Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 49, Ayat: 11-12)

Tafsir: al-Ǧawāhir al-ḥisān fī tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وقوله سبحانه : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٌ } الآية : هذه الآية والتي بعدها نزلت في خُلُقِ أهل الجاهلية ؛ وذلك أَنَّهم كانوا يجرون مع شهواتِ نفوسهم ، لم يقومهم أمر من اللَّه ولا نهي ، فكان الرجل يسخر ، ويلمز ، وينبز بالألقاب ، ويَظُنُّ الظنونَ ، ويتكلم بها ، ويغتاب ، ويفتخر بنسبه ، إلى غير ذلك من أخلاق النفوس البطَّالة ، فنزلت هذه الآية ؛ تأديباً لهذه الأُمَّةِ ، وروى البخاريُّ ومسلم والترمذيُّ واللفظ له عن أبي هريرة قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ ، لاَ يَخُونُهُ وَلاَ يَكْذِبُهُ ، وَلاَ يَخْذُلُهُ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى المُسْلِمِ حَرَامٌ : عِرْضُهُ ، وَمَالُهُ ، وَدَمُهُ ، التَّقْوَى ههنا ، بِحَسْبِ ٱمْرِىءٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يَحْتَقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ " انتهى ، ويسخر معناه : يستهزىء ، وقد يكون ذلك المُسْتَهْزَأُ به خيراً من الساخر ، والقوم في كلام العرب واقع على الذُّكْرَان ، وهو من أسماء الجَمْع ؛ ومن هذا قول زُهَيْر : [ من الوافر ] @ وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إخَالُ أَدْرِي أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ @@ وهذه الآية أيضاً تقتضي اختصاص القوم بالذكران ، وقد يكون مع الذكران نساء ، فيقال لهم قوم ؛ على تغليب حال الذكر ، و { تَلْمِزُواْ } معناه : يطعن بعضُكم على بعض بذكر النقائص ونحوه ، وقد يكون اللَّمْزُ بالقول وبالإشارة ونحوه مِمَّا يفهمه آخر ، والهَمْزُ لا يكون إلاَّ باللسان ، وحكى الثعلبيُّ أَنَّ اللمز ما كان في المشهد ، والهَمْزَ ما كان في المغيب ، وحكى الزهراويُّ عكس ذلك . وقوله تعالى : { أَنفُسَكُـمْ } معناه : بعضكم بعضاً ؛ كما قال تعالى : { أَنِ ٱقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ } [ النساء : 66 ] كأنَّ المؤمنين كنفس واحدة ، إذ هم إخوة ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : " كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ إذَا اشْتَكَىٰ مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَىٰ سَائِرُهُ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّىٰ " ، وهم كما قال أيضاً : " كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً " ، والتنابز : التَّلَقُّبُ ، والتَّنَبزُ واللقب واحدٌ ، واللقب ـــ يعني المذكور في الآية ـــ هو : ما يُعْرَفُ به الإنسان من الأسماء التي يَكْرَهُ سماعَهَا ، وليس من هذا قول المُحَدِّثِينَ : سليمان الأعمش ، وواصل الأحدب ونحوه مِمَّا تدعو الضرورة إليه ، وليس فيه قصد استخفاف وأذى ، وقال ابن زيد : معنى : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَـٰبِ } أي : لا يَقُلْ أحد لأحد : يا يهوديُّ ، بعد إسلامه ، ولا : يا فاسقُ ، بعد توبته ، ونحو هذا . وقوله سبحانه : { بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإِيمَانِ } يحتمل معنيين : أحدهما : بئس اسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فُسَّاقاً بالمعصية بعد إيمانكم . والثاني : بئس قول الرجل لأخيه : يا فاسق بعد إيمانه ؛ وعن حذيفةَ ـــ رضي اللَّه عنه ـــ قال : " شَكَوْتُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَرَبَ لِسَانِي ، فَقَالَ : « أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الاِسْتِغْفَارِ ؟ ! إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ » " رواه النسائي واللفظ له ، وابن ماجه ، والحاكم في « المُسْتَدْرَكِ » ، وقال : صحيحٌ على شرط مسلم ، وفي رواية للنسائي : " إنِّي لأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ في الْيَوْمِ وَأَتُوبُ إلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ " ، والذَّرَبُ ـــ بفتح الذال والراء ـــ هو الفُحْشُ ، انتهى من « السلاح » ، ومنه عن ابن عمر : « إنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في المَجْلِسِ الوَاحِدِ مِائَةَ مَرَّةٍ : رَبِّ ٱغْفِرْ لِي ، وَتُبْ عَلَيَّ ، إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمِ » رَوَاه أبو داود ، وهذا لفظه ، والترمذي والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حبان في « صحيحه » ، وقال الترمذيُّ : حسن صحيح غريب ، انتهى . ثم أمر تعالى المؤمنين باجتناب كثير من الظن ، وأَلاَّ يعملوا ولا يتكلموا بحسبه ؛ لما في ذلك وفي التجسس من التقاطُع والتَّدَابُرِ ، وحكم على بعضه أَنَّه إثم ، إذ بعضُه ليس بإثم ، والظَّنُّ المنهيُّ عنه هو أَنْ تَظُنَّ شرًّا برجل ظاهره الصلاح ، بلِ الواجب أنْ تزيل الظن وحكمه ، وتتأوَّلَ الخيرَ ؛ قال * ع * : وما زال أولو العزم يحترسون من سُوءِ الظنِ ، ويجتنبون ذرائعه ، قال النوويُّ : واعلم أَنَّ سوء الظن حرام ، مثل القول ، فكما يَحْرُمُ أَنْ تحدِّثَ غيرَك بمساوىء إنسان ـــ يَحْرُمُ أَنْ تحدث نفسَك بذلك ، وتسيءَ الظَّنَّ به ؛ وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : " إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ ؛ فَإنَّهُ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ " والأحاديث بمعنى ما ذكرناه كثيرة ، والمراد بذلك عَقْدُ القلب وحكمه على غيره بالسوء ، فأَمَّا الخواطر وحديث النفس ، إذا لم يستقر ، ويستمر عليه صاحبه ـــ فَمَعْفُوٌّ عنه باتفاق العلماء ؛ لأَنَّهُ لا اختيارَ له في وقوعه ، ولا طريقَ له إلى الانفِكاك عنه ، انتهى . قال أبو عمر في « التمهيد » : وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال : " حَرَّمَ اللَّهُ مِنَ المُؤْمِنِ دَمَهُ ، وَمَالَهُ ، وعِرْضَهُ ، وأَلاَّ يُظَنَّ بِهِ إلاَّ الْخَيْرَ " انتهى ، ونقل في موضع آخر بسنده : أَنَّ عمر بن عبد العزيز كان إذا ذُكِرَ عنده رجل بفضل أو صلاح قال : كيف هو إذا ذُكِرَ عنده إخوانه ؟ فإنْ قالوا : إنَّه يتنقَّصهم ، وينالُ منهم ، قال عمر : ليس هو كما تقولون ، وإنْ قالوا : إنَّه يذكر منهم جميلاً وخيراً ، ويُحْسِنُ الثَّنَاءَ عليهم ، قال : هو كما تقولون إن شاء اللَّه ، انتهى من « التمهيد » ، وروى أبو داودَ في « سننه » عن أبي هريرةَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ " انتهى . وقوله تعالى : { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } أي : لا تبحثوا عن مخبَّآت أمور الناس ، وادفعوا بالتي هي أحسن ، واجتزئوا بالظواهر الحسنة ، وقرأ الحسن وغيره : « وَلاَ تَحَسَّسُوا » بالحاء المهملة ؛ قال بعض الناس : التَجَسُّسُ بالجيم في الشَّرِّ ، وبالحاء في الخير ، قال * ع * : وهكذا ورد القرآن ، ولكن قد يتداخلان في الاستعمال . * ت * : وقد وردت أحاديث صحيحة في هذا الباب ، لولا الإطالة لجلبناها . { وَلاَ يَغْتَب } معناه : لا يذكرْ أحدُكم من أخيه شيئاً هو فيه ، ويكره سماعَه ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : " إذَا ذَكَرْتَ مَا في أَخِيكَ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ ، وَإذَا ذَكَرْتَ مَا لَيْسَ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّه " ، وفي حديث آخر : " الغِيبَةُ أَنْ تَذْكُرَ الْمُؤْمِنَ بِمَا يَكْرَهُ ، قِيلَ : وَإنْ كَان حَقًّا ؟ قَالَ : إذَا قُلْتَ بَاطِلاً فَذَلِكَ هُوَ الْبُهْتَانُ " وحكى الزهراوي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال : " الغِيبَةُ أَشَدُّ مِنَ الزِّنَا ، قِيلَ : وَكَيْفَ ؟ ! قال : لأَنَّ الزَّانِيَ يَتُوبُ فَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَالَّذِي يَغْتَابُ لاَ يُتَابُ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَسْتَحِلَّ " ، قال * ع * : وقد يموت من اغْتِيبَ ، أو يأبى ، وروى أبو داودَ في « سننه » عن أنس بن مالك قال : قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : " لَمَّا عُرِجَ بي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ ، يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هٰؤُلاَءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ ! قَالَ : هٰؤُلاَءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ، وَيَقَعُونَ في أَعْرَاضِهِمْ " انتهى . والغِيبَةُ مشتقة من « غَابَ يَغِيبُ » وهي القول في الغائب ، واسْتُعْمِلَتْ في المكروه ، ولم يُبَحْ في هذا المعنى إلاَّ ما تدعو الضرورةُ إليه ، من تجريح الشهود ، وفي التعريف بمن استنصح في الخطاب ونحوهم : لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لاَ مَالَ لَهُ " وما يقال في الفَسَقَةِ أيضاً ، وفي وُلاَةِ الجَوْرِ ، ويُقْصَدُ به : التحذيرُ منهم ؛ ومنه قوله ـــ عليه السلام ـــ : " أَعَنِ الْفَاجِرِ تَرْعَوُنَ ؟ ! اذْكُرُوا الْفَاجِرَ بِمَا فِيهِ ، مَتَى يَعْرِفُهُ النَّاسُ إذَا لَمْ تَذْكُرُوهُ ؟ ! " . * ت * : وهذا الحديث خَرَّجه أيضاً أبو بكر ابن الخطيب بسنده عن بَهْزٍ ، عن أبيه ، عن جَدِّه ، عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أَتَرْعَوُنَ عَنْ ذِكْرِ الْفَاجِرِ ، اذْكُرُوهُ بِمَا فِيهِ ؛ يَحْذَرْهُ النَّاسُ " ولم يذكر في سنده مَطْعَناً ، انتهى ، ومنه قوله ـــ عليه السلام ـــ : " بِئْسَ ابنُ الْعَشِيرَةِ " . ثُمَّ مَثَّلَ تعالى الغيبة بأكل لحم ابن آدم الميت ، ووقف تعالى على جهة التوبيخ بقوله : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } أي : فكذلك فاكرهوا الغِيبَةَ ، قال أبو حيان : { فَكَرِهْتُمُوهُ } قيل : خبر بمعنى الأَمر ، أي : فاكرهوه ، وقيل على بابه ، فقال الفَرَّاءُ : فقد كرهتموه ، فلا تفعلوه ، انتهى . وقد روى البخاريُّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : " لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالْفُسُوقِ ، وَلاَ يَرْمِيهِ بِالْكُفْرِ إلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ " وفي رواية مسلم : " مَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ ، أوْ قَالَ : عَدُوُّ اللَّهِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ـــ إلاَّ حَارَ عَلَيْهِ " وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم : " أَيُّ رَجُلٍ قَالَ لأَخِيهِ : كَافِرٌ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا " انتهى ، وباقي الآية بَيِّنٌ .