرية ، لا في موضع البَيْتَ . اهـــ . وقوله سبحانه : { فِيهِ } ، أي : في البيتِ { ءَايَٰتٌ بَيّنَٰتٍ } ، قال * ع * : والمترجِّح عندي أنَّ المَقَامَ وأَمْنَ الدَّاخِلِ جُعِلاَ مثالاً ممَّا في حَرَمِ اللَّه منَ الآياتِ وخُصَّا بالذكْرِ ؛ لعظمهما ، و { مَّقَامُ إِبْرٰهِيمَ } : هو الحَجَرُ المعروفُ ؛ قاله الجمهور ، وقال قوم : البيتُ كلُّه مقامُ إبراهيم ، وقال قومٌ : الحَرَمُ كلُّه مقامُ إبراهيم ، والضميرُ في قوله : { وَمَن دَخَلَهُ } عائدٌ على البَيْت ؛ في قول الجمهور ، وعائدٌ على الحَرَمِ ؛ في قول مَنْ قَالَ : مقامُ إبراهيم هو الحَرَمُ . وقوله : { كَانَ ءامِناً } قال الحَسَنُ وغيره : هذه وصْفُ حالٍ كانَتْ في الجاهلية ، إذا دخَلَ أحدٌ الحَرَمَ ، أَمِنَ ، فلا يُعْرَضُ له ، فأما في الإسلام ، فإن الحرم لا يَمْنَعُ مِنْ حَدٍّ مِنْ حدودِ اللَّه ، وقال يَحْيَـى بْنُ جَعْدَةَ : معنى الآية : ومَنْ دخل البيتَ ، كان آمناً من النَّار ، وحكى النقَّاش عن بَعْض العُبَّاد ، قال : كُنْتُ أطوفُ حوْلَ الكعبةِ لَيْلاً ، فقلْتُ : يا رَبِّ ، إنَّكَ قُلْتَ : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً } ، فمماذا هو آمنٌ ؟ فسمعتُ مكلِّماً يكلِّمني ، وهو يقولُ : مِنَ النَّارِ ، فنظَرْتُ ، وتأمَّلت ، فما كان في المكان أحد ، قال ابنُ العَرَبِيِّ في « أحكامه » : وقول بعضهم : وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمناً من النار ـــ لا يصحُّ حمله علَىٰ عمومه ، ولكنه ثَبَتَ ؛ أنَّ مَنْ حَجَّ ، فَلَمْ يرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ ، والحَجُّ المَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّة . قال ذلك كلَّه رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اهـــ . وقوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } الآية : هو فرضُ الحجِّ في كتابِ اللَّه ؛ بإجماع ، وقرأ حمزةُ ، والكِسَائيُّ ، وحَفْص عن عاصِمٍ : « حَجُّ الَبْيتِ » ؛ بكَسْر الحاء ، وقرأ الباقُونَ بفتحها ، فَبِكَسْر الحاء : يريدُون عَمَلَ سَنَةٍ واحدةٍ ، وقال الطبريُّ : هما لُغَتَانِ الكَسْر : لُغَةُ نَجْدٍ ، والفتْحُ لغة أهل العَالِيَةِ . وقوله سبحانه : { مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } « مَنْ » : في موضعِ خَفْضٍ بدلٍ من « النَّاس » ، وهو بدلُ البَعْض من الكلِّ ، وقال الكسائيُّ وغيره : هي شَرْطٌ في موضع رفعٍ بالابتداءِ ، والجوابُ محذوفٌ ، تقديره : فَعَلَيْهِ الحِجُّ ؛ ويدلُّ عليه عطْفُ الشرطِ الآخَرِ بعده في قوله : { وَمَنْ كَفَرَ } ، وأسند الطبريُّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال : " مَنْ مَلَكَ زَاداً وَرَاحِلَةً ، فَلَمْ يَحُجَّ ، فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا " ، وذهب جماعةٌ من العلماءِ إلى أنَّ قوله سبحانه : { مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } كلامٌ عامٌّ لا يتفسَّر بزادٍ ولا راحلةٍ ، ولا غَيْرِ ذلك ، بل إذا كان مستطيعاً غَيْرَ شاقٍّ علَىٰ نفسه ، فقد وجَبَ علَيْه الحَجُّ ، وإليه نحا مَالِكٌ في سماع أَشْهَبَ ، وقال : لا صِفَةَ في هذا أبْيَنُ ممَّا قال الله تعالى . هذا أنْبَلُ الأقوال ، وهذه مِنَ الأمور التي يتصرَّف فيها فِقْهُ الحال ، والضميرُ في « إِلَيْهِ » عائدٌ على البيت ، ويحتملُ عَلَى الحِجِّ . وقوله سبحانه : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ، قال ابن عبَّاس وغيره : المعنَىٰ : مَنْ زعم أنَّ الحَجَّ ليس بفَرْضٍ عليه ، ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قرأَ هذه الآيةَ ، فقَالَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَنْ تَرَكَهُ ، كَفَرَ ، فَقَالَ لَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ تَرَكَهُ ، لاَ يَخَافُ عُقُوبَتَهُ ، ومَنْ حَجَّهُ لاَ يَرْجُو ثَوَابَهُ ، فَهُوَ ذَلِكَ " ، وقال بمعنَىٰ هذا الحديثِ ابْنُ عبَّاس وغيره ، وقال السُّدِّيُّ وجماعة مِنْ أهْل العلْم . معْنَى الآيةِ : مَنْ كَفَر بأنْ وَجَد ما يَحُجُّ به ، ثم لَمْ يَحُجَّ ، قال السُّدِّيُّ : مَنْ كان بهذه الحالِ ، فهو كافرٌ ، يعني : كُفْرَ مَعْصية ، ولا شكَّ أنَّ مَنْ أنعم اللَّه علَيْه بمالٍ وصحَّة ، ولم يَحُجَّ ، فقد كَفَر النِّعْمَةَ ، وقال ابنُ عُمَر وجماعةٌ : معنى الآيةِ : ومن كَفَر باللَّه واليومِ الآخِرِ ، قال الفَخْر : والأكثرون هم الذين حَمَلُوا الوعيدَ علَىٰ مَنْ ترك اعتقادَ وُجُوبَ الحجِّ ، وقال الضَّحَّاك : لما نَزلَتْ آية الحَجِّ ، فأعْلَمِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذَلِكَ أَهْلَ المِلَلِ ، وقَالَ : " إنَّ اللَّه تَعالَىٰ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الحَجُّ ، فحُجُّوا " ، فَآمَنَ بِهِ المُسْلِمُونَ وَكَفَرَ غَيْرُهُم فَنَزَلَتِ الآيةُ ، قَالَ الفَخْرُ وهذا هو الأقوَىٰ ، واللَّه أعلم . اهـــ . ومعنى قوله تعالى : { غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } : الوعيدُ لِمَنْ كفر ، والقَصْدُ بالكلامِ : فَإنَّ اللَّه غنيٌّ عنهم ، ولكن عمَّم اللفظ ؛ ليَبْرَعَ المعنَىٰ ، وتنتبه الفِكَرُ لقدرته سبحانه ، وعظيم سلطانه ، واستغنائه عن جميعِ خَلْقِهِ لا ربَّ سواه .